ادِّخار الأعمال الصالحات ٨
الحمدُ لله الذي لا يغيب عن علمه شىء في السموات ولا في الأرض، سبحانهُ يعلمُ غيب السموات والأرض ويعلمُ ضمائر القلوب وتقلُّب الأبصار، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، سبحانه لا نشرك به شيئًا، والصلاة والسلام على سيدِنَا محمدٍ الذي فاق الشّمس بهاءً، وتجاوز البدر جمالا، صلَّى الله عليه وعلى ءالهٍ وأصحابِهِ الطيبين الطاهرين وسلَّم، أما بعدُ:
فيا أخي، أقول لك بلسان محبِّ الخير لك، احرص على قلبك واستقم، أي أخي، لا تصلح المحبة لمن يميِّله حب المال، فللّه در أقوام شغلهم تحصيل زادهم، ومال بهم ذكر المآل في معادهم، عن التعلق بالمال في دنياهم، وصاحت بهم الدنيا فما أجابوا شغلا بمرادهم، وتوسَّدوا أحزانهم بدلا عن وسادهم، واتخذوا الليل مسلكًا لاجتهادهم، وحرسوا جوارحهم من النار عن غيِّهم وفسادهم، فيا طالب الهوى دعْ عنك غيَّك، والحقْ بركبٍ حَرَمُوا رَاحة النَّوم أَجفَانهم، وَلَفُّوا علَى الزفرات الضُّلوعَ فطابُوا، وأَقبلت قلوبهم تراعي حقَّ الحقِّ، فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى، والقُلوب في رياض حبّ الله ترعى.
أي أخي: حاسب نفسك في خلوتك، وتفكَّر في انقراض مدتك، واعمل في زمان فراغك لوقت شدّتك، وتدبَّر قبل الفعل ما يُمْلَى في صحيفتك، وانظر: هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك، لقد سعد مَن حاسبها، وفاز والله مَن حاربها، وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها، وكلما وَنت وتراخت عاتبها، وكلما توقفت جذبها، وكلما نظرت في آمال هواها غلبها.
قال النبيُّ الكريم عليه الصّلاة والسّلام: ”الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأمانيّ”.
وقال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وطالِبوا بالصدق في الأعمال قبل أن تطالَبوا، وزِنوا أعمالَكم قبل أن تُوزن عليكم، فإنّه أهون عليكم في الحساب غدًا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر: {يَومَئِذٍ تُعرَضُونَ لا تَخفَى مِنكُم خَافِيَةٌ}.
وقال الحسن البصريّ رحمَهُ الله: يُثَقَّل الحساب على الذين أهملوا الأمور، فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذرِّ فقالوا: {يَا وَيلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرةً إِلَّا أَحصَاها}.
قال رجل لذي النون وهو يعظ الناس: يا شيخ، ما الذي أصنع؟ كلما وقفت على باب من أبواب المولى صرفني عنه قاطعٌ من المحن والبلوى! قال له: يا أخي، كن على باب مولاك كما يكون الصبيُّ الصغير مع أمه، كلما ضربته أُمُّهُ ترامى عليها، وكلما طردته، تقرّب اليها، فلا يزال كذلك حتى يصل إلى مقصوده المحبوب.
أي أخي اعلم: أنَّ مَن تفكَّر عند إقدامه على الخطيئة في نظر الحق إليه، ردَّه فكره خجِلا مما همَّ به، فالناس في ذلك على مراتب، فمنهم من يتفكَّر عند جَوَلان الهمِّ بالذنب فيستحي من مساكنة ذلك الخاطر وهذا مقام أهل الصّفا، ومنهم من ساكَن ذلك الهمَّ إلا أنه لا يعزم عليه، ومنهم من يعزم لقوةِ غفلته، ومنهمْ من زادَ علَى ذلكَ بمقارنتِهِ المحظورَ ومداناتهِ ثمَّ تُدركُهُ اليقظةُ، وإنَّمَا يكونُ هذَا على مقدارِ تكاثفِ الغفلة وقلتها، وإن سلك المرءُ درب الغفلة عن التذْكرة، والسعي على طريق الهوى غشىّ على قلبِه ورانَ عليهِ، أي جعلَ عليهِ صدأَ الغفلةِ.
أي أخي، إذا أردتَ أنْ تعظَ نفسك فقف بالقبور، وانظر وتفكر وتأمَّلْ واعتَبِرْ: أين من سادوا وشادوا وبنوا؟ أين كنعانٌ ونمرود، وأين الجبابرة؟
ءاثارُهُم بعدَهُم وما صَنعوا
تخبرنا أننا لَهُم تبعُ
يا واقِفًا بالدِّيارِ مُكتَئبًا
يندِبُ قَومًا مِنْ مُلكِهِمْ نُزعوا
ادخل إِلى الدارِ فَهيَ خاليةٌ
مِن سادة في التُراب قَد وضَعوا
إِذا تأَملتهُم كأَنَّهُم
ما نَظَروا نَظرةً ولا سمعوا
كانوا كركبٍ حطُّوا رحالَهُمُ
فما استَراحوا حتَى لَها رجَعوا
فيا أخي، أحذِّرك أن تكون كمنْ قالَ فيهم بعضُ الواعظين: واعجبًا! كمْ لِي أعاتبُ المهجورَ والعتبُ ما ينفعُ، كم لي أنادي أطرش الغفلة لو كان النداء يُسمع، كم لي أحدّث قلبك وفي سماعك أطمع، واهًا عليك يا جامد العين قط ما تدمع! من علامة الخذلان قلبٌ لا يخشع.
اللهم إني أعوذ بك من عين لا تدمع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن جسدٍ على البلاء لا يصبر، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
