نقض شبهة حديث: “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً ، فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : “إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ”
ليعلم أولا أن بعض المرويات رغم صحة أسانيدها فهي أحاديث أحاد ، تتطرق إليها الكثير من الاحتمالات ، وتتعرض للعديد من صور تصرّف الرواة ، وتعتريها أنواع الخلل في المتن يصعب معها استيعاب الرواية، مما يفتح بابا واسعا لطعن الطاعينين وشبهات المشككين لسيما اذا تعلق الأمر بالعقائد الدينية، و هذا مزلق خطير ، فالعقائد الإيمانية يجب أن لا تبنى إلا على أركان صحيحة ، وأسس متينة ، أما روايات الٱحاد فإنها تُعامل بحسب ما حدده علماء الشريعة وبيّنوه في بابه.
كما أجمع المحدثون أن صحة الاسناد لا يقتضي صحة المتن:
وقد حاول بعض الملاحدة الطعن في عصمة النبي بدعوى أنه رأى امرأة فاشتهاها ثم قام بعد ذلك بتشبيه المرأة بالشيطان.
والجواب على هذه الشبهة أن يقال أن هذه الرواية صحح اسنادها بعض العلماء ، لكن ذهب كثير من المحدثين إلى أنها لم تقع له عليه الصلاة والسلام ، وإنما وقعت للصحابي الذي رواها ، فأخطأ الرواة في نسبتها إليه، عليه الصلاة والسلام ، وهذا ما يسمى في علم الحديث بتعليل المرفوع بالموقوف ، وهو باب مهم من أبواب وقوع الخلل في الروايات والأحاديث.
ومما يدل على ذلك ما جاء في روايات أخرى صحيحة اقتصار الحديث على قوله : “إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ ، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ ، فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ” من غير ذكر الحادثة أصلا ، مما يدل على شك كبير في حصولها .
وفي ما يلي تحقيق للأحاديث الواردة في هذا الباب، وهي كالتالي :
1-الحديث الأول : عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه : ” أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً ، فَأَتَى امْرَأَتَهُ زَيْنَبَ وَهْىَ تَمْعَسُ مَنِيئَةً لَهَا ، فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : ” إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ ، فَإِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ”. انتهى
وقد اختلف الرواة عن أبي الزبير في رواية هذا الحديث على وجهين :
-الوجه الأول : منهم من ذكر قصة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم المرأة ، وإتيانه أم المؤمنين زينب رضي الله عنها على إثرها ، وهم كل من حرب بن أبي العالية ، وهشام الدستوائي.
أما حديث حرب بن أبي العالية ففي ” مسند أحمد “، و” صحيح مسلم ” .
وأما حديث هشام الدستوائي فأخرجه عبد بن حميد كما في ” المنتخب ” ، ومسلم في ” صحيحه ” ، وأبو داود في ” السنن ” ، والترمذي في ” السنن ” وقال : ” حديث جابر حديث حسن صحيح غريب “. وأخرجه أيضا النسائي والبيهقي في ” السنن الكبرى ” لهما ، وابن حبان في ” صحيحه ” ، و ” ورواه الطبراني في ” المعجم الكبير ” ، وفي ” المعجم الأوسط ” وقال : ” لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا هشام ، تفرد به مسلم ” .
-الوجه الثاني : لا يشتمل على ذكر القصة ، وإنما فيه الحديث القولي فحسب ، يرويه على هذا الوجه كل من معقل بن عبيد الله الجزري ، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، وعبد الله بن لهيعة ، وموسى بن عقبة :
•حديث عبد الله بن معقل أخرجه مسلم في ” صحيحه ” قال : وحدثني سلمة بن شبيب ، حدثنا الحسن بن أعين ، حدثنا معقل ، عن أبي الزبير ، قَالَ : قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : “إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ ، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ ، فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ”.
•حديث ابن جريج يرويه ابن حبان في ” صحيحه ” ، والدولابي في ” الكنى والأسماء ” .
• حديث عبد الله بن لهيعة وموسى بن عقبة، رواه أحمد في ” مسنده “، والخرائطي في ” اعتلال القلوب”.
ومن المحدثين من يذكر لفظ : ” إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ” ، وهم هشام الدستوائي , وحرب بن أبي العالية ، والبقية يقتصرون على قوله : ” إِذَا أَبْصَرَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ” .
وبهذا يتبين أن الحديث مضطرب ، وأن الألفاظ التي هي محل إشكال فيها قدر كبير من الاختلاف بين الرواة ، وهي قصة إتيان النبي صلى الله عليه وسلم زوجته بعد رؤيته إحدى النساء ، والإخبار عن المرأة أنها : “تقبل في صورة شيطان” ، فقد روى هذا الحديث ستة من تلاميذ أبي الزبير ، أربعة منهم جاؤوا بالرواية من غير العبارات محل الإشكال ، واثنان فقط رووا تلك الألفاظ، أحدهما ضعيف وهو حرب بن أبي العالية . وهذا أدعى للشك في تلك القصة ، ووقوع الخلل فيها، وعليه فالحديث مردودٌ خاصة مع وجود النكارة الشديدة في متنه.
