مسألة القطعية في النصوص الشرعية بين تنظير الرازي وتعقيب القرافي

مسألة القطعية في النصوص الشرعية بين تنظير الرازي وتعقيب القرافي

تُعد مسألة القطع في دلالة النصوص الشرعية من المسائل التأسيسية في علم أصول الفقه، لما لها من أثر جوهري في تصنيف الأحكام وتقويم مناهج الاستدلال. إذ يتوقف عليها التمييز بين ما يُمكن القطع به من الأحكام، وما يُبنى على الظن والاجتهاد.

وقد تناول الإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 هـجري هذه المسألة بتوسّع في مؤلفاته الأصولية، مثل “الأربعين في أصول الدين”، حيث قرر أن القطع بدلالة النصوص لا يتحقق إلا إذا توفرت جملة من الشروط الصارمة، جمع فيها بين النظر اللغوي والعقلي والنقلي، ومن أبرزها:

• خلوّ اللفظ من المجاز والاحتمال المؤثر.

• انعدام الاشتراك والتعدد في المفهوم.

• ورود النص بطريق قطعي كالتواتر.

• غياب أي معارض راجح شرعي أو عقلي.

• اتفاق سلف الأمة على دلالته (إن وجد).

• ثبات دلالة اللغة وعدم تغير عرفها أو اصطلاحها.

وقد استنتج الرازي من خلال هذه الشروط أن أغلب نصوص الأحكام الشرعية لا تبلغ درجة القطع في الدلالة، وإنما تبقى في دائرة الظن، مما يفتح الباب أمام الاجتهاد والتعدد في الفهم، ويبرر اختلاف المذاهب.

وقد أثارت هذه الرؤية جدلاً واسعًا، وواجهت انتقادات من اتجاهات متعددة، منها ما كان متطرفا كالذي صدر عن بعض الفرق كالحشوية والمجسمة، حيث زعموا أن تلك الشروط تُفضي إلى إخراج نصوص الوحي، بما في ذلك القرآن الكريم، من القطعية إلى الظنية، وهو ما اعتُبر طعنًا في الدين.

غير أن النظر الدقيق في طرح الرازي يكشف عن خلاف ذلك؛ فقد تناول الفخر في “الأربعين” الأدلة النقلية من زاوية موضوعية، محللاً ما قد يعترض طريق إفادتها لليقين من احتمالات عقلية أو لغوية. وقد بيّن بوضوح أن كثيرًا من هذه الاحتمالات تزول إذا اقترنت النصوص بقرائن يقينية، كالتواتر أو إجماع الأمة، ما يُعيد لها مرتبة القطع.

ولم يكن الرازي بصدد التشكيك في أصل الوحي كما يزعم المتعصبون، وإنما أراد ضبط مصطلح “القطع” بما ينسجم مع معايير المنطق والأصول، ويحول دون إطلاقه دون تدقيق.

ولتقريب ذلك، نضرب مثالين يوضحان مقصد الرازي:

– مثال أول بقاء الجنة والنار: الجنة والنار، ورد ذكرهما في النصوص النقلية، وأنهما مخلوقتان الآن، والعقل المجرد قد يجوز فنائهما من حيث كونهما مخلوقين، لكنّ النقل المتواتر وإجماع الأمة يفيدان القطع ببقائهما، لذلك ينبغي الجزم ببقاءهما.

– مثال ثاني كتاب الكنزاربا: مع كونه نصًّا مقدسًا عند أصحابه، ويعود لأزمنة سحيقة ، إلا أن افتقاره لشروط التواتر كالحفظ والضبط، يجعله ظني الثبوت، ظني الدلالة، خلافًا للقرآن الكريم.

وعليه، فإن الرازي لم يكن يطعن في حجية النصوص، بل في الإطلاق غير المنضبط للقطع، ودعا إلى تقنين الاستدلال وضبطه ضمن شروط معرفية واضحة.

ومن أبرز من ناقش الرازي في هذا السياق، هو الإمام شهاب الدين القرافي الأشعري المالكي المتوفى سنة 684 هـجري ، في مبحث “الاحتمالات المرجوحة”، ضمن باب دلالة الألفاظ.

وقد رأى القرافي أن اشتراط زوال كل احتمال – بما في ذلك المرجوح – لنفي الظن ، يؤدي إلى تعطيل الاستدلال الشرعي. وأكد أن القطع لا يبطله إلا احتمال قوي ومعتبر، أما الاحتمالات الضعيفة أو العقلية البعيدة، فلا يصح التوقف عندها، لأنها لا تُنتج شكًا معتبرًا في دلالة النص.

وقد أدى التعامل مع هذه المسألة خارج سياقها المنهجي المتكامل إلى سوء فهمٍ واسعٍ لطرح الرازي، سواء من بعض الفرق العقدية أو من بعض الأصوليين الذين حملوا أقواله على غير وجهها، فظنوا أنه يشكك في دلالات النصوص مطلقًا. والحال أن الرازي كان بصدد تقعيد علمي عقلاني لمعيار القطع واليقين، لضبط العملية الاستدلالية وحمايتها من التسرع أو التعصب.

و أما اعتراض القرافي، فيُفهم – رغم وجاهته – على أنه دعوة إلى الاعتدال في التنظير، دون أن يُفهم على أنه رفض مطلق لمنهج الرازي. إذ كلا المدرستين تسعيان في النهاية إلى بناء منظومة معرفية دقيقة، تحفظ النصوص وتفعّلها ضمن منهج استدلالي منضبط.

