عقيدة الطبري في العلو والاستواء
قال الطبري: “وأوْلى المعاني بقول الله جل ثناؤه:”ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن”، علا عليهن وارتفع، فدبرهنّ بقدرته، وخلقهنّ سبع سموات”. انتهى
وقد تمسكت المشبهة المجسمة بهذا النص للقول بأن الطبري موافق لهم في معتقدهم الفاسد، وليس لهم في ذلك أي حجة، إذ كيف يصح ان يقال أن الله عز وجل علا وارتفع على السماوات، و بعد ذلك دبرهن وخلقهن. هذا كلام لا يستقيم لا لغة ولا عقلا، اذ لا يصح ان يكون ارتفاع الله الذاتي على معدوم لم يخلق.
فعلم بذلك فساد فهم المشبهة لكلام الطبري و استدلالهم به لتصحيح معتقدهم بكلام الطبري.
و إلا فإن كلام الطبري أراد به أن الله علا وارتفع أمره، فدبر السماوات بقدرته، وخلقهنّ سبع، فاقتصر على ذكر عبارة علا وارتفع لوضوح مراده رحمه الله.
بل إن الطبري نفى التغير والانتقال المكاني على الله بقوله: “فيقال له : زعمت أن تأويل قوله ” استوى ” أقبل ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ، ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقل : علا عليها علو ملك وسلطان ، لا علو انتقال وزوال” . انتهى
وهذا الكلام ليس الزاما من الطبري للخصم كما يدعي المشبهة، بل هو توجيه لمعنى علا وارتفع، والا فكيف يلزم الطبري خصمه بخلاف ما أراده؟
وهذا ما فهمه شيخ المجسمة عبد الله بن محمد الغنيمان، فقال عن كلام الطبري أنه من جنس كلام أهل البدع، نسأل الله السلامة.
فظهر بما تقدم أن الطبري لما فسر الاستواء، أراد من ذكره للعلو والارتفاع: علو وارتفاع أمره و تدبيره و ملكه وسلطانه، لا علو انتقال وتغير ذاته. فالاستواء عنده صفة فعل لا صفة ذات. أي ان الاستواء هو فعل أحدثه الله في السماوات، وفعل الله الذي هو خلقه وتدبيره أزلي أبدي والمفعول حادث.
والدليل على ما ذكرناه قول الطبري رحمه الله في تاريخه: ” فتبين إذا أن القديم بارىء الأشياء وصانعها هو الواحد الذي كان قبل كل شيء وهو الكائن بعد كل شيء والأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء وأنه كان ولا وقت ولا زمان ولا ليل ولا نهار ولا ظلمة ولا نور إلا نور وجهه الكريم ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا نجوم وأن كل شيء سواه محدث مدبر مصنوع انفرد بخلق جميعه بغير شريك ولا معين ولا ظهير سبحانه من قادر قاهر “. انتهى
ومن عجيب تناقضات المشبهة قولهم: “نثبت علو الله لكن لا نقول انتقال وزوال، وأن علوه هذا حدث بعد خلق السماء لا قبلها”. وهذا كلام ينقض أوله ٱخره، فإن لازم العلو والارتفاع الذاتي هو الانتقال والتغير جزما، لا يختلف في ذلك عاقلان.
ولا معنى لقول هؤلاء المشبهة أن علو الله لا يلزم منه الانتقال الذي به يزول المنتقل ويشغل محلًا بعد تفريغ آخر، وأن ارتفاعه ليس كارتفاع مخلوقاته، وأنه لا يلزم من ذلك زوال ولا نقلة تفرغ محلًا وتشغل آخر”. فكل ذلك مجرد تفخيم للكلام وهروب من إلزامات جلية، لا تتماشى مع اقرارهم أن علو الله حادث بعد خلق السماء لا قبلها.
