المبحث الرابع
حكم مسائل العقليات والمحسوسات أن يرد كل شىء من ذلك إلى بابه، ولا تخلط العقليات بالسمعيات ولا السمعيات بالعقليات، والوهم في غير المحسوسات ليس بمقبولٍ
وهو يتضمن الآتي:
– سائر الكلام في تفصيل فروع التوحيد والعدل إنما هو مأخوذ من القرءان .
– وأهل السنة تحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول.
– لا يعرف الله بالحواس ولا يقاس بالناس، ولا مدخل في ذاته وصفاته للقياس.
– الاعتراف بوجود شىء على خلاف حكم الحس والخيال .
– قال أبو حنيفة في كتابه الوصية: «ولقاء الله لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة حق»[(530)].
– إن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون القديم سبحانه جسما؟
– فإن قال الخصم: إن مثل هذا الموجود الذي ساق دليلكم إلى إثباته غير مفهوم!
وأستعين بالله على إنجاز تفصيلها، وهو كما يلي : سائر الكلام في تفصيل فروع التوحيد والعدل إنما هو مأخوذ من القرءان :
قال العلامة كمال الدين البياضي الحنفي: «ونقل السبكي عن أبي القاسم القشيري أنه قال في رسالة الرد على الكرامية: العجب ممن يقول ليس في القرءان علم الكلام، وآيات الأحكام الشرعية تجدها محصورة، والآيات المنبهة على علم الأصول تربو على ذلك بكثير فلا يجحد علم الكلام إلا مقلد أو ذو مذهب فاسد … ثم نقل عن ابن حجر الهيتمي قوله: وما الأمر إلا ما جاء به القرءان، فإنه جاء فيه إشارات إلى النظر في أدلة اليقين وآيات منبهة على أصول الدين، كما قال عليّ كرم الله وجهه: «جميع العلم في القرءان لكن تقاصر عنه أفهام الرجال»[(531)] اهـ.
وقال الإمام أبو الحسن الأشعري : «فأما حوادث تحدث في الأصول في تعيين مسائل فينبغي لكل عاقل مسلم أن يرد حكمها إلى جملة الأصول المتفق عليها بالعقل والحس والبديهة وغير ذلك، لأن حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع أن تكون مردودة إلى أصول الشرع التي طريقها السمع، وحكم مسائل العقليات والمحسوسات أن يرد كل شىء من ذلك إلى بابه، ولا تخلط العقليات بالسمعيات ولا السمعيات بالعقليات» [(532)] اهـ.
ويساعد على إيضاح كلام إمامنا أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه هذا قوله: «الجواب الثاني: أن يقال لهم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجهل شيئًا مما ذكرتموه من الكلام في الجسم والعرض والحركة والسكون والجزء والطفرة، وإن لم يتكلم في كل واحد من ذلك معينا ، وكذلك الفقهاء والعلماء من الصحابة، غير أن هذه الأشياء التي ذكرتموها معينة أصولها موجودة في القرءان والسنة جملة غير مفصلة .
فأما الحركة والسكون والكلام فيهما فأصلهما موجود في القرءان، وهما يدلان على التوحيد، وكذلك الاجتماع والافتراق، قال الله تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه: {…فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ *} [(533)] في قصة أفول الكوكب والشمس والقمر وتحريكها من مكان إلى مكان ما دلّ على أن ربه عزّ وجل لا يجوز عليه شىء من ذلك، وأن من جاز عليه الأفول والانتقال من مكان إلى مكان فليس بإله» [(534)] اهـ.
قال أبو المظفر الإسفرايني : «وأن تعلم أن الحركة والسكون والذهاب والمجيء والكون في المكان والاجتماع والافتراق والقرب والبعد من طريق المسافة والاتصال والانفصال والحجم والجرم والجثة والصورة والحيز والمقدار والنواحي والأقطار والجوانب والجهات كلها لا تجوز عليه تعالى، لأن جميعها يوجب الحد والنهاية، وقد دللنا على استحالة ذلك على البارئ سبحانه وتعالى، وأصل هذا في كتاب الله تعالى، وذلك أن إبراهيم عليه السلام لما رأى هذه العلامات على الكواكب والشمس والقمر قال: {…لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} فبين أن ما جاز عليه تلك الصفات لا يكون خالقا » [(535)] اهـ.
ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ *} [(536)].
وكذا قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *} [(537)].
ويقول الإمام أبو الحسن الأشعري في رسالته المذكورة آنفا (ص/40 – 44):
وأما الكلام في أصول التوحيد فمأخوذ أيضا من الكتاب :
1 – قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا… *} [(538)] وهذا الكلام موجز منبه على الحجة بأنه واحد لا شريك له، وكلام المتكلمين في التوحيد بالتمانع والتغالب فإنما مرجعه إلى هذه الآية، وقوله عز وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ… *} [(539)]، وإلى قوله عز وجل: {…أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ… *} [(540)].
وكلام المتكلمين في الحجاج في توحيد الله إنما مرجعه إلى هذه الآيات التي ذكرناها، وكذلك سائر الكلام في تفصيل فروع التوحيد والعدل إنما هو مأخوذ من القرءان .
2 – فكذلك الكلام في جواز البعث واستحالته الذي قد اختلف عقلاء العرب ومن قبلهم من غيرهم فيه حتى تعجبوا من جواز ذلك، فقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ *} [(541)] {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ *} [(542)]، وقولهم: {…مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *} [(543)]، وقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ *} [(544)]، وفي نحو هذا الكلام منهم إنما ورد بالحِجاج في جواز البعث بعد الموت في القرءان تأكيدا لجواز ذلك في العقول وعلّم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولقّنه الحِجاج عليهم في إنكارهم البعث من وجهين على طائفتين:
منهم طائفة أقرت بالخلق الأول وأنكرت الثاني.
وطائفة جحدت ذلك بقدم العالم.
فاحتج على المقر منها بالخلق الأول بقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ… *} [(545)]، وبقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ… *} [(546)]، وبقوله: {…كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ *} [(547)]، فنبههم بهذه الآيات على أن من قدر أن يفعل فعلا على غير مثال سابق فهو أقدر أن يفعل فعلا محدَثا فهو أهون عليه فيما بينكم وتعارفكم، وأما البارئ جل ثناؤه وتقدست أسماؤه فليس خلق شىء أهون عليه من الآخر[(548)]، وقد قيل: إن الهاء في «عليه» إنما هي كناية للخلق بقدرته، إن البعث والإعادة أهون على أحدكم وأخف عليه من ابتداء خلقه، لأن ابتداء خلقه إنما يكون بالولادة والتربية وقطع السُرة والقماط وخروج الأسنان وغير ذلك من الآيات الموجعة المؤلمة، وإعادته إنما تكون دفعة واحدة ليس فيها من ذلك شىء فهي أهون عليه من ابتدائه، فهذا ما احتج به على الطائفة المقرة بالخلق.
3 – وأما الطائفة التي أنكرت الخلق الأول والثاني وقالوا بقدم العالم فإنما دخلت عليهم شبهة بأن قالوا: وجدنا الحياة رطبة حارة والموت باردا يابسا، وهو من طبع التراب، فكيف يجوز أن يجمع بين الحياة والتراب والعظام النخرة فيصيرَ خلقا سويا، والضدان لا يجتمعان، فأنكروا البعث من هذه الجهة.
ولعمري إن الضدين لا يجتمعان في محل واحد ولا في جهة واحدة ولا في الموجود في المحل، ولكنه يصح وجودهما في محلين على سبيل المجاورة، فاحتج الله عليهم بأن قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ *} [(549)] فردهم الله عز وجلّ إلى ما يعرفونه ويشاهدونه من خروج النار على حرها ويبسها من الشجر الأخضر على بردها ورطوبتها، فجعل جواز النشأة الأولى دليلا على جواز النشأة الأخرى[(550)].
4 – وأما ما يتكلم به المتكلمون من أن للحوادث أولا وردهم على الدهرية[(551)] القائلين ما من حركة إلا وقبلها حركة، ولا يوم إلا وقبله يوم، والكلام على من قال: ما من جزء إلا وله نصف لا إلى غاية.
فقد وجدنا ذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: « لا عدوى ولا طيرة »، فقال أعرابي: فما بال الإبل كأنها الظباء تدخل في الإبل الجربى فتجرب؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فمن أعدى الأول»[(552)] فسكت الأعرابي لما أفحمه بالحجة المعقولة.
وكذلك نقول لمن زعم أنه لا حركة إلا وقبلها حركة، لو كان الأمر هكذا لم تحدث منها واحدة لأن ما لا نهاية له لا حدث له.
وكذلك لما قال الرجل: يا نبي الله إن امرأتي ولدت غلامًا أسود وعرّض بنفيه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «هل لك من إبل»؟ فقال: نعم، قال: «فما ألوانها»؟ قال حمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «هل فيها من أورق»؟ قال: نعم إن فيها أورق، قال: «فأنى ذلك»؟ قال: لعلّ عرقًا نزعه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ولعلّ ولدك نزعه عرق»[(553)] فهذا ما علّم الله نبيه من رد الشىء إلى شكله ونظيره، وهو أصل لنا في سائر ما نحكم به من الشبيه والنظير .
وبذلك نحتج على من قال: إن الله تعالى وتقدس يشبه المخلوقات وهو جسم[(554)] بأن نقول له : لو كان يشبه شيئًا من الأشياء لكان لا يخلو من أن يكون يشبهه من كل جهاته، أو يشبهه من بعض جهاته.
فإن كان يشبهه من كل جهاته وجب أن يكون محدثًا من كل جهاته.
وإن كان يشبهه من بعض جهاته وجب أن يكون محدثًا مثله من حيث أشبهه، لأن كل مشتبهين حكمهما واحد فيما اشتبها به ، ويستحيل أن يكون المحدث قديما والقديم محدثا. وقد قال تعالى وتقدس: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} [(555)]، وقال تعالى وتقدس: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [(556)].
5 – وأما الأصل في أن للجسم نهاية وأن الجزء ينقسم فقوله عز وجلّ اسمه: {…وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ *} [(557)] «ومحال إحصاء ما لانهاية له» اهـ. بتصرف يسير.
وذكر القاضي العلامة البياضي الحنفي الماتريدي في كتابه إشارات المرام أربعة وجوه في الاستدلال على وجود الخالق بالعقول مع بيان أصل الدليل من النقول وهي:
أولا: إمكان الجواهر : والجواهر جمع جوهر، وهو الجزء الفرد الذي لا يتجزأ، وهو قابل للتحيز[(558)]، وما تركب من جوهرين فأكثر يقال له الجسم[(559)]، وقيل: الجسم ما كان له طول وعرض وسمك وتركيب وتأليف[(560)].
والمقصود أن الأجسام ممكنة الوجود أي أن العقل يجوّز وجودها وعدمها، وما كان كذلك دل على حدوثه أي وجوده بعد عدم، ودليله أنها قابلة للزوال، وكل ما كان كذلك فهو حادث، وإذا كانت حادثة مخلوقة افتقرت إلى محدث خالق أوجدها[(561)].
والأدلة على هذا المعنى كثيرة منها في قوله تعالى: {…أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *} [(562)]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ *وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ *} [(563)]، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ *وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ *وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ *} [(564)]، وقوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ *أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ *} [(565)]، والآيات بهذا المعنى كثيرة.
ثانيا: حدوث الجواهر: والدليل على حدوثها اتصافها بالأعراض[(566)] المتغيرة من عدم إلى وجود ومن وجود إلى عدم، وكل متغير حادث، ولو حدثت بنفسها لزم ترجيح المرجوح، وهو الوجود بلا مرجح وهو باطل، والممكن أي الجائز الوجود لا يكون إلا حادثا مخلوقا لاحتياجه إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه[(567)].
والأدلة على هذا المعنى كثيرة منها في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ *يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُِولِي الأَبْصَارِ *} [(568)]، وقوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ… *} [(569)]، وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُسَمّىً أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ *} [(570)]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ثالثا: إمكان الأعراض: وهو جمع عرض وهو صفة الجسم من حركة وسكون واجتماع وافتراق ونحو ذلك، وهو ما يقوم بغيره، هذه حقيقة العرض أنه لا يقوم بنفسه وأنه لا ينتقل، قال أبو البقاء: «العرض بفتحتين عبارة عن معنى زائد على الذات أي ذات الجوهر، يجمع على أعراض، وهذا الأمر عرض أي عارض أي زائل يزول وعرض لفلان أمر أي معنى لا قرار له ولا دوام، ومنه العارضة على الأجسام – لعدم بقائه -»[(571)] اهـ.
لأن الجسم إما متحرك وإما ساكن، ولا يجوز أن يكون في حال حركته سكونه كامنا فيه، ولو كان الجرم ساكنا في حال حركته لاجتمع الضدان واجتماعهما محال. ولا يمكن ثبوت جسم ليس بمتحرك ولا ساكن ولا مفترق ولا مجتمع، ولا يمكن خلو الأجسام عن بعض الأعراض -كالحركة والسكون وهذا أمر ظاهر مدرَك بالبديهة- لأنه لو جاز خلوها عن بعضها لجاز عن جميعها وهو باطل[(572)]. قال أبو البقاء: والعرض العام هو إما لازم كالتنفس والتحرك للإنسان، أو مفارق وهو إما سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل أو بطيء كالشيب والشباب[(573)] اهـ.
والأدلة على هذا المعنى كثيرة منها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً *ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا *} [(574)]، وقوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *} [(575)].
رابعا: حدوث الأعراض: والحركة والسكون حادثان لأنه بحدوث أحدهما ينعدم الآخر، فما من ساكن إلا والعقل قاضٍ بحواز حركته، وما من متحرك إلا والعقل قاضٍ بجواز سكونه، فالطارئ منهما حادث بطَرَيانه، والسابق حادث لعدمه، لأنه لو ثبت قِدَمُهُ لاستحال عدمه فالأعراض حادثة.
ومن أدلتها قوله تعالى إخبارا عن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ *وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ *وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ *وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ *} [(576)].
قال أبو البقاء: «الاستدلال بحدوث الجواهر طريقة الخليل حيث قال: {…لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ} [(577)]، والاستدلال بإمكان الأعراض مقيسة إلى محالها طريقة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام حيث قال: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *} [(578)][(579)] اهـ.
وإنما قدمت هذه المقدمة مع تدعيمها وتوضيحها ليقع معنى كلام البياضي موقعه من النفس لأهميته في استكمال ما شرعت بالتأكيد عليه، وهو أن أهل السنة والجماعة يستندون إلى الدلائل الساطعة والقاطعة من الشرع والعقل، فلا يهملون حكم العقل ولا يستقلون به عن الشرع.
قال العلامة البياضي: «وأصل الدليل – على حدوث السموات والأرض وأجزاء العالم – مأخوذ من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ… *} [(580)]، وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ… *} [(581)]، وقوله: {…أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ… *} [(582)]، حيث دلت على توبيخ الكفار بترك النظر والاستدلال على وجود الصانع المتعال واتصافه بصفات الكمال بعد تعميرهم مدة يتمكنون فيها بعقولهم من الاستدلال، وقد أشير إلى الاستدلال في ثمانين آية ، وظاهر الكل الاستدلال بحدوث الموجودات لكفايته في مقام التصديق وظهوره ، وهو مراد المتكلمين»[(583)].
