شبهة قَوْل زَيْنَب بِنْت جَحْش: “زَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ نَبِيِّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ”
قَالت زَوْجَة الـمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم زَيْنَب بِنْت جَحْش: “زَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ نَبِيِّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ”
و الـجَوَاب على ذلك مِنْ وُجُوهٍ:
أَوَّلاً: تُطْلَقُ “الْفَوْقِيَّة” فِي كَلاَمِ العَرَبِ وَيُرَادُ بِهَا عِدَّة مَعَانٍ، يُمْكِنُ تَلْخِيصهَا فِيمَا يَلِي:
1-الفَوْقِيَّة الـحِسِّيَّة: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ”- الـمُؤْمِنُون:17- أَيْ: سَبْعَ سَمَاوَات، وَقَوْله تَعَالَى: “أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ” -ق:6- فَالـمُرَاد بِالفَوْقِيَّة هُنَا: فَوْقِيَّة الـمَكَان وَالـمَسَـافَة.
2- فَوْقِيَّة القهر و الرتبة : كَقَوْلِهِ جَلَّ شَأنهُ: “وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”- البَقَرَة:212- وَقَوْلِهِ لِسَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَم: “وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” -آل عِمْرَان:55- فَالـمُرَادُ هُنَا: فَوْقِيَّة الرُّتْبَة، وَقَوْله تَعَالَى: ” وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ” – الأَنْعَام:165- وَكَذَلِكَ: ” وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ” – يُوسُف:76- فَالـمُرَادُ بِالْفَوْقِيَّة هُنَا: فَوْقِيَّة التَّشْرِيف وَالـمَكَانَة، وَانْظُرْ قَوْلَ فِرْعَوْن كَمَا حَكَى القُرْآن: “وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ” – الأَعْرَف:127- فَالـمُرَادُ: فَوْقِيَّة الـجَبَرُوت.
فَفَوْقِيَّة الـمَكَانَة ثَابِتَةٌ للهِ وَالـمُسْتَحِيل هُوَ وَصْفه جَلَّ وَعَلاَ بِفَوْقِيَّة الـمَكَان، لأَنَّ فَوْقِيَّة الـمَكَانَة لاَ تَتَعَلَّق بِوُجُودِ العَالَـمِ مِنَ العَرْشِ إِلَى الفَرْشِ، فَاللهُ موْصُوفٌ بِهَا قَبْلَ خَلْقِ العَالَـمِ: أَزَلاً وَأَبَداً. بِخِلاَفِ فَوْقِيَّة الـمَكَانِ فَلاَ ثُبُوت لَهَا فِي الأَزَل. وَهَذَا يَقْتَضِي نِسْبَة النُّقْص لِلْبَارِي فِي صِفَاتِهِ أَزَلاً .
وقول الله، ” وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ” – الأَنْعَام:18- فَهِيَ: فَوْقِيَّة قَهْرٍ لاَ فَوْقِيَّة مَكَانٍ، وَعَلَى هَذَا تُحْمَلُ الفَوْقِيَّة فِي حَقِّهِ جَلَّ وَعَزّ وَفِي كُلِّ مَا وَرَدَ مِنْهَا مِنْ مُتَشَابِهٍ.
