قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ” الكلابية يقولون فى جميع هذا الباب المتجدد هو تعلق بين الأمر والمأمور وبين الإرادة والمراد وبين السمع والبصر والمسموع والمرئي فيقال لهم: هذا التعلق إما أن يكون وجودا وإما أن يكون عدما فإن كان عدما فلم يتجدد شيء فإن العدم لا شيء وإن كان وجودا بطل قولهم”. انتهى
وابن تيمية يريد من وراء هذا الكلام اثبات أمر وجودي في ذات الله يؤثر في علاقة المتعلَق بالصفة. فعنده الصفة تتجدد و يقوم بها أمر لم يكن. لذلك قال أن التعلق إن لم يكن وجودا فهو عدم و العدم لا يوجبُ حصول شئ فلا يكون فرق بين حال حصول التعلق و الحال الذي قبله.
وبيان فساد هذه المقالة أن يقال أن هذا المدعي عليه اثبات هذا الأمر الوجودي بالدليل القاطع لا بمجرد الاستناد إلى حكم الوهم. أما أهل السنة فيقولون ان الصفة تتميزعن متعلَقها بتميز القديم عن المحدث. وهذا التميز أمر ثبوتي لا شك فيه وهو يدل على ثبوت التعلق. ثم إن المتميز له وجود ثابت في الذهن أو في الخارج, لأن الثبوت أشمل من الوجود كما قال الإيجي في المواقف: ” الثبوت أعم من الوجود”. انتهى
وكما قال المجسم ابن تيمية أيضا في مجموع الفتاوى 2/ 157: ” فينبغي للعاقل أن يفرق بين ثبوت الشيء ووجوده في نفسه وبين ثبوته ووجوده في العلم فإن ذاك هو الوجود العيني الخارجي الحقيقي وأما هذا فيقال له الوجود الذهني والعلمي وما من شيء إلا له هذان الثبوتان”. انتهى
فإن ثبت الوجود الخارجي للتعلق صح ما ادعاه هذا المجسم, و إن لم يثبت بطلت شبهته وصح قول أهل السنة باعتبارية التعلق دون الوجود.
فيقال له: على تقدير وجود هذا التعلق المتجدد فإن العقل يجزم بحدوثه ويحيل أزليته للزوم وصفه بالبدائة و الانقضاء. وهذا التعلق الحادث يحتاج لمحدث خصصه بالوجود لاستحالة حدوثه لنفسه, وذلك المحدث يحتاج أيضا لمن أحدثه لانعقاد التماثل وهكذا إلى ما لا نهاية له. و قد علم أن انقضاء ما لا نهاية له من الحوادث محال. فبطل تجدد التعلق و استحال وصفه بالوجود جملة و تفصيلا, و اندفع زعمه أن التعلق إن لم يكن موجودا فلا فرق بين حالة حصوله و قبله, لأنه ثبت أن التعلق امر اعتباري وليس و جوديا ومع ذلك فإنه يوصف بالتجدد لأنه نسبة و إضافة بين الصفة و متعلَقها لا يقتضي ذاتا يقوم به.
ولتقريب ذلك يُقال مثلا: في النحو: المبتدأ والخبر مرفوعان، فما الذي جعلهما مرفوعان؟ وما الذي ينصب المنصوب؟ فنجد أنهم قدروا العامل ذهنياً، وقالوا: هذه كلها أشياء ذهنية وليس منها شيء حقيقي موجود. والحق سبحانه يتعالى عما يلج في الأفهام من الأمثال، إلا أن ضرورة التفهيم ألجأت لدفع الاختلال.
فقول أهل السنة بثبوت الصفة و متعلقها في العقل من غير توهم شيء وجودي بينهما هو الصواب, لأَنَّ حُكْمَ الْوَهْمِ يُؤَدِّي إِلى الْغَلَطِ و الوهم يجعل الشخص لا يَقْبَل أَنْ يَعْتَقِد ثبوت تعلق دون تَصَوَّر حدوث أمر وجودي في ذات الله. فيُقالُ لَهُ: صفات اللهُ تباركَ وتعالى لا يَجُوزُ أَنْ تُطْلَبَ مَعْرِفَتُها بِالتَّصوُّرِ أو التوهم. فمَهْمَا أَتْعَبَ الإنْسَانُ فِكْرَهُ لِيتَصَوَّرَ حقيقة الصفة وتعلقها بِزَعْمِهِ فَلَنْ يَصِلَ إِلى نَتِيجَةٍ صَحِيحَةٍ، لان صفات الله لا كَيْفَية لَها, فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مَا لا تُحْيطُ الأَوْهَامُ به.