وقال[(584)]: «(وكما يحيل العقل)[(585)] ويجزم بالاستحالة (في سفينة مشحونة بالأحمال احتوشتها) أي أحاطت بها من كل جهة، يقال احتوش القوم بالصيد واحتوشوه (في لجة البحر) ومعظمه (أمواج متلاطمة) يضرب بعضها بعضا (ورياح مختلفة) تهب من كل جهة (أن تجري) بنفسها (مستوية) لا تميل إلى طرف ولا تقف وقفة مع تصادم الرياح المختلفة (و) الحال أنه (ليس أحد يجريها ويقودها) مستوية، (فكذلك يستحيل) في العقل (قيام هذا العالم) من السموات والأرض وما فيهما بنفسه (على اختلاف أحواله) من حركات السموات والسيارات وسكون الأرض واختلافها في الكيفيات، وما خص به الإنسان من الهيئات واستجماع أنواع الكمالات، وما يختص به سائر الموجودات (وتغير أموره) من تعاقب الضوء والظلمات، وتغير أحوال الحيوانات والمعادن والنبات (من غير صانع) واجب بالذات واحد موصوف بصفات الكمال منـزه عن سمات التغير والزوال (ومحدِث) يحدث العالم وما اختلف فيه من الأحوال وتغير من الأعمال (وحافظ) يحفظه عن الاختلال.
يعني أن الممكنات من الأرض والسموات وما فيهما حادثة لأنها متغيرة، وكل حادث فله محدث. وتقريره على طريقة الإمكان: أن الممكنات موجودة فلا بد لها من موجد لاستحالة وجود الممكنات من نفسها وقيامها بلا موجد…
إلى أن قال: فثبت الانتهاء إلى مؤثر واجب قديم يحدثه ويحفظه، وهذا برهان لطيف جليل مأخوذ من مسلك الخليل عليه التحية والتسليم بالتبجيل حيث استدل قبل أن يجرى عليه القلم بالظهور بعد أن لم يكن، والأفول بعد الطلوع، وآثار العجز عن التدبير كما قال الإمام أبو منصور، مستفهما على سبيل الإنكار في قوله: هذا ربي، فإن حذف أداته مشهور قائلا: لا أحب الآفلين أي لا أثني على الذي تتعاقب عليه الأحوال ويعتريه التغير والزوال باستحقاق الربوبية ولا أعطيه المحبة التي تجب لله الواجب الوجود الذي يستحيل عليه الزيادة والنقصان والذهاب والإتيان…
وأصل الدليل مأخوذ من قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ *إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ *} [(586)]، وقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}[(587)]، وقوله تعالى: {…وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ *} [(588)]، وفيه إشارات إلى مسائل:
الأولى: أن الموجودات مفتقرة إلى الصانع ابتداء وبقاء من حيث يستتبع حدوثها كافتقارها من حيث إمكانها الذي لا ينفك عنها، فإن الموجودات إما جواهر يستحيل خلوها عن الأكوان[(589)] المتجددة المتغيرة، أو أعراض متجددة بتعاقب الأمثال متغيرة، فهي محتاجة إليه تعالى دائما عند المتكلمين.
الثانية: أن جزم العقل باستحالة جريان سفينة محمولة بنفسها على الاستواء مع تصادم الأمواج والرياح مما لم يختلف فيه الآراء وأجمع عليه العقلاء، وهو قدر يسير بالنسبة إلى ما في العالم من اختلاف أحوال وتغير الأمور والأعمال، فكيف يوجد ويقوم بنفسه من غير صانع واجب وإليه أشار بجعله المقيس عليه. الثالثة: أن العالم حادث، والاستدلال على حدوثه بجميع أقسامه، وكونه مسبوقا بالعدم بوجوه:
الأول: أن الجسم يقوم به الحادث، وهو ضروري لما نشاهده من الحركات وتجدد الأعراض، ولا شىء من القديم كذلك، وإليه أشار بقوله: (في سفينة مشحونة بالأحمال احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة).
الثاني: أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث من الأكوان والتأليف وما يتبعهما من الأعراض، ولا توجد بدون التمايز، وهو بالأعراض لتماثل الجواهر الفردة التي يتألف منها الأجسام، والأعراض لا تبقى زمانين، وكل ما لا يخلو عن الحادث فهو حادث بذاته وصفاته وأحواله، وأشار بقوله: (قيام هذا العالم على اختلاف أحواله وتغير أموره وأعماله).
الثالث: أن كل جسم ممكن لأنه مركب وكل ممكن وجد مسبوق بالعدم، إذ لا يتصور الإيجاد إلا عن عدم، وإليه أشار بقوله: صانع ومحدث مع قوله في الدليل السابق «لما يرى من خلق السموات والأرض».
وقال[(590)]: «(وكذا خروج الجنين) الولد المستبين الخلقة (من بطن أمه) ملابسا (بصورة حسنة) من استواء القامة وتناسب الأعضاء، واعتدال التخطيطات المقدارية والأوضاع المتلائمة والإتقان والإحكام البالغ أقصى الغاية، والحكم والمصالح البالغة فيما عرف خمسة آلاف (ليس) بالضرورة (من) تأثير (نجم) من السيارات عديم الشعور كما زعمه المنجمون والصابئون من أن الكواكب المتحركة بحركات الأفلاك هي العلل لحدوث الحوادث الواقعة في العالم من الجواهر والأعراض، متمسكين بدوران الحوادث السفلية والتغيرات الواقعة في جوف فلك القمر وجودا وعدما مع ما لتلك الكواكب من الأوضاع في البروج، كما يشاهد في الفصول الأربعة وتأثيرات الطوالع، (ولا) من (طبع) من القوى البسطية والمركبة العديمة الشعور بالضرورة، وإليه أشار بعدم التعرض للاستدلال للإحالة إلى الضرورة، فليس التأثير من الطبع كما زعمه الطبيعيون من أن الطبائع هي العلل للحوادث متمسكين بأنه يكون من اجتماع الماء والأرض النبات ولا بد فيه من هواء يتخلل بين أجزائه ومن حرارة طابخة، إذ لو فقد أحدهما أو لم يكن على ما ينبغي فسد الزرع، كما إذا التقى البذر في موضع لا يصل إليه الهواء وحر الشمس، ومن النبات يحصل بعض الحيوان لأنه غذاؤه، ومنهما يحصل الإنسان لأنه متولد من المني المتكون من الغذاء الذي هو نبات أو حيوان، وكذا يحصل منهما بعض الحيوان الذي غذاؤه منهما، والطبيعة المصورة التي في الرحم تقيد الأجزاء المتخالفة الحقيقة بالصور والقوى والأشكال والمقادير التي بها يصير مثلا بالفعل لمن فصلت منه البذر (بل من تقدير صانع) متقن للأفعال، فإن الصنع إجادة الفعل كما في االمفردات، والتقدير بمعنى التخصيص الذي هو نتيجة الإرادة أو نتيجة الحكمة كما في التعديل وغيره (حكيم عالم) بالأشياء على ما هي عليه الآتي بالأفعال على ما ينبغي. يعني أن اختصاص كل واحد من الأجسام بصفته وصورته جائز ممكن فلا بد له من مخصص حكيم. وتقريره أن اختصاص كل واحد من الأجسام بصفته المعينة وصورته المشخصة، والإحكام إلى الغاية لا بد وأن يكون من الجائزات ولا بد للجائز من مرجح…
وأصل الدليل مأخوذ من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ… *} [(591)] حيث دل إيراده في معرض الاستدلال على أنه يعلم علما ضروريا، ويستدل به على غيره كما في شرح المواقف، وفيه إشارات إلى مسائل:
الأولى: أن من تأمل في عجائب الأفعال الحادثة في عالم الطبيعة البالغة من الإتقان والاحكام أقصى الغايات، وكان راجعا إلى فطنة ولم يعم بصيرته التقليد علم بالضرورة أنها لا يمكن أن تستند إلى قوى بسيطة أو مركبة عديمة الشعور، سيما ما يحدث في الحيوانات من الصور النوعية والقوى التابعة لها على تلك المادة المتشابهة الأجزاء، وما يراعى فيها من حكم ومصالح قد تحيرت فيها الأوهام وعجزت عن إدراكها العقول والأفهام، مما قد بلغ المعروف منها في كتب منافع الأعضاء وأشكالها ومقاديرها، وأوضاعها خمسة آلاف وما لم يعلم منها أكثر مما علم، كما في المواقف وأوائل التفسير الكبير للرازي…
ثم قال بعد كلام: (والعالم) أي ما يُعلَم به الصانع وصفاته من الجواهر والأعراض (يتغير من حال إلى حال) في الأكوان والأمثال المتجددات (والتغير لا بد له من مغير) لا يتغير كما هو المتبادر، والاحتياج إلى المغير المرجح ضروري في الممكن المتغير (فدل تغيره على وجود مغير له غالب) على أمره (هو الصانع) الواجب المتقن لفعاله، يعني أن كل موجود من العالم يشاهد تغير حاله انقلابه من العناصر والحيوان والمعادن والنبات، ولا بد له من مغير صانع.
وتقريره: أن كل موجود من العالم كانت حقيقته قابلة للتغير والعدم فإنه يكون نسبة حقيقته إلى الوجود وإلى العدم على السوية، وكل ما كان كذلك لم يكن وجوده راجحا على عدمه إلا لمرجح وهو لا بد وأن يكون موجودا، فإن كان ممكنا عاد الكلام فيه ولزم الدور أو التسلسل، وكلاهما باطل لما مر، فثبت الانتهاء إلى مرجح واجب الوجود غالب لذاته.
وتقريره على طريقة الحدوث: أنه لا شك في تغير العالم وحدوث أحواله، وكل حادث ممكن، وإلا لم يعدم ولم يوجد فله مؤثر، وذلك المؤثر يكون لا محالة واجبا غالبا، أو منتهيا إليه لاستحالة الدور أو التسلسل.
وأصل الدليل مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ *} [(592)]، وبين المقام تنبيها على ضرورية دلالة الموجود المحدث بقوله فيه (كوجود بناء مشيد) أي محكم (في عَرصةٍ بعد أن لم يكن) فيها مادته وصورته كما دل الإطلاق (يدل على وجود بان بناه) بالضرورة» اهـ. بتصرف يسير.
قال الفخر الرازي : «وهذا الكلام موافق للوحي والنبوة ، فإنه ذكر مراتب تكوّن الجسد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ *} [(593)] فلما آل الأمر إلى تعلق الروح بالبدن قال: {…ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ… *} [(594)] وذلك كالتنبيه على أن كيفية تعلّق الروح بالبدن ليس مثل انقلاب النطفة من حال إلى حال، بل هذا نوع آخر مخالف لتلك الأنواع المتقدّمة فلهذا السبب قال: {…ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} ، فكذلك الإنسان إذا تأمّل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمّل في صفاتها فذلك له قانون، فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي به اهتدى إلى معرفة الجسمانيات»[(595)] اهـ.
– [وأهل السنة تحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول :
وعرفوا أن من ظن من الحشوية وجوب الجمود على التقليد، واتباع الظواهر ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر، وأن من تغلغل من الفلاسفة وغلاة المعتزلة في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أتوا به إلا من خبث الضمائر. فميل أولئك إلى التفريط وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط.
بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد ملازمة الاقتصاد والاعتماد على الصراط المستقيم ، هيهات قد خاب على القطع والبتات وتعثر بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات.
فمثال العقل البصر السليم عن الآفات، ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء. فأخلق بأن يكون طالب الاهتداء، المستغني إذا استغنى بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء، فالمعرض عن العقل مكتفيًا بنور القرآن، مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضًا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان.
فالعقل مع الشرع نور على نور ، والملاحظ بالعين العور لأحدهما على الخصوص متدل بحبل غرور. وسيتضح لك أيها المشوق إلى الاطلاع على قواعد عقائد أهل السنة، المقترح تحقيقها بقواطع الأدلة، أنه لم يستأثر بالتوفيق للجمع بين الشرع والتحقيق فريق سوى هذا الفريق وهو فريق أهل السنة والجماعة.
فاشكر الله تعالى على اقتفائك لآثارهم وانخراطك في سلك نظامهم وعيارهم واختلاطك بفرقتهم، فعساك أن تحشر يوم القيامة في زمرتهم. نسأل الله تعالى أن يصفي أسرارنا عن كدورات الضلال، ويغمرها بنور الحقيقة، وأن يخرس ألسنتنا عن النطق بالباطل، وينطقها بالحق والحكمة إنه الكريم الفائض المنة الواسع الرحمة][(596)].
– لا يعرف الله بالحواس ولا يقاس بالناس، ولا مدخل في ذاته وصفاته للقياس:
قال الإمام محمد بن بدر الدين بن بلبان الدمشقي الحنبلي (1006-1083هـ) ما نصه: «ويجب الجزم بأنه سبحانه وتعالى ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض، لا تحله الحوادث ولا يحل في حادث ولا ينحصر فيه، فمن اعتقد أو قال إن الله بذاته في كل مكان أو في مكان فكافر، فيجب الجزم بأنه سبحانه بائن من خلقه، فالله تعالى كان ولا مكان ثم خلق المكان وهو كما كان قبل خلق المكان، ولا يعرف بالحواس ولا يقاس بالناس، ولا مدخل في ذاته وصفاته للقياس، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا فهو الغني عن كل شىء، ولا يستغني عنه شىء، ولا يشبه شيئا ولا يشبهه شىء، فمن شبهه بشىء من خلقه فقد كفر، كمن اعتقده جسما أو قال إنه جسم لا كالأجسام ، فلا تبلغه سبحانه الأوهام ولا تدركه الأفهام، ولا تضرب له الأمثال، ولا يعرف بالقيل والقال، وبكل حال مهما خطر بالبال وتوهمه الخيال فهو بخلاف ذي الإكرام والجلال» [(597)] اهـ.
وقال صاحب كتاب بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية: «(ولا يتمكّن بمكان) لأنّ التّمكّن عبارةٌ عن نفوذ بعدٍ في بعدٍ آخر متوهّمٍ أو متحقّقٍ يسمّونه المكان.
والبعد عبارةٌ عن امتدادٍ قائمٍ بالجسم أو بنفسه عند القائلين بوجود الخلاء، والله تعالى منـزّهٌ عن المقدار والامتداد لاستلزامه التّجزّي ، ولأنّه لو كان في مكان لزم قدم المكان، وأيضًا يلزم افتقاره إليه، وكلّ مفتقرٍ ممكنٌ، فيلزم كون الواجب ممكنًا، وأيضًا يلزم كونه جوهرًا وقد أبطلناه.
وأورد عليه بأنّ كلّ موجودٍ متحيّزٌ ببداهة العقل، ودفع بأنّه بداهة الوهم لا بداهة العقل لأنّ الوهم في غير المحسوسات ليس بمقبولٍ ، وأمّا النّصوص الظّواهر في التّجسّم المستلزم للمكان نحو قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [(598)] {وَجَاءَ رَبُّكَ… *} [(599)] {…إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ… *} [(600)].
قال صاحب المواقف[(601)]: إنّها ظواهر ظنّيّةٌ لا تعارض اليقينيّات الدّالّة على نفي المكان، فلزم أنّها متشابهاتٌ فنفوّض علمها إلى الله تعالى كما هو مذهب السّلف أو نؤوّلها بنحو:
– الاستيلاء على العرش.
