شبهة موافقة بعض الأشاعرة للمجسمة في مسألة الكلام

شبهة موافقة بعض الأشاعرة للمجسمة في مسألة الكلام

أثبت الأشاعرة لله عز وجل كلاما قائما بذاته وهو عندهم صفة أزلية أبدية ليس حرفا ولا لغة ولا صوتا، لا يبتدأ ولا يختتم ولا يتخلله سكوت. وهذا الكلام القديم يسمى عندهم أيضا الكلام النفسي.

كما أثبتوا أيضا الكلام اللفظي، وهو المحدث بدون كسب لأحد فيه، و الذي أنزله الله على بعض أنبياءه عن طريق الوحي.

وعليه فالقرٱن عندهم له اطلاقان:

-الأول: هو كلام الله الأزلي الذي ليس حرفا ولا لغة وهو غير مخلوق ولا يحل في المخلوقات.

-الثاني: هو اللفظ المنزل بلغة العرب المركب من حروف وكلمات والذي يُحفظ في الصدور ويكتب في المصاحف، وهو لا شك مخلوق، لكن لا يُطلق القول بخلق القرٱن منعا للمعنى الباطل، وحتى لا يتوهم العوام ان كلام الله الذي هو صفة ذاته مخلوق.

وهذا ما عليه الأشاعرة قولا واحدا، لكن ذكر بعض المتأخرين منهم العضد الايجي والجلال الدواني قولين ٱخرين، حاولا من خلالهما تقريب مذهب مجسمة الحنابلة، دون القول بمقالتهم الفاسدة المتضمنة للقول بقدم الحروف.

قال محمد بن صالح الغرسي في كتابه “منهج الأشاعرة بين الحقيقة والأوهام” ما نصه: ” وبه يتبين أنهم أثبتوا لله تعالى نوعين من الكلام. الأول : الكلام المعنوي النفسي ، وقد اتفقوا على قدمه وقيامه بالله تعالى. والثاني : الكلام اللفظي ، وقد اختلفوا فيه ، فذهب فريق من المحققين منهم إلى قدمه أيضا وقالوا : إن كلام الله تعالى عبارة عن اللفظ والمعنى القديمين القائمين بالله تعالى ، وذهب جمهورهم إلى حدوث الكلام اللفظي بمعنى أن الله تعالى تفرد بخلقه بدون كسب لأحد فيه وهو كلام الله على الحقيقة دون المجاز ، ولم يذهب أحد منهم إلى ما ذهب إليه جمهور الحنابلة من أن كلام الله تعالى عبارة عن الحروف والأصوات ، قالوا : لأنه من البديهي أن ذلك يقتضي الترتيب والتعاقب المقتضي للحدوث ، وكلام الله تعالى منزه عن الحدوث باتفاق منا ومنهم”. انتهى

1- مقالة العضد الإيجي المتعلقة بكلام الله عز وجل

قرر العضد الإيجي في كتابه المواقف قول الأشاعرة عامة حول مسألة كلام الله عز وجل، فقال: ” قال الحنابلة كلامه حرف وصوت يقومان بذاته وأنه قديم وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلا الجلد والغلاف قديمان فضلا عن المصحف فهؤلاء صححوا القياس الأول ومنعوا كبرى القياس الثاني، وهذا باطل بالضرورة فإن حصول كل حرف من الحروف التي تركب منها كلامه على زعمهم مشروط بانقضاء الآخر منها فيكون له أي للحرف المشروط أول فلا يكون قديما وكذا يكون للحرف الآخر انقضاء فلا يكون هو أيضا قديما بل حادثا فكذا المجموع المركب منها أي من الحروف التي لها أول زمان وجود وآخره أو اجتمعا معا فيها فيكون حادثا لا قديما والكرامية وافقوا الحنابلة في أن كلامه حروف وأصوات وسلموا أنها حادثة لكنهم زعموا أنها قائمة بذاته تعالى لتجويزهم قيام الحوادث به”. انتهى

وقال في المواقف أيضا: “نثبت أمرا وراء ذلك وهو المعنى القائم بالنفس ونزعم أنه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام “. انتهى

فقد نصّ العضد هنا على أنَّ كلام الله ليس هو نفس العبارات، وأن الكلام النفسي عنده هو المعبَّر عنه بالعبارات.

ولعضد الدين الإيجي أيضا رسالة مفردة في مسألة الكلام شرحها العلامة ابن كمال باشا، و غاية أمر الإيجي فيها أنه كان يحقق مباحث تلك المسألة، فلذلك أفردها دون كتبه الكلاميَّة المعتبرة.

