احتجاج المشبهة ببعض المواضع من كتاب أحكام القرٱن لأبي بكر بن العربي الأشعري

احتجاج المشبهة ببعض المواضع من كتاب أحكام القرٱن لأبي بكر بن العربي الأشعري

كتاب أحكام القرٱن لأبي بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي المتوفى سنة 543 هـجري اقتبس منه علماء أهل السنة واعتمدوا عليه في كتبهم، مثل القرطبي وغيره.

وهذا الكتاب توجد منه ثلاث نسخ خطية كما ذكر المحقق علي محمد البجاوي، وقال أن فيها مواضع غير واضحة المعالم أو محرفة كما في الصحيفة 12.

1-النسخة الأولى:

فيها تحريف قليل وخرم في بعض المواضع وخطها واضح، وهي تقع في ثلاث مجلدات:

•الأول: من أول سورة الفاتحة الى الٱية 21 من سورة النساء. وقد فُرغ من كتابته سنة 736 هجري. ونُقل عن نسخة عبد الله بن هبة الله بن اسماعيل المالكي.

•الثاني: من الٱية 39 من سورة التوبة إلى الٱية 22 من سورة النور

•الثالث: من الٱية 79 من سورة الشعراء إلى الٱية 7 من سورة الشرح

2- النسخة الثانية:

تقع في مجلد واحد، وتبدأ من الٱية 178 من سورة البقرة وتنتهي بالٱية 176 من سورة النساء.

وقد نسخت سنة 785 هجري على يد محمد بن وزير بن يوسف المالكي.

3-النسخة الثالثة: وهي الجزء الرابع من نسخة مقابلة، تم نسخها سنة 617 هجري.

والظاهر أنه تم العثور على مخطوط ٱخر للكتاب نشرت أجزاء منه مؤسسة احياء التراث والبحوث الاسلامية ببيت المقدس، و يرجع تاريخ نسخه إلى 27 من شهر صفر سنة 760هـجري، و عدد أوراقه 275.

ومن الملاحظ أن أقدم نسخة للكتاب كتبت بعد 74 سنة من وفاة أبي بكر بن العربي.

فالذي تم اقتباسه من كتاب أحكام القرٱن واحتج العلماء به في كتبهم لا اشكال فيه، لان ذلك يكون اعتمادا في الغالب على نسخة مقابلة على أصل خطي للمؤلف.

لكن الاشكال يتعلق ببعض المواضع من كتاب أحكام القرٱن التي تخالف المنهج العقائدي الذي سطره أبو بكر بن العربي في الكثير من كتبه مثل: قانون التأويل، والعواصم، و عارضة الأحوذي، وغيره.

ومن هذه المواضع ما جاء في شرحه للٱية 37 من سورة الأحزاب، حيث قال: “فهذا محمد صلى الله عليه وسلم ما عصى قط ربه ، لا في حال الجاهلية ولا بعدها ، تكرمة من الله وتفضلا وجلالا ، أحله به المحل الجليل الرفيع ،ليصلح أن يقعد معه على كرسيه للفصل بين الخلق في القضاء يوم الحق”. انتهى

فكلمة “يقعد معه” توهم نسبة القعود لله واتصال النبي بجنب خالقه والعياذ بالله، في حين أن هذا الكلام يناقض

قوله في القواصم والعواصم في معرض انكاره على بعض المشبهة: “ولم قلتم إن معنى استوى قعد أو جلس؟ فتحكمون باتصاله به” انتهـى

وغيرها من المواضع التي شنع بها أبو بكر بن العربي على المجسمة.

لذلك يوجد شك كبير أن هذه الكلمة المنقولة عنه، إما ان تكون مما دُس عليه أو هي من تحريف بعض النساخ.

فشرح ابن العربي للٱية 37 من سورة الأحزاب لم يرد الا في المجلد الثالث من النسخة الأولى، ولم يرد في بقية النسخ، وقد ذكر المحقق ان هذه النسخة فيها تحريف قليل وخرم في بعض المواضع، وقد كُتب هذا المجلد حوالي 193 سنة بعد وفاة المؤلف قياسا على تاريخ المجلد الأول من نفس النسخة، ولا يوجد من علماء المالكية أو الأشعرية من نقله عنه.

وحصول التحريف في كتب ابن العربي ليس بالأمر المستبعد، خاصة اذا علمنا ان بعض المطابع مثل دار الجيل ووزارة الأوقاف السعودية، قد أقدمت على طبع كتاب “العواصم من القواصم” لأبي بكر بن العربي” وحذفوا منه طعنه في إمامهم “أبي يعلي الفراء الحنبلي”، بسبب التجسيم والتشبيه، فلا ريب أن بعض اسلافهم حرفوا في كتبه عمدا ليكون كالموافق لهم ولو في بعض المواضع.

