بيان أن الإسناد أصل في الدين
الجزء الأول في الرد على الحدادية.
1- طريقة التلقي في الشرع
ظن بعض المتقاعسين عن طلب العلم الشرعي أن الإسناد الذي قال عنه عبد الله بن المبارك: “الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء”، إنما هو خاص بزمن الرواية، وأنه في عصرنا لا يُؤخذ به إلا على جهة التبرك، وهذه الدعوى فيها مغالطات متعددة، تخالف أصول العلم ومناهج العلماء في تحصيله ونقله.
فالإسناد أصل راسخ في الشريعة، لا يختص بعصر دون عصر، بل هو باقٍ ما بقي الدين، لأنه الضمانة الكبرى لسلامة النقل.
قال ابن سيرين: “إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.” انتهى
ولم يُقصد بذلك الرواية فقط، بل يشمل كل فروع العلم الشرعي: من الحديث، والتفسير، والفقه، والقراءات، والعقيدة، وغيرها.
وقد اتفق أهل السنة على أن العلم لا يؤخذ إلا بالتلقي والمشافهة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “يا أيها الناس، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما يخشى الله من عباده العلماء.”
والمعنى أنَّه يكون بالتَّلقي مِن أهل المعرفة الثِّقات؛ قال العَينيُّ في عُمدة القاري شرح صحيح البُخاريِّ: ” أي ليس العلم المُعتدُّ إلَّا المأخوذ عن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام على سبيل التَّعلم والتَّعليم”. انتهى
وجاء في الحديث: ” إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا” رواه البُخاريُّ فإفادة العلم طريقُها التَّلقي مِن العُلماء العارفين الثِّقات.
وقال الخطيب البغدادي: “لا تأخذوا العلم إلا من أفواه العلماء.”
و يُروى عن الإمام سفيان بن سعيد الثوري أنه قال: ” الإسناد سلاح المؤمن، إذا لم يكن له سلاح فبأي شيء يقاتل” رواه الهروي في ذم الكلام
2- نقض دعوى أن سند المتأخرين هو لمجرد البركة
زعم بعض الجهلة أن الأسانيد المعتبرة هي أسانيد عصر الرواية، لا غير، وهي التي يتعلَّق بها تصحيح الحديث وتضعيفه، وأما ما يتناقله المحدثون بعد ذلك من الاسانيد فلا قيمة لها، وهي فقط لمجرد البركة.
وهؤلاء يقولون أن الأداء في عصر الرواية: معناه الرواية التي يُبنى عليها التصحيح والتضعيف.
و التحمل بعد استقرار الكتب: معناه نقل الكتاب بالسند بعد ثبوته وتواتره، و يُقال عنها “رواية بركة”.
فالمعتبر عندهم هو عصر الرواية، لا التحمل.
والجواب على هذا الهراء أن يقال:
أ- هذا القول روّج له بعض الحدادية عندما علموا أن أسانيد الأمة المحمدية مليئة بأئمة الأشاعرة الذين يكفرهم هؤلاء، فحاولوا إسقاط الإسناد من أجل التملص من الاتّصال بهم، وهذه حيلة مفضوحة ومردودة.
ب- هذا القول محدث لا أصل له عند السلف ولا الخلف، وهو بخلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وخلاف ما عليه جمهور العلماء، وإلا فالأسانيد جميعها معتبرة سواء ما يتعلق بعصر الرواية أو ما بعده، فقد ثبت عن رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنه خطب يومَ النَّحرِ فقالَ ليبلِّغِ الشَّاهدُ الغائبَ فإنَّهُ رُبَّ مبلَّغٍ يبلغُهُ أوعَى لهُ من سامعٍ.
وفيه أنَّه قد يأتي في المستقبل من يكون له من العلم و الفهم ما ليس لمن تقدَّمه.
ج- رواية التحمل فيها اتمام لبعض معاني الحديث، وهذا لا يوجد في الكتب، مثل الأحاديث المسلسلة، والحديث المسلسل هو الحديث الذي تناقله الرواة عن بعضهم البعض بهيئة تحاكي هيئة النبي ﷺ أثناء قوله، أو هيئة السياق الزماني أو المكاني الذي قيل فيه الحديث، كأن يقول النبي ﷺ حديثا ثم يقبض على لحيته، فيأتي الراوي ليروي ما قاله النبي ﷺ ثم يقبض الراوي على لحيته كما فعل النبي ﷺ، ثم يأتي الراوي الذي بعده فيروي الحديث ثم يقبض على لحيته وهكذا، وذلك يقوي معنى الاتصال في الحديث، لأن فيه دلالة على اتصال السماع وزيادة في ضبط الراوي، كما قال ابن الصلاح. إذ أن الرواي لم يكتفي بنقل العبارة النبوية فقط، بل وصف معها هيئة النبي ﷺ أثناء قوله الحديث. كما تلقاه.