قَالَ حَافِظ الدُّنْيَا ابْن حَجَر العَسْقَلاَنِي في فَتْح البَارِي: : ” قَالَ الرَّاغِبُ “فَوْقَ” يُسْتَعْمَلُ فِي: الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْجِسْمِ وَالْعَدَدِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالْقَهْرِ، فَالْأَوَّلُ: بِاعْتِبَارِ الْعُلُوِّ وَيُقَابِلُهُ تَحْتَ نَحْوَ: ” قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ” – الأَنْعَام:65- ، وَالثَّانِي: بِاعْتِبَارِ الصُّعُودِ وَالِانْحِدَارِ نَحْوَ: ” إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ” – الأَحْزَاب:10- ، وَالثَّالِثُ: فِي الْعَدَدِ نَحْوَ: “فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ” – النِّسَاء:11- ، وَالرَّابِع: فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ كَقَوْلِهِ: ” مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا” – البَقَرَة:26- ، وَالْخَامِسُ: يَقَعُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْفَضِيلَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ نَحْوَ “وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ” – الزُّخْرف:32- أَوِ الْأُخْرَوِيَّةِ نَحْوَ: “وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” – البَقَرَة:212- ، وَالسَّادِسُ: نَحْوَ قَوْلِهِ: “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ” – الأَنْعَام:18]- ” يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ” – النَّحْل:50 انْتَهَى مُلَخَّصًا” .انْتَهَى
ثَانِيًا: عُلمَاء أَهْل السُّنَّة مُتَّفِقُونَ عِنْدَ إِضَافَةِ الفَوْقِيَّة لِلْبَارِي عَلَى نَفْيِ الـمَعْنَى البَاطِلِ الَّذِي لاَ يَلِيق بِهِ جَلَّ وَعَزَّ أَيْ: (فَوْقِيَّة الـمَكَان!)، ثُـمَّ بَعْدَ هَذَا التَّنْزِيه: مِنْهُم مَنْ يَكْتَفِي بِالـمَعْنَى الـجُمْلِي ثُـمَّ خَوْفًا مِنَ الوُقُوعِ فِي القَوْلِ فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى بِالظَّنِّ يُفَوِّض الـمَعْنَى التَّفْصِيلِي مِنْ جُمْلَة الـمَعَانِي الـمُحْتَمَلَةِ فِي حَقِّهِ جَلَّ وَعَلاَ، وَمِنْهُم مَنْ يَزِيدُ عَلَى الـمَعْنَى الـجُمْلِي فَيَجْتَهِدُ فِي تَعْيِين الـمَعْنَى التَّفْصِيلِي وِفْقَ ضَوَابِطهِ مَعَ عَدَمِ الـجَزْمِ بِهِ. وَأَمَّا حَمْل الفَوْقِيَّة فِي حَقِّهِ تَعَالَى عَلَى الحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة فَيَسْتَلْزِمُ نِسْبَة الـحَدِّ للهِ، وَهَذَا تَجْسِيمٌ بِلاَ مَثْنَوِيَّة.
ثَالِثًا: وَأَمَّا الكَلاَم عَنْ قَوْلِ زَيْنَب بِنْت جَحْش: “زَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ نَبِيِّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ” فَمَعْنَاهُ لاَ يَخْتَلِفُ عَن مَا سَبَقَ بَيَانهُ، قَالَ الحَافِظ ابْن حَجَر العَسْقَلاَنِي في فَتْح البَارِي: ” قَالَ السُّهَيْلِيُّ: قَوْلُهُ “مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ” مَعْنَاهُ: أَنَّ الْحُكْمَ نَزَلَ مِنْ “فَوْقُ”، قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: “زَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ نَبِيِّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ” أَيْ: نَزَلَ تَزْوِيجُهَا مِنْ فَوْقُ، قَالَ: وَلَا يَسْتَحِيلُ وَصْفُهُ تَعَالَى بِالْفَوْقِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ لَا عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الْوَهَمِ مِنَ التَّحْدِيدِ الَّذِي يُفْضِي إِلَى التَّشْبِيهِ” .انْتَهَى
وعند النسائي ورد الحديث بلفظ “إن الله عز وجل أنكحني من السماء”، قال السندي في حاشيته “قولها: “أنكحني من السماء” أي أنزل منه ذلك قوله: {زوجناكها}”، انتهى.
وهذا يرفع الإشكال، ومعناه أن تزويج النبي بها مسجل في اللوح المحفوظ واللوح فوق السموات السبع، وهذه الكتابة خاصة بزينب ليست الكتابة العامة.
قال ابن حجر ان “من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يتزوج بلا ولي ولا شهود كما وقع في قصة زينب بنت جحش”.
رَابِعًا: رَوَى البُخَارِي فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَعَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي”.
