مسألة النقل و العقل عند الأشاعرة

مسألة النقل و العقل عند الأشاعرة

زعم خصوم الأشاعرة أنهم يقدمون العقل على النقل مطلقا في أمور الشريعة، بدون قيود و شنعوا عليهم في هذه القضية.

قال المدعو سفر الحوالي: “مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل وقد صرح الجويني والرازي والبغدادي والغزالي والآمدي والإيجي وابن فورك والسنوسي وشراح الجوهرة وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض”. انتهى

وأطلق بعضهم القول بأن الأشاعرة يقولون بأن الأدلة النقلية ظنية لا تفيد اليقين.

وهذه من جملة تأليفات هؤلاء وكذبهم الفاضح على الأشاعرة.

والصواب أن أهل السنة الأشعرية يقدمون النقل على العقل و يقولون بأن العقل شاهد على صحة ما جاء به الشرع، ويعتبرون أن التحسين و التقبيح شرعيان لا عقليان، وأنه لا حسن إلا ما حسنه الشرع ولا قبيح إلا ما قبحه الشرع.

قال الغزالي في الاقتصاد في الاعتقاد: “لا معاندة بين الشرع المنقول و الحق المعقول. و عرفوا أن من ظن من الحشوية وجوب الجمود على التقليد، و اتباع الظواهر ما أتوا به إلا من ضعف العقول و قلة البصائر. و ان من تغلغل من الفلاسفة و غلاة المعتزلة في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أتوا به إلّا من خبث الضمائر. فميل أولئك إلى التفريط و ميل هؤلاء إلى الافراط، و كلاهما بعيد عن الحزم و الاحتياط”. انتهى

وقال الغزالي أيضا: «وأهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولاً بآيات الله تعالى من القرآن، ثم بأخبار الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية». انتهى

وهذه القاعدة أقرّ بها متأخري الحنابلة، فقد قال ابن حمدان الحنبلي في مقدمة نهاية المبتدئين ما نصه: “وجعل العقل المرعي تبعا موافقا للنقل الشرعي في كل حال”. انتهى

فالتعارض لا يتصور بين العقل والنص القطعي الثبوت، القطعي الدلالة، لامتناع التعارض بين يقينيين، وإنما يتصور التعارض بين العقل والنص غير قطعي الثبوت أو غير قطعي الدلالة – أي المتشابه، وهو بحسب وضع اللغة العربية يحتمل أكثر من معنى-. فالذي قرره الأشاعرة من تقديم العقل على النقل متعلق فقط فيما إذا تعارض ما هو ثابت بالعقل ثبوتا قطعيا مع نص غير قطعي الثبوت أو غير قطعي الدلالة.

فاتفقوا على أنَّ النصوص لا تؤول إلا لدليل سمعي ثابت أو دليل عقلي قاطع فقالوا لا يجوز تأويل النص لغير ذلك وإن ذلك عبث والنصوص تُصان عن العبث، ذكر ذلك كثير منهم كصاحب المحصول المفسّر الأصولي فخر الدين الرازي.

وأكثر هؤلاء الفرق طعنا في الأشاعرة في هذه المسألة هم الكرامية والمشبهة والحشوية، وهؤلاء يأخذون بظاهر الأخبار ولا يوفّقون بين النصوص المحكمة و المتشابهة، بل هم لا يميزون بين ما يجوز عقلا لله وما يقطع العقل باستحالته عنه عز وجل.

وقد حذر ابن رجب الحنبلي في “فضل علم السلف على الخلف” من اتباع طريقة مقاتل ابن سليمان في نفي العقل مطلقا عند الأخذ بظواهر النصوص فقال: “ومنهم من أثبت للَّه صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة. وقد أنكر السلف على مقاتل قوله في رده على جهم بأدلة العقل وبالغوا في الطعن عليه. ومنهم من استحل قتله، منهم مكي بن إبراهيم شيخ البخاري وغيره. والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل: ولا يصح من أحد منهم خلاف ذلك البتة، خصوصاً الإمام أحمد ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل من الأمثال لها: وإن كان بعض من كان قريباً من زمن الإمام أحمد فيهم من فعل شيئاً من ذلك اتباعاً لطريقة مقاتل فلا يقتدى به في ذلك إنما الإقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك. ومالك. والثوري والأوزاعي. والشافعي. وأحمد. واسحق. وأبي عبيد. ونحوهم”. انتهى

وهذه القاعدة أقر بها أيضا ابن تيمية نفسه رغم أنه حاول نقضها في كتاب “درء تعارض النقل والعقل” حيث قال: “إن كان أحد الدليلين المتعارضين قطعيا دون الآخر فإنه يجب تقديمه باتفاق العقلاء سواء كان هو السمعي أو العقلي فإن الظن لا يرفع اليقين، وأما إذا كانا جميعا ظنيين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجَّحَ كان هو المُقدَّم سواء كان سمعيا أو عقليا”. انتهى

و قال أيضا : ” وإذا قُدِّر أن يتعارض قطعيٌّ وظني لم ينازع عاقلٌ في تقديم القطعي، لكن كون السمعي لا يكون قطعيا دونه خرط القتاد”. انتهى

وقال في موضع آخر: “إما أن يريد به القطعيين فلا نسلّم بإمكان التعارض حينئذ وإما أن يريد به الظنيين، فالمقدَّم هو الراجح مطلقا، وإما أن يريد به أن أحدهما قطعي، فالقطعي هو المقدّم مطلقا”

