شرف علم الكلام وفضله

شرف علم الكلام وفضله

قال الإمام المجتهد عبد العزيز بن بزيزة المالكي في كتاب “الإسعاد بتحرير مقاصد الإرشاد” ما نصه:” وقد انعقد إجماع أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاطبة على أنه يجب أن يكون في كل قطر من أقطار المسلمين من يعرف هذا الفن المتعلق بالتوحيد بالأدلة العقلية والبراهين القطعية ليَرُدَّ شُبَهَ الملحدين، ويناظر من عساه أن يتعرض لإفساد عقائد المسلمين، فإن لم يقم بذلك القطر قائم أثم جميعُهم على حكم فروض الكفايات”. انتهى

و قال الإمام المجتهد ابن عرَفة المالكي عند شرحه لقول الله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» سورة التوبة الآية 73، ما نصه: “”جَاهِدِ الْكُفَّارَ” بالسَّيْفِ “وَالْمُنَافِقِينَ” بالحُجَّة، “وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ” في الجهادين جميعاً ولا تحابهم، وكل من وُقف منه على فساد في العقيدة فهذا حكم ثابتٌ فيه، يُجاهَد بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها، فيؤخذ من الآية طلب قراءة علم الكلام، فضلا عن جوازه”. انتهى

و قال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي في كتابه “استحالة المعية بالذات و ما يضاهيها من متشابه الصفات” صحيفة 12 ما نصه: “و محمل القول بأنه – أي علم الكلام- فرض كفاية فيما نقله ابن عرفة عن غير واحد أن ما يحصل به التعرض من علم الكلام لمذاهب الضالين و تقرير شبههم و تشكيكاتهم و ردها و حلها و ابطال دعاويهم مثل ما في كتب الفخر الرازي و طوالع البيضاوي و مواقف العضد و مقاصد السعد و كبرى السنوسي، فرض كفاية يجب على أهل كل قطر يشق الوصول منه إلى غيره أن يكون فيهم من له معرفة بهذا في حق المتأهلين ذوي الأذهان السليمة و يكفي قيام بعضهم به” . انتهى

و قال الآلوسي في تفسير قوله تعالى “إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ” – البقرة: 164- ما نصه: “وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله”. انتهى

و قال الأستاذ أبو إسحاق ابن الدهان متكلم الأندلس: ” عدد الناس نيفا على الثلاثين والسبع مائة موضعا في كتاب الله يحض فيها ربنا سبحانه على النظر والاستدلال، وينبه على ذم التقليد”. انتهى

بل ان علم الكلام السني أمر به الكثير من السلف لنقض الكلام المذموم الذي يشتغل به أهل البدع، فقد قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: “وقد قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم فان أقروا به خصموا، وان جحدوا فقد كفروا”. انتهى

وهذا الأمر بالمناظرة مروي أيضا عن مالك وأحمد والشافعي، كما قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: “وكذلك قال مالك رحمه الله والشافعي وأحمد فى القدري ان جحد علم الله كفر ولفظ بعضهم ناظروا القدرية بالعلم فان أقروا به خصموا وان جحدوه كفروا”. انتهى

وقال عبد الله في كتاب السنة، الذي يروج له المانعون لعلم الكلام، ما نصه:” حُدِّثْتُ، عَنْ حَوْثَرَةَ بْنِ أَشْرَسَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَلَّامًا أَبَا الْمُنْذِرِ، غَيْرَ مَرَّةٍ، وَهُوَ يَقُولُ: ” سَلُوهُمْ عَنِ الْعِلْمِ، هَلْ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، فَإِنْ قَالُوا: قَدْ عَلِمَ، فَلَيْسَ فِي أَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَعْلَمْ، فَقَدْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ “. انتهى

فهذا العلم أصله كان موجودا بين الصحابة متوفرًا بينهم أكثر ممن جاء بعدهم، والكلام فيه بالرد على أهل البدع بدأ في عصر الصحابة، فقد ناظر الإمام علي كرم الله وجهه الخوارج، ومناظرته لهم نقلها ابن كثير في البداية والنهاية.