فَإِذَا كَانَ الله فَوْقَ العَرْش فَوْقِيَّة مَكَانٍ، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّ الكِتَاب الَّذِي كَتَبَهُ الله عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ مُشَارِكٌ لَهُ فِي هَذِهِ الفَوْقِيَّة ، فيَلْزَمُ المجسمة أَنْ يثْبِتُوا: الشِّرْك فِي صِفَة الفَوْقِيَّة كَمَا يَلْزَمُهم أَنْ يثْبِتُوا الشِّرْك فِي صِفَة الاِسْتِوَاء حَيْثُ عَدَّ مَشَايِخكُم كَابْنِ قَيِّم الـجَوْزِيَّة فِي “نُونِيَّتِهِ” أَنَّهُ مِنْ مَنَاقَبِهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم قُعُوده صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم مَعَ رَبِّهِ عَلَى العَرْش.
قَالَ الحَافِظ زَيْن الدِّين أَبُو الفَضْل العِرَاقِي في طَرْح التَّثْرِيب فِي شَرْحِ التَّقْرِيب: ” وَقَوْلُهُ: “فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ” لَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ ظَاهِرِ لَفْظِهِ عِنْدَهُ لِأَنَّ مَعْنَاهَا: حَضْرَةُ الشَّيْءِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الِاسْتِقْرَارِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ، فَالْعِنْدِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ حَضْرَةِ الْمَكَانِ بَلْ مِنْ حَضْرَةِ الشَّرَفِ، أَيْ: وَضَعَ ذَلِكَ الْكِتَابَ فِي مَحَلٍّ مُعَظَّمٍ عِنْدَهُ” .انتهى
و: قال الكرماني: ” قوله: “في السماء” ظاهره غير مراد إذ الله منــزه عن الحلول في المكان”، انتهى.
روابط ذات علاقة:
بيان أن حديث الجارية بلفظ مسلم مخالف لأصول ابن تيمية والامام أحمد
https://www.facebook.com/share/p/1B5Zd3pLaw/
تعامل العلماء مع حديث الجارية
https://www.facebook.com/share/p/1Chk8t3NL1/
بيان أن حديث الجارية ـ بلفظ مسلم “أين الله؟ ،فقالت في السماء” ـ مخالف لأصول ابن تيمية وأحمد بن حنبل
1- بيان أن مذهبَ ابنِ تيمية أنه لا يجزئ في الدخول في الإسلام إلا قول لا إله إلا الله حصرا.
قال ابن تيمية في “درء تعارض العقل والنقل”: «وذلك أن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء ـ لم يكن موحداً، بل ولا مؤمناً حتى يشهد “أن لا إله إلا الله”، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له». انتهى
وقد تبعه محمد بن عبد الوهاب في ذلك، فقد جاء في الكتاب المسمى “دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب سلفية لا وهابية” صحيفة 299 أنه قال ما نصه: « لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى “لا إله إلا الله”…ومنها: أني أعرف من يأتيني بمعناها…ومنها: تكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله وأخذ النذر كذلك…فهذه خمس مسائل كلها حق وأنا قائلها». انتهى
فلاحظ قوله: لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى “لا إله إلا الله. فهو يشترط فهم معناها فضلا عن التلفظ بها.
2- اعتراف ابن تيمية ان قول القائل عن الله أنه في السماء كجواب على سؤال “أين الله”، يشترك فيه الكافر و المؤمن.
نقل ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل، عن ابن كلاب مقرا له قوله: “لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول : أين ربك ؟ إلا قال : ” في السماء” إن أفصح أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إذا كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء”.انتهـى
فان كان قول الشخص عن الله أنه في السماء كجواب على سؤال “أين الله”، عبارة يشترك فيها الكافر و المؤمن، فكيف يصح ان يقال بعد ذلك أن النبي عليه الصلاة و السلام شهد للجارية بالايمان بعد ان سألها أين الله، فقالت في السماء.
3-بيان ان الامام أحمد ذكر أن ان بعض روايات حديث الجارية ليس فيها شهادة النبي لها بأنها مؤمنة، وان الحديث رُوي بالمعنى فقط
في ما يلي نص للإمام أحمد بن حنبل ذكر فيه ان حديث الجارية فيه اختلافا بين الرواة في ألفاظه حيث أن بعضهم قال “أعتقها إنها مؤمنة” وبعضهم قال: “أعتقها” فقط دون كلمة “مؤمنة” وصرح أنه أثر مروي بالمعنى.