وكأمثلة على ذلك:
-الحديث الذي رواه أبو هريرة قائلا: شبك بيدي أبو القاسم وقال لي: «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» رواه مسلم في صحيحه
فكان أبو هريرة إذا حدث أحد الرواة بهذا الحديث يشبك يده بيد الرواي ثم يقول له: شبك بيدي أبو القاسم وقال لي: «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت…»، فإذا أراد هذا الراوي أن يحدث راو آخر بهذا الحديث فإنه يشبك يده بيد هذا الراوي الثاني ويقول له: شبك أبو هريرة يده بيدي وقال: شبك بيدي أبو القاسم وقال لي: «خلق الله عز وجل التربة يوم السبت…» وهذا المسلسل يُسمى مسلسل التشبيك باليد، حيث أن كل راو من رواة الحديث كان يشبك يده بيد من يروى له الحديث.
وطريقة التشبيك وهيئته لا تعرف إلا بالسند.
– الحديث الذي رواه معاذ بن جبل قائلا: “أخذ بيدي النبي ﷺ فقال: «يا معاذ، قلت: لبيك، قال: إني أحبك، قلت: وأنا والله أحبك، قال: ألا أعلمك كلمات تقولها في دبر كل صلاتك، قلت: نعم، قال: قل اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك” رواه البخاري في الأدب المفرد
فكان معاذ إذا حدث أحد الرواة بهذا الحديث يقول له: «إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»، فإذا أراد هذا الراوي أن يحدث راو آخر بهذا الحديث فإنه يروي الحديث ثم يقول للراوي الذي يسمعه: «إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»، وهكذا.
– الحديث الذي رواه أنس بن مالك قائلا: “قال رسول الله ﷺ«لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره»، وقبض رسول الله ﷺ على لحيته وقال:«آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره». انتهى
فكان أنس إذا حدث أحد الرواة بهذا الحديث فإنه يقبض على لحيته ويقول: «آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره»، فإذا حدث هذا الراوي غيره بهذا الحديث فإنه يروي الحديث ثم يقبض على لحيته ويقول: «آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره»، والمسلسل في هذا الحديث هو القبض على اللحية.
ومن هنا بطل قول الحدادية عن أسانيد المتأخرين أنه ضرب من الرواية لا يتعلَّق به تصحيح وتضعيف، وإنما للبركة المحضة.
3- ذم العلماء لمن لم يأخذ العلم من المشائخ وحصله من الكتب
– قال الإمام الشافعي: “من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام.” كما في تذكرة السامع والمتكلم
– قال الخطيب البغدادي : “الذي يأخذ العلم من الكتب يُقال له صحفي، والذي يأخذ القرآن من المصحف يُقال له مصحفي.”
وأضاف نقلاً عن بعض المحدثين: “من طالع الكتب لنفسه دون معلم يُسمى صحفيًا ولا يُسمى محدثًا، ومن قرأ القرآن بنفسه دون معلم يُسمى مصحفيًا ولا يُسمى قارئًا.”
– جاء عن سليمان بن موسى أنه قال: “لا تأخذوا الحديث عن الصحفيين، ولا تقرؤوا القرآن على المصحفيين.” كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، والمحدث الفاصل للرامهرمزي
– قال السخاوي في فتح المغيث: “والأخذ للأسماء والألفاظ من أفواه العلماء الضابطين له، ممن أخذوه عمن تقدم من شيوخهم… لا من بطون الكتب والصحف من غير تدريب المشايخ: أَدفع للتصحيف وأسلم من التحريف.” انتهى
ثم أورد أقوال السلف في ذم الاقتصار على الكتب، فقال: ” ولما قال بشير بن كعب لعِمران حديثًا من الصحف، ردّ عليه بقوله: “أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن الصحف؟”. انتهى
– قال الأوزاعي كما في مسند الدارمي: “ما زال هذا العلم في الرجال، حتى وقع في الصحف، فوقع عند غير أهله.”
– قال كمال الدين الشمني:
من يأخذ العلم عن شيخٍ مشافهةً
يكن من الزيف والتصحيف في حرمِ
ومن يكن آخذاً للعلم من صحفٍ
فعلمه عند أهل العلم كالعدمِ.