والا فهل يقول هؤلاء الدجالون أن الله كان متصفا بالنقص قبل استوائه الحادث وارتفاعه على سماواته؟
ومما يؤكد كلامنا قول الطبري في تاريخه:”لا تحيط به الأوهام، ولا تحويه الأقطار، ولا تدركه الأبصار” انتهى
روابط ذات علاقة
عقيدة الطبري في العلو والفوقية
https://www.facebook.com/share/RDtJ1W9nkP8E4sez/
كلامه عن الاستواء
https://www.facebook.com/share/akREwr9sbjHyzxCn/
معنى العلو والفوقية عند الطبري
1- كلامه عن العلو
لقد فسر الإمام الطبري معنى اسم الله تعالى “العلي” في آية الكرسي فقال: “والعلي : ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته” . انتهـى
ولم يقل علوا بحد أو بجهة أو بجلوس أو باستقرار على العرش كما تزعم المجسمة.
فمراد الطبري بالارتفاع و العلو هنا هو ارتفاع قدرة الله و علو مكانته وهو مراده أيضا في قوله عند تفسيرقول الله عز و جل: ” له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم” : ” وهو العلي : يقول : وهو ذو علو وارتفاع على كل شيء ، والأشياء كلها دونه ، لأنهم في سلطانه ، جارية عليهم قدرته ، ماضية فيهم مشيئته “. انتهى
فقوله: ” لأنهم في سلطانه ، جارية عليهم قدرته” دليل على أن مراده هو ارتفاع المكانة و القدرة لا ارتفاع المكان
وقال في جامع البيان 10/370 عند تفسيره لقول الله تعالى: ” وإنا فوقهم قاهرون” – الأعراف, 127 – ما نصه: “وإنا عالون عليهم بالقهر يعني بقهر الملك و السلطان. و قد بينا أن كل عال بقهر و غلبة على شئ فإن العرب تقول فوقه”. انتهى
و قد أكد الطبري عقيدته التنزيهية بقوله أيضا في شرحه لآية “الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ” من سورة الرعد: “المتعال : المستغني على كل شئ بقدرته” انتهى
ويدل على ذلك ما قاله ابن عطية الأندلسي المتوفى سنة 541 هجري في تفسيره المحرر الوجيز صحيفة 70، طبعة دار ابن حزم ونص عبارته : ” قال قوم معناه: علا دون تكييف ولا تحديد، وهذا اختيار الطبري، و التقدير: علا أمره وقدرته وسلطانه” .انتهـى
وهذه التأويلات لم تعجب بعض زعماء المجسمة, فقد قال الشيخ الوهابي عبد الله الغنيمان في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري جزء1 صحيفة 360 ما نصه: “كلام الإمام الـمفسّر الطبري في مسألة العلو هو من جنس كلام أهل البدع” انتهى
و هذا المدعو “عبد الله بن محمد الغنيمان” كان رئيسا لقسم الدّراسات العليا بالجامعة المسماة بالإسلامية, بالـمدينة الـمنورّة، و هو نفسه من حرّض في كتابه هذا على استعمال السّلاح ضد الأشاعرة إذا اقتضى الأمر ذلك.
ثم إنه ينبغي الإشارة هنا أن من عادة الإمام الطبري في كتاب جامع البيان عند تعرضه لتفسير آية ذُكرت فيها عدة تفاسير أنه يبدأ بالقول الصحيح الذي يميل إليه ثم يسرد باقي المقالات و الروايات.