ومن تلك المباحث رده على خصوم الأشاعرة ممن نسب لهم القول ان ما في المصحف ليس كلام الله و أنه مجاز عن صفة الكلام، فأتى بمبحث قرر فيه أن الذي بين الدفتين هو كلام الله تعالى، ولا يعبر عنه بأنه مجاز ولا يقال عنه أنه ليس كلام الله، و أنه لا يصح اطلاق القول بحدوثه، حتى لا يتوهم الشخص ان كلام الله حادث. كما حاول أيضا تقريب مذهب مجسمة الحنابلة وتصحيح مقالتهم الفاسدة. فنازع في مبحثه حقيقة الصوت وكونه من الأعراض السيالة، فزعم أن الصوت القديم قائم بذات الله تعالى، ولا يتخلله ترتيب بخلاف المجسمة.

فالعضد الإيجي لم يقل بقدم الأصوات والحروف، كما زعم بعض المدعين، ولا وافق مجسمة الحنابلة في قولهم، بدليل

ما قاله ابن كمال باشا في شرحه لمقالة العضد، ونص عبارته : ” و هو قديم لا كما زعمت الحنابلة من قدم النظم المؤلف المرتب الأجزاء ، فإنه بديهي الاستحالة ، للقطع بأنه لا يمكن التلفظ بالسين من ” باسم الله” إلا بعد التلفظ بالباء”. انتهى

و أيضا ما قاله الكلنبوي في حاشيته على ” شرح العقائد العضدية، ونصه ” من أنه لا يمكن حمل مذهب الحنابلة على مذهب المصنف “. انتهى

وأيضا ما قاله التفتازني في شرحه على العضدية: “ومرادهم أن القرآن اسم للنظم والمعنى شامل لهما، وهو قديم لا كما زعمت الحنابلة من قدم النظم المؤلف المرتب الأجزاء، فإنه بديهي الاستحالة، للقطع بأنه لا يمكن التلفظ بالسين من ” بسم الله ” إلا بعد التلفظ بالباء، بل معنى أن اللفظ القائم بالنفس ليس مرتب الأجزاء في نفسه”. انتهى

وعليه فما ادعاه الشمس السفاريني من ان صاحب المواقف نسب لله الكلام بحرف وصوت، فهو باطل، ونص عبارته:” ممن ذهب إلى مذهب السلف و الحنابلة من قدم كلامه تعالى و أنه بحرف و صوت من متأخري محققي الأشاعرة : صاحب المواقف ، و إن رد عليه جمع منهم من متحذلق و مجازف” . انتهى

وهذا راجع لقصور فهمه وقلة اطلاعه على مباحث الإيجي. ثم ان القول بقدم الصوت دون الحروف هو مذهب بعض العلماء، وهو مع كونه مذهبا مغلوطا، إلا أنه لا يقتضي تضليلا ولا تكفيرا.

وقد حاول التفتازني في شرح النسفيَّة، تبسيط كلام العضد بقوله: “وذهب بعض المحققين -يعني شيخه العضد- إلى أن المعنى في قول مشايخنا: كلام الله تعالى معنى قديم، ليس في مقابلة اللفظ حتى يراد به مدلول اللفظ ومفهومه، بل في مقابلة العين، والمراد به ما لا يقوم بذاته كسائر الصفات”. انتهى

أي أن المعنى القديم هو ما لا يقوم بذاته كسائر الصفات، خلافا للأعيان القائمة بذاتها، وهو اطلاق ليس في مقابلة اللفظ، بل هو شامل للفظ والمعنى. واللفظ في الاصطلاح، هو الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية.

قال الشيخ حسن العطار في حاشيته على الجلال المحلي ما نصه: ” وَمِنْ ثَمَّ اُشْتُهِرَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ أَعْرَاضٌ سَيَّالَةٌ تَنْقَضِي بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ بِهَا وَاللَّفْظُ نَوْعٌ مِنْ الصَّوْتِ”. انتهى

ولما كان تعاقب الحروف وترتيبها يتعارض عند العضد مع القول بقدم الكلام النفسي، عُلم أن اللفظ عنده هو الصوت القديم، دون الحروف.

جاء في حاشية الكلنبوي على شرح الجلال الدواني على العقائد العضدية لإسماعيل بن مصطفى، المعروف بشيخ زاده الكلنبوي، ما نصه: “وعلى ما هو ظاهر كلام متقدمي الأشاعرة من أن الألفاظ والحروف ليست كلام الله تعالى، بل معانيها، وعلى ما أوّل به المصنف كلام الشيخ – أي العضد- من أن الأصوات مع كونها من الأعراض السيالة، قائمة بذاته تعالى من غير ترتيب”. انتهى

فالعضد كما قال شراح عقيدته، يثبت كلاما نفسيا شاملا للمعنى واللفظ بمعنى الصوت القديم الذي لا يتخلله تعاقب الحروف، خلافا لمذهب المجسمة.

وهذا الذي قاله الإيجي، وافقه عليه بعض الأشعرية ورده ٱخرون.