وقال في الرسالة التدمرية: “والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم”. انتهى

وقال في مجموع الفتاوى: “القرآن قد دَلَّ على الأدلة العقلية التي يعرف بها الصانع وتوحيده وصدق رسوله، وبه يعرف إمكان المعاد، ففي القرآن من بيان أصول الدين التي يعلم مقدماتها بالعقل الصريح ما لا يوجد مثله في كلام أحد من الناس، بل عامة ما يأتي به حذاق النظار من الأدلة العقلية يأتي القرآن بخلاصتها وبما هو أحسن منها بالحق وأحسن تفسيرًا، قال تعالى: “وَلَا ‌يَأْتُونَكَ ‌بِمَثَلٍ ‌إِلَّا ‌جِئْنَاكَ ‌بِالْحَقِّ ‌وَأَحْسَنَ ‌تَفْسِيرًا” -الفرقان: 33-

فابن تيمية يأخذ طرفا من قواعد عقائد أهل السنة ويُفصِّلها بحسب آراءه ويطرح منها ما يخالف عقائده كعادته في نقض العقائد السنية.

وأما الأشاعرة فهم لم يخالفوا في هذا الباب، ونصوصهم واضحة في هذا الباب:

– قال الشيخ الفقيه شيث بن إبراهيم المالكي المتوفى سنة 598 هـجري ما نصه: “أهل الحق جمعوا بين المعقول والمنقول أي بين العقل والشرع، واستعانوا في درك الحقائق بمجموعهما فسلكوا طريقًا بين طريقي الإفراط والتفريط”. انتهى

– قال الامام المجتهد تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 756 هجرية في كتابه السيف الصقيل: “الاشعرية بنت اصولها على الكتاب والسنة والعقل الصحيح”. انتهى

– قال الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقّه ما نصّه: “وإذا روى الثقة المأمون خبرًا متّصل الإسناد رُدّ بأمور: أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوَّزات العقول وأمّا بخلاف العقول فلا.

والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ، والثالث: أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون صحيحًا غير منسوخ وتجمع الأمة على خلافه” انتهى

– قال أبو بكر الباقلاني في الإنصاف 1/3 ما نصه:” وأن يعلم : أن طرق المباين عن الأدلة التي يدرك بها الحق والباطل خمسة أوجه : كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وما استخرج من هذه النصوص وبنى عليها بطريق القياس والاجتهاد وحجج العقول” انتهى.

وهذه القواعد معلومة حتى عند أصحاب الحديث، فهم يحكمون على الحديث بالوضع حتى ولو تأكدوا من صحة سنده. فصحة السند لا تعني بالضرورة صحة متن الحديث وأن يكون مقبولا، كما قاله الإمام النووي في كتابه التقريب : ” إن صحة الإسناد لا تقتضي صحة المتن”. انتهى

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه شرح نخبة الفكر: ” ومن القرائن التي يدرك بها الوضع ما يُؤخذ…. من حال المروي كأن يكون مناقضاً لنص القرآن أو السُّنة المتواترة أو الإجماع القطعي أو صريح العقل، حيث لا يقبل شئ من ذلك التأويل”. انتهى

وهذا يعني أن الحديث الصحيح الإسناد قد يلحقه شذوذٌ أو علة في متنه ما يستوجب تضعيفه، ومن تلك الشذوذ مخالفته لموجبات العقول لأن الشرع إنما يَرِدُ بمجوَّزات العقول.

وأصل ذلك أشار إليه ابن مسعود رضي الله عنه لما قال: “ما أنت بمحدِّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”. رواه مسلم.

وباب العقائد لا ينفصل عن هذه القواعد السنية، وما تخبط المشبهة في اثبات صفات يحيل العقل نسبتها لله إلا بسبب انكارهم لدور العقل، وجعل النصوص المتشابهة متناقضة مع النصوص المحكمة. فبعضهم يثبت الثقل لله وبعضهم يثبت الهرولة و الأذية والأصابع والجنب،وفي الحقيقة فهؤلاء يقدمون الهوى و ليس النقل، بل هم جعلوا النصوص القطعية الثبوت متضاربة فيما بينها.

وأما الظواهر التي شنع بها المجسمة على الإمام السنوسي فهي ما يظهر منها للقارئ ويفهمه هو وليس ما تُظهره هي للقارئ فليس هذا الظهور مستنده ناشئ من أصل النص. فالمشبه قد يقرأ بعض الآيات ويفهم هو منها التجسيم، والحلولي قد يظهر له منها الحلول و الاتحاد، و الجهمي يظهر له منها أن الله في كل مكان. وكل هذا مما لا خلاف فيه أن النص لا يُظهره للقارئ بل ذلك بسبب فهمه المعوج وبحسب خلفياته و أسسه المعرفية عند قراءته للنص.

ثم أليس الله قال في القرٱن الكريم: “يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ”. انتهى

فهل يقول هؤلاء أن القرٱن فيه ضلال والعياذ بالله؟ بل بسبب تشبث هؤلاء بما يظهر لهم من تلك النصوص اعتمادا على أفهامهم السقيمة.

وما قاله السنوسي قريب مما قاله ابن تيمية في مجموع الفتاوى، ونص عبارته: ” إن ما خالف العقل الصريح فهو باطل ، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس أو يفهمون منها معنا باطلًا ، فالآفة منهم، لا من الكتاب والسنة”. انتهى

وأقرب من ذلك ما قاله ابن عثيميين في تفسيره، كما في الصورة المرفقة