– قال ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث: “وأما التصحيف، فسبيل السلامة منه الأخذ من أفواه أهل العلم أو الضبط، فإن من حُرم ذلك وكان أخذه وتعلمه من بطون الكتب، كان من شأنه التحريف ولم يفلت من التبديل والتصحيف.”. انتهى
– قال القاضي عياض في ترتيب المدارك في ترجمة الداوودي المتوفى سنة 402 هـجري، ما نصه: ” بلغني أنه كان ينكر على معاصريه من علماء القيروان سكناهم في مملكة بني عبيد، وبقاؤهم بين أظهرهم، وأنه كتب إليهم مرة بذلك. فأجابوا: اسكت لا شيخ لك؛ أي لأن درسه كان وحده، ولم يتفقه في أكثر علمه عند إمام مشهور، وإنما وصل الى ما وصل بإدراكه، ويشيرون أنه لو كان له شيخ يفقهه حقيقة الفقه لعلم أن بقاءهم مع من هناك من عامة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام، وبقية صالحة للإيمان، وأنهم لو خرج العلماء عن إفريقية لتشرق من بقي فيها من العامة الألف والآلاف فرجحوا خير الشرين”. انتهى
4- الفرق بين السند والاجازة
ينبغي التمييز بين “السند” و”الإجازة”، فالإجازة تعني إذنُ الشيخ لطالبه أن يروي عنه في شيء معين، وقد يُجيز الشيخ الطالب في كتاب من تصنيفه. أما السند، فيشير إلى سلسلة الرجال الذين نقلوا العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا.
ولهذا قال السفاريني في إجازته لعثمان الرحيباني:
“والإجازات لا تفيد علمًا، فمن حَصَّل العلوم، وأدرك منطوقها والمفهوم، فقد فاز، وأجيز على الحقيقة لا المجاز، ومن لا فلا، ولو ملأ سبت أمه إجازات.”
ومراده بـ”من حصل العلوم” أي من تلقاها من أفواه أهل العلم، لا من بطون الكتب.
بيان أن الإسناد أصل في الدين
الجزء الثاني في الرد على الحدادية.
زعم بعض جهلة الحدادية أن المعتبر في الشرع هو أسانيد عصر الرواية، وأن أسانيد المتأخرين هي فقط مجرد أسانيد للكتب بعدما استقرت وحُفظَت عن أصحابها وصار الناس يروُونها بأسانيدهم الخاصة من باب البركة، وإلا فهي محفوظة بروايات عديدة.
والرد على هذا الكذب من وجوه:
أ- القول بأن الكتب استقرت وحُفظَت وتواترت عن أصحابها وصار الناس يروُونها بأسانيدهم” فهذا غير مسلم به، فكم من كتاب حرفت ألفاظه خلال الطبع وكم من كتاب حذفت فقراته خلال التحقيق وكم من كتاب حرفت معانيه خلال الشرح، وكم من كتاب دُس فيه خلال النسخ. بل إن جل كتب الحشوية مثلا غير متواترة ولا مسندة، وغالبها منقول من مخطوطات يتيمة منقطعة السند، ومجهولة الناسخ كالسنة المنسوب لعبد الله بن الامام أحمد، والسنة للخلال، والرد على الجهمية وغيرها من المؤلفات.
ب- الكتاب لا يكون مُعتمَدًا لمُجرَّد شُهرة صاحبه ولا لمُجرَّد كونه ثابتًا عن مُصنِّفه بل لا بُدَّ مِن توفُّر نُسخة شهد الثِّقات أنَّها بخطِّ المُصنِّف أو شهدوا أنَّها مُقابلة على نُسخة بخطِّه لأنَّ الكُتُب وقع في نسخها الدَّسُّ والتَّصحيف والخطأ ولذلك قال التَّاج السُّبكيُّ: ” آفة الكُتُب نُسَّاخُها” انتهى
قال الإمام النَّوويُّ في التَّقريب: ” وَمَنْ أَرَادَ الْعَمَلَ مِنْ كِتَابٍ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ قَابَلَهَا هُوَ أَوْ ثِقَةٌ بِأُصُولٍ صَحِيحَةٍ فَإِنْ قَابَلَهَا بِأَصْلٍ مُحَقَّقٍ مُعْتَمَدٍ أَجْزَأَهُ وَاللهُ أَعْلَمُ” انتهى.
فإذَا كان الكتاب مُعتمَدًا احتاج القارئ إلى علم وفهم سليم بحيث لا يُخشى على النَّاقل منه اللَّبس والخلط وإلى ضبط القواعد الَّتي يُميِّز بها الصَّحيح مِن السقيم وإلَّا فقد عاب القاضي عياض قومًا وصفهم فقال: “الْمُولَعُونَ بِكُلِّ غَرِيبٍ؛ الْمُتَلَقِّفُونَ مِنَ الصُّحُفِ كُلَّ صَحِيحٍ وَسَقِيمٍ”. انتهى.
فلا تكفي مُطالعة الكُتُب بغير تَلَقٍّ مِن أفواه العُلماء بل كثير مِن النَّاس يضلُّون باعتمادهم على المُطالعة في مُؤلَّفات وكُتُب مشهورة دون الرُّجوع إلى أهل العلم، وقد حصل أنَّ بعض أهل زماننا قرأ صحيح البُخاريِّ فتوهَّم أنَّ النَّبيَّ أراد الانتحار وقَتْلَ نفسه، والعياذ بالله مِن الكُفر.