ومن الذين وافقوه:

– الشريف الجرجاني حيث قال: “وهذا البحث، وإن كان ظاهره، خلاف ما عليه متأخرو القوم لكن بعد التَّأمُّل يُعرف حقيقته”. انتهى

– الشيخ محمد العربكندي. قال محمد بن صالح الغرسي في كتابه “منهج الأشاعرة بين الحقيقة والأوهام” ما نصه: “وقد كان شيخنا المحقق الكبير الشيخ محمد العربكندي يؤيد هذا المذهب ويذهب إليه وهو المختار عندنا”. انتهى

ومن الذين ردوا كلامه:

-السعد التفتازاني، فرغم أنه أقر بأن المبحث الذي ذكره العضد أحسن من مذهب مجسمة الحنابلة، فقد أشار في المقابل لضعفه. فقد جاء في شرح الطيب بن كيران على توحيد الإمام بن عاشر ما نصه: ” قال السعد، وهذا أحسن لمن يتعقل لفظا قائما بالنفس غير مؤلف من الحروف المنطوقة والمتخيلة المشروط وجود بعضها بعدم البعض، ونحن لا نتعقله”. انتهى

و قال السعد التفتازانِيّ في شرح المقاصد: “وبالجملة لا خلاف لأرباب الملل والمذاهب فِي كون البارِي تعالى متكلمًا، وإنّما الخلاف في معنى كلامه وفي قدمه وحدوثه، فعند أهل الحق كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف بل صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى منافية للسكوت والآفة كما في الخرس والطفولية، هو بها آمِرٌ ناهٍ مخبرٌ وغير ذلك، يُدَلُّ عليها بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة”. انتهى

– الشيخ زكريا الأنصاري، قال في حاشيته :” قوله: “وهو جيد لمن يتعقل لفظا قائما بالنفس غير مؤلف” لا استحالة في ذلك وقياس الغائب على الشاهد غير مفيد”. انتهى

-الخادمي، قال في برقية محمودية: “قيل هو سفسطة”

وفي الاجمال فالذي نازع فيه العضد الجمهورَ هو إثباته شيئاً سمَّاه اللفظ، وهو عنده الصوت القديم دون الحروف، والنزاع معه هو في إثبات هذا المسمى لله تعالى، فمن جهة لا دليل عليه، ومن جهة أخرى أنَّه غير متعقل، كما قال السعد التفتازني.

2- مقالة جلال الدين الدواني المتعلقة بكلام الله عز وجل

قال جلال الدين الدواني المتوفى سنة 918 هـجري في شرح العقائد العضدية، ما نصه: “فالحنابلة ذهبوا إلى أن كلام الله تعالى ؛ حروف وأصوات وهي قديمة. ومنعوا أن كل ما هو مؤلف من حروف وأصوات مرتبة فهو حادث. بل قال بعضهم : بقدم الجلد والغلاف. قلت : فما بالهم لم يقولوا بقدم الكاتب والمجلِّد وصانع الغلاف ؟”. انتهى

ثم تعرض الدواني لقول العضد الإيجي بقدم اللفظ فقال: “كلام الله تعالى هو الكلمات التي رتبها الله تعالى في علمه الأزلي بصفة الأزلية التي هي مبدأ تأليفها وترتيبها، وهذه الصفة قديمة وتلك الكلمات المرتبة أيضا بحسب وجودها العلمي أزلية بل الكلمات و الكلام مطلقا كسائر الممكنات أزلية بحسب وجودها العلمي، وليس كلام الله تعالى إلا ما رتبه الله تعالى بنفسه من غير واسطة والكلمات لا تعاقب بينها فى الوجود العلمي حتى يلزم حدوثها وإنما التعاقب بينها فى الوجود الخارجي، وهو بحسب هذا الوجود كلام لفظي”. انتهى

وقال الخادمي في برقية محمودية ما نصه: “قال المحقق الدواني؛ الكلام ليس كل ما ذكر من المذاهب بل هو كلمات رتبها الله في علمه الازلي بصفته الازلية التي هي مبدأ التأليف والترتيب، فالكلمات لا تعاقب لها في الوجود العلمي بل التعاقب انما هو في الخارج الذي هو كلام لفظي، ثم قال هذا الوجه سالم مما لزم على المذاهب المنقولة”. انتهى

وتفسير الدواني فيه تكلف، ومخالفة لقواعد الأشعرية لأن علم الله أزلي شامل لجميع الممكنات قبل وجودها، و علمه بها ليس فيه اثبات لوجودها لأن العلم كاشف للممكنات وليس موجدا لها.

فإطلاقه لمصطلح الوجود العلمي، غير دقيق، ويلزم منه اعتبار التعلقات قديمة بإعتبار وجودها فى العلم الأزلي القديم، و أما باعتبار وجودها فى الخارج فهي عنده حادثة.

وهذا مع أنه قول لا اعتبار له من أصله، فهو مخالف لقول المجسمة بقدم الصوت والحرف.

وعليه فلا يوجد أشعري واحد وافق المجسمة و المشبهة في عقائدهم حول كلام الله عز وجل، أو قال بقدم الحروف.