– {وَجَاءَ رَبُّكَ} أي أمر ربّك.
– و{…إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} أي يرتضيه.
(ولا يجري عليه زمانٌ) لأنّ الزّمان متجدّدٌ، يقدّر به متجدّدٌ آخر كما هو عند المتكلّمين أو مقدار الحركة والله منـزّهٌ عنهما، لأنّ التّجدّد لا يتصوّر في القديم وكذا المقدار.
(وليس له جهةٌ من الجهات السّتّ ولا هو في جهةٍ منها) وهي فوق تحت ويمين ويسار وقدّام وخلف، والجهة عند المتكلّمين نفس المكان بإضافة جسمٍ آخر إليه، فإذا انتفت الجسميّة والمكانيّة تنتفي الجهة لأنّها من خواصّ الأجسام، ولأنّه تعالى لو كان في جهةٍ أو زمانٍ لزم قدم المكان أو الزّمان ولأنّه أمارة الإمكان للافتقار إليه» اهـ.
وعليه فإن القول الفصل أن ( الله موجود بلا مكان ) وهو سبحانه عالم بكل شىء لا يخفى عليه شىء في الأرض ولا في السماء، ومهيمن على كل شىء، لكن لا يقال «هو في كل مكان» أو «هو الكل» أو «موجود في كل الوجود»، كما يقوله جهلة المتصوفة، أو «لا يعلم مكانه إلا هو» كما تناور به أحيانا المشبهة، بل ذلك مخالف لما مر بيانه فيجب نبذه وبيان الصواب. – الاعتراف بوجود شىء على خلاف حكم الحس والخيال :
وقد أوضحت ذلك بما تقدم لكني هنا أخلص إلى النتيجة المقصودة:
سئل الإمام العلامة أبو الحسن الدينوري عن الاستدلال بالشاهد على الغائب ؟
فقال: «كيف يستدل بصفات من يشاهد ويعاين وذو مثل على من لا يشاهد ولا يعاين في الدنيا، ولا نظير له ولا مثل.
هذا من جهل الجاهلين بالآيات التي قلبوا بها حقائق الأمور»[(602)] اهـ.
وقال الفخر الرازي ما نصه[(603)]: «خصومنا لا بد لهم من الاعتراف بوجود شىء على خلاف حكم الحس والخيال ، وذلك لأن خصومنا في هذا الباب إما الكرامية وإما الحنابلة[(604)].
أما الكرّامية فإنا إذا قلنا لهم: لو كان الله تعالى مشارًا إليه بالحس لكان ذلك الشىء:
إما أن يكون منقسمًا فيكون مركبًا وأنتم لا تقولون بذلك.
وإما أن يكون غير منقسم فيكون في الصغر والحقارة مثل النقطة التي لا تنقسم، ومثل الجزء الذي لا يتجزّأ وأنتم لا تقولون بذلك.
فعند هذا الكلام قالوا: إنه واحد منـزّه عن التركيب والتأليف، ومع هذا فإنه فليس بصغير ولا حقير.
ومعلوم أن هذا الذي التزموه مما لا يقبله الحس والخيال، بل لا يقبله العقل أيضًا، لأن المشار إليه بحسب الحس:
– إن حصل له امتداد في الجهات والأحياز كان أحد جانبيه مغايرًا للجانب الثاني، وذلك يوجب الانقسام في بديهة العقل.
– وإن لم يحصل له امتداد في شىء من الجهات لا في اليمين ولا في اليسار ولا في الفوق ولا في التحت كان نقطة غير منقسمة، وكان في غاية الصغر والحقارة.
فإذا لم يبعد عندهم التزام كونه غير قابل القسمة مع كونه عظيمًا غير متناه في الامتداد كان هذا جمعًا بين النفي والإثبات، ومدفوعًا في بداية العقول.
وأما الحنابلة الذين التزموا الأجزاء والأبعاض فهم أيضًا معترفون بأن ذاته تعالى مخالف لذوات هذه المحسوسات، فإنه تعالى لا يساوي هذه الذوات في قبول الاجتماع والافتراق والتغير والفناء والصحة والمرض والحياة والموت، إذ لو كانت ذاته تعالى مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات لزم إما افتقاره إلى خالق آخر ولزم التسلسل، أو لزم القول بأن الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق وذلك يلزم منه نفي الصانع[(605)] فثبت أنه لا بد لهم من الاعتراف بأن خصوصية ذاته التي بها امتازت عن سائر الذوات ما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها، وذلك اعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال.
وإذا كان الأمر كذلك فأيّ استبعاد في وجود موجود غير حالّ في العالم، ولا مباين بالجهة للعالم، وإن كان الوهم والخيال لا يمكنهما إدراك هذا الموجود .
وأيضًا فعمدة مذهب الحنابلة أنهم متى تمسكوا بآية أو بخبر يوهم ظاهره شيئًا من الأعضاء والجوارح صرّحوا بأنا نثبت هذا المعنى لله تعالى على خلاف ما هو ثابت للخلق، فأثبتوا لله تعالى وجهًا بخلاف وجوه الخلق، ويدًا بخلاف أيدي الخلق، ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الخيال والوهم، فإذا عقل إثبات ذلك على خلاف الوهم والخيال فأيّ استبعاد في القول بأنه تعالى موجود، وليس داخل العالم ولا خارج العالم، وإن كان الوهم والخيال قاصرين عن إدراك هذا الوجود» .
ثم قال: «… أهل التشبيه قالوا: العالم والبارئ موجودان، وكل موجودين فإما أن يكون أحدهما حالًّا في الآخر أو مباينًا عنه. قالوا والقول بوجوب هذا الحصر معلوم بالضرورة. قالوا: والقول بالحلول محال، فتعيّن كونه مباينًا للعالم بالجهة فبهذا الطريق احتجوا بكونه تعالى مختصًا بالحيّز والجهة.
وأهل الدهر قالوا: العالم والبارئ موجودان، وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معًا أو أحدهما قبل الآخر، ومحال أن يوجد العالم والبارئ معًا وإلا لزم إما قدم العالم أو حدوث البارئ وهما محالان، فثبت أن البارئ قبل العالم.
ثم قالوا: والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة، وإذا ثبت هذا فتقدّم البارئ إن كان بمدة متناهية لزم حدوث البارئ، وإن كان بمدة لا أول لها لزم كون المدة قديمة فأنتجوا بهذه الطريق قدم المدة والزمن.
فنقول : حاصل هذا الكلام أن المشبهة زعمت أن مباينة البارئ تعالى عن العالم لا يعقل حصولها إلا بالجهة، وانتخبوا منه كون الإله في الجهة، وزعمت الدهرية أن تقدّم البارئ على العالم لا يعقل حصوله إلا بالزمان، وأنتجوا منه قدم المدة.
وإذا ثبت هذا فنقول :
حكم الخيال في حق الله تعالى إما أن يكون مقبولا أو غير مقبول :
– فإن كان مقبولاً :
– فالمشبهة يلزم عليهم القول بكون الزمان أزليًّا، والمشبهة لا يقولون بذلك.
– والدهرية يلزم عليهم مذهب المشبهة وهو مباينة البارئ عن العالم بالجهة والمكان فيلزمهم القول بكون البارئ مكانيًا، وهم لا يقولون به.
فصار هذا النقد واردًا على الفريقين.
أما إن قلنا حكم الوهم والخيال غير مقبول ألبتة في ذات الله تعالى وفي صفاته فحينئذٍ نقول :
قول المشبهة : إن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما حالًّا في الآخر أو مباينًا عنه بالجهة قول خياليّ باطل .
وقول الدهري: بأن تقدّم البارئ على العالم لا بدّ وأن يكون بالمدّة والزمان قول خياليّ باطل .
وذلك هو قول أصحابنا أهل التوحيد والتنـزيه الذين عزلوا حكم الوهم والخيال عن ذات الله تعالى وصفاته وذلك هو المنهج القويم والصراط المستقيم .
ثم قال: المقدّمة الثانية : في أنه ليس كل موجود يجب أن يكون له شبيه ونظير :
إنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه، وإنه ليس يلزم من نفي النظير والشبيه نفي ذلك الشىء ، ويدل عليه وجوه:
الحجة الأولى : أن بديهية العقل لا تستبعد وجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ما سواه مخالفًا له في تلك الخصوصية، وإذا لم يكن هذا مدفوعًا في بداية العقول علمنا أنه لا يلزم من عدم نظير الشىء عدم ذلك الشىء .
الحجة الثانية : هي أن وجود الشىء إما أن يتوقّف على وجود ما شابهه أو لا يتوقف، والأول باطل، لأن الشيئين لو كانا متشابهين وجب استواؤهما في جميع اللوازم فيلزم من توقف وجود هذا على وجود الثاني توقف وجود الثاني على وجود الأول، بل توقف كل واحد منهما على نفسه، وذلك محال في بداية العقول، فثبت أنه لا يتوقف وجود الشىء على وجود نظير له فلا يلزم من نفي النظير نفيه.
… فظهر فساد قول من يقول إنه لا يمكننا أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه إلا إذا وجدنا له نظيرًا، فإن الموصوف عندنا بهذه الصفة ليس إلا الله تعالى، وبيّنا أنه لا يلزم من عدم النظير والشبيه عدم الشىء، فثبت أن هذا الكلام ساقط بالكلية وبالله التوفيق .
المقدمة الثالثة : في بيان قول القائلين بأنه تعالى جسم:
اعلم أن القائلين بأنه تعالى جسم اختلفوا:
– فمنهم من يقول إنه على صورة الإنسان.
– ثم المنقول عن مشبهة الأمة أنه على صورة الإنسان الشابّ.
– وعن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ، وهم لا يجوّزون الانتقال والذهاب والمجيء على الله تعالى.
– وأما المحققون من المشبهة[(606)] فالمنقول عنهم أنه تعالى على صورة نور من الأنوار» اهـ.
فانظر رحمك الله إلى جسامة هذا الخطر الخطير أعاذنا الله من هذه العقائد السخيفة.
– إن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون القديم سبحانه جسمًا؟
قلنا: لأن هذا ما تفيده الآيات المحكمات في كتاب الله كقوله: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} وهذا هو ما فهمه سلف الأمة دلنا عليه قولهم: «أمروها كما جاءت بلا كيف»، وفي نفيهم للكيف دلالة على نفي صفات الحدث عن الله، وإلا فلم كانوا ينهون عن الخوض في ذلك، بل لماذا كانوا يحرصون على هذه الكلمة لو كان الإله جسما؟
قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر : «والله واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له. {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} ، لا يشبه شيئًا من خلقه ولا يشبهه شىءٌ من خلقه»[(607)].
وقال: «وصفاته كلها بخلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويسمع لا كسمعنا، ويتكلم لا ككلامنا، نحن نتكلم بالآلات من المخارج والحروف والله تعالى يتكلم بِلا ءالة ولا حروف، والحروف مخلوقة، وكلام الله غير مخلوق ، وهو شىء لا كالأشياء. ومعنى الشىء إثباته بلا جسم ولا جوهر ولا عرض ولا حد له -أي لا حجم له بالمرة- ولا ضد ولا نِدَّ ولا مثل »[(608)].
وقال رحمه الله تعالى : «باب في الصفات: لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى، ولا يقال غضبه عقوبته، ورضاه ثوابه، ونصفه كما وصف نفسه: أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد حي قيوم قادر سميع بصير عالم، يد الله فوق أيديهم ليست كأيدي خلقه، وليست جارحة ، وهو خالق الأيدي»[(609)] اهـ.
روى أبو الفضل التميمي عن الإمام أحمد أنه قال: «أنكر الإمام أحمد على من قال بالجسم (أي في حق الله) وقال -أي الإمام أحمد- إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم لما له طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف، والله خارج عن ذلك كله، فلم يجز أن يسمى جسمًا لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل» [(610)] وهو قول موجز وجامع لما نجده في أقوال غيره من أهل العلم.
لذلك لا يجوز أن يقال إن الله تعالى جسمٌ لا كالأجسام، لأن الجسم لم يجئ في الشرع نسبتُه إلى الله، والجسم لا يأتي إلا بمعنى المخلوق الذي له حجم، وهذا لا يليق بالله، ويشرح كلام الإمام أحمد رضي الله عنه ما قاله الإمام أبو سعيد المتولي الشافعي رضي الله عنه، ونصه: «وذهبت الكرامية إلى أن الله تعالى جسم، والدليل على فساد قولهم: أن الجسم في اللغة بمعنى التأليف واجتماع الأجزاء ، والدليل عليه أن نقول عند زيادة الأجزاء وكثرة التأليف جسم وأجسم، كما يقال عند زيادة العلم عليم وأعلم، وقال تعالى: {…وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ… *} [(611)]، فلما كان وصف المبالغة كزيادة التأليف دل على أن أصل الاسم للتأليف، فإذا ثبت ما ذكرنا بطل مذهبهم، لأن الله تعالى لا يجوز عليه التأليف.
فإن قالوا: نحن نريد بقولنا جسم أنه موجود ولا نريد به التأليف. قلنا: هذه التسمية في اللغة ليس لها ذكر ، ثم هي مبنية على المستحيل، فلم أطلقتم ذلك من غير ورود السمع به!؟ وما الفصل بينكم وبين من يسميه جسدا ويريد به الموجود، وإن كان يخالف مقتضى اللغة!!.
فإن قيل: أليس يسمى نفسا؟ قلنا: اتبعنا فيه السمع ، وهو قوله تعالى: {…تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ… *} [(612)] ولم يرد السمع بالجسم»[(613)] اهـ.
وقال أبو بكر الباقلاني[(614)]: «(باب الكلام على المجسّمة) إن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون القديم سبحانه جسمًا؟ قيل له : لما قدمناه من قبل وهو أن حقيقة الجسم أنه مؤلف مجتمعٌ ، بدليل قولهم: رجل جسيم وزيد أجسم من عمرو، وعلمنا بأنهم يقصرون هذه المبالغة على ضرب من ضروب التأليف في جهة العرض والطول، ولا يوقعونها بزيادة شىء من صفات الجسم سوى التأليف، فلما لم يجز أن يكون القديم مجتمعًا مؤتلفًا وكان شيئًا واحدًا ثبت أنه تعالى ليس بجسم».
إلى أن قال: «فإن قالوا: ولم أنكرتم أن يكون البارئ سبحانه جسمًا لا كالأجسام كما أنه عندكم شىء لا كالأشياء ؟ قيل له : لأن قولنا «شىء» لم يُبْنَ لجنس دون جنس ولا لإفادة التأليف، فجاز وجود شىء ليس بجنس من أجناس الحوادث وليس بمؤلّف، ولم يكن ذلك نقضًا لمعنى تسميته بأنه شىء، وقولنا «جسم» موضوع في اللغة للمؤلّف دون ما ليس بمؤلّف، كما أن قولنا «إنسان» و«محدث» اسم لما وجد عن عدم ولما له هذه الصورة دون غيرها، فكما لم يجز أن نثبت القديم سبحانه محدثًا لا كالمحدثات وإنسانًا لا كالناس قياسًا على أنه شىء لا كالأشياء لم يجز أن نثبته جسمًا لا كالأجسام، لأنه نقض لمعنى الكلام وإخراج له عن موضوعه وفائدته.
