المبحث الثاني
الموجود قسمان
قال القاضي الشيخ بدر الدين محمد بن إبراهيم المعروف بابن جماعة الشافعي الأشعري (733هـ) ما نصه: «فإن قيل: نفي الجهة عن الموجود يوجب نفيه لاستحالة موجود في غير جهة ؟
قلنا الموجود قسمان:
– موجود لا يتصرف فيه الوهم والحس والخيال…[(402)]
– وموجود يتصرف فيه ويقبله.
فالأول: ممنوع، والرب لا يتصرف فيه ذلك، إذ ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر فصح وجوده عقلا من غير جهة ولا حيز، كما دلّ الدليل العقلي فيه، فوجب تصديقه عقلا وكما دلّ الدليل العقلي على وجوده مع نفي الجسمية والعرضية مع بعد الفهم الحسي له فكذلك دلّ على نفي الجهة والحيز مع بعد فهم الحس له »[(403)] اهـ.
قال شيخنا الحافظ الهرري العبدري رضي الله عنه في الرد على المجسمة ما نصه: «وأشد شبهة لهم -أي للمجسمة- قولهم إنه يلزم من نفي التحيّز في المكان عن الله تعالى كالتحيز في جهة فوق أنه نفي لوجوده تعالى.
يقال لهم : ليس من شرط الوجود التحيز في المكان ، لأن الله تبارك وتعالى كان قبل المكان والزمان والجهات والأجرام الكثيفة واللطيفة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان الله ولم يكن شىء غيره» [(404)] فأفهمنا أن الله تعالى كان قبل المكان والزمان والنور والظلام والجهات، فإذا صح وجوده قبل هؤلاء وقبل كل مخلوق صحّ وجودُه بلا تحيّز في جهة ومكان بعد وجود الخلق. وهذا الحديث الذي رواه البخاري وغيره تفسيرٌ لقول الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ… *} [(405)] فقد وصف ربنا نفسه بالأوّلية المطلقة، فلا أول على الإطلاق إلا الله، أما أوّلية بعض المخلوقات بالنسبة لبعض فهي أوّلية نسبيّة. وأنتم أيها المجسمة لما حصرتم الموجود فيما يدرِكه ويتصوره الوهم ، وهو ما يكون متحيزًا في جهة ومكان، فهذا قياس منكم للخالق بالمخلوق، لأن المخلوق لما كان لا يخرج عن كونه جِرمًا كثيفًا أو لطيفًا أو صفة تابعة للجرم كالحركة والسكون قطعتم بعدم صحة ما ليس كذلك، فبهذا التقرير بطلت شبهَتهم وتمويههم»[(406)] اهـ.
وقال الشيخ عبد الكريم الرفاعي الدمشقي (1393هـ) أحد خواص تلاميذ الشيخ المحدث بدر الدين الحسني ما نصه: «ويستحيل أن يكون الإله في جهة، لأن الجهة التي هي الفوق والتحت والأمام والوراء واليمين والشمال لا تتصور ولا تعقل إلا ملازمة للجرم (الحجم) ، وقد تقدم استحالة الجرمية عليه، فإذا لا يتصور أن يكون له جهة أو يكون في جهة »[(407)] اهـ.
وقال الشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني الحنفي الدمشقي (1298هـ) ما نصه: «والله تعالى ليس بجسم فليست رؤيته كرؤية الأجسام، فإن الرؤية تابعة للشىء على ما هو عليه ، فمن كان في مكان وجهة لا يرى إلا في مكان وجهة كما هو كذلك.. ثم قال: ومن لم يكن في مكان ولا جهة وليس بجسم فرؤيته كذلك ليس في مكان ولا جهة» [(408)] اهـ.
وقال الشيخ العلامة الفقيه أبو المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي طرابلس الشام الحنفي (1305هـ) ما نصه: « ولا يقال لا يعلم مكانه إلا هو ، ومن قال لا أعرف الله في السماء أم في الأرض كفر-لأنه جعل أحدهما له مكانا- فإن قال لك : ما دليلك على ذلك؟ فقل لأنه لو كان له جهة أو هو في جهة لكان متحيزا، وكل متحيز حادث (مخلوق)، والحدوث عليه محال»[(409)] اهـ.