والمجسمة ضلوا في هذه المسألة لأنهم اتبعوا الوهم و تصوروا أن التعلق لا يكون إلا وجوديا فجرهم ذلك إلى مقالات ما سبقهم بها أحد فقالوا: الخلق تم بأمر وجودي، وهو آحاد القدرة الحادث الذي قام بذات الباري تعالى، والذي منشأه أمر وجودي هو نوع القدرة القديمة. وهذا على وفق آحاد الإرادة الحادث الذي منشأه نوع المشيئة القديمة، وهذا أيضا على وفق العلم المتجدد قيامه بذات الباري التابع لحدوث المخلوق. فجعلوا بمقالتهم تلك القديم محدثا و المحدث قديم فكفرهم علماء أهل السنة بلا مثنوية و لا تردد.
فالتَّصَوُّرُ في مثل هذه المسألة باطل يُؤَدِّي إِلى الْحُكْمِ غَلَطًا، لأَنَّ التَّصَوُّرَ هُوَ قِياسُ شَىْءٍ لَمْ تَرَهُ بِشَىْءٍ رَأيْتَهُ. فَإِذَا أَرَدْتَ أنْ تَتَصَوَّرَ شَيْئًا فَيذْهَبُ بِكَ تصورك إلى قياسِ مَا لَمْ تَرَ عَلَى مَا رَأَيْتَ. وهذا حُكْمِ الْوَهْمِ. وَنَحْنُ لَسْنَا مكَلَّفينَ بِاتِّبَاعِ الْوَهْم، بَلْ مُكَلَّفينَ بِاتِّباعِ الشَّرْعِ. والقُرْءانُ أَثْبَتَ أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى لا تُدْرِكُهُ الأوْهامُ. قالَ تعالى : “وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى” –النَّجْم: 42 – أَيْ إِلَيْهِ تَنْتَهي أَفْكارُ العِبَادِ فَلا تَصِلُ إِليْهِ، كَمَا فَسَّرَهَا أَقْرَأُ الصَّحَابَةِ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ. فَأَهْلُ السُّنَّةِ اللهُ تعالى هَدَاهُمْ لِلْمَعاني التي تُوافِقُ الشَّرْعَ والعَقْلَ فأثبتوا صفات الباري و أثبتوا تعلقاتها و نزهوا ربهم عن قيام الحوادث بذاته.
ومن عجيب تناقضات ابن تيمية قوله ” فإن كان عدما فلم يتجدد شيء فإن العدم لا شيء” مع أنه يقر في مواضع أخرى من كتبه أن العدم أمر حقيقي و أن الله في جهة عدمية فوق العالم. فقال في منهاجه 1 / 250: “فمن قال: الباري في جهة وأراد بالجهة أمرا موجودا فكل ما سواه مخلوق له في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ، وإن أراد بالجهة أمرا عدميا وهو ما فوق العالم، وقال: إن الله فوق العالم فقد أصاب، وليس فوق العالم موجود غيره فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات” انتهـى
وقال في كتابه “الجواب الفاصل بتمييز الحق من الباطل” ـ تحقيق الدكتورة عواد بن عبد الله المعتق، طبع ـ مكتبة الرشد ـ الرياض ـ في الصحيفة 23 ما نصه: ”فإذا قال ذلك القائل إن الله في جهة قيل له: ما تريد بذلك؟ أتريد بذلك أن الله في جهة موجودة تحصره وتحيط به مثل أن يكون في جوف السماء، أم تريد بالجهة أمرا عدميا وهو ما فوق العلم فإنه ليس فوق العلم شيء من المخلوقات؟ فإذا أردت بالجهة الوجودية وجعلت الله محصورا في المخلوقات فهذا باطل، وإن أردت بالجهة العدمية وأردت أن الله وحده فوق المخلوقات بائنا عنها فهذا حق” انتهـى
كتبه أبو عمر الأشعري