ويمكن أن يزيد الشك أيضا علتان أخريان :
العلة الأولى : الشبهة في انقطاع رواية أبي الزبير عن جابر ؛ فقد قال الذهبي :” في صحيح مسلم عدة أحاديث مما لم يوضِّح فيها أبو الزبير السماعَ عن جابر ، وهي من غير طريق الليث عنه ، ففي القلب منها شيء” وذكر بعض الأحاديث منها : ” رأى عليه الصلاة والسلام امرأةً فأعجبته ، فأتى أهله زينب ” انتهى من ” ميزان الاعتدال.
و قال الذهبي أيضا في السير بعد أن سرد هذا الحديث وغيره :” هذه غرائب ، وهي في صحيح مسلم ” انتهى
وما جاء من طريق ابن لهيعة من تصريح أبي الزبير بالتحديث من جابر، مردود. لأن ابن لهيعة ضعيف جداً من غير رواية العبادلة، فهو يقبل التلقين، فلا يعتبر به ولا يكتب حديثه.
العلة الثانية : الإرسال ، فقد روى الحديث بعض تلاميذ أبي الزبير عنه مرفوعا ، من غير واسطة الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، والحديث المرسل عند بعض المحدثين ضعيف.
2-الحديث الثاني :
عَنْ مُعَاوية بن صَالِح عَن أَزْهَرَ بْنِ سَعِيدٍ الْحَرَازِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيَّ قَالَ : ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي أَصْحَابِهِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ وَقَدْ اغْتَسَلَ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانَ شَيْءٌ ، قَالَ : “أَجَلْ ، مَرَّتْ بِي فُلَانَةُ فَوَقَعَ فِي قَلْبِي شَهْوَةُ النِّسَاءِ فَأَتَيْتُ بَعْضَ أَزْوَاجِي فَأَصَبْتُهَا ، فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا ، فَإِنَّهُ مِن أَمَاثِلِ أَعْمَالِكُمْ إِتْيَانُ الْحَلَالِ . انتهى
رواه الإمام أحمد في ” المسند “، والطبراني في ” الأوسط ” وقال : ” لا يروى هذا الحديث عن أبي كبشة إلاّ بهذا الإسناد ، تفرد به معاوية بن صالح “.
وهو إسناد ضعيف بسبب أزهر بن سعيد الحرازي ، وترجمته في ” تهذيب التهذيب ” وفي ” الطبقات الكبرى “، وفي ” تاريخ الإسلام ” وليس فيها أي نقل عن توثيق أو تجريح ، فهو مجهول الحال . ووصفه ابن سعد بقوله : ” كان قليل الحديث “.
وأما معاوية بن صالح ، فهو وإن حسَّن حديثَه بعض أهل العلم ، إلا أنه قد ضعفه الكبار من أهل الجرح والتعديل أمثال : يحيى بن سعيد القطان ، وأبو حاتم الرازي ، ويحيى بن معين . كما في ” ميزان الاعتدال ” للذهبي.
وعليه نقول، أنه مما يجب التحذير منه احتجاج بعض الجهلة بهذا الأثر وقولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتهى تلك المرأة. وهذا لا يليق بمقام النبوة.
3-الحديث الثالث : رواه كل من إسرائيل بن يونس ، وسفيان الثوري، عَنْ عبد اللَّه بن حلاَّم ، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : ” من رأى منكم امرأة فأعجبته فليواطئ أهله ، فإن معهن مثل الذي معهن” .
هكذا رواه سفيان الثوري موقوفا كما في ” المصنف ” لابن أبي شيبة .
ورفعه إسرائيل بن يونس ، فجعله من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر معه الحادثة السابقة .
ولكن المحدثين قالوا : إن رواية سفيان الثوري أقوى وأثبت ، فهو أوثق من إسرائيل بن يونس ، وقد جزم بترجيح الموقوف الإمامان : أبو حاتم الرازي كما في ” العلل “، والدارقطني ، كما في ” العلل ” له أيضا.
هذا فضلا على أن عبد الله بن حلام ، قال عنه الذهبي في ” ميزان الاعتدال في نقد الرجال ” : ” لا يكاد يُعرف “.
والخلاصة أن يقال أن الأظهر عدم ثبوت نسبة الحادثة المذكورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإخراج الإمام مسلم لها إنما يفيد ثبوت أصل الحديث ، وهو الجزء القولي في الحديث ، ولهذا ذكر الوجه الآخر معها ، كما سبق ، أما تصحيح كامل السياق والسبب الوارد في رواية حرب وهشام عن أبي الزبير عن جابر ، فليس ذلك بلازم في منهج الإمام والتزامه في صحيحه .
وقد حاول بعض العلماء التكلف في تأويل هذه النكارة بأجوبة بعيدة المعنى مع أن الحديث فيه اضطراب ولا يحتج به. فلا وجه لاستدلال بعض النصارى به، والا فكتبهم تغنينا عن الرد عليهم.