ج- رواية المتاخرين للكتب بالاسانيد ليست لمجرد البركة فقط كما يظن هؤلاء أو ان هذه الاسانيد لا قيمة لها بعد انقضاء عصر الرواية، فإن الاسناد لا يتعلق فقط بمتن الرواية بل بشرحها وتفسيرها وفهم معانيها. فأهل الاسناد هم فقط الذين وقفوا على معاني الألفاظ الغامضة و المتشابهة الموجودة في المرويات التي أخذوها بالسند للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما هؤلاء النابتة فقد اعتمدوا على أهوائهم في فهم المعاني فضربوا النصوص بعضها ببعض وتخبطوا خبط عشواء فضلوا وأضلوا، حتى قال أحد الجهلة المسمى بابن شمس الدين العايدي: شارح الموطأ يردّ على شارح صحيح مسلم”، اعتبر نفسه شارحا للموطأ، وله نفس منزلة الإمام النووي شارح صحيح مسلم، وله الأهلية لردّ كلامه مع أن هذا العايدي عقيدته هي عقيدة اليهود وغلاة المجسمة.
وكأن ابن رشد الجد عنى هذا النابتة بقوله: ” لا يجوز لمَن لم يعتنِ بالعلم ولا سمعه ولا رواه الجُلوس لتعليم المُوطَّأ ولا غيره مِن الأُمَّهات ولو كانت مشهورة.. ولو قرأها وتفقَّه على الشُّيوخ فيها أو حملها إجازة فقط جاز أنْ يُعلِّم ما عنده عن الشُّيوخ مِن معانيها وأنْ يقرأها إذَا صحَّح كتابه على رواية شيخه” . انتهى
ثم إن رواية التحمل فيها مزايا لا توجد في أصول الكتب منها ما بيناه في الرابط التالي:
د- رواية التحمل هي صمام أمان لما سينبثق عنها من بحوث ودراسات، وهذا ما يميز الجامعات الاسلامية عن بقية الجامعات البحثية العالمية. فهذه الأخيرة رغم مكانتها العلمية، تفتقد إلى آلية محكمة للتحقق من صحة النقل؛ فهي تتعامل مع النصوص كما وردت دون تمحيصٍ جادٍ، مما يجعلها تعتمد في كثير من الأحيان على محتويات غير موثقة أو مبنية على ظنون غير يقينية. وتحت ذرائع منهجية زائفة، إذ يُعتبر هذا أقصى درجات التثبت الممكن لديهم، مما يكشف عن فجوة معرفية هائلة بين البحث التأصيلي الحقيقي القائم على كشف الحقائق، وبين البحث الأكاديمي القائم على تراكمات معرفية لا تُختبر صلاحيتها بشكل دقيق.
وهكذا تتحول قائمة المراجع في أي بحث علمي لديهم إلى مساحة مشوشة تغصّ بالمعلومات غير المُحَقَّقَة، حيث تُنقل الأفكار دون سند قوي يثبت صحتها، فتُبنى عليها نظريات ومفاهيم قد تفتقر لأدنى مستويات التدقيق والتمحيص العلمي. وهذا الفرق الجوهري بين المنهج الإسلامي القائم على الإسناد الصارم، والمنهج الأكاديمي الحديث القائم على قبول النقل دون فحص دقيق، هو ما يُبرز التفوق المنهجي الحقيقي القائم على التحقيق والتوثيق، لا مجرد الاستناد إلى كثرة المصادر دون النظر في مدى موثوقيتها.
2- بيان أن الكتب ينبغي أخذها عن العلماء الثقات
مما هو مقرر في الشريعة الاسلامية أن الرجل إن لم يكُنِ عالمًا باختلاف أهل العلم قادرًا على التَّمييز بين الصَّحيح والسَّقيم مُنع مِن الفتوى بالنَّظر إلى الكُتُب ولو كانت مُعتمدة أُجيز فيها، إلَّا شيئًا تحقَّق له سماعُه عن الثِّقات، والعامِّيُّ الجاهل لا يصير بمُجرَّد الإجازة مُفتيًا ينظُر في كلام المُجتهدين ويستنبط أحكام الشَّرع الحنيف.
ففي “فتح العليِّ المالك في الفتوى على مذهب مالك” للشَّيخ عِلِّيش المالكيِّ قال: ” فقال يحيى بن عُمر: قلتُ لمُحمَّد بن عبدالحكم: أرأيتَ مَن كان يروي كُتُبك هذه وكُتُب ابن القاسم وأشهب؛ هل يجوز له أنْ يُفتيَ؟ قال: لا والله إلَّا أنْ يكون عالمًا باختلاف أهل العلم يُحسن التَّمييز” إلخ..