ففي مسألة العلو مثلا نبه الطبري في جامع البيان جزء 4 صحيفة 545 عند تفسير قوله تعالى “وهو العليُّ” البقرة الآية 255 ان هناك مقالات أخرى بخلاف التي يقول بها هو فقال ما نصه: “قال آخرون: معنى ذلك: وهو العليُّ على خَلْقِه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه”. انتهى
ومراده بآخرون هنا جهلة المجسمة, كما بيّن ذلك القاضي عبد الحق بن عطية في كتابه المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ،جزء1 صحيفة 336 حيث قال: “العلي يراد به علو القدر و المنزلة لا علو المكان لأن الله منزه عن التحيز وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه, وهذا قول جهلة مجسّمين، وكان الوجه أن لايحكى, وكذا التعظيم هي صفة بمعنى عظم القدر و الخطر لا على معنى عظم الأجرام”. انتهى
2-كلامه عن الفوقية
الإمام الطبري رحمه الله كان يرى الفوقية في حق الله تعالى فوقية قهر وغلبة لا فوقية مكان و تحييز. فقد قال في جامع البيان 9/288 عند تفسير لقوله عز وجل ” وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ” – الانعام 61 – ما نصه:” والله الغالب خلقه، العالي عليهم بقدرته, لا المقهور من أوثانهم وأصنامهم، المذلَّل المعْلُوّ عليه لذلته “. انتهى
وقال أيضا في تفسير قوله تعالى: ” وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير” ما نصه: ” “يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ : وَ (هُوَ) نَفْسه يَقُول : وَاَللَّه الْقَاهِر فَوْق عِبَاده . وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ : الْقَاهِر: الْمُذَلِّل الْمُسْتَعْبِد خَلْقه الْعَالِي عَلَيْهِمْ . وَإِنَّمَا قَالَ “فَوْق عِبَاده” لِأَنَّهُ وَصَفَ نَفْسه تَعَالَى بِقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ وَمِنْ صِفَة كُلّ قَاهِر شَيْئًا أَنْ يَكُون مُسْتَعْلِيًا عَلَيْهِ . فَمَعْنَى الْكَلَام إِذَنْ : وَاَللَّه الْغَالِب عِبَاده , الْمُذِلّ لَهُمْ , الْعَالِي عَلَيْهِمْ بِتَذْلِيلِهِ لَهُمْ وَخَلْقه إِيَّاهُمْ , فَهُوَ فَوْقهمْ بِقَهْرِهِ إِيَّاهُمْ , وَهُمْ دُونه . وَهُوَ الْحَكِيم يَقُول : وَاَللَّه الْحَكِيم فِي عُلُوّهُ عَلَى عِبَاده وَقَهْره إِيَّاهُمْ بِقُدْرَتِهِ وَفِي سَائِر تَدْبِيره , الْخَبِير بِمَصَالِح الْأَشْيَاء وَمَضَارّهَا , الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَوَاقِب الْأُمُور وَبِوَادِيهَا , وَلَا يَقَع فِي تَدْبِيره خَلَل , وَلَا يَدْخُل حُكْمه دَخَل” .انتهى
فجعل رحمه الله فوقية الله على عباده فوقية القهر، وعباده دونه أي تحته من هذه الحيثية. ومن هنا يُفهم أن قوله: ” .”أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ وهو الله” – إن صحت عنه – معناه عالي القدر جدا. وإلا فحمله على ظاهره يلزم منه تناقض كلام الطبري ولا يقول بذلك إلا جاهل معاند لأن مكانة الطبري العلمية كمفسر و فقيه و متكلم لا تخفى على أحد.
أما ما قاله في تفسير قول الله تعالى: “وهو معكم أينما كنتم”: “وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم يعلمكم، ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سمواته السبع”- سورة الحديد – . انتهى
فمعناه فوق عرشه و سمواته بالقهر و التدبير لأنه قال قبل ذلك بيسير عند شرحه لقوله تعالى: ” هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ” – سورة الحديد – ما نصه: “هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين، فدبرهنّ وما فيهنّ، ثم استوى على عرشه، فارتفع عليه وعلا” انتهى
ومعلوم أن مراده بقوله علا و ارتفع أي بالقدرة كما نبه لذلك عند تفسير اسم الله “العلي” في آية الكرسي فقال: “والعلي : ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته” . انتهـى
و من أبى ما قلناه نعارَضه بكلام الطبري نفسه رحمه الله . فقد جاء في جامع البيان 27/ 215 ما نصه: “فلا شيء أقرب إلى شيء منه؛ كما قال تعالى ونحن أقرب إليه من حبل الوريد”. انتهى
ففي قول الطبري هذا, نفي للقُرب و البعد الـحسي الذي تقول به المجسمة، فالذي في رأس الجبل والذي في أسفل الوادي هما بالنسبة إلى الله تعالى على حدٍّ سواء لأن الله تعالى منـزه عن القرب الحسّي أي القرب بالـمسافة ، أما القرب الـمعنوي فلا ينفيه هذا الإمام ولا غيره من علـماء الـمسلـمين . فهذا دليل آخر أن الطبري كان يُنَـزِّهُ الله عن الجهة و المكان و التحيز في السماء.