فإن قالوا: فما أنكرتم من جواز تسميته جسمًا وإن لم يكن بحقيقة ما وضع له هذا الاسم في اللغة؟ قيل لهم : أنكرنا ذلك لأن هذه التسمية لو ثبتت لم تثبت له إلا شرعًا لأن العقل لا يقتضيها بل ينفيها إن لم يكن القديم سبحانه مؤلّفًا، وليس في شىء من دلائل السمع من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وما يستخرج من ذلك ما يدل على وجوب هذه التسمية ولا على جوازها أيضًا فبطل ما قلتموه .
فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون جسمًا على معنى أنه قائم بنفسه، أو بمعنى أنه شىء، أو بمعنى أنه حامل للصفات، أو بمعنى أنه غير محتاج في الوجود إلى شىء يقوم به؟
قيل له : لا ننكر أن يكون البارئ سبحانه حاصلاً على جميع هذه الأحكام والأوصاف، وإنما ننكر تسميتكم لمن حصلت له بأنه جسم وإن لم يكن مؤلّفًا، فهذا عندنا خطأ في التسمية دون المعنى، لأن معنى الجسم أنه المؤلّف على ما بيّناه، ومعنى الشىء أنه الثابت الموجود، وقد يكون جسما إذا كان مؤلفا، ويكون جوهرا إذا كان جزءا منفردا، ويكون عرضا إذا كان مما يقوم بالجوهر، ومعنى القائم بنفسه هو أنه غير محتاج في الوجود إلى شىء يوجد به، ومعنى ذلك أنه مما يصح له الوجود وإن لم يفعل صانعه شيئا غيره إذا كان محدثا، ويصح وجوده وإن لم يوجد قائم بنفسه سواه إذا كان قديما، وليس هذا من معنى قولنا جسم ومؤلف بسبيل فبطل ما قلتم».
وقال ما نصه[(615)]: «ويقال لهم: ما الدليل على أن صانع العالم جسم؟ فإن قالوا: لأننا لم نجد في الشاهد والمعقول فاعلاً إلا جسمًا فوجب القضاء بذلك على الغائب، قيل لهم: فيجب على موضوع استدلالكم هذا أن يكون القديم سبحانه مؤلّفًا محدثًا مصوّرًا ذا حيز وقبول للأعراض، لأنكم لم تجدوا في الشاهد وتعقلوا فاعلاً إلا كذلك، فإن مروا على ذلك تركوا قولهم وفارقوا التوحيد، وأن أبوه نقضوا استدلالهم» اهـ.
وقال الغزالي :«الدعوى الخامسة: ندعي أن صانع العالم ليس بجسم، لأن كل جسم فهو متألف من جوهرين متحيزين، وإذا استحال أن يكون جوهرًا استحال أن يكون جسمًا، ونحن لا نعني بالجسم إلا هذا.
فإن سماه جسمًا ولم يرد هذا المعنى كانت المضايقة معه بحق اللغة أو بحق الشرع لا بحق العقل ، فإن العقل لا يحكم في إطلاق الألفاظ ونظم الحروف والأصوات التي هي اصطلاحات، ولأنه لو كان جسمًا لكان مقدارًا بمقدار مخصوص ويجوز أن يكون أصغر منه أو أكبر ، ولا يترجح أحد الجائزين عن الآخر إلا بمخصص ومرجح، كما سبق، فيفتقر إلى مخصص يتصرف فيه فيقدره بمقدار مخصوص، فيكون مصنوعًا لا صانعًا ومخلوقًا لا خالقًا»[(616)] اهـ.
وقال أيضًا: «الأصل الخامس العلم بأنه تعالى ليس بجسم مؤلف من جواهر، إذ الجسم عبارة عن المؤلف من الجواهر، وإذا بطل كونه جوهرا مخصوصا بحيز بطل كونه جسما، لأن كل جسم مختص بحيز ومركب من جوهر، فالجوهر يستحيل خلوه عن الافتراق والاجتماع والحركة والسكون والهيئة والمقدار وهذه سمات الحدوث. ولو جاز أن يُعتقد أن صانع العالم جسم لجاز أن يُعتقد الألوهية للشمس والقمر أو لشىء آخر من أقسام الأجسام »[(617)] اهـ.
معناه: لو كانت الألوهية والربوبية تصحُّ لجسم لكانت الشمسُ مستحقة للألوهية والربوبية، الذين يقولون: الله جسم متحيز فوق العرش إذا قيل لهم: كيف تصح الألوهية لجسم له مكان وجهة وهذه الشمس التي نشاهدها ونشاهدُ منافعها الكثيرة لا تستحق أن تعبد مع أنها في جهة فوق؟ فكيف تصح الألوهية لما تظنون أنه متحيز فوق العرش قاعد عليه أو واقف في الهواء؟ وكيف تصح الألوهية لهذا الجسم الذي لم نشاهده ولا رأينا له منفعة؟ والشمس نشاهدها ونشاهد منافعها الكثيرة، ومع هذا لا يجوز أن تكون إلهًا؟ أولئك ليس عندهم جواب، الذين يقولون الله جسم قاعد فوق العرش ليس عندهم جواب، إذا أورد عليهم هذا السؤال، ليس عندهم دليل، يقولون قال الله تعالى، يذكرون بعض الآيات التي يفسرونها على هواهم ما عندهم دليل.
وقال الباقلاني ما نصه: «فإن قال قائل: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة، إذ كنتم لم تعقلوا يدا صفة ووجها صفة لا جارحة؟
يقال له : لا يجب ذلك، كما لا يجب أنا إذا لم نعقل حيًا عالمًا قادرًا إلا جسمًا، أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك. وكما لا يجب متى كان قائمًا بذاته، أن يكون جوهرًا أو جسمًا، لأنا وإياكم لم نجد قائمًا بنفسه في شاهدنا إلا كذلك.
وكذلك الجواب لهم إن قالوا: فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسائر صفاته لذاته أعراضًا أو أجناسًا أو حوادث أو أغيارًا له أو حالّة فيه أو محتاجة له إلى قلب، واعتلّوا بالوجود».
إلى أن قال: «والمعتمد في هذا أنه سبحانه ذكر السنة والنوم [في قوله سبحانه: {…لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} ] تنبيهًا على أن جميع الأعراض ودلالات الحدوث لا تجوز عليه، ولم يرد نفي السنة والنوم فقط» [(618)] اهـ.
وقال الإمام الكبير فخر الدين الرازي:« اعلم أن المشهور عن قدماء الكرّامية إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى. إلا أنهم يقولون لا نريد به كونه تعالى مؤلفًا من الأجزاء ومركّبًا من الأبعاض، بل نريد كونه تعالى غنيًّا عن المحل قائمًا بالنفس، وعلى هذا التقدير فإنه يصير النّزاع في أنه تعالى جسم أو لا نزاعًا لفظيًا، هذا حاصل ما قيل في هذا الباب. إلا أنا نقول كل ما كان مختصًا بحيّز أو جهة يمكن أن يشار إليه بالحس بذلك المشار إليه إما أن لا يبقى منه شىء في جوانبه الست، وإما أن يبقى، فإن لم يبق منه شىء في جوانبه الست فهذا يكون كالجوهر الفرد، وكالنقطة التي لا تتجزأ، ويكون في غاية الصغر والحقارة، ولا أظن أن عاقلاً يرضى أن يقول إن إله العالم كذلك، وإما إن بقي شىء في جوانبه الست أو في أحد هذه الجوانب فهذا يقتضي كونه مؤلفًا مركبًا من الجزأين أو أكثر، وأقصى ما في الباب أن يقول قائل: إن تلك الأجزاء لا تقبل التفرق والانحلال، إلا أن هذا لا يمنع من كونه في نفسه مركّبًا مؤلفًا، كما أن الفلسفي يقول الفلك جسم، إلا أنه لا يقبل الخرق والالتئام، فإن ذلك لا يمنعه من اعتقاد كونه جسما طويلاً عريضًا عميقًا، فثبت أن هؤلاء الكرّامية لما اعتقدوا كونه تعالى مختصًا بالحيز والجهة ومشارًا إليه بحسب الحسّ، واعتقدوا أنه تعالى ليس في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد والنقطة التي لا تتجزأ، أوجب أن يكونوا قد اعتقدوا أنه تعالى ممتدّ في الجوانب أو بعض الجوانب، ومن قال ذلك فقد اعتقد كونه مركّبًا مؤلفًا، فكان امتناعه عن إطلاق لفظ المؤلف والمركّب امتناعًا عن مجرّد هذا اللفظ مع كونه معتقدًا لمعناه، فثبت أنهم إنما أطلقوا لفظ الجسم لأجل أنهم اعتقدوا كونه تعالى طويلاً عريضًا عميقًا ممتدًّا في الجهات، فثبت أن امتناعهم عن هذا الكلام لمحض التقية والخوف، وإلا فهم يعتقدون كونه تعالى مركبًا مؤلفًا» [(619)] اهـ.
– قال أبو حنيفة في كتابه الوصية: «ولقاء الله لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة حق»[(620)]، وعلى هذا صلاح الدين الأيوبي والسلطان محمد الفاتح :
وفي ذلك ردٌّ على ما قد تذهب إليه بعض الأوهام أن الله تعالى يرى في جهة أو مقابلة، وهو ما يجب دفعه عن القلب كما هو واضح في كلام هذا الإمام.
وإنما عنونت بكلام هذا الإمام لأنه من زمن السلف الصالح ولشهرته وعلو مقامه وانتشار مذهبه وتلاميذه، وهو مبني على ما تقدم من الأدلة والشواهد من القرآن والسنة . وقال أيضًا في الفقه الأكبر: «والله تعالى يرى في الآخرة يراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة» [(621)] اهـ.
وقال الحافظ النووي في شرح مسلم: «ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك، لكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضا بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على سبيل الاشتراط، وقد قرر أئمتنا المتكلمون ذلك بدلائله الجلية، ولا يلزم من رؤية الله تعالى إثبات جهة، تعالى عن ذلك، بل يراه المؤمنون لا في جهة كما يعلمونه لا في جهة والله أعلم» [(622)] اهـ.
وقال فيه أيضًا: «إن الله ليس كمثله شىء وإنه منـزه عن التجسيم والانتقال والتحيز في جهة وعن سائر صفات المخلوق»[(623)] اهـ.
وقال الغزالي : « أما الحشوية فإنهم لم يتمكنوا من فهم موجود لا في جهة، فأثبتوا الجهة حتى لزمتهم بالضرورة الجسمية والتقدير والاختصاص بصفات الحدوث .
وأما المعتزلة فإنهم نفوا الجهة ولم يتمكنوا من إثبات الرؤية دونها، وخالفوا به قواطع الشرع، وظنوا أن في إثباتها (الرؤية) إثبات الجهة، فهؤلاء تغلغلوا في التنـزيه محترزين من التشبيه، فأفرطوا. والحشوية أثبتوا الجهة احترازًا من التعطيل فشبهوا .
فوفق الله سبحانه أهل السنة للقيام بالحق، فتفطنوا للمسلك القصد وعرفوا أن الجهة منفية لأنها للجسمية تابعة وتتمة، وأن الرؤية ثابتة لأنها رديف العلم وفريقه، وهي تكملة له؛ فانتفاء الجسمية أوجب انتفاء الجهة التي من لوازمها. وثبوت العلم أوجب ثبوت الرؤية التي هي من روادفه وتكملاته ومشاركة له في خاصيته، وهي أنها لا توجب تغييرًا في ذات المرئي، بل تتعلق به على ما هو عليه كالعلم»[(624)] اهـ.
وعلى هذا الاعتقاد مئات الملايين من المسلمين في الشرق والغرب تدريسًا وتعليمًا، ويكفي في حقية هذا الاعتقاد كون أكابر العلماء من الحفاظ وغيرهم عليه ، ومنهم: أبو بكر الإسماعيلي والخطابي والحافظ أبو نعيم الأصبهاني والبيهقي والنووي وابن عساكر الدمشقي، وكذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني أبو الفضل ، وأبو الحسن الباهلي وأبو اسحق الأسفراييني والشيرازي الشافعي، والقاضي عياض وأبو حامد الغزالي وفخر الدين الرازي والسيد أحمد الرفاعي وابن دقيق العيد والشهرستاني صاحب كتاب «الملل والنحل»، والحافظ مرتضى الزبيدي والشيخ زكريا الأنصاري ومفتي مصر الشيخ محمد عليش المالكي وشيخ الجامع الأزهر عبد الله الشرقاوي والشيخ سليم البشري، وغيرهم من أئمة الدين كثير كثير ممن لا يحصيهم إلا الله سبحانه.
بل هذه هي العقيدة التي تدرس في أزهر مصر وجامعة الزيتونة في تونس ومختلف بلاد المسلمين وجامعاتها ومعاهدها، قديما وحديثا.
وكان على هذا المعتقد السلطان المجاهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله (589هـ) كما وصفه أصحاب التراجم «شافعي المذهب أشعري الاعتقاد» وقد كان له اعتناء خاص بنشر عقيدة أهل السنة كما شرحها الإمام الأشعري رحمه الله، فقد قال السيوطي ما نصه : «فلما ولي صلاح الدين بن أيوب أمر المؤذنين في وقت التسبيح أن يعلنوا بذكر العقيدة الأشعرية، فوظف المؤذنين على ذكرها كل ليلة إلى وقتنا هذا»[(625)] اهـ. أي إلى وقت السيوطي المتوفى سنة (911هـ) رحمه الله.
ولما كان للسلطان المذكور الاهتمام بعقيدة الأشعري ألف الشيخ الفقيه النحوي محمد ابن هبة الله رسالة في العقيدة وأسماها «حدائق الفصول وجواهر الأصول» وأهداها للسلطان فأقبل عليها وأمر بتعليمها حتى للصبيان في المكاتب، وصارت تسمى فيما بعد «بالعقيدة الصلاحية ، ومما جاء في هذه الرسالة[(626)]:
وصانع العالم لا يحويه
قطر تعالى الله عن تشبيه
قد كان موجودا ولا مكانا
وحكمه الآن على ما كانا
سبحانه جل عن المكان
وعز عن تغير الزمان
فقد غلا وزاد في الغلو
من خصه بجهة العلو
وحصر الصانع في السماء
مبدعها والعرش فوق الماء
وأثبتوا لذاته التحيزا
قـد ضل ذو التشبيه فيما جوزا
وعلى هذا كان السلطان محمد الفاتح الذي كان ينـزه الله تبارك وتعالى عن المكان والجهة والكيفية، ويعتقد جواز زيارة قبور الأنبياء والصالحين والتبرك بآثارهم والتوسل إلى الله بذواتهم الفاضلة، شأنه في ذلك شأن الكثير من الملوك والأمراء. وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السلطان حين قال: «لتُفتحنّ القسطنطينية ولنِعم الأمير أميرُها ولنِعم الجيش ذلك الجيش» [(627)].
وقد فُتحت القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح، وما امتداح النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه لفاتح القسطنطينية ولجيشه إلا بشرى عظيمة للأشاعرة والماتريدية الذي كان الفاتح منهم ويعتقد معتقدهم .