وفيه: “وقال سحنون: “مَن اشترى كُتُب العلم أو ورثها ثُمَّ أفتى بها ولم يعرضها على الفُقهاء أُدِّب أدبًا شديدًا” وذكر القاضي حديثًا مرفوعًا: “لا يُفتي أُمَّتي الصَّحَفيُّون ولا يُقرئُهُمُ المُصحفيُّون” قال غيرُهُ: “فيُنهَى عن ذلك أشدَّ النَّهي فإنْ لم ينتهِ عُوقب بالسَّوط” وقد قال ربيعة: “لَبعضُ مَن يُفتي ها هُنا أحقُّ بالسِّجن مِن السُّرَّاق” إلخ..
وفيه عن أبي العبَّاس القبقاب قال في جواب سُؤال عمَّن لم يقرأ الكُتُب على الثِّقات هل له أنْ يُعلِّم منها: ” تعليم النَّاس مِن الرِّسالة والجلاب لمَن لم يقرأ على أحد لا ينبغي” إلخ.. إلى قوله: “الَّذي يُفتي النَّاس بما يرى في الكُتُب مِن غير أنْ يقرأ على الشَّيخ لا يحِلُّ له.. نصَّ على ذلك الفُقهاء” إلخ..
ومن هنا عُلم أن قول بدر الدِّين الزَّركشيِّ: “حكى الأُستاذ أبو إسحق الإسفراييني الإجماع على جواز النَّقل مِن الكُتُب المُعتمدة ولا يُشترط اتِّصال السَّند” إلخ.. وقول العزِّ بن عبدالسَّلام: ” ولذلك اعتمد النَّاس على الكُتُب المشهورة في النَّحو واللُّغة والطِّبِّ وسائر العُلوم” انتهى.
فليس على إطلاقه، فقول الاسفراييني بجواز النَّقل مِن الكُتُب المُعتمدة ولا يُشترط اتِّصال السَّند، مقيد بكون الشخص مطلعا على أصل المسألة التي يريد نقلها من الكتاب بأن يكون له عليها سماع عن الثِّقات، وإلا فإن المُصنف نفسه قد يُقيّد عبارته في كتاب ويطلقها في كتاب آخر له.
وكذلك قول العزِّ باعتماد الكُتُب المشهورة في النَّحو واللُّغة والطِّبِّ وسائر العُلوم، فهو مقيد أيضا بأن يكون تلقاها عن العلماء الثقات.
بيان أن الاسناد أصل في الدين
الجزء الثالث: نقض حجج الحدادية
احتج الحدادية بعدة مقالات ذكرها العلماء عن الاسناد مثل
أ- قول ابن جماعة في المنهل الروي:
“ليس المقصود بالسند في عصرنا إثبات الحديث المروي وتصحيحه، إذ ليس يخلو فيه سند عمن لا يضبط حفظَه أو كتابَه ضبطًا لا يُعتمد عليه فيه، بل المقصود بقاء سلسلة الإسناد المخصوص بهذه الأمة فيما نعلم، وقد كفانا السلف مؤونة ذلك، فاتصال أصل صحيح بسند صحيح إلى مصنفه كافٍ، وإن فُقِدَ الإتقان في كلهم أو بعضهم”.
وهذا الكلام في الأصل يرد مزاعم الحدادية وعامة الحشوية حيث قال ابن جماعة قبل ذلك: “لا يحتج بحديث من نسخة كتاب لم يقابل بأصل صحيح موثوق به بمقابلة من يوثق به وقال ابن الصلاح بأصول صحيحة متعددة ومروية بروايات متنوعة. قلت: وهذا منه ينبغي أن يحمل على الاستحباب لا على الاشتراط لتعسر ذلك غالبا أو تعذره ولأن الأصل الصحيح تحصل بالثقة”. انتهى
فابن جماعة بين أن الاسناد في عصر المتأخرين لا يراد به تصحيح او تضعيف المرويات وهذا واضح، كما أكد أنه لا يصح الاكتفاء بشهرة الكتاب أو مجرد رواجه بين الناس كما يزعم الحدادية، بل يشترط اتصال نسخة صحيحة من الكتاب بسند صحيح إلى مصنفه. وهذا معناه ان الكتاب ان كان منقطعا عن مؤلفه، أو لم يقابل بأصل صحيح موثوق به بمقابلة من يوثق به، فلا عبرة به.
وبالتالي فكلام هؤلاء المبتدعة المتمردون، المتترسون زورا بالسلف، مخانيث اليهود لامعنى له و لا أصل.
ب- قول أبي جزء العدوي: “سُئل أبو داود: من تأمرنا أن نجالس بعدك؟ قال: الكتب.”