كلام الطبري عن الاستواء
قال الذهبي في العلو: “قال أبو سعيد الدينوري مستملي محمد ابن جرير قال: قريء على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وأنا أسمع في عقيدته، فقال: “وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر”. انتهى
فأثبت الطبري لله الاستواء ونفى عنه سماة الحدوث كالجلوس والقعود.
وقال الإمام شمس الدين أبي عبد الله الأنصاري القرطبي المتوفى سنة 671 هـجري رحمه الله تعالى في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته – طبعة : المكتبة العصرية صيدا – بيروت الطبعة الأولى سنة 2005 م – ما نصه: ” قال الشيخ أبو الحسن الأشعري : أثبته مستوياً على عرشه وأنفي عنه كل استواء يوجب حدوثه وله قول آخر : إنه فعل في العرش فعلاً سمى به نفسه مستوياً. قال علماؤنا : وبقوله الأول قال الطبري وابن أبي زيد وعبد الوهاب وجماعة من شيوخ الفقه والحديث. قال البيهقي : وعلى هذه الطريقة مذهب الشافعي – رحمه الله – وإليه ذهب أحمد بن حنبل والحسن بن الفضل البلخي ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي.قلت : وهو قول القاضي أبي بكر بن الطيب في كتاب “تمهيد الأوائل” والأستاذ أبي بكر بن فورك في “شرح أوائل الأدلة”.” انتهى
فالإمام الطبري رحمه الله كان يثبت الاستواء مع تنزيه الله عن الجلوس و الاستقرار. و قد نُقل عنه انكار ذلك كما ذكره الحافظ السيوطي في كتابه تحذير الخواص من أحاديث القصاص – مخطوط/15- حيث قال ما نصه: “وفي بعض المجاميع أن قاصا جلس ببغداد فروى في تفسير قوله تعالى: “عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا” أنه يجلسه معه على عرشه فبلغ ذلك الإمام محمد بن جرير الطبري فاحتد من ذلك وبالغ في انكاره وكتب على باب داره:
سبحان من ليس له أنيس ولا له في عرشه جليس
وذكره أيضا ياقوت الحموي المتوفى سنة 626 هجري في كتابه معجم الادباء.
و أما ما قاله الذهبي في العلو: “تفسير ابن جرير مشحون بأقوال السلف على الإثبات، فنقل في قوله تعالى “ثم استوى إلى السماء” – البقرة 29 -، عن الربيع بن أنس: أنه بمعنى ارتفع. ونقل في تفسير “ثم استوى على العرش” – الأعراف 54 -، في المواضع كلها أي: علا وارتفع”. انتهى
فهو كلام مبتور و تحريف لمراد ﺃبي ﺟﻌﻔﺮ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺟﺮﻳﺮ ﺍﻟﻄﺒﺮﻱ. فكأنه غض الطرف عن قوله رحمه الله ﻓﻲ ﺟﺎﻣﻊ ﺍﻟﺒﻴﺎﻥ ﻋﻦ ﺗﺄﻭﻳﻞ ﺁﻱ ﺍﻟﻘﺮﺀﺍﻥ 1/191-192، – ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻔﻜﺮ – عند تفسيره لقول الله تعالى: “ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات” ما نصه: “وقال بعضهم : لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحول ، ولكنه بمعنى فعله”. انتهى
وقوله أيضا: “وقال بعضهم : قوله : ” ثم استوى إلى السماء ” يعني به : استوت. كما قال الشاعر: “أقول له لما استوى في ترابه على أي دين قتل الناس مصعب”. انتهى
و أما قول الطبري : “وقال بعضهم : الاستواء هو العلو ، والعلو هو الارتفاع . وممن قال ذلك الربيع بن أنس. حدثت بذلك عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ” ثم استوى إلى السماء ” يقول : ارتفع إلى السماء”. انتهى