وهذا النص رد به الإمام أحمد على المرجئة الذين يستدلون بذلك الحديث على أن الإيمان قول بلا عمل ، ونصه كما جاء في السنة لأبي بكر بن الخلال: “ومن حجة المرجئة بالجارية التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة» والحجة عليهم في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد سألها عن بعض شرائع الإيمان، كتب إلي يوسف بن عبد الله أن الحسن بن علي بن الحسين حدثهم، أن أبا عبد الله قال: في الحديث «أعتقها؛ فإنها مؤمنة» ، قال مالك: لا يقول: إنها مؤمنة. قال أبو عبد الله: “يمكن أن يكون هذا قبل أن تنزل الفرائض”.
وأخبرني محمد بن علي، قال: ثنا أبو بكر الأثرم، أنه قال لأبي عبد الله في الحديث الذي يروى: أعتقها؛ فإنها مؤمنة، قال: ” ليس كل أحد يقول فيه: إنها مؤمنة، يقولون: أعتقها. قال: ومالك سمعه من هذا الشيخ هلال بن علي، لا يقول: فإنها مؤمنة، قال: وقد قال بعضهم: فإنها مؤمنة، فهي حين تقر بذلك فحكمها حكم المؤمنة. هذا معناه.
وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْمَيْمُونِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، يَوْمًا، وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، يَعْنِي حَدِيثَ الْجَارِيَةِ الَّتِي أُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: “§هُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ، يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ، يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ، النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَرْضَ مِنْهَا حَتَّى قَالَ: تُؤْمِنِينَ بِكَذَا، تُؤْمِنِينَ بِكَذَا”. انتهى
وذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى.
فالحاصل أن الرواة مختلفون في لفظ “مؤمنة” فبعضهم يقولها وبعضهم لا يقولها، وأنه على التسليم بوردها فهذا قبل نزول الشرائع. كما بيّن الإمام أحمد أن الحديث مروي بالمعنى، وان النبي لم يكتف بسؤالها بل سألها عن أشياء أخرى.
وأجل اختلاف الرواة زعم بعضهم ان الروايات تروي وقائع مختلفة، لا أنها تدور حول نفس الواقعة. والصواب هو خلاف ذلك بنص الامام أحمد. و الروايات التي لم يُذكر فيها ان النبي قد شهد لها بالايمان بعد ذلك السؤال، أرجح من غيرها لأن سيدها كان يريد أن يكفر عن ضربه إياها فأمره النبي أن يعتقها تكفيرا عن ذنبه وهذا لا يشترط فيه أن تكون الرقبة مؤمنة، لحديث مسلم “«من لطم مملوكه أو ضربه، فكفارته أن يعتقه»”، وإنما الإيمان شرط الرقبة في كفارة القتل الخطأ، والرجل لم يقتل أحدا وإنما ضربها فقط.
فيتلخص مما تقدم أن حديث الجارية عند الإمام أحمد الذي ينتسب له المجسمة، لا يُعتد به للحكم على الشخص بالتوحيد و الايمان، وهو مروي بالمعنى. بل الحديث مخالف للأصول التي قعدها مشائخ المجسمة أنفسهم.
وأما عند أهل السنة، فالحديث د لا يترقى للاحتجاج به في العقائد لاضطراب ألفاظه، خاصة وأنه مخالف لرواية الإمام مالك في الموطأ الموافقة للأصول، وهي الحكم على الشخص بالايمان بنطقه للشهادتين واعتقاد معناهما.