وقال الشيخ عبد الغني النابلسي ما نصه: «الجهات جمع جهة وهي ست فوق وتحت ويمين وشمال وقدام وخلف، والجهة عند المتكلمين هي نفس المكان باعتبار إضافة جسم آخر إليه ، ومعنى كون الجسم في جهة كونه مضافًا إلى جسم آخر، حتى لو انعدمت الأجسام كلها لزم من ذلك انعدام الجهات كلها، لأن الجهات من توابع الأجسام وإضافاتها كما قدمنا في المكان والزمان ، وحيث انتفى عن الله الزمان والمكان انتفت الجهات كلها عنه تعالى أيضًا، لأن جميع ذلك من لوازم الجسمية وهي مستحيلة في حقه تعالى»[(410)] اهـ.
وقال الغزالي : «فإن قيل: اختص بجهة فوق لأنه أشرف الجهات.
قلنا: أي إنما صارت الجهة جهة فوق بخلقه العالم في هذا الحيز الذي خلقه فيه، فقبل خلق العالم لم يكن فوق ولا تحت أصلاً ، إذ هما مشتقان من الرأس والرجل ولم يكن إذ ذاك حيوان فتسمى الجهة التي تلي رأسه فوق والمقابل له تحت.
والوجه الثاني: أنه لو كان بجهة لكان محاذيًا لجسم العالم، وكل محاذ فإما أصغر منه وإما أكبر وإما مساو، وكل ذلك يوجب التقدير بمقدار ، وذلك المقدار يجوز في العقل أن يفرض أصغر منه أو أكبر فيحتاج إلى مقدار ومخصص»[(411)] اهـ.
وقال مفتي ولاية بيروت الأسبق الشيخ عبد الباسط الفاخوري الشافعي (1323هـ) عن الله ما نصه: «ليس بجِرْم يأخذ قدرًا من الفراغ، فلا مكان له، وليس بعَرَض يقوم بالجِرم، وليس في جهة من الجهات، ولا يوصف بالكِبَر ولا بالصغر، وكل ما قام ببالك فالله بخلاف ذلك»[(412)] اهـ.
وقال الشيخ المتكلم عبد العزيز بن عبد الرحمـن السكندري (كان حيًّا سنة 1317هـ) ما نصه: «وكذا يستحيل عليه تعالى أن يكون في مكان أو زمان، لأن الحلول في المكان من لوازم الجرم والحلول في الزمان من لوازم الجرم والعرض»[(413)] اهـ.
فإذا الوهم لا يدرك الأشياء التي لا تُدرك بالحواس على ما هي عليه، وذلك كحكمه على الواحد الحق الذي لا جهة له ولا بعض في قضية العقل بأنه لا بُدَّ أن يكون له حركة وسكون واجتماع وافتراق ومقدار ومكان قريب وبُعْدٌ إلى ما سوى ذلك من سائر عوارض الأجسام التي ألفها وأنس بها، فيحكم على ما لم يشاهده بحكم ما شاهده من المحسوسات فيها، والتخلص من غلط الوهم عزيز يختص به الآحاد ، فهذا وجه الغلط في هذه المسالة وهو أن الوهم يحكم على الله بحكم ما تعود عليه من الأجسام والمكان والزمان، والعقل يحكم بإحالته في حق الله لقيام الدليل القاطع على استحالة اتصاف الخالق بصفات المخلوق[(414)] عِلّة هؤلاء المشبهه أنهم يجرون خلف الوهم ليس خلف حُكم العقل، هؤلاء لا عِبرة بكلامهم، كلامهم مبني على الوهم، والوهم ليس دليلاً، الدليل حُكم العقل، الذي يتمسّك بالوهم متمسّكه أوهى من بيت العنكبوت.
ـ[402] إيضاح الدليل (ص/103 – 104).
ـ[403] رواه البخاري في صحيحه: (3/1166)، (3019)، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}.
ـ[404] سورة الحديد: جزء من الآية 3 .
ـ[405] صريح البيان لشيخنا الحافظ الهرري العبدري رحمه الله (ص/117).
ـ[406] كتابه المعرفة في بيان عقيدة المسلم (ص/65).
ـ[407] شرحه العقيدة الطحاوية (ص/69).
ـ[408] الاعتماد في الاعتقاد (ص/5).
ـ[409] رائحة الجنة شرح إضاءة الدجنة (ص/48 – 49).
ـ[410] الاقتصاد في الاعتقاد (ص/59).
ـ[411] الكفاية لذوي العناية (ص/13).
ـ[412] الدليل الصادق على وجود الخالق (1/94).
ـ[413] تشنيف المسامع للإمام الزركشي (4/881)، بتصرف يناسب السياق.
ـ[414] سورة الأنعام: 103 .