فقد فسر كلامه رحمه الله بنفسه و أزال عنه الشبهة فقال: ” الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه” وذكر ﻣﻨﻬﺎ ﺍﻻﺣﺘﻴﺎﺯ ﻭﺍﻻﺳﺘﻴﻼﺀ ونص عبارته: “ومنها . الاحتياز والاستيلاء ، كقولهم : استوى فلان على المملكة . بمعنى احتوى عليها وحازها . ومنها : العلو والارتفاع ، كقول القائل ، استوى فلان على سريره . يعني به علوه عليه”. انتهى
ثم قال: “وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه : ” ثم استوى إلى السماء فسواهن ” علا عليهن وارتفع ، فدبرهن بقدرته ، وخلقهن سبع سماوات. والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله : ” ثم استوى إلى السماء ” الذي هو بمعنى العلو والارتفاع ، هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه – إذا تأوله بمعناه المفهم كذلك – أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها – إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله المستنكر . ثم لم ينج مما هرب منه! فيقال له : زعمت أن تأويل قوله ” استوى ” أقبل ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها ؟ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ، ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقل : علا عليها علو ملك وسلطان ، لا علو انتقال وزوال . ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله” . انتهى
فقوله رحمه الله: “ﻋﻼ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻋﻠﻮ ﻣﻠﻚ ﻭﺳﻠﻄﺎﻥ ﻻ ﻋﻠﻮ ﺍﻧﺘﻘﺎﻝ ﻭﺯﻭﺍﻝ” دليل ﻣﻦ ﺍﻟﻄﺒﺮﻱ على ﺗـﻨﺰﻳهه ﻟﻠﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﻭﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﻭﻋﻦ ﺍﻻﺳﺘﻘﺮﺍﺭ ﻭﺍﻟﺠﻠﻮﺱ ﻭﺍﻟﻤﺤﺎﺫﺍﺓ و الارتفاع الحسي ﻭﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺻﻔﺔ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮقات. وهذا الكلام يهدم على المجسمة ما يذهبون إليه من نسبة العلو الحسي لله .
ولاعبرة بقول بعضهم أن كلام الطبري جاء في سياق إلزام الخصم الذي فسر الإستواء بالإقبال هربا من أن يكون تعالى علا وارتفع بعد أن كان تحتها، فبيّن له فساد ما هرب منه بقوله: قل “علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال” وهو ادعاء باطل لأن الإمام الطبري بين له الصواب في المسألة وقال له:” فكذلك فقل : علا عليها علو ملك وسلطان ، لا علو انتقال وزوال” فهل يعقل أن يرشده الطبري للأخذ ببدعة اعتقادية حتى مع الالزام؟
رد شبهة أوردها القرطبي:
ما ذكره الإمام القرطبي في الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى أن محمد بن الحسن المرادي القيرواني المالكي المتوفى سنة 489 هـجري قال في رسالة “الإيماء إلى مسألة الاستواء”: “والسادس: قول الطبري وابن أبي زيد والقاضي عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر رضي الله عنه وأبي الحسن، وحكاه عنه أعني عن القاضي أبي بكر القاضي عبد الوهاب نصا وهو أنه سبحانه مستوٍ على العرش بذاته وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه”. قال الإمام أبو بكر- أي الباقلاني- : وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد و لا تمكين في مكان و لا كون فيه و لا مماسة.