وهذا الأثر ذكره ابن بشكوال في الفوائد المنتخبة والحكايات المستغربة، وقد تفرد به أبو جزء عن أبي داود، ولا يثبت عنه، بل إن أبا داود عقد في سننه بابًا للحث على طلب العلم وحضور مجالسه. ولو صح الأثر عنه فمراده به الكتب التي تلقاها الطالب و المقابلة على أصول صحيحة. ثم ان ابن بشكوال قد روى في الصلة بسنده عن صالح بن الإمام أحمد بن حنبل، قال: سمعت أبي يقول: “ما الناس إلا من قال حدثنا وأخبرنا وسائر الناس لا خير فيهم، ولقد التفت المعتصم إلى أبي فقال له: كلم ابن دؤاد فأعرض عنه أبي بوجهه وقال: كيف أكلم من لم أره على باب عالمٍ قط”. انتهى
ج – قول ابن الوزير في العواصم: “وثانيها: أن أهلَ الكذب والتحريف قد يئسُوا من الكذب في هذه الكتب المسموعة، فكما أنه لا يُمْكِنُ أحدًا أن يُدْخِلَ في “اللمع” مسألة في جواز المسح على الخُفَّين ويقول: إنه مذهب الهادي -عليه السلام- ويخفى ذلك على حُفَّاظ مذهبه -عليه السلام-، فكذلك لا يُمْكِنُ أحدًا أن يزيدَ في صحيح البخاري حديثَ “القُرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق”، ولا حديثَ “أبو بكر خليفتي على أمتي” ونحو ذلك من الموضوعات”. انتهى
معناه أن هذه الكتب التي انتشر سماعها وقراءتها. يصعب الدس فيها وتحريفها لأن الحفاظ حفظوا متونها و قابلوها على أصول صحيحة موثوقة بمقابلة من يوثق به.
وكلام ابن الوزير ليس فيه اي اشارة لقلة أهمية الأسانيد، وإلا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العلماء فقط لهم مزية حفظ العلم في كل عصر فقال: “يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ”.
فالعِلمَ الشرعيَّ منَ الكِتابِ والسُّنةِ، وما يَنبَثِقُ عنهما من عُلومٍ، إنَّما يَهَبُه اللهُ سُبحانَه، ويَتعلَّمُه ويَحمِلُه في كلِّ قَرنٍ وجيلٍ من أجيالِ هذه الأُمةِ على مرِّ الأزمانِ أعدَلُ الناسِ وثِقاتُهم عن غَيرِهم من أهلِ زَمانِهم.
فأين قول هؤلاء النابتة أن رواية المتأخرين وأسانيدهم للعلوم الشرعية هي لمجرد البركة، من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وثناءه على حملة العلم الشرعي بسنده المتصل؟
د – قول الشيخ محمد بن الجزري الدمشقي في “منجد المقرئين” نقلًا عن أحد مشايخه أنه قال: “إن القراءات كالحديث، مخرجها كمخرجه. إذا كان مدارها على واحد، كانت أحادية. وخفي عليه (يعني الذي يظن تلك الأسانيد الأحادية تدل على عدم تواتر القراءة) أنها نُسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحًا. وإلا فكل أهل بلده كانوا يقرؤونها. أخذوها أممًا عن أمم. ولو انفرد واحد بقراءة دون أهل بلده، لم يوافقه على ذلك أحد، بل كانوا يجتنبونها، ويأمرون باجتنابها”.
هذا الكلام معناه أن الأسانيد الأحادية في الظاهر، قد تنقل شيئًا متواترًا بين العلماء في الواقع، فلا يصح الطعن في سند ظاهره أحادي إذا نقل شيئًا مشهورًا معلومًا متواترًا – وهذا قيد لا يُغفل عنه -فابن الجزري يعتبر إقرار العلماء لرواية شيء مشهور مثل قراءة القرآن يُدخِله في حيِّز التواتر لاشتدادهم جدًّا على من يزيد أو ينقص فيه. وأما الكتب التي يروج لها المشبهة، فهي تحتوي على مرويات غير مشهورة ولا متواترة وبالتالي فمجيئها من طريق الآحاد لا يجعلها كالقرآن ولا ككتب الحديث المشهورة.
فإن قيل أن أسانيد الأشاعرة والماتريدية مثلا، مع كونها رواية للبركة، فليس هؤلاء وحدهم في الباب وإنما معهم من أقرَّهم.
وهذا مدفوع بكونه لا يُعرف في زماننا أسانيد المخالفين لهم الذين أقروهم من أصله، بل لا يعرف عن مخالفيهم الا الاعتماد على الكتب، والصحف.