جاء في موطإ الإمام مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال : يا رسول الله ، إن علي رقبة مؤمنة فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهدين أن لا إله إلا الله ؟ ، قالت : نعم ، قال : أتشهدين أن محمدا رسول الله ؟ ، قالت : نعم ، قال : أتوقنين بالبعث بعد الموت ؟ ، قالت : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعتقها.”. انتهى
4- ذكر بعض تأويلات العلماء
قال السّندي في حاشيته على شرح الحافظ جلال الدين السيوطي على “سنن النسائي”، ما نصه: “”قول النبي ﷺ: أين الله، قيل معناه في أي جهة يتوجه المتوجهون إلى الله تعالى، وقولها: في السماء، أي في جهة السماء يتوجهون، والمطلوب معرفة أن تعترف بوجوده تعالى لا إثبات الجهة لله”. انتهى
روابط ذات علاقة:
بيان ان عقيدة اليهود ان الله يسكن السماء
اعتقاد المصريين القدامى ان الاله يمكن الوصول اليه عن طريق بناء عالي
تفاسير أهل السنة لقول الله تعالى : “أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فاذا هي تمور ” – الملك: -17-
مذاهب علماء أهل السنة في التعامل مع حديث الجارية
ليعلم أن مذاهب علماء أهل السنة في التعامل مع حديث الجارية، هي ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: مذهب من قالوا بتضعيفه و رده جملة لوجود علة الاضطراب، و الاضطراب هو ورود الحديث بألفاظ و روايات مختلفة لا يمكن الجمع بينها حيث لا مرجح، فقالوا حديث الجارية هو من هذا القسم فهو ضعيف. و الضعيف لا يحتج به في العقيدة.
قال الحافظ البيهقي في كتابه “الأسماء والصفات” (427/2) بعد أن ساق حديث معاوية بن الحكم السلمي : ” وهذا صحيح، قد أخرجه مسلم مقطعا من حديث الأوزاعي وحجاج الصواف ، عن يحيى بن أبي كثير دون قصة الجارية ، وأظنه إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه ، وقد ذكرت في كتاب الظهار من السنن مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث”. انتهى
.
فعند البيهقي، الحديث صحيح دون اللفظ في قصة الجارية الذي هو قطعة أو جملة قد ذكرت في سياق هذا الحديث الطويل لمعاوية بن الحكم السلمي في تحريم الكلام في الصلاة والنهي عن إتيان الكهان والتطير .
وهذه إشارة من الحافظ البيهقي إلى تضعيف هذه الجملة فقط من حديث الجارية التي فيها ( أين الله) ، ثم إن البيهقى وهو حافظ متقن بل هو أحفظ أهل زمانه قد أنكر وجود هذه الجملة في صحيح مسلم ولعلها أدرجت من بعض الرواة أو النساخ في مسلم بعد ذلك الوقت .
ومما يؤكد اضطراب لفظ حديث الجارية هو رواية ابن قانع في معجم الصحابة، لحديث معاوية هذا نفسه بلفظ آخر حيث سألها النبي عليه الصلاة والسلام : من ربك؟ ولم يقل أين الله ؟
و قال الحافظ البيهقي عن حديث الجارية في مناقب الإمام الشافعي : ” وهو إن صح فإن النبي عليه الصلاة والسلام خاطبها على قدر معرفتها…….الخ”. انتهى
وهذا يعني أن البيهقي لم يصح عنده الحديث.
وهنا ينبغي أن يقال أن بعض علماء الحديث حكموا باضطراب حديث الجارية، و هذا عينه ما يقوله ابن تيمية في حديث البخاري:” كان الله ولم يكن شيء قبله” بغض النظر عن خطأ ابن تيمية و نسبته لصحيح البخاري ما ليس فيه، كما قال الألباني، و محقق الصفدية.
المذهب الثاني: مذهب الترجيح، حيث قال أصحابه أن حديث الجارية ورد بعدة روايات لا يمكن الجمع بينها و لكن يمكن ترجيح رواية عن أخرى لأنها هي الموافقة للأصول و للحديث المتواتر الذي فيه أن الدخول في الإسلام يكون بالشهادتين لا بغيرهما، و هي رواية مالك فتكون هذه الرواية هي الصحيحة و ما خالفها من الروايات مردودة.
والحديث المتواتر هو قوله صلى الله عليه وسلم: “أُمرتُ أن أُقاتلَ الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله“، فبيّن النبي أن طريقَة الدخول في الإسلام النطق بالشهادتين، فيستحيل على رسول الله أن يحكُمَ لإنسانٍ بأنه مسلم لمجرد أنه قال: الله في السماء.