هذا وقد نقل البدر الزركشي عن البعض أن الخلاف بين الفخر والقرافي هو خلاف لفظي، لكن الزركشي رجّح بأنه خلاف معنوي كما في كتابه الأصولي الماتع “تشنيف المسامع”.

وفي هذا السياق أيضا قالَ العَلَّامَةُ الكَوْثَرِيُّ في مبحث له بعنوان : “نَظْرَةٌ عَابِرَةٌ في مَزَاعِمِ مَنْ يُنْكِرُ نُزُولَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلَ الآخِرَةِ “، ما نصه: 《أمَّا الدَّليلُ اللَّفْظِيُّ فَيُفيدُ اليَقِينَ عندَ تَوَارُدِ الأدلَّةِ على مَعْنًى واحِدٍ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَقَرَائِنَ مُنْضَمَّةٍ عندَ المَاتْرِيدِيَّةِ، كما في إشارَاتِ المَرامِ للبِيَاضِيِّ وغَيْرِهِ، وإلى هذا ذَهَبَ الآمِدِيُّ في (الأبْكارِ)، والسَّعْدُ في (شَرْحِ المَقَاصِدِ والتَّلْويحِ)، والسَّيِّدُ في (شَرْحِ المَوَاقِفِ)، وعَلَيْهِ جَرَى المُتَقَدِّمُونَ من أئِمَّةِ هذه الأُمَّةِ وجَمَاهِيرِ أَهْلِ العِلْمِ من كُلِّ مَذْهَبٍ، بل الأشعَرِيُّ يَقُولُ: إنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ لا تَكُونُ إِلَّا بِالدَّليلِ السَّمْعِيِّ ومن يَقُولُ هذا يَكونُ بَعِيدًا عن القَوْلِ بأنَّ الدَّليلَ السَّمْعِيَّ لا يُفيدُ إِلَّا الظَّنَّ. فيكونُ من عَزَا المَسْأَلَةَ إلى الأشعَرِيَّةِ مُطْلَقًا مُتَسَاهِلًا بل غَالِطًا غَلَطًا غَيْرَ مُسْتَسَاغٍ، والواقِعُ أنَّ القَوْلَ بأنَّ الدَّليلَ اللَّفْظِيَّ لا يُفيدُ اليَقِينَ إِلَّا عندَ تيقُّنِ أُمُورٍ عَشَرَةٍ – ودُونَ ذَلِكَ خَرْطُ القَتَادِ – تَقَعُّرٌ من بَعْضِ المَبْتَدِعَةِ. وقد تابَعَهُ بَعْضُ المُتَفَلْسِفِينَ من أَهْلِ الأُصُولِ، وَجَرَى وَرَاءَهُ بَعْضُ المُقَلِّدَةِ من الْمُتَأَخِّرِينَ، ولَيْسَ لِهَذَا القَوْلِ أيُّ صِلَةٍ بأيِّ إِمَامٍ من أئِمَّةِ أَهْلِ الحَقِّ، وَحَاشَاهم أنْ يَضَعُوا أَصْلًا يُهْدِمُ بهِ الدِّينَ، وَيَتَّخِذُوا مِعْوَلًا بِأَيْدِي المُشَكِّكِينَ، والدَّليلُ اللَّفْظِيُّ القَطْعِيُّ يكونُ قَطْعِيَّ الدَّلالَةِ في مَوَاضِعَ مَشْرُوحَةٍ في أُصُولِ الفِقْهِ.

وأمَّا ما أَجْمَلَهُ الفَخْرُ الرَّازِيُّ في (المُحَصَّلِ) فقد أَوْضَحَهُ في (المَحْصُولِ، ونِهَايَةِ العُقُولِ)، وَاعْتَرَفَ فيهما بأنَّ القَرَائِنَ قَدْ تُعَيِّنُ المَقْصُودَ، فيُفيدُ الدَّليلُ اللَّفْظِيُّ اليَقِينَ، فيفْلَتُ بذلكَ من أَيْدِي المُشَكِّكِينَ، إمكانَ التَّمَسُّكِ بِقَوْلِ الرَّازِيِّ في (المُحَصَّلِ) في بَابِ التَّشْكِيكِ في القُرْآنِ الحَكِيمِ، بل القَوْلُ بمُجَرَّدِ الدَّليلِ العَقْلِيِّ في عِلْمِ الشَّرِيعَةِ بِدْعَةٌ وَضَلالَةٌ.

بل الأَصْلُ في عِلْمِ التَّوْحِيدِ والصفاتِ هو التَّمَسُّكُ بِالكتابِ والسُّنَّةِ ومُجانَبَةُ الهوى والبدعةِ وَلُزُومُ طَرِيقِ السُّنَّةِ والجماعَةِ في المُبَاحَثَةِ معَ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِرِسَالَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلَّم. وإنَّمَا يُسْتَعْمَلُ الدَّليلُ العَقْلِيُّ وَحْدَهُ معَ غَيْرِهِم كما يَقُولُ فَخْرُ الإسلامِ وغَيْرُهُ. فَلَا يُعَوَّلُ عندَ أَهْلِ الحَقِّ عَلَى اعتِقادٍ لا يُقِرُّهُ الكتابُ والسُّنَّةُ، فَمَنْ سَعَى في إبعادِهِمَا عَنْهُ فَقَدْ أَبْعَدَ في الضلال. انتهى