ومن المهم هنا أيضا التنبيه لكون بعض الباحثين ذكروا أن العبارة المنسوبة لابن العربي وهو قوله “يقعد معه” أراد بها ابن العربي التشريف لا اثبات الجسمية أو القعود الحسي، وهذا تأويل بعيد وتحريف لكلامه، وقد احتج هؤلاء بما قاله أبو بكر بن العربي في القواصم والعواصم وهو قوله: “وإذا أراد الله أن يشرف بيتا أو دارا، أو آدم أو عيسى قال: إنه منه، وله، وبيده كان، وإلى جنبه يقعده، وعلى عرشه ينزله معه”. انتهى

واحتجاجهم بظاهر هذا الكلام فيه تجويز اطلاق عبارة “القعود مع الله” او “القعود بجنب الله”، على معنى التشريف، وهذا ممتنع لغة وشرعا. فهذا الكلام ليس مذهبا عند الاشاعرة بل المذهب ما قرره العلماء الاكابر مثل الاشعري والباقلاني وابن فورك وغيرهم.

وبالرجوع لكتاب العواصم والقواصم نجد أن أبا بكر بن العربي قال ذلك من باب الزام المشبهة المتمسكين بظاهر الأحاديث، والذين يقومون باثبات الصفات حتى بروايات غير ثابتة، ويصرون على الاحتجاج بها في العقائد، فألزمهم بأنه على تقدير صحة ما يزعمون، فذلك كله مصروف لمعاني تليق بالله.

فقال اولا: “وتحقيق المسألة أن أحدا لم يقل قط أن الأصابع والكف صفة، وإنما اختلفوا فيما جاء به القرآن. فأما ما جاء من طريق الآحاد، فلا يُثبت العلماء بها صفة، وإنما اقتحم ذلك هذه الطائفة العوجاء”. انتهى

ثم قال بعد ذلك: “علام تقولون. إنه يفرح ويمشي ويهرول، ويأتي وينزل؟ فهل يجوع ويعطش ويمرض ويحتاج ويعرى؟ فإن قالوا: لا، قلنا: فقد قال: “عبدي مرضت فلم تعدني، جعت فلم تطعمني، عطشت فلم تسقني” وفي رواية: “استكسيتك فلم تكسني” فيقول: فكيف يكون ذلك وأنت رب العالمين؟ يقول: كان ذلك بعبدي فلان، ولو فعلت به ذلك لوجدتني عنده، في حديث طويل، هذا معناه. فإن قالوا: لا نقول بهذه لأنها آفات، وهذه صفات. قلنا لهم بل هي جوارح، وأدوات وهي كلها نقص وآفات، فإن هذه الجوارح كلها إنما وضعت للعبد جبلة لنقصه يتوصل، ويتوسل بها إلى قصده، ومن له الحول والقوة؟. وإنما هو إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون بلا آلة له ولا جارحة، فكما أضاف هذه الألفاظ الجوارحية عندنا إلى نفسه، كذلك أضاف البيت والدار إليه، فهل بيته الذي هو الكعبة على قدره أو أكبر منه؟ وهل يدخله أم لا؟ وداره هل يسكنها أو يدخلها؟ “. انتهى

ثم وصف أبو بكر بن العربي هؤلاء بالغفلة والجهل وقال: “وإن صرمتم” اي تشددتم وتمسكتم بما صححتموه من مرويات، فسنصيبكم في المقتل ونبين لكم انه على تقدير صحتها فهي لا تعني ما ذهبتم اليه.

فقال: “وأنتم معشر الغافلين أو قل الجاهلين وإن صرمتم فأصب بالضالين الكافرين مقتل الخطاب الصحيح فيهم: الأرض كلها لله، والمساجد لله، والكعبة بيت الله، والجنة دار الله، وإذا أراد الله أن يشرف بيتا أو دارا، أو آدم أو عيسى قال: إنه منه، وله، وبيده كان، وإلى جنبه يقعده، وعلى عرشه ينزله معه”. انتهى

ومعنى كلامه أنه كما ورد اطلاق بيت الله، وناقة الله، وروح الله وغيره على معنى التشريف، فالأحاديث التي تمسكتم أنتم بها مثل “يقعده إلى جنبه” أولى بأن تُأول على معنى التشريف قياسا على هذه الاطلاقات.

ثم زاد في توضيح ما أراد الزامهم به، وأن ما ورد في ظاهر المرويات التي يتمسكون بها من ذكر الرجل والقدم، والذراع والساعد، تصرف في الكثير من المواضع بمعنى الطاعة، فقال: “وكل ملك له، ويده ورجله وقدمه، وذراعه وساعده، ولا سيما إذًا، تُصرف في طاعته، ألا ترى إلى قوله في الحديث الذي رويتم: “فساعد الله أشد، وموساه أحد” فجعل له ساعدا وموسى، والإضافة واحدة والكل صحيح المعنى حق”. انتهى

فانظر لقوله ” الحديث الذي رويتم” اي الحديث الذي رويتموه وتمسكتم به لاثبات الصفة، فهو يدل على تقدير صحته على معنى حقّ، يليق بالله، و لا يدل على الجارحة بدليل قوله قبل ذلك بأسطر: “ثم يقال لكم: لم لا تَصِلون بين القدم والرجل والساق والخاصرة والجنب؟. والجنب عبارة عن جهة القصد، لأنه قال: “فرطت في جنب الله” -الزمر: 56- ولا يكون ذلك أبدا إلا من جهة طاعة، ولا تفريط في الجارحة منا، ولا في الصفة منه سبحانه، ثم تَصِلون الأصبع بالكف، والذراع والساعد، وتجمعون صورة فرقها العقل والشرع؟ إن هذا لهو الكفر العظيم، والخسران المبين”. انتهى