قال الإمام أبو بكرٍ الخطيبُ البغدادي الذي قيل فيه: إن المؤلفين في كتب الحديثِ دِراية عيالٌ على كتبِه: ” لا يُقبَل الحديث إذا عارضَ الحديثَ المتواتر ولم يقبل تأويل”. انتهى
المذهب الثالث: هو مذهب التصحيح مع التأويل، وهو مذهب الإمام النووي وغيره من العلماء، وهؤلاء قالوا: و إن أثبتنا رواية مسلم فلا بد من صرفها عن ظاهرها بأن تؤول على معنى يليق بالله، فمعنى قول الرسول: “أين الله” سؤال عن المكانة أي ماذا تعتقدين في الله من التعظيم، و أما قولها “في السماء”، فأصحاب هذا المذهب لا يحملون الحديثَ على ظاهر معنى “في” المفيدة حقيقتُها للظرفية، لأن المظروف محاطٌ بالظّرْف حتما، فيلزم أن يكون محدودًا من جميع الجهات، والله تعالى منزَّهٌ عن أن يكون محاطًا به بالسماء لأن هذا يستلزمُ أن يكون محدودًا من جميع الجهات مقهورا بظَرْفِه.
لذلك يقولون أن قول الجارية “في السماء”، أي عالي القدر جدا لا على معنى أنه سبحانه متحيز في السماء، و هذا كله مشهور و مستفيض في لغة العرب شعرا و نثرا.
قال الإمام أبي الوليد الباجي المالكي الأشعري المتوفى سنة 474 هـجري في المنتقى بأن الحديث دالٌّ على وصف الله بالعلوِّ، وأنه بذلك يوصفُ كلُّ من شأنهُ العلوُّ، بمعنى علوِّ رفعتهِ وشرفه.
وقال الإمام القاضي أبو بكر بن العربي المالكي الأشعري المتوفى سنة 543 هجري في القبس بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قصد إثبات العلو لله تعالى بمعنى شرف المكانة الذي يسأل عنه بأين؟
وقال الإمام المازري المالكي الأشعري المتوفى سنة 547 هجري في المعلم بأن السؤال بأين عن جلالةِ الله سبحانه وتعالى وعظمته، وأن الإشارة إلى السماء إخبارٌ عن جلالة الله سبحانه وهو من علامة الموحّدين.
فالحديث صحيح وثابتٌ عند هؤلاء، وهو يتضمّنُ حُكْمًا عقديا عظيما وهو إثباتُ صفة العلوِّ لله تبارك وتعالى، وهي من الصفات الجامعة الجليلة، وليس المقصود إثبات العلوّ الحسي الذي هو صفة الأجسامِ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا.
و للعلامة محمد الطاهر بن عاشور تخريج لطيف و أنيق في تعاطيه مع حديث الجارية حيث قال في كتابه كشف المغطّى صحيفة 316 ما نصّه تعليقا على حديث الجارية:
“و وقع في قول حديث رسول الله صلى الله عليه و سلّم للجارية: “أين الله”؟ فقالت “في السماء” ثم قوله “إعتقها” وهو مشكل من جهة لزوم الجهة.
و الوجه في الجواب أن ّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم عَلِمَ أنها لا تحسن تحقيق صفات الإلهيّة لأنّها قريبة عهد بشرك فاقتنع منها بأنّها لا تعتقد إلهيّة الأصنام التي في الأرض و أنّها تعلم أنّ الإله واحد فاكتفى منها بذلك للأنّ السماء مكان رفعة . انتهـى كلام الشيخ.
هذه هي المذاهب الثلاثة لأهل السنة و الجماعة في ما يتعلق بحديث الجارية، أما إثبات الحديث و حمله على ظاهره فهو مذهب الحشوية المجسمة لا مذهب أهل السنة.
