بيان أن قدرة الله وإرادته لا يتعلقان بذاته أو صفاته عز وجل

  1. بيان أن قدرة الله وإرادته لا يتعلقان بذاته أو صفاته عز وجل
  2. بيان ما نقله ابن حجر عن الفخر الرازي أنه قال ان القول بأن الله يتكلم بكلام يقوم بمشيئته هو أصح الأقوال
  3. بيان كلام الحافظ ابن حجر عن البخاري وقوله ان الله يتكلم كيف يشاء

بيان أن قدرة الله وإرادته لا يتعلقان بذاته أو صفاته عز وجل

من المسائل الكلامية الدقيقة التي تناولها علماء التوحيد بالعناية والضبط، مسألة تعلق صفتي القدرة والإرادة.

– فأما القدرة: فهي صفةٌ أزليّةٌ أبديةٌ يؤثّر بها