قلت -أي القرطبي-: هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب تمهيد الأوائل و قد ذكرناه و قاله الأستاذ أبو بكر بن فورك في شرح أوائل الأدلة وهو قول ابن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين، والخطابي في كتاب شعار الدين وقد تقدم ذلك”. انتهى
فيرد على ذلك بأن يقال أن رِسَالَة الْإِيمَاء إِلَى مَسْأَلَة الاسْتوَاء مفقودة, وهي محرفة على أبي بكر القيرواني و ما تستدل به المجسمة من كلامه عند التحقيق ليس بصحيح و هو دس عليه لسببين:
1- السبب الأول: وجود اختلاف بين نقل القرطبي و نقل الذهبي الذي قال في كتابه العلو: “قول الإِمَام أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْحسن الْمصْرِيّ القيرواني الْمُتَكَلّم صَاحب رِسَالَة الْإِيمَاء إِلَى مَسْأَلَة الاسْتوَاء: فساق فِيهَا قَول أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير وَأبي مُحَمَّد بن أبي زيد وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب وَجَمَاعَة من شُيُوخ الْفِقْه والْحَدِيث إِن الله سُبْحَانَهُ مستو على الْعَرْش بِذَاتِهِ. قَالَ وأطلقوا فِي بعض الْأَمَاكِن أَنه فَوق عَرْشه. ثمَّ قَالَ: “وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي أَقُول بِهِ من غير تَحْدِيد وَلَا تمكن فِي مَكَان وَلَا كَون فِيهِ وَلَا مماسة” انتهى
قال الذهبي بعد ذلك:” نَعُوذ بِاللَّه أَن نثبت إستواءه بمماسة أَو تمكن بِلَا تَوْقِيف وَلَا أثر بل نعلم من حَيْثُ الْجُمْلَة أَنه فَوق عَرْشه كَمَا ورد النَّص. انتهى
فقوله ” وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر رضي الله عنه وأبي الحسن، وحكاه عنه أعني, عن القاضي أبي بكر, القاضي عبد الوهاب نصا” زيادة ذكرها القرطبي فقط و لم يذكرها الذهبي.
ثم إن قوله: ” وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد و لا تمكين في مكان و لا كون فيه و لا مماسة” هي من كلام أبي بكر الباقلاني في نقل القرطبي و قد نسبه له في كتاب تمهيد الأوائل. أما عند الذهبي فهذه العبارة هي من كلام أبي بكر القيرواني.
2- السبب الثاني: أن القول بأن الله مستوٍ على العرش بذاته لا يصح نسبته للإمام الطبري لأنه رحمه الله تكلم عن الاستواء عند تفسير قول الله تعالى “ثم استوى على العرش” فقال ما نصه: “علا عليه علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال”. انتهى
هذه عبارته بحروفه و لا يوجد في كتبه أنه قال عن الله أنه استوى بذاته و لم ينقل عنه أحد من العلماء ذلك الكلام غير ما وُجد في رسالة الإيماء. فلا يصح نسبة ذلك له.
فلو اجتمع المجسمة كلهم على أن يأتوا بنص واحدا من كلام الطبري قال فيه عن الله استوى بذاته لم يظفروا بذلك. فليس البيان كثرة الكلام ولكن البيان إصابة الحق كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه عنه ابن حبان
فالخلاصة أن هذا الكلام مدسوس على أبي بكر الحضرمي القيرواني لاختلاف الألفاظ بين نقل القرطبي و نقل الذهبي و لنسبته كلام للطبري ليس في كتبه و لا نقلها عنه أحد من العلماء.
فإن قالت المجسمة أن القرطبي وهو أحد أعلام الأشاعرة هو الذي نقل هذا الكلام عن الطبري و لم يعقب عليه. فجواب ذلك أن يقال أن القرطبي رحمه الله قد صرح بعقيدة الطبري في الاستواء فقال في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته ما نصه: ” قال الشيخ أبو الحسن الأشعري : أثبته مستوياً على عرشه وأنفي عنه كل استواء يوجب حدوثه وله قول آخر : إنه فعل في العرش فعلاً سمى به نفسه مستوياً. قال علماؤنا : وبقوله الأول قال الطبري”. انتهى
فالقرطبي قد نقل ما وجده مكتوبا من كلام أبي بكر الحضرمي – وهو مدسوس عليه كما أثبتناه- ولا يعني ذلك أنه موافق عليه