روابط ذات علاقة:
-بيان أن حديث الجارية بلفظ أين الله مخالف لأصول أحمد بن حنبل وابن تيمية
https://www.facebook.com/share/p/h7qDDsKgzrStdtJo/?mibextid=oFDknk
-صنيع الامام مالك وأحمد بن حنبل مع الأحاديث التي توهم التشبيه
https://www.facebook.com/share/p/f1DXqSGypKCX5yKR/?mibextid=xfxF2i
عقيدة اليهود ان الله يسكن السماء
جاء في التلمود البابلي
Babylonia Talmud, Berakhot 48a
قولهم:
The Gemara relates that Abaye and Rava, when they were children, were seated before Rabba. Rabba said to them: To whom does one recite blessings? They said to him: To God, the All-Merciful. Rabba asked them: And where does the All-Merciful reside? Rava pointed to the ceiling. Abaye went outside and pointed toward the heaven. Rabba said to them: You will both become Sages
وهذا بحسب ترجمة: William Davidson Edition
راجع الرابط التالي الذي قيل فيه:
https://www.sefaria.org/Berakhot.48a.3…
والترجمة العربية هو قوله:
تقول الجمارا أن Abaye
وRava
Rabbah
[عندما كانا صبيانًا] كان يجلسان أمام Rabbah
فقال لهما: لمن نتوجه بالدعاء؟ قالوا له: إلى الرحمن. قال لهم Rabbah: أين يسكن الرحمن؟ أشار Rava
نحو السقف. ذهب Abaye
إلى الخارج وأشار نحو السماء. فقال لهما Rabbah:
إنكما تصبحان حاخامين.
وبحسب الترجمة التالية
فقد استعمل فعل dwell
بمعنى سكن.
فهذا الحاخام سأل تلميذيه بسؤال واضح فقال: ” أين يسكن الله”؟ فكان جوابهما في السماء، أي ان اليهود يعتقدون ان الله يسكن السماء متحيز فيها.
فاعتقاد اليهود و اخوانهم المجسمة ان الله يسكن السماء متحيز فيها، مناقض لقوله تعالى: “ليس كمثله شىء”
جاء في في كتاب العرش قول الذهبي :”وصح عن ثابت البناني قال: كان داود عليه السلام يطيل الصلاة، ثم يركع، ثم يرفع رأسه إلى السماء، ثم يقول: إليك رفعت رأسي [يا عامر السماء] ، نظر العبيد إلى أربابها يا ساكن السماء”. انتهى
وقد فرق الامام النووي بين من يقول الله في السماء من غير نسبة التحيز والجهة في حق الله وبين من يقول عن الله ساكن السماء، فقال في روضة الطالبين: “وانه لو قال: لا إله إلا الله الملك الذي في السماء، أو إلا ملك السماء، كان مؤمنا، قال الله تعالى: “أأمنتم من في السماء”. ولو قال: لا إله إلا ساكن السماء، لم يكن مؤمنا، وكذا لو قال: لا إله إلا الله ساكن السماء، لأن السكون محال على الله تعالى”. انتهى
روابط ذات علاقة:
اعتقاد المصريين القدامى ان الاله يمكن الوصول اليه عن طريق بناء عالي
تفاسير أهل السنة لقول الله تعالى : “أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فاذا هي تمور ” – الملك: -17-
اعتقاد المصريين القدامى ان الاله يمكن الوصول اليه عن طريق بناء عالي
في ما يلي مقتطف من كتاب
Ancient Egypt
للدكتور
Flinders Petrie,
طبعة
London, 1914-1917, Part 1, p. 19
ذكر فيه تحت فصل
Egyptian Beliefs in a future Life
نصا من كتاب الموتى و انهم يستعملون السلاليم للوصول للاله بزعمهم، تعالى الله عن المكان والحيز والجهات.
كما ذكر I. E. S. Edwards
في كتاب
The Pyramids Of Egypt, 1985, Viking, p. 302.
ان المصريين القدامى كان يعتقدون بامكانية الوصول للٱلهة عبر بناء صرح عالي.
وهذا ما ذكره القرٱن الكريم: “وقال فرعون يا هامان ابني لي صرحًا لعلي ابلغ الاسباب اسباب السماوات فاطلع الى اله موسى واني لاظنه كاذبا”.
و فرعون كان من المجسمة الذين يعتقدون أن الإله متحيز في السماء في جهة فوق، و أنه لا يمكن الوصول اليه الا بعد الموت، كما هو معتقد المصريين القدامى من الوثنيين وقد ظن فرعون ان الاله الذي يدعو إليه موسى في السماء أيضا وأنه يمكن الوصول اليه في الدنيا، لذلك قال “واني لاظنه كاذبا”.
#منقول بتصرف