هـ- وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة زاهر بن طاهر: “قال أبو سعد السمعاني: كان مكثرًا، متيقِّظًا، ورد علينا مرو قصدًا للرواية بها، وخرج معي إلى أصبهان لا شغل له إلا الرواية بها، وازدحم عليه الخلق، وكان يعرف الأجزاء، وجمع ونسخ وعُمِّر، قرأت عليه “تاريخ نيسابور” في أيام قلائل، كنت أقرأ فيه سائر النهار، وكان يكرم الغرباء، ويعِيرهم الأجزاء، ولكنه كان يخلُّ بالصلوات إخلالًا ظاهرًا وقت خروجه معي إلى أصبهان، فقال لي أخوه وجيه: يا فلان، اجتهد حتى يقعد، لا يفتضح بترك الصلاة، وظهر الأمر كما قال وجيه، وعرف أهل أصبهان ذلك، وشغبوا عليه، وترك أبو العلاء أحمد بن محمد الحافظ الرواية عنه، وأنا فوَقْتَ قراءتي عليه “التاريخ” ما كنت أراه يصلي، وعرَّفنا بتركه الصلاة. أبو القاسم الدمشقي، قال: أتيته قبل طلوع الشمس، فنبَّهُوه، فنزل لنقرأ عليه، وما صلى، وقيل له في ذلك، فقال: لي عذر، وأنا أجمع الصلوات كلها، ولعله تاب، والله يغفر له، وكان خبيرًا بالشروط، وعليه العمدة في مجلس الحكم، مات: بنيسابور، في عاشر ربيع الآخر، سنة ثلاث وثلاثين وخمس مائة.
قلت: الشره يحملنا على الرواية لمثل هذا”. انتهى
وجواب هذه الشبهة أن يقال أن زاهر بن طاهر كان به مرض سلس البول كما بين ذلك غير واحد من العلماء، فكان بسببه يجمع بين الصلوات.
راجع الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/p/1EihYbDzMT/
ثم إن كلام الذهبي يدينه هو، فهو بزعمه كان يظن زاهر يخل بصلواته ومع ذلك روى عنه وقال: ” الشره يحملنا على الرواية لمثل هذا” واعتذر لنفسه بقوله : ” لعله تاب”.
وهذا حال أسلاف الحدادية يطعنون في العلماء ويكفرونهم ثم يروون من طريقهم الحديث ويقرؤن من طريقهم القرآن.
فإن كانت أصول تاريخ نيسابور مثلا محفوظة والأمر تحصيل حاصل كما يدعي هؤلاء الجهلة، فلماذا حرص المحدثون على قراءته على مخل بصلاته بزعمهم؟
و- قال الذهبي في ميزان الاعتدال بعدما جرح الأهوازي عالم القراءات: “ولو حابيتُ أحدًا لحابيتُ أبا علي لمكان علو روايتي في القراءات عنه”. انتهى
فزعم المجسمة أن الأهوازي اسمه مشهور في أسانيد القراءات، وإنما كانت له رواية عالية فاشتُهر، والنَّاس يحبون الأسانيد التي رُواتها قليلون.
وقال الحدادي أبو جعفر الخليفي في مدونته بعد أن ادعى أن أسانيد ابن الجزري ترجع للأهوازي: “فبدا لي أمر وهو أن أسانيد المتأخرين عامتها للبركة والأمر قد حفظ”. انتهى
ورد هذه الشبهة أن يقال أن الأهوازي لم يكن بالمتقن ولا المجود، رغم علو اسناده بل كان مشهورا بين القراء بأنه كذاب وضاع
راجع الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/p/1Be3QmVJyi/
وهو نفسه أخذ القراءات عن أتباع الأشعري
https://www.facebook.com/share/p/1Y5zEgYMoU/
وأما كلام الخليفي فجوابه تحت هذا الرابط:
https://www.facebook.com/share/p/1AZT4QTagY/
ز- قال ابن دقيق العيد في “الإمام في معرفة أحاديث الأحكام:
أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات : «أن لا يمس القرآنَ إِلَّا طاهر» مختصر أخرجه جمع من الحفاظ، وهذا لفظ رواية أبي عمر في «التمهيد»…..
وقال أبو عمر، مريدا كتاب عمرو بن حزم : وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تستغني بشهرتها عن الإسناد؛ لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة. ثم قال بعد ذلك في كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء، وما فيه فمتفق عليه إلا قليلا ، وبالله التوفيق».
ورد هذه الشبهة أن يقال: ان الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى أهل اليمن يشبه رسالة النبي لهرقل، وكلا المتنين اشتهرا عند أهل السير . فذكر متن الكتاب إلى أهل اليمن ورد من طرق عدة أشبهت التواتر. لذلك قال ابن عبد البر: “وما فيه فمتفق عليه إلا قليلا”. انتهى
وأما هؤلاء الحشوية فيكفي عندهم شهرة اسم الكتاب فقط عن مؤلفه حتى يثبتوا كل المتن الوارد فيه، مع أن ما فيه جميعه لم يكن مشهورا بينهم، بل هو ورد من طريق واحد منقطع ضمن مخطوط يتيم كالسنة لابن أحمد بن حنبل، أو من طريق صبيان لم يبلغوا سن التحمل كالسنة للخلال.