وقد نقل جمهرة من أكابر الأعلام الإجماع على هذا الاعتقاد، وممن نقل ذلك :
1) الإمام أبو جعفر الطحاوي المولود سنة 227هـ في عقيدته التي ذكر أنها عقيدة أهل السنة والجماعة حيث قال فيها: «تعالى (الله) عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات» اهـ.
2) وممن نقل إجماع أهل الحق على تنزيه الله عن المكان الشيخ عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي فقد قال ما نصه: «وأجمعوا – أي أهل السنة والجماعة – على أنه – أي الله – لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان»[(628)] اهـ.
3) وقال الشيخ إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجُويني الشافعي ما نصه: «ومذهب أهل الحق قاطبة أن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيّز والتخصص بالجهات»[(629)] اهـ.
4) وقال المفسّر الشيخ فخر الدين الرازي ما نصه: «انعقد الإجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيّز»[(630)] اهـ.
5) وقال الشيخ إسماعيل الشيباني الحنفي ما نصه: «قال أهل الحق: إن الله تعالى متعالٍ عن المكان، غيرُ متمكِّنٍ في مكان، ولا متحيز إلى جهة خلافًا للكرّامية والمجسمة»[(631)] اهـ.
6) وقال سيف الدين الآمدي ما نصه: «وما يُروى عن السلف من ألفاظ يوهم ظاهرها إثبات الجهة والمكان فهو محمول على هذا الذي ذكرنا من امتناعهم عن إجرائها على ظواهرها والإيمان بتنزيلها وتلاوة كل ءاية على ما ذكرنا عنهم، وبيَّن السلف الاختلاف في الألفاظ التي يطلقون فيها، كل ذلك اختلاف منهم في العبارة، مع اتفاقهم جميعًا في المعنى أنه تعالى ليس بمتمكن في مكان ولا متحيّز بجهة»[(632)] اهـ.
7) وللشيخ ابن جَهْبَل الحلبي الشافعي رسالة ألَّفَها في نفي الجهة ردَّ بها على ابن تيمية الحرَّاني. قال ابن جَهْبَل ما نصه: «وها نحن نذكر عقيدة أهل السنة، فنقول: عقيدتنا أن الله قديم أزليٌّ، لا يُشبِهُ شيئًا ولا يشبهه شىء، ليس له جهة ولا مكان»[(633)] اهـ.
8) نقل الشيخ تاج الدين السبكي الشافعي الأشعري عن الشيخ فخر الدين بن عساكر أنه قال: «إن الله تعالى موجود قبل الخلق ليس له قَبْلٌ ولا بَعْدٌ، ولا فوقٌ ولا تحتٌ، ولا يمينٌ ولا شمالٌ، ولا أمامٌ ولا خَلْفٌ». ثم قال ابن السبكي بعد أن ذكر هذه العقيدة ما نصه: «هذا ءاخر العقيدة وليس فيها ما ينكره سُنّي»[(634)] اهـ.
9) ووافقه على ذلك الحافظ المحدّث صلاح الدين العلائي أحَد أكابر علماء الحديث فقال ما نصه: «وهذه العقيدة المرشدة جرى قائلها على المنهاج القويم، والعَقْد المستقيم، وأصاب فيما نزَّه به العليَّ العظيم»[(635)] اهـ.
10) قال الشيخ محمد مَيَّارة المالكي ما نصه: «أجمع أهل الحق قاطبة على أن الله تعالى لا جهة له، فلا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف»[(636)] اهـ.
11) وقال الشيخ أحمد بن غنيم بن سالمٍ النّفراويّ بلدًا، الأزهريّ موطنًا المالكيّ مذهبًا: «ومن أسمائه تعالى الّتي ورد بها السّمع (العليّ) على عباده، و(الكبير) قال تعالى: {…فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ *} [(637)] وانعقد عليهما إجماع الأمّة، ليس علوّه بجهةٍ ولا اختصاصٍ ببقعةٍ ولا كبيرٌ بعظم جثّةٍ، بل العليّ وصفه بمعنى أنّ ذاته موصوفةٌ بأوصاف الجلال والعظمة والكبرياء ، نعته بصفات الجمال، ومن حقّ من عرف لربّه العظمة والكبرياء أن يذلّ ويتواضع بين خلقه، فإنّ من تذلّل لله في نفسه يرفع الله قدره على أبناء جنسه، وعلامة التّواضع قبول الحقّ ممّن قال، والتّكبّر جحد الحقّ، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ… *} [(638)][(639)] اهـ.
12) وقال الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي: «فالحاصل من الكلام فيها أن المسلمين قاطبة أجمعوا على استحالة التجسيم، والحلول، والاستقرار على الله تعالى، وحكم بذلك صريح العقل. وأجمعوا أيضًا على استحالة إرادة الحقيقة فيما ورد من ظواهر الآي والأخبار مما يوهم ذلك»[(640)] اهـ.
13) وقال شيخ الجامع الأزهر سليم البِشْري ما نصه: «مذهب الفرقة الناجية وما عليه أجمع السُّنّيون أن الله تعالى منـزه عن مشابهة الحوادث، مخالف لها في جميع سمات الحدوث ومن ذلك تنـزهه عن الجهة والمكان»[(641)] اهـ.
14) وقال الشيخ يوسف الدجوي المصري عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في مصر ما نصه: «واعلم أن السلف قائلون باستحالة العلو المكاني عليه تعالى، خلافًا لبعض الجهلة الذين يخبطون خبط عشواء في هذا المقام، فإن السلف والخلف متفقان على التنـزيه»[(642)] اهـ.
15) وقال أيضًا: «هذا إجماع من السلف والخلف»[(643)] اهـ.
16) وقال الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي ما نصه: «أجمع أهل الحق من علماء السلف والخلف على تنـزه الحق – سبحانه – عن الجهة وتقدسه عن المكان»[(644)] اهـ.
17) وقال المحدث الشيخ محمد عربي التبان المالكي المدرس بمدرسة الفلاح وبالمسجد المكي ما نصه: «اتفق العقلاء من أهل السنة الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة وغيرهم على أن الله تبارك وتعالى منـزه عن الجهة والجسمية والحد والمكان ومشابهة مخلوقاته»[(645)] اهـ.
18) وممن نقل الإجماع على ذلك في مواضع كثيرة من مؤلفاته ودروسه المتكلم على لسان السلف الصالح، العلامة الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحَبَشي رحمه الله ورضي عنه، وله عناية شديدة بتعليم عقيدة أهل السنة والجماعة للناس فقال ما نصه: «قال أهل الحق نصرهم الله: إن الله سبحانه وتعالى ليس في جهة»[(646)] اهـ.
19) وجاء في مجلة دعوة الحق ما نصه: «يتفق الجميع من علماء سلف أهل السنة وخلفهم على أن ظاهر الاستواء على العرش بمعنى الجلوس على كرسي والتمكن عليه والتحيز فيه مستحيل، لأن الأدلة القطعية تنـزه الله تعالى عن أن يشبه خلقه، أو أن يحتاج إلى شىء مخلوق سواء أكان مكان يحل فيه أو غيره، وكذلك لأنه سبحانه نفى عن نفسه المماثلة لخلقه في أي شىء، فأثبت لذاته الغنى المطلق فقال تعالى: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} »[(647)] اهـ. وها هنا وقفة مهمة تختصر بنقل واحد ما مرّ، وهو ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي الأشعري ما نصه: «ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محالا على الله أن لا يوصف بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى (أي علو القدر والشأن)، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس، ولذلك ورد في صفته العالي والعلي والمتعالي ولم يرد ضد ذلك، وإن كان قد أحاط بكل شىء علما جل وعز»[(648)] اهـ.
قال تاج الدين السبكي ما نصه: «وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة ولله الحمد في العقائد يد واحدة كلهم على رأي أهل السنة والجماعة، يدينون لله تعالى بطريق شيخ السنة أبي الحسن الأشعري رحمه الله»[(649)].
ثم قال : «وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة، وقد ختمنا كتابنا جمع الجوامع بعقيدة ذكرنا أن سلف الأمة عليها وهي عقيدة الطحاوي وعقيدة أبي القاسم القشيري والعقيدة المسماة بالمرشدة (رسالة أبن عساكر) مشتركات في أصول أهل السنة» اهـ.
فالمذهب الحق الذي كان عليه السلف الصالح هو بذاته ما عليه الأشعرية والماتريدية وهو الطريق الوسط المعتدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط… وهم بفضل الله مئات الملايين من المسلمين، فكيف يكون هؤلاء السواد الأعظم على ضلال، وتكون شرذمة هي نحو ثلاثة ملايين على الحق، والصواب أن الرسول عليه السلام أخبر بأن جمهور أمته لا يضلون وذلك من خصائص هذه الأمة، ويدل على ذلك ما رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما: «إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة» وعند ابن ماجه زيادة: «فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم» [(650)].
ولا ينافي ما قررناه من أن الجمهور معصومون من الضلالة ما صح مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» [(651)]. ترجمة ذلك من النظر:
فقد قال الإمام الكبير أبو المظفر الإسفراييني : «سأل بعض أتباع الكرامية في مجلس محمود بن سبكتكين -سلطان زمانه رحمه الله- إمام زمانه أبا إسحاق الإسفراييني رحمه الله عن هذه المسألة (وهي قول المشبهة إن الله مماس العرش وعبر بعضهم بقوله ملاق العرش) فقال – أي السائل -: هل يجوز أن يقال إن الله سبحانه وتعالى على العرش -مراده بذاته- وأن العرش مكانٌ له؟ فقال الإمام رضي الله عنه: لا، وأخرج يديه ووضع إحدى كفيه على الأخرى وقال: «كون الشىء على الشىء يكون هكذا ، ثم لا يخلو أن يكون مثله أو يكون أكبر منه أو أصغر منه، فلا بدّ من مخصص خصه، وكل مخصوص يتناهى (أي يكون له حجم) والمتناهي (الموصوف بالحجم) لا يكون إلها، لأنه يقتضي مخصصًا ومنتهى (حجم) وذلك علم (دليل) الحدوث». فلم يمكنهم أن يجيبوا عنه، فأغروا به رعاعهم حتى دفعهم عنه السلطان بنفسه… ولما ورد عليهم هذا الإلزام تحيروا، فقال قوم منهم: «إنه أكبر من العرش، وقال قوم إنه مثل العرش»[(652)] اهـ.
وقال الحافظ المفسّر عبد الرحمـن بن علي المعروف بابن الجوزي الحنبلي: «كل من هو في جهة يكون مقدَّرًا محدودًا وهو يتعالى عن ذلك، وإنما الجهات للجواهر والأجسام لأنها أجرام تحتاج إلى جهة ، وإذا ثبت بطلان الجهة ثبت بطلان المكان»[(653)] اهـ.
وقال الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الشيباني الحنفي ما نصه: «مسألة: قال أهل الحق: إن الله تعالى متعالٍ عن المكان، غيرُ متمكِّنٍ في مكان، ولا متحيز إلى جهةٍ خلافًا للكرَّامية والمجسمة… والذي يدل عليه قوله تعالى: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [(654)] فالله سبحانه وتعالى نفى أن يكون له مثل من الأشياء، والمكان والمتمكن متساويان قدرًا متماثلاً لاستوائهما في العدد، فكان القول بالمكان والتمكن ردًّا لهذا النص المحكم الذي لا احتمال فيه، وردُّ مثله يكون كفرًا.
ومن حيث المعقول: أن الله تعالى كان ولا مكان ، لأن المكان حادث بالإجماع ، فعُلِمَ يقينًا أنه لم يكن متمكنًا في الأزل في مكان، فلو صار متمكِّنًا بعد وجود المكان لصار متمكنًا بعد أن لم يكن متمكِّنًا، ولا شكَّ أن هذا المعنى حادثٌ وحدوث المعنى في الذات – ذات الله – أمارة الحدث، وذات القديم – الله – يستحيل أن يكون محل الحوادث على ما مرَّ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا»[(655)] اهـ. بتصرف.
وقال الشيخ مصطفى وهيب البارودي الطرابلسي ما نصه: «إن الله تعالى منـزّه الذات عن الاختصاص بالأمكنة والجهات، وهذا أصل من أصول العقائد الإيمانية، لأنه لو احتاج إلى المكان لكان حادثًا، وقد قام الدليل على وجوب القِدَم – لله – واستحالة العدم -عليه- ولأن هذه الجهات هو الذي خلقها»[(656)] اهـ.
وقال المحدث الشيخ محمد بن درويش الحوت البيروتي : «القاعدة الرابعة المخالفة للحوادث: مخالفته تعالى للحوادث وهي عبارة عن نفي المماثلة، فليس بنار ولا نور ولا روح ولا ريح ولا جسم ولا عرض، ولا يتصف بمكان ولا زمان ولا هيئة ولا حركة ولا سكون ولا قيام ولا قعود ولا جهة ولا بعلو ولا بسفل ولا بكونه فوق العالم أو تحته، ولا يقال كيف هو ولا أين هو ولا لماذا فعل كذا أو حكم بكذا.
والعمدة في هذه العقيدة قوله تعالى : {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ *} [(657)].
ومما يدلك عقلا على عدم إدراكه وعدم الإحاطة بكنهه : أنك إذا تأملت في تدبير روحك لجسمك وأنت هي وهي أنت عجزت عن إدراك حقيقته، وعن كيفية تصرفها في جسمك ، وأين قرارها منك حال نومك، ومن أين تأتيك عند يقظتك، وكيف يدخلك الألم والفرح والحزن والغضب والحلم واللطف والرحمة وما شاكل ذلك من العوارض وأنت جازم بوجودها، علمت عظمة الخالق لها والمدبر .
ثم إذا نظرت إلى عدد أصحاب الأرواح وتصرفه فيهم كتصرفه فيك، وتأملت في سعة عقلك وإدراكك للأشياء، وكيف ينمو جسمك ولا تشعر بنموه، ولا تدري من أين يأتيك الطول والعرض في أعضاء جسمك، وكذلك كل جسم نام.
وتأملت في حواسك كيف اختص السمع بالأذن، والبصر بالعين، والنطق باللسان، والذوق بالحلق، والشم بالأنف، والإدراك بالقلب، مع أن كل جسمك فيه لحم وعظم وعصب.
وتأملت الرياح وعدم رؤيتها مع تحقق وجودها واختلاف طباعها.
وتأملت الماء وإيجاده على الدوام وأين قراره وخزائنه؟ والمطر والسحاب والبرق والرعد والنبات، وكيفية رزق الخلق وتغذيتهم وإخراج ما يضرهم من فضلاته وغير ذلك مما لا يحيط به عقل، علمت وأيقنت بعجزك عن معرفة حقيقته تعالى لأن العجز عن إدراك المصنوع مع مشاهدته، أو مشاهدة أثره أعظم دليل على العجز عن إدراك من صنع ذلك، وأنه عظيم فوق جميع ذلك فسبحان من أحاط بكل شىء علما وأحصى كل شىء عددا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا»[(658)] اهـ.
وقال الغزالي : «الدعوى الرابعة: ندعي أن صانع العالم ليس بجوهر متحيز لأنه قد ثبت قدمه، ولو كان متحيزًا لكان لا يخلو عن الحركة في حيزه أو السكون فيه، وما لا يخلو عن الحوادث، فهو حادث كما سبق»[(659)] اهـ.