وأقام الحجة على أربعين رجلاً من اليهود المجسمة بكلام نفيس مُطْنَبٍ، نقله أبو نعيم في حلية الأولياء.

وقطع الخليفة عمر بن عبد العزيز أصحاب شَوْذَب الخارجي، في مناظرة نقلها ابن الأثير في الكامل وألّف رسالة في الرد على المعتزلة وهي رسالة وجيزة.

كما ناظر الأوزاعي غيلان الدمشقي فكسره في مناظرة مشهورة نقلها الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق.

و ناظر إياس بن معاوية المزني القدرية، كما نقل ذلك الحافظ أبو نُعَيْم في “الحلية”، حيث روى عن حبيب بن الشهيد قال: “سمعت إياس بن معاوية يقول: ما كلمت أحداً من أصحاب الأهواء بعقلي كله إلا القدرية، فإني قلت لهم: ما الظلم فيكم؟ قالوا: أن يأخذ الإنسان ما ليس له، فقلتُ لهم: فإن لله عز وجل كل شىء” انتهى

وقطع ربيعةُ الرأي شيخُ الإمام مالك، غَيلانَ بن مسلم أبا مروان القدري. كما نقل ذلك أبو القاسم اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة.

ويعتبر الإمام أبو حنيفة أول من تكلّم من الفقهاء في أصول الدين بالتوسّع وأتقنها بقواطع البراهين على رأس المائة الأولى، وثبت عنه أنه ناظر الخوارج حتى بعد اشتغاله بالفقه.

ومن أبرز علماء السلف المشتغلين بهذا العلم الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، فقد قال الحافظ البيهقي في كتابه “مناقب الشافعي ” ما نصه : “وقرأت في كتاب أبي نعيم الأصبهاني حكاية عن الصاحب بن عباد أنه ذكر في كتابه بإسناده عن إسحاق أنه قال: قال لي أبي: كلَّم الشافعي يوماً بعض الفقهاء فدقق عليه وحقق، وطالب وضيق، فقلت له: يا أبا عبد الله: هذا لأهل الكلام لا لأهل الحلال والحرام، فقال: أحكمنا ذاك قبل هذا” انتهـى

وكذلك مالك والإمام أحمد، كلهم ثبت عنهم الاشتغال بعلم الكلام

قَالَ ابْنُ شَاسٍ في الجواهر الثمينة: «القِيَامُ بِدَفْعِ شُبَهِ الْمُبْتَدِعَةِ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ إِلَّا مَنْ طالع علوم الشَّرِيعَةِ، وَحَفِظَ الكَثِيرَ مِنْهَا، وَفَهمَ مَقَاصِدَهَا وَأَحْكامها، وَأَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الأئمةِ وَفَاوَضَهُمْ فِيهَا، وَرَاجَعَهُمْ فِي أَلْفاظِهَا وَأَغْرَاضِهَا، وَبَلَغَ دَرَجَةَ الإِمَامَةِ فِي هَذَا العِلْمِ بِصُحْبَةِ إِمَامٍ أَوْ أَئمَّةٍ أَرْشَدُوهُ إِلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، وَحَذَرُوهُ مِنَ الخَطأ وَالضَّلَالِ، حَتَّى ثَبَتَ الحَقُّ فِي نَفْسِهِ وَفَهْمِهِ ثُبُوتًا قَوِيَ بِهِ عَلَى رَدِ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ وَإِبْطَالِ حُجَجِ المُبْطِلِينَ، فَيَكُونُ القِيَامُ بِدَفْعِ الشَّبَهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ حينيد، فأما غيرهم فَلَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّعَرُّضُ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا ضَعُفَ عَنْ رَدِ تِلْكَ الشبه، وتعلق بنفسه منها ما لا يقدر على إزالله، فَيَكُونُ قَدْ تَسَبَّبَ إِلَى هَلَكَتِهِ وَضَلَالَتِهِ، نَسْأَلُ اللهَ العِصْمَةَ “. انتهى