ط- احتجاجهم بكلام ابن الصلاح في الاعتماد فقط على كلام المتقدمين
https://www.facebook.com/share/p/1969hDwDwK/
روابط ذات علاقة:
الجزء الأول:
https://www.facebook.com/share/p/1BRYSkVQ7h/
الجزء الثاني:
https://www.facebook.com/share/p/1AadWAbEfw/
بيان أن الاسناد أصل في الدين
الجزء الرابع: بيان أن التصحيح والتضعيف ليس حكرا على المتقدمين، وردّ احتجاجهم بكلام ابن الصلاح
زعم جهلة الحدادية أن أسانيد أهل السنة الأشاعرة والماتريدية ليس لها أي قيمة علمية وأنها لا تصلح إلا للبركة، وإلا فالأمر قد حُفظ منذ عصر السلف، و هؤلاء المتأخرين ليس لهم الأهلية للتصحيح والتضعيف.
وقد احتج هؤلاء بمقالات الحافظ ابن الصلاح ومن تابعه في رأيه
حول مسألة التصحيح في العصور المتأخرة، وأنه ينبغي الاعتماد فقط على كلام أئمة الحديث المتقدمين.
وظن هؤلاء الجهلة أن هذا القول هو الصحيح و المعتمد، والصواب أن المسألة خلافية والصحيح هو بخلاف ما ذكر ابن الصلاح، فقد جاء في كتاب “جهود الإمام الزركشي في الحديث وعلومه” للدكتور أعمر فطان ما نصه:
“المسألة الثانية: استدراكه على ابن الصلاح في مسألة التصحيح في العصور المتأخرة.
من المسائل المهمة التي استدرك الزركشي فيها على ابن الصلاح، مسألة التصحيح في العصور المتأخرة. فلقد اشتهر القول عن ابن الصلاح بعدم أهلية المتأخرين للحكم على الأحاديث، حيث قال: «… إذا وجدنا فيما يروى من أجزاء الحديث وغيرها حديثاً صحيح الإسناد، ولم نجده في أحد الصحيحين، ولا منصوصاً على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد؛ لأنه ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عرياً عما يشترط في الصحيح من والضبط، والإتقان. فآل الأمر إذاً ـ في معرفة الصحيح والحسن ـ إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها، لشهرتها من التغيير والتحريف، وصار معظم المقصود ـ بما يتداول من الأسانيد خارجاً عن ذلك ـ إبقاء سلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة، زادها الله تعالى شرفاً…» – كما في مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح، صحيفة 159 –
وممن قال بهذا القول الحافظ ابن منده فيما نقله عنه الحافظ السخاوي – في فتح المغيث -، والإمام بدر الدين بن جماعة فيما نقله عنه السيوطي – كما في تدريب الراوي – ، ووجه هذا القول عند ابن الصلاح ـ كما يظهر من كلامه ـ ضعف أهلية المتأخرين، وكأن هذا مبني على القول بغلق باب الاجتهاد الذي انتشر في عهده، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك . كما نبه الزركشي صراحة إلى تأثر ابن الصلاح بهذه الفكرة، واستنكر هذا القول ورده، حيث قال معلقاً على كلام ابن الصلاح ما يلي: «… أن ما ذكره من أنه لا يحكم بصحته؛ لضعف الأهلية في هذه الأزمنة، لا نعرف له فيه سلفاً، والظاهر ،جوازه، ولعله بناه على جواز خلو العصر عن المجتهد المطلق، والصواب خلافه» – كما في النكت على مقدمة ابن الصلاح -. وممن قال بهذا القول الإمام النووي حيث قال: «الأظهر عندي جواز التصحيح لمن تمكن وقويت معرفته» – نقله عنه السيوطي في تدريب الراوي -، وأيده أيضاً البلقيني فقال: «والمختار أن المتبحر في هذا الشأن، له ذلك
بطرقه التي تظهر له» – كما في محاسن الاصطلاح – ، ولقد لخص الزركشي كلامه على هذه المسألة بقوله: «… وعليه عمل أهل الحديث، وقد صحح كثير من المتأخرين أحاديث لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحاً، كابن القطان (ت 628 هـ) ، وتلميذه ابن المواق (ت642 هـ)، والضياء المقدسي (ت 643 هـ) ، والزكي المنذري، والمزي، والذهبي، إلا أن الشرط الذي ذكره النووي مأخوذ من تعليل ابن الصلاح، والظاهر أنه لا يخالف فيه عند وجوده». وهذا الذي ذكره الزركشي هو الصحيح في المسألة؛ وقد ذكر مثله الحافظ ابن حجر – كما في النكت -، وتلميذه السخاوي، لأن التصحيح مبني على الاجتهاد، ولا يخلو عصر من مجتهد أو مجدد، ونفي إمكان التصحيح هو نفي لذلك كله، وهذا مخالف للنصوص الشرعية الدالة على هذا الأمر”. انتهى