ثم قال[(660)]: «الدعوى السابعة: ندعي أنه ليس في جهة مخصوصة من الجهات الست، ومن عرف معنى لفظ الجهة ومعنى لفظ الاختصاص فهم قطعًا استحالة الجهات على غير الجواهر والأعراض، إذ الحيز معقول وهو الذي يختص الجوهر به، ولكن الحيز إنما يصير جهة إذا أضيف إلى شىء آخر متحيز، فالجهات ست فوق وأسفل وقدام وخلف ويمين وشمال، فمعنى كون الشىء فوقنا هو أنه في حيز يلي جانب الرأس، ومعنى كونه تحتًا أنه في حيز يلي جانب الرجل، وكذا سائر الجهات، فكل ما قيل فيه إنه في جهة فقد قيل أنه في حيز مع زيادة إضافة، وقولنا الشىء في حيز يعقل بوجهين:
أحدهما: أنه يختص به بحيث يمنع مثله من أن يوجد بحيث هو، وهذا هو الجوهر.
والآخر: أن يكون حالاً في الجوهر، فإنه قد يقال إنه بجهة، ولكن بطريق التبيعة للجوهر، فليس كون العرض في جهة ككون الجوهر، بل الجهة للجوهر أولى، وللعرض بطريق التبعية للجوهر.
فهذان وجهان معقولان في الاختصاص بالجهة، فإن أراد الخصم أحدهما دل على بطلانه ما دل على بطلان كونه جوهرًا أو عرضًا.
وإن أراد أمرًا غير هذا فهو غير مفهوم ، فيكون الحق في إطلاق لفظه لم ينفك عن معنى غير مفهوم للغة والشرع لا العقل.
فإن قال الخصم: إنما أريد بكونه بجهة معنى سوى هذا، فلم ننكره.
ونقول له: أما لفظك فإنما ننكره من حيث أنه يوهم المفهوم الظاهر منه وهو ما يعقل الجوهر والعرض، وذلك كذب على الله تعالى. وأما مرادك منه فلست أنكره فإن ما لا أفهمه كيف أنكره! وعساك تريد به علمه وقدرته وأنا لا أنكر كونه بجهة على معنى أنه عالم وقادر، فإنك إذا فتحت هذا الباب، وهو أن تريد باللفظ غير ما وضع اللفظ له ويدل عليه في التفاهم لم يكن لما تريد به حصر، فلا أنكره ما لم تعرب عن مرادك بما أفهمه من أمر يدل على الحدوث ، فإن كان ما يدل على الحدوث فهو في ذاته محال ويدل أيضًا على بطلان القول بالجهة، لأن ذلك يطرق الجواز إليه (الإمكان) ويحوجه إلى مخصص يخصصه بأحد وجوه الجواز، وذلك من وجهين:
أحدهما: أن الجهة التي تختص به لا تختص به لذاته، فإن سائر الجهات متساوية بالإضافة إلى المقابل للجهة، فاختصاصه ببعض الجهات المعينة ليس بواجب لذاته بل هو جائز فيحتاج إلى مخصص يخصصه، ويكون الاختصاص فيه معنى زائدًا على ذاته، وما يتطرق الجواز إليه استحال قدمه ، بل القديم عبارة عما هو واجب الوجود من جميع الجهات .
فإن قيل: اختص بجهة فوق لأنه أشرف الجهات.
قلنا: أي إنما صارت الجهة جهة فوق بخلقه العالم في هذا الحيز الذي خلقه فيه، فقبل خلق العالم لم يكن فوق ولا تحت أصلاً، إذ هما مشتقان من الرأس والرجل، ولم يكن إذ ذاك حيوان فتسمى الجهة التي تلي رأسه فوق والمقابل له تحت.
والوجه الثاني: أنه لو كان بجهة لكان محاذيًا لجسم العالم، وكل محاذ فإما أصغر منه وإما أكبر وإما مساو، وكل ذلك يوجب التقدير بمقدار، وذلك المقدار يجوز في العقل أن يفرض أصغر منه أو أكبر فيحتاج إلى مقدار ومخصص».
…إلى أن قال[(661)]: «فإن قيل: فإن لم يكن مخصوصًا بجهة فوق فما بال الوجوه والأيدي ترفع إلى السماء في الأدعية شرعًا وطبعًا، وما باله صلى الله عليه وسلم قال للجارية التي قصد إعتاقها فأراد أن يستيقن إيمانها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء فقال إنها مؤمنة؟
فالجواب عن الأول : أن هذا يضاهي قول القائل: إن لم يكن الله تعالى في الكعبة وهو بيته فما بالنا نحجه ونزوره، وما بالنا نستقبله في الصلاة؟ وإن لم يكن في الأرض، فما بالنا نتذلل بوضع وجوهنا على الأرض في السجود؟[(662)] وهذا هذيان.
بل يقال: قصد الشرع من تعبد الخلق بالكعبة في الصلاة ملازمة الثبوت في جهة واحدة، فإن ذلك لا محالة أقرب إلى الخشوع وحضور القلب من التردد على الجهات، ثم لما كانت الجهات متساوية من حيث إمكان الاستقبال خصص الله بقعة مخصوصة بالتشريف والتعظيم وشرفها بالإضافة إلى نفسه، واستمال القلوب إليها بتشريفه ليثيب على استقبالها، فكذلك السماء قبلة الدعاء، كما أن البيت قبلة الصلاة، والمعبود بالصلاة والمقصود بالدعاء منـزه عن الحلول في البيت والسماء ، ثم في الإشارة بالدعاء إلى السماء سر لطيف يعز من يتنبه لأمثاله، وهو أن نجاة العبد وفوزه في الآخرة، بأن يتواضع لله تعالى ويعتقد التعظيم لربه، والتواضع والتعظيم عمل القلب وآلته العقل، والجوارح إنما استعملت لتطهير القلب وتزكيته، فإن القلب خلق خلقه (الله) يتأثر بالمواظبة على أعمال الجوارح، كما خلقت الجوارح متأثرة لمعتقدات القلوب.
ولما كان المقصود أن يتواضع في نفسه بعقله وقلبه، بأن يعرف قدره ليعرف بخسة رتبته في الوجود لجلال الله تعالى وعلوه، وكان من أعظم الأدلة على خسته الموجبة لتواضعه أنه مخلوق من تراب، كلف أن يضع على التراب الذي هو أذل الأشياء وجهه الذي هو أعز الأعضاء، ليستشعر قلبه التواضع بفعل الجبهة في مماستها الأرض، فيكون البدن متواضعًا في جسمه وشخصه وصورته بالوجه الممكن فيه وهو معانقة التراب الوضيع الخسيس ويكون العقل متواضعًا لربه بما يليق به، وهو معرفة الضعة وسقوط الرتبة وخسة المنـزلة عند الالتفات إلى ما خلق منه.
فكذلك التعظيم لله تعالى وضيعة على القلب فيها نجاته، وذلك أيضًا ينبغي أن تشترك فيه الجوارح، وبالقدر الذي يمكنه أن تحمل الجوارح، وتعظيم القلب بالإشارة إلى علو الرتبة على طريق المعرفة والاعتقاد وتعظيم الجوارح بالإشارة إلى جهة العلو الذي هو أعلى الجهات وأرفعها في الاعتقادات، فإن غاية تعظيم الجارحة استعمالها في الجهات، حتى إن من المعتاد المفهوم في المحاورات أن يفصح الإنسان عن علو رتبة غيره وعظيم ولايته فيقول: أمره في السماء السابعة، وهو إنما ينبه على علو الرتبة ولكن يستعير له علو المكان، وقد يشير برأسه إلى السماء في تعظيم من يريد تعظيم أمره، أي أمره في السماء، أي في العلو وتكون السماء عبارة عن العلو، فانظر كيف تلطف الشرع بقلوب الخلق وجوارحهم في سياقهم إلى تعظيم الله وكيف جهل من قلت بصيرته ولم يلتفت إلا إلى ظواهر الجوارح والأجسام، وغفل عن أسرار القلوب واستغنائها في التعظيم عن تقدير الجهات، وظن أن الأصل ما يشار إليه بالجوارح ، ولم يعرف أن المظنة الأولى لتعظيم القلب وأن تعظيمه باعتقاد علو الرتبة لا باعتقاد علو المكان ، وأن الجوارح في ذلك خدم وأتباع يخدمون القلب على الموافقة في التعظيم بقدر الممكن فيها، ولا يمكن في الجوارح إلا الإشارة إلى الجهات، فهذا هو السر في رفع الوجوه إلى السماء عند قصد التعظيم، ويضاف إليه عند الدعاء أمر آخر وهو أن الدعاء لا ينفك عن سؤال نعمة من نعم الله تعالى، وخزائن نعمه السموات، وخزان أرزاقه الملائكة ومقرهم ملكوت السموات وهم الموكلون بالأرزاق، وقد قال الله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ *} [(663)]. والطبع يتقاضى الإقبال بالوجه على الخزانة التي هي مقر الرزق المطلوب، فطلاب الأرزاق من الملوك إذا أخبروا بتفرقة الأرزاق على باب الخزانة مالت وجوههم وقلوبهم إلى جهة الخزانة، وإن لم يعتقدوا أن الملك في الخزانة فهذا هو محرك وجوه أرباب الدين إلى جهة السماء طبعًا وشرعًا. فأما العوام فقد يعتقدون أن معبودهم في السماء، فيكون ذلك أحد أسباب إشاراتهم، تعالى رب الأرباب عما اعتقد الزائغون علوًا كبير .
وأما حكمه صلوات الله عليه بالإيمان للجارية لما أشارت إلى السماء، فقد انكشف به أيضًا إذ ظهر أن لا سبيل للأخرس إلى تفهم علو المرتبة إلا بالإشارة إلى جهة العلو، فقد كانت خرساء كما حكي، وقد كان يُظَنُ بها أنها من عبدة الأوثان، ومن يعتقد الإله في بيت الأصنام، فاستنطقت عن معتقدها فعرفت بالإشارة إلى السماء أن معبودها ليس في بيوت الأصنام كما يعتقدوه أولئك[(664)].
فإن قيل: فنفي الجهة يؤدي إلى المحال، وهو إثبات موجود تخلو عنه الجهات الست ويكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلاً به، ولا منفصلاً عنه، وذلك محال.
قلنا : مسلم أن كل موجود يقبل الاتصال فوجوده لا متصلاً ولا منفصلاً محال، وإن كان موجود يقبل الاختصاص بالجهة فوجوده مع خلو الجهات الست عنه محال.
فأما موجود لا يقبل الاتصال، ولا الاختصاص بالجهة فخلوه عن طرفي النقيض غير محال ، وهو كقول القائل يستحيل موجود لا يكون عاجزًا ولا قادرًا ولا عالمًا ولا جاهلاً فإن أحد المتضادين لا يخلو الشىء عنه، فيقال له إن كان ذلك الشىء قابلاً للمتضادين فيستحيل خلوه عنهما، وأما الجماد الذي لا يقبل واحدًا منهما لأنه فقد شرطهما وهو الحياة، فخلوه عنهما ليس بمحال. فكذلك شرط الاتصال والاختصاص بالجهات التحيز والقيام بالمتحيز. فإذا فقد هذا لم يستحل الخلق عن متضادته، فرجع النظر إذا إلى أن موجودًا ليس بمتحيز، ولا هو في متحيز، بل هو فاقد شرط الاتصال، والاختصاص هل هو محال أم لا؟ فإن زعم الخصم أن ذلك محال وجوده فقد دللنا عليه بأنه مهما بان أن كل متحيز حادث وأن كل حادث يفتقر إلى فاعل ليس بحادث فقد لزم بالضرورة من هاتين المقدمتين ثبوت موجود ليس بمتحيز. أما الأصلان فقد أثبتناهما وأما الدعوى اللازمة منهما فلا سبيل إلى جحدها مع الإقرار بالأصلين.
– فإن قال الخصم: إن مثل هذا الموجود الذي ساق دليلكم إلى إثباته غير مفهوم . فيقال له: ما الذي أردت بقولك غير مفهوم؟
فإن أردت به أنه غير متخيل ولا متصور ولا داخل في الوهم فقد صدقت، فإنه لا يدخل في الوهم والتصور والخيال إلا جسم له لون وقدر، فالمنفك عن اللون والقدر لا يتصوره الخيال ، فإن الخيال قد أنس بالمبصرات فلا يتوهم الشىء إلا على وفق ما رآه ولا يستطيع أن يتوهم ما لا يوافقه.
وإن أراد الخصم أنه ليس بمعقول، أي ليس بمعلوم بدليل العقل فهو محال، إذ قدمنا الدليل على ثبوته، ولا معنى للمعقول إلا ما اضطر العقل إلى الإذعان للتصديق به بموجب الدليل الذي لا يمكن مخالفته، وقد تحقق هذا.
فإن قال الخصم : فما لا يتصور في الخيال لا وجود له؟
فلنحكم بأن الخيال لا وجود له في نفسه، فإن الخيال نفسه لا يدخل في الخيال، والرؤية لا تدخل في الخيال، وكذلك العلم والقدرة، وكذلك الصوت والرائحة، ولو كلف الوهم أن يتحقق ذاتًا للصوت لقدر له لونًا ومقدارًا وتصوره كذلك. وهكذا جميع أحوال النفس من الخجل والوجل والفسق والغضب والفرح والحزن والعجب، فمن يدرك بالضرورة هذه الأحوال من نفسه ويسوم خياله أن يتحقق ذات هذه الأحوال فنجده يقصر عنه إلا بتقدير خطأ ثم ينكر بعد ذلك وجود موجود لا يدخل في خياله فهذا سبيل كشف الغطاء عن المسألة..» اهـ. وهل يستطيع الخيال أن يتصور حالة لا نور ولا ظلام، وذلك حال ما قبل الظلام والنور، فكيف يتصور الخالق؟ فليتنبه.
وقال الإمام الكبير فخر الدين الرازي[(665)]: «البرهان الثاني: في بيان أنه يمتنع أن يكون مختصًا بالحيّز والجهة: أنه لو كان مختصًّا بالحيّز والجهة لكان محتاجًا في وجوده إلى ذلك الحيّز وتلك الجهة وهذا محال، فكونه في الحيز والجهة محال.
بيان الملازمة أن الحيّز والجهة أمر موجود، والدليل عليه وجوه :
الأول : هو أن الأحياز الفوقانية مخالفة في الحقيقة والماهية للأحياز التحتانية ، بدليل أنهم قالوا يجب أن يكون الله تعالى مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز يعني التحت واليمين واليسار، ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات، وإذا ثبت أن هذه الأحياز مختلفة في الماهية وجب كونها أمورًا موجودة لأن العدم المحض يمتنع كونه كذلك .
ا لثاني : هو أن الجهات مختلفة بحسب الإشارات، فإن جهة الفوق متميزة عن جهة التحت في الإشارة، والعدم المحض والنفي الصرف يمتنع تمييز بعضه عن بعض في الإشارة الحسية.