وأما ما قاله البغوي في “شرح السنة” : “وَاتَّفَقَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْجِدَالِ وَالْخُصُومَاتِ فِي الصِّفَاتِ، وَعَلَى الزَّجْرِ عَنِ الْخَوْضِ فِي ‌عِلْمِ ‌الْكَلامِ وَتَعَلُّمِهِ”. انتهى

فهذا النهي خاص بالكلام وفق أصول أهل الأهواء لتقرير شبههم. ثم كيف ينهى البغوي عن علم الكلام الممدوح الذي يتوصل به لنصرة عقائد أهل السنة وهو القائل في نفس الكتاب: “وروي عن إسحاق بن عيسى الطباع، قال: أتينا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشوني برجل كان ينكر حديث يوم القيامة، وأن الله يأتيهم في صورته، فقال له: يا بني، ما تنكر من هذا؟ قال: إن الله أجل وأعظم من أن يرى في هذه الصفة. فقال: يا أحمق، إن الله ليس تتغير عظمته، ولكن عيناك يغيرهما حتى تراه كيف شاء. فقال الرجل: أتوب إلى الله. ورجع عما كان عليه”. انتهى

وقال في تفسيره: “نفى الله تعالى عن نفسه النوم لأنه آفة، وهو منزه عن الآفات، ولأنه تغير ولايجوز عليه التغير”. انتهى

وهذا صريح في أن الإمام البغوي ينفي قيام الحوادث بالذات العلي وهو فرع من علم الكلام.

وقال أيضا: “ويجب أن يعتقد أن الله عز اسمه قديم بجميع أسمائه وصفاته، لا يجوز له اسم حادث، ولاصفة حادثة” ثم قال: “فلايجوز أن يحدث له اسم بحدوث فعله، ولا يعتقد في صفات الله تعالى أنها هو ولا غيره، بل هي صفات له أزلية، لم يزل جل ذكره، ولا يزال موصوفا بما وصف به نفسه”. انتهى

وقال في تفسير قوله تعالى: “وجاء ربك” -الفجر:22 – قال الحسن: “جاء أمره وقضاؤه”. انتهى

وقال في تفسير قوله تعالى: “غير المغضوب عليهم” -الفاتحة:7- ما نصه: “والغضب هو إرادة الانتقام من العصاة”. انتهى

وقال في تفسيره أيضا: “تعالى الله على أن يكون مشبها بشيء، أو مكيفا بصورة خلق، أو مدركا بحد “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” -الشورى:11-” انتهى

هذا وقد ألف الكثير من علماء أهل السنة في بيان أهمية هذا العلم، مثل أبي المظفر طاهر بن محمد الإسفراييني الشافعي في تحبير الكلام في شرف علم الكلام، والتبيان في الرد على من ذم علم الكلام للشيخ جمال صقر، وكتاب أصول الدين لأبي اليسر البزدوي، وغيره كثير.

ومن هنا نقف على أن كتاب ذم الكلام وأهله هو تأليف تالف، ألفه المتصوف أبو اسماعيل الهروي، صاحب عقيدة الحلول وصاحب كتاب الأربعون الذي أثبت فيه الخط صفة لله والعياذ بالله.

وهذا الكتاب يحتوي على الكثير من الروايات المنقطعة والضعيفة من ذلك قوله: “أَخْبَرَنِي طَيِّبُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ بِنْدَارٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَقِيلٍ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيُنٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيَّ يَقُولُ سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنِ الْكَلَامِ فَقَالَ دَعِ الْبَاطِلَ أَيْنَ أَنْتَ عَنِ الْحَقِّ اتَّبِعِ السُّنَّةَ وَدَعِ الْبَاطِلَ”. انتهى

وهذا السند فيه:

– طَيِّبُ بْنُ أَحْمَدَ: أو طيب بن امحمد كما هو مذكور في مخطوطات أخرى، وهو رجل مجهول الحال.

– مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى: ضعيف في الحديث، وقال محمد بن يوسف القطان: غير ثقة.

– عَلِيَّ بْنَ بِنْدَارٍ: “ضعيف متكلم فيه”