الثالث : أن الجوهر إذا انتقل من حيّز إلى حيّز فالمتروك مغاير لا محالة للمطلوب، والمنتقل عنه مغاير للمنتقل إليه، فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الحيّز والجهة أمر موجود. ثم إن المسمى بالحيّز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه، وأما الذي يكون مختصًّا بالحيّز والجهة فإنه يكون مفتقرًا إلى الحيّز والجهة، فإن الشىء الذي يمكن حصوله في الحيّز مستحيل عقلاً حصوله لا مختصًا بالجهة، فثبت أنه تعالى لو كان مختصًّا بالحيّز والجهة لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير.
وإنما قلنا إن ذلك محال لوجوه :
الأول : إن المفتقر في وجوده إلى الغير يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه، وكل ما كان كذلك كان ممكنًا لذاته، وذلك في حق واجب الوجود لذاته محال.
الثاني : أن المسمى بالحيّز والجهة أمر متركب من الأجزاء والأبعاض لما بيّنا أنه يمكن تقديره بالذراع والشبر، ويمكن وصفه بالزائد والناقص ، وكل ما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته، فالشىء المسمى بالحيّز والجهة ممكن لذاته، فلو كان الله تعالى مفتقرًا إليه لكان مفتقرًا إلى الممكن، والمفتقر إلى الممكن أولى أن يكون ممكنًا لذاته، فالواجب ممكن لذاته، وهو محال.
الثالث : لو كان البارئ تعالى أزلاً وأبدًا مختصًّا بالحيّز والجهة لكان الحيّز والجهة موجودين في الأزل ، فيلزم إثبات قديم غير الله تعالى، وذلك محال بإجماع المسلمين، فثبت بهذه الوجوه أنه لو كان في الحيّز والجهة يلزم هذه المحذورات فيلزم امتناع كونه تعالى في الحيّز والجهة.
فإن قيل : لا معنى لكونه تعالى مختصًّا بالحيّز والجهة إلا كونه تعالى مباينًا عن العالم منفردًا عنه ممتازًا عنه وكونه تعالى كذلك لا يقتضي أمرًا آخر سوى ذات الله تعالى، فبطل قولكم: لو كان تعالى في الجهة لكان مفتقرًا إلى الغير. والذي يدل على صحة ما ذكرناه أن العالم لا نزاع في أنه مختصّ بالحيّز والجهة لا معنى له إلا كون البعض منفردًا عن البعض ممتازًا عنه، فإذا عقلنا هذا المعنى ههنا لا يجوز مثله في كون البارئ تعالى مختصًّا بالجهة والحيّز.
الجواب : أما قوله: الحيّز والجهة ليس أمرًا موجودًا، فجوابه أنا بيّنا بالبراهين القاطعة أنها أشياء موجودة، وبعد قيام البراهين على صحته لا يبقى في صحته شك. وأما قوله: المراد من كونه مختصًا بالحيز والجهة كونه تعالى منفردًا عن العالم أو ممتازًا عنه أو مباينًا عنه، قلنا هذه الألفاظ كلها مجملة، فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية، وذلك مما لا نزاع فيه، ولكنه لا يقتضي الجهة، والدليل على ذلك هو أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيّز والجهة، وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة، فإن امتياز ذات الله تعالى عن الجهة لا تكون بجهة أخرى وإلا لزم التسلسل، وقد نذكر هذه الألفاظ ويراد بها الامتياز في الجهة، وهو كون الشىء بحيث يصح أن يشار إليه بأنه ههنا أو هناك، وهذا هو مراد الخصم من قوله إنه مباين عن العالم أو منفرد عنه وممتاز عنه إلا أنا بيّنا بالبراهين القاطعة أن هذا يقتضي كون ذلك الحيّز أمرًا موجودًا، ويقتضي أن المتحيّز محتاج إلى الحيّز، قوله الأجسام حاصلة في الأحياز فنقول غاية ما في الباب أن يقال الأجسام تحتاج إلى شىء آخر، وهذا غير ممتنع، أما كونه تعالى محتاجًا في وجوده إلى شىء آخر فممتنع، فظهر الفرق وبالله التوفيق» اهـ. من نتائج عقيدة المجسمة
1 – من نتائج عقيدة المجسمة: تكذيب القرءان الكريم، لأن الله تعالى قال: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} ، وهم يقولون: الله جسم سواء قالوا: «جسم كالأجسام»، أو قالوا: «جسم لا كالأجسام»، ففي كلا الحالين كذبوا هذه الآية الكريمة.
2 – من نتائج عقيدة المجسمة: أنهم يعبدون جسما تخيلوه قاعدا فوق العرش، لا وجود له فهم في الحقيقة إنما يعبدون جسما تخيلوه، وهذا الجسم ليس الله لأن الله ليس جسما بالمرة، ولا يتخيل في البال، فيا لخيبتهم ويا لحسرتهم.
3 – من نتائج عقيدة المجسمة: أنهم جوّزوا عبادة الأجسام، فهذا الجسم الذي تخيلوه اعتقدوا أنه الله، وفي الحقيقة ليس هو الله، إذا هم صاروا عابدين لهذا الجسم، وما الفرق بينهم وبين من يعبد الشمس، أو القمر، أو النار، أو القرد، أو الحجر، أو الصنم، فكل هؤلاء يعبدون أجساما، لا فرق بين من يعبد جسما تخيله فوق العرش، وبين من يعبد جسما تخيله في الطائرة في الجو، أو من يعبد جسما وضعه في بطن الوادي، فعند هؤلاء المجسمة تجوز عبادة الأجسام وهذا تكذيب للإسلام.
4 – من نتائج عقيدة المجسمة: إنكار وجود الله، لأن الله قال في القرءان الكريم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} ففي هذه الآية أثبت وجود نفسه، وأنه خالق للعالمين وربهم ومالكهم، والجسم من العالمين. وأما على مقتضى عقيدة المجسمة صار الله جسما، والجسم مخلوق وليس خالقا، وعلى قولهم فخالق العالم جسم، وبهذا أنكروا وجود الله وجعلوا هذا الجسم الذي تخيلوه خالقا للعالم على مقتضى قولهم.
5 – ومن نتائج عقيدتهم: أن الله تعالى مخلوق لغيره، لأنهم اعتقدوه جسما، وأن العالم غير موجود لأن الجسم لا يستطع أن يخلق جسما، فكيف يخلق هذا العالم بأسره، وبما أن العالم موجود فموجِده لا يشبهه بوجه من الوجوه فلا يكون جسما.
6 – من نتائج عقيدة المجسمة: أن الجسم أزلي، وأن الأزلي حادث، فعلى مقتضى عقيدتهم أن الخالق العظيم الذي لا شبيه له ولا مثيل الأزلي الأبدي حادث مخلوق له بداية، لأنه جسم بزعمهم، وأن الجسم الذي اعتقدوه الله أزليا أبديا، وهذا جمع بين كفريتين عجيبتين، وهو تكذيب لقول الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} قال الإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي رضي الله عنه في شرحه على عقيدة ابن الحاجب: «إن الذي يقول بأزلية الأجسام كافر بالإجماع، لأنه إنكار للإجماع القطعي»…
7 – من نتائج عقيدة المجسمة: أن الجسم الحادث المخلوق خالق للكون والعالم، لأنهم اعتقدوا الله جسما. وهذا تكذيب لقول الله عز وجل: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} ومعارض لقول الله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ} …
8 – من نتائج عقيدة المجسمة: أنهم لا يستطيعون إثبات حدوث العالم والأجسام، لأنهم قالوا الله جسم، والجسم مخلوق، فعلى هذا لا يستطيعون أن يثبتوا أن الأجسام حادثة ومخلوقة، لأنهم بهذا يقولون الإله حادث ومخلوق، لأنهم يعتقدونه جسما. وهذا كفر صريح بإجماع أهل الإسلام قاطبة.
9 – من نتائج عقيدة المجسمة الخبيثة: التناقض والتضارب فقولهم: «الله جسم» أي مخلوق، لأنه كل جسم مخلوق ولا يوجد جسم غير مخلوق، وقولهم: «لا كالأجسام» ليس مخلوقا، وهذا تناقض مع الأول، فيصير قولهم «الله مخلوق الله ليس مخلوقا» ولا يقول هذا عاقل، وهذا كفر صريح كما نص عليه إمام السنة سيدنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فيما رواه عنه الحافظ بدر الدين الزركشي في كتابه تشنيف المسامع: «من قال الله جسم لا كالأجسام كفر».
10 – من نتائج عقائد المشبهة والمجسمة: أنه يجوز على مقتضى دينهم وعقيدتهم أن يقال: «الله عاجز لا كالعاجزين» و«الله ضعيف لا كالضعفاء» و«الله جائع لا كالجائعين» و«الله محتاج لا كالمحتاجين» لأنهم قالوا: «جسم» والجسم مخلوق، وهكذا العاجز، والضعيف، والجائع، والمحتاج كلهم مخلوقون عاجزون، ولا يجوز تشبيه الله بهم، ولو قلت «جائع لا كالجائعين» لأنهم بعدما قالوا عنه جسم جعلوه مخلوقا، فلا ينفعهم قولهم بعد ذلك «لا كالمخلوقين» عندما قالوا: «لا كالأجسام».
11 – ومن نتائج عقائد المشبهة والمجسمة: أن الله تعالى كذب حيث قال: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} لأنهم قالوا: «هو جسم لا كالأجسام» و«كيفية لا كالكيفيات» و«جالس لا كجلوسنا» فعلى هذا صارت الآية كذبا، لأنهم شبهوه ببعض المخلوقات، واعتقدوه مخلوقا، والآية تنفي كل ذلك عن الله، ثم مع كل هذا يقولون: «جالس لا كجلوسنا» أو «جسم لا كالأجسام» وهذا شتم وتكذيب له، وتكذيب للإسلام، ولكل الأنبياء، فهل يرضون أن يقال لأحدهم أنت «جدار لا كالجدران» أو أنت «تيس لا كالتيوس» أو أنت «بهيمة لا كالبهائم» فإنهم لا يرضون بذلك، ولو قيل «لا كالبهائم» فكيف أجازوا لأنفسهم أن يكذبوا الله، ويصفوه بصفات خلقه، ويشبهوه بهم، ثم بعد ذلك يقولون «لا كالأجسام لا كجلوسنا» وهذا تناقض مفضوح، فيا لتعاستهم، فأبئس وأسفه بهم من قوم ناقضوا العقل، وكذبوا القرءان وخرجوا بالكلية عن المعقول والمنقول.
12 – ومن فضائح وقبائح نتائج عقيدة المجسمة والمشبهة: أنهم أجازوا لأنفسهم أن يسموا الله بما لم يسم به نفسه، ولا سماه به نبي من الأنبياء، ولا كتاب من الكتب السماوية الصحيحة المنزلة على الأنبياء، ولا أجمعت عليه الأمة، فقولهم: «الله جسم» من أين جاؤوا به؟! وما هو دليلهم على زعمهم؟! ومن هو سلفهم في هذا؟! فالباحث والمطلع يعرف أن التشبيه والتجسيم جاء من اليهود، ومن الفرق الكافرة، وكتب أصحاب الأديان الباطلة، وبتسميتهم لله جسما أجازوا أن يسمى جسدا، وحجما، وكمية، وقمرا، ولحما، وجبلا، وعسلا، وخبزا وزيدا، وبكرا، وعمرا، وهذا دين جديد.
وقد قال الإمام حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي، في عقيدته المشهورة بين المسلمين سلفا وخلفا وشرقا وغربا وتلقوها بالقبول، ما نصه: «ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر» وهذا إجماع قطعي.
وقال إمام أهل السنة والجماعة سيدنا الإمام أبو الحسن علي ابن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه: «لا يجوز تسمية الله إلا بما سمى به نفسه، أو ثبت في السنة الصحيحة، أو أجمعت عليه الأمة».
وقال أبو بكر الباقلاني: «ما أطلق الله على نفسه أطلقناه عليه وما لا فلا».
وقال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي: «أسماء الله توقيفية».
فلا تثبت صفة لله تعالى بقول صحابي أو تابعي، فمن أين جاء هؤلاء بتسمية الله جسما؟! إذا هؤلاء اخترعوا لغة جديدة، وعقيدة محدثة، نسأل الله السلامة في ديننا ودنيانا.
13 – ومن نتائج عقائدهم الباطلة: أن الله تعالى يجوز عليه التغير والتطور والتبدل، فقولهم: «الله جالس على العرش» معناه قبل أن يخلق العرش لم يكن جالسا عليه ثم بعد ما خلقه جلس، وهذا تغير والتغير أكبر علامات الحدوث، وعلى هذا فيكون الله مخلوقا حادثا بزعمهم، وهذا من أصرح الصريح في الكفر، وخلق الله للخلق لم يغير في صفة الله شيئا، فهو أزلي أبدي، والأزلي الأبدي لا يتغير، لأن المتغير يحتاج لمن يغيره، والاحتياجية تنافي الألوهية.
وقد قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في الوصية: «من قال بحدوث صفة من صفات الله، أو شك أو توقف كفر».
14 – ومن نتائج عقائد المجسمة الخطيرة والخبيثة: أنه لا فرق بين المسلم المؤمن المنزه الموحد، وبين عابد الصنم والوثن، وهذا تكذيب للدين والقرءان، لأن الله تعالى قال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ *} .
15 – ومن نتائج عقائدهم: أن من يعبد صنما يعبد جسما، ومن يعبد جسما تخيله فوق العرش يعبد جسما، فالنتيجة واحدة. وهذا دين الكفار وليس دين المسلمين، لأن دين الإسلام هو «الله ليس جسما بالمرة، ولا يتصف بصفات الجسم» وهم ساووا بين الإسلام والكفر.
فائدة:
الوهابي الذي يثبت الحد والجهة والمكان والجلوس لله، لو حصلت بينه وبين عابد الشمس مناظرة، لكان حاله كما سنبين:
– الوهابي يقول لعابد الشمس: أنت دينك باطل، أما أنا ديني هو الصحيح.
– عابد الشمس يقول للوهابي: أنا معبودي شىء محسوس، تعترف بوجوده، ويعترف الناس بوجوده، وبعظم نفعه للأبدان، وللنبات والشجر، والأرض والهواء والماء، أما معبودك فأنت تقول بأنه ليس مرئيا لي ولا لك، إنما أنت تزعم أنه موجود فوق العرش، فكيف يكون ديني باطلا ودينك حقا؟!!!
– الوهابي يقول: لأن الله قال في القرءان: {…أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} .
– عابد الشمس يقول له: أنا لا أؤمن بكتابك، أعطني دليلا حسيا يشهد به الحس، أو دليلا عقليا.
– الوهابي ينقطع ويحتار، لأنه جاهل مشبه لا يعرف بما يجيب؟
أما لو حصل ذلك بين مسلم منزه لله عن الكمية والحد، لأجابه بقوله: إن معبودي موجود لا كالموجودات، ليس له حد ولا كمية، فهو لا يحتاج إلى خالق أوجده، وأما معبودك الذي هو الشمس، فله كمية وحد، فيحتاج إلى من جعله على هذا الحد والكمية، فلا يصلح أن يكون إلها، بل الذي جعله على هذا الحد والكمية هو الذي يصلح أن يكون إلها معبودا، والعقل يقضي بأن الشىء الذي له حد لا بد له ممن جعله على هذا الحد، والمحتاج لغيره يكون عاجزا والعاجز لا يكون رَبًّا.
فيكون السني المنزه لله عن الحد والجسمية قد غلب عابد الشمس وأفحمه.
والحمد لله الذي أيد، ووفق أهل الحق للبراهين القاطعة، والحجج الدامغة الساطعة، ونصرهم على كل الفرق الضالة، والملل الزائغة، وأظهرهم وأعلى شرفهم وقدرهم، فله الحمد والمنة أن جعلنا من أهل الحق الدعاة إلى الجنة.
ختاما جنبنا الله الفتن والأهواء، وثبتنا وأحيانا على عقيدة السنة، وبعثنا عليها.
ـ[530] إشارات المرام من عبارات الإمام (ص/48).
ـ[531] رسالته استحسان الخوض في علم الكلام (ص/47).
ـ[532] سورة الأنعام: جزء من الآية 76 .
ـ[533] رسالته استحسان الخوض في علم الكلام (ص/39 – 40).
ـ[534] التبصير في الدين (ص/160).
ـ[535] سورة يونس: 5 – 6 .
ـ[536] سورة البقرة: 164 .
ـ[537] سورة الأنبياء: جزء من الآية 22 .
ـ[538] سورة المؤمنون: جزء من الآية 91 .
ـ[539] سورة الرعد: جزء من الآية 16 .
ـ[540] سورة ق: 3 .
ـ[541] سورة المؤمنون: 36 .
ـ[542] سورة يس: جزء من الآية 78 .
ـ[543] سورة المؤمنون: 35 .
ـ[544] سورة يس: جزء من الآية 79 .
ـ[545] سورة الروم: جزء من الآية 27 .
ـ[546] سورة الأعراف: جزء من الآية 29، ومن هذه الأدلة قوله تعالى: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا *أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا *} [سورة مريم]. وقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ *} [سورة ق]، وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ *} [سورة غافر]. وقوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ *وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ *} [سورة السجدة].
ـ[547] وهاك تفسيرها على ما يبينه أبو الحسن الأشعري من كتاب الله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *} [سورة لقمان].
ـ[548] سورة يس: 80 .
ـ[549] ومن الأدلة على هذا المعنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ *} [سورة فاطر]، وقوله: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ *} [سورة الزخرف].
ـ[550] بهذا تعرف حقيقة ابن تيمية أنه من الدهرية الهلكى لقوله بأنه ما من حركة إلا وقبلها حركة كما قال في كتابه موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول (1/291، طبع دار الكتب العلمية بيروت: 1985) وهو كفر إجماعًا كما قال ابن دقيق العيد والزركشي والنووي والقاضي عياض وغيرهم كابن حزم في مراتب الإجماع وأنكر ابن تيمية على ابن حزم ذكره الإجماع على تكفير من قال بخالق سوى الله وذلك في كتاب أسماه نقد مراتب الإجماع، وذكر ابن تيمية عقيدته هذه أي قوله بأزلية العالم في ستة من كتبه وهي الموافقة وقد ذكر آنفًا وشرح حديث عمران بن حصين وشرح حديث النـزول ومنهاج السنة النبوية والفتاوى الكبرى ونقد مراتب الإجماع فابن تيمية في الحقيقة دهري قائل بأزلية العالم ومن أراد المزيد فلينظر في كتاب المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية لشيخنا الحافظ عبد الله الهرري رحمه الله. قال الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ}، فإن علماء البيان قالوا: مما يفيد الحصر كون المبتدأ والخبر معرفة= = وفي هذه الآية المبتدأ مضمر أي (هو) والخبر (الأول) وكلاهما معرفة فدل على أنه لا أول بمعنى لا بداية لوجوده أحد سوى الله جل وعلا. ومن اعتقد أن شيئًا من العالم بنوعه أو بأفراده لا بداية لوجوده فقد كذب هذه الآية وفارق الإسلام، ولحق بالفلاسفة والدهرية بإجماع علماء المسلمين.
قال السبكي في حق ابن تيمية:
يحاولُ الحشوَ أنّى سارَ فهوَ لهُ
حثيثُ سيرٍ بشرقٍ أو بمغربه
يرى حوادثَ لا مبـدا لأولها
في الله سبحانه عما يظن به
ـ[551] رواه البخاري في صحيحه: (5/2161)، (5387)، كتاب الطب، باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة» فقال أعرابيّ: يا رسول الله فما بال إبلي تكون في الرّمل كأنّها الظّباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها، فقال: «فمن أعدى الأوّل» اهـ.
ـ[552] رواه البخاري في صحيحه: (6/2511)، (6455)، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة، باب ما جاء في التعريض.
ـ[553] وقد قال بعض الجامدين المتبعين لابن تيمية في التشبيه والتجسيم في كتاب له أسماه (تنبيهات هامة على ما كتبه الشيخ محمد علي الصابوني في صفات الله): «إن تنـزيه الله عن الجسم والحدقة والصماخ واللسان والحنجرة ليس بمذهب أهل السنة بل هو من أقوال أهل الكلام المذموم وتكلفهم» اهـ. (ص/22، طبع ما يسمى بجمعية إحياء التراث الإسلامي الكويت).
ـ[554] سورة الشورى: جزء من الآية 11 .
ـ[555] سورة الإخلاص: 4 .
ـ[556] سورة يس: جزء من الآية 12 .
ـ[557] الحدود الأنيقة للشيخ زكريا الأنصاري: (ص/71).
ـ[558] التعريفات للجرجاني: (ص/103).
ـ[559] كما عرفه الإمام أحمد رضي الله عنه، كتاب اعتقاد الإمام أحمد لأبي الفضل التميمي: (ص/45).
ـ[560] باختصار من تهذيب كتاب الاعتماد في الاعتقاد للمحدث أبي المحاسن القاوقجي الطرابلسي: (ص/11).
ـ[561] سورة الرعد: جزء من الآية 16 .
ـ[562] سورة إبراهيم: 19 – 20 .
ـ[563] سورة إبراهيم: 32 – 34 .
ـ[564] سورة الشورى: 49 – 50 .
ـ[565] والأعراض جمع عرض وهو صفة الجسم، وفي اصطلاح المتكلمين ما لا يقوم بنفسه ولا يوجد إلا في محل يقوم به، وهو خلاف الجوهر، وذلك نحو حمرة الخجل وصفرة الوجل. المصباح المنير: (ص/153).
ـ[566] باختصار من تهذيب كتاب الاعتماد في الاعتقاد للمحدث أبي المحاسن القاوقجي الطرابلسي: (ص/12).
ـ[567] سورة النور: 43 – 44 .
ـ[568] سورة فاطر: جزء من الآية 13 .
ـ[569] سورة الزمر: 5 .
ـ[570] الكليات لأبي البقاء (1/624).
ـ[571] كتاب الاعتماد في الاعتقاد (ص/12-13).
ـ[572] الكليات لأبي البقاء (1/627).
ـ[573] سورة الفرقان: 45 – 46 .
ـ[574] سورة الأنعام: 13 .
ـ[575] سورة الشعراء: 78 – 81 .
ـ[576] سورة الأنعام: جزء من الآية 76 .
ـ[577] سورة طه: 50 .
ـ[578] الكليات لأبي البقاء (1/401).
ـ[579] سورة الأعراف: 185 .
ـ[580] سورة فصلت: 53 .
ـ[581] سورة فاطر: 37 .
ـ[582] إشارات المرام (ص/82-83).
ـ[583] إشارات المرام (ص/85).
ـ[584] ما بين قوسين منقول عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، والشرح من كلام العلامة كمال الدين البياضي.
ـ[585] سورة الشورى: 32 – 33 .
ـ[586] سورة النمل: جزء من الآية 88 .
ـ[587] سورة البقرة: جزء من الآية 255 .
ـ[588] الأكوان هي عبارة عن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وهي معان حادثة، الكليات لأبي البقاء (1/345).
ـ[589] إشارات المرام (ص/91-92).
ـ[590] سورة آل عمران: جزء من الآية 6 .
ـ[591] سورة آل عمران: جزء من الآية 190 .
ـ[592] سورة المؤمنون: 12 .
ـ[593] سورة المؤمنون: جزء من الآية 14 .
ـ[594] أساس التقديس (ص/21 – 22).
ـ[595] بتصرف من مقدمة الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد (ص/20).
ـ[596] مختصر الإفادات في ربع العبادات والآداب وزيادات (ص/489 – 490).
ـ[597] سورة طه: 5 .
ـ[598] سورة الفجر: جزء من الآية 22 .
ـ[599] سورة فاطر: جزء من الآية 10 .
ـ[600] يراجع المواقف (3/32)، المقصد الأول.
ـ[601] دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد (ص/50).
ـ[602] في أساس التقديس (ص/18).
ـ[603] الذين يزعمون الانتساب إلى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وإلا فالإمام أحمد منهم بريء.
ـ[604] وفي ذلك نفي دلالة الحدث، وفتح باب الإلحاد المقيت.
ـ[605] لعله يريد بوصفه لهم بالمحققين أي المبرزين فيهم.
ـ[606] شرح ملا علي القاري (ص/23 – 24).
ـ[607] شرح ملا علي القاري (ص/49 – 57).
ـ[608] الشرح الميسر على الفقهين الأبسط والأكبر المنسوبين لأبي حنيفة، تأليف: محمد بن عبد الرحمـن الخميس (ص/159).
ـ[609] اعتقاد الإمام أحمد (ص/45).
ـ[610] سورة البقرة: جزء من الآية 247 .
ـ[611] سورة المائدة: جزء من الآية 116 .
ـ[612] الغنية في أصول الدين (ص/81).
ـ[613] تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل (ص/220).
ـ[614] تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل (ص/225).
ـ[615] الاقتصاد في الاعتقاد (ص/56).
ـ[616] إحياء علوم الدين (1/107).
ـ[617] في تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل (ص/298).
ـ[618] أساس التقديس (ص/65).
ـ[619] شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري (ص/121).
ـ[620] شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري (ص/119).
ـ[621] شرح النووي على صحيح مسلم (3/16).
ـ[622] شرح النووي على صحيح مسلم (3/19).
ـ[623] الاقتصاد في الاعتقاد (ص/80).
ـ[624] ذكر ذلك السيوطي في الوسائل إلى مسامرة الأوائل: (ص/15)، ومثله ذكر الشيخ محمد بن علاّن الصديقي الشافعي في الفتوحات الربانية: (2/113).
ـ[625] حدائق الفصول (ص/10).ـ[626] رواه الحاكم في المستدرك (4/468)، (8300)، كتاب الفتن والملاحم، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 38)، (1217)، بشر الغنوي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال في مجمع الزوائد (6/218): رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله ثقات.
ـ[627] الفَرْق بين الفِرَق (ص/333).
ـ[628] الإرشاد (ص/58).
ـ[629] تفسير الرازي المسمى بالتفسير الكبير (29/216).
ـ[630] شرحه على العقيدة الطحاوية المسمى بيان اعتقاد أهل السنة (ص/45).
ـ[631] غاية المرام في علم الكلام (ص/194).
ـ[632] طبقات الشافعية الكبرى (9/35)، ترجمة أحمد بن يحيى بن إسماعيل.
ـ[633] طبقات الشافعية الكبرى (8/186)، ترجمة عبد الرحمن بن محمد بن الحسن.
ـ[634] طبقات الشافعية الكبرى (8/185).
ـ[635] الدر الثمين (ص/30).
ـ[636] سورة غافر: جزء من الآية 12 .
ـ[637] سورة البقرة: جزء من الآية 206 .
ـ[638] الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/47).
ـ[639] الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي (ص/80).
ـ[640] فرقان القرءان للقضاعي (مطبوع مع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي) (ص/74).
ـ[641] مجلة الأزهر: (مجلد9/جزء1/ص17 – المحرم سنة: 1357هـ).
ـ[642] المصدر السابق (ص/17).
ـ[643] فرقان القرءان (مطبوع مع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي) (ص/93).
ـ[644] براءة الأشعريين (1/79).
ـ[645] إظهار العقيدة السنية (ص/127).
ـ[646] مجلة دورية تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية العددان (305 – 306)، (ص65 سنة 1415 – 1994م).
ـ[647] فتح الباري (6/136).
ـ[648] في كتابه معيد النعم ومبيد النقم (ص/62).
ـ[649] المقاصد الحسنة للسخاوي (1/ص716) حديث: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»: أحمد في مسنده والطبراني في الكبير وابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبي بصرة الغفاري مرفوعا في حديث «سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها»، والطبراني وحده وابن أبي عاصم في السنة له عن أبي مالك الأشعري رفعه «إن الله أجاركم من ثلاث» وذكر منها «وإن لا تجتمعوا على ضلالة». وأبو نعيم في الحلية والحاكم في مستدركه وأعله واللالكائي في السنة وابن مسنده ومن طريقه الضياء في المختارة عن ابن عمر رفعه «إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدا وإن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار» وهكذا هو عند الترمذي لكن بلفظ «هذه الأمة» أو قال «أمتي» وابن ماجه وعبد في مسنده عن أنس مرفوعا «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم» والحاكم في مستدركه عن ابن عباس رفعه بلفظ «لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة ويد الله مع الجماعة» والجملة الثانية منه عند الترمذي وابن أبي عاصم وغيره عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري موقوفا في حديث «وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة» زاد غيره «فإياكم والتلون في دين الله» والطبري في تفسيره عن الحسن البصري مرسلا بلفظ أبي بصرة.
وبالجملة فهو حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة في المرفوع وغيره فمن الأول «أنتم شهداء الله في الأرض» ومن الثاني قول ابن مسعود: «إذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله فإن لم يجده ففي سنة رسول الله فان لم يجده فيها فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون وإلا فليجتهد» اهـ.
ـ[650] شرح النووي على مسلم: (13/67).
ـ[651] كتابه التبصير في الدين (ص/112).
ـ[652] الباز الأشهب (ص/57).
ـ[653] سورة الشورى: جزء من الآية 11 .
ـ[654] شرحه على العقيدة الطحاوية المسمى بيان اعتقاد أهل السنة (ص/45).
ـ[655] كتابه الفوز الأبدي في الهدي المحمدي (ص/73).
ـ[656] سورة الأنبياء: جزء من الآية 23 .
ـ[657] رسائل في بيان عقائد أهل السنة والجماعة (ص/49 – 50).
ـ[658] الاقتصاد في الاعتقاد: (ص/54 وما بعدها).
ـ[659] الاقتصاد في الاعتقاد (58).
ـ[660] الاقتصاد في الاعتقاد (60).
ـ[661] وهذا أدلة نقلية وإن ذكرت مختصرة من غير بيان الآيات الدالة على المقصود، وقد مر معناه في كلام إمام الهدى أبي منصور الماتريدي وأبي نصر القشيري وغيرهما.
ـ[662] سورة الذاريات: 22 .
ـ[663] ولنا عودة إلى هذا الحديث المتشابه وغيره من المتشابهات إن شاء الله في غير هذا الموضع.
ـ[664] أساس التقديس (ص/44).
ـ[665] وأصل الكفر الستر والجحد لأن الكافر جاحد نعم ربه عليه وساتر لها بكفره. مشارق الأنوار (1/345)، ولسان العرب (5/144)، والقاموس المحيط (ص/605)، ومختار الصحاح (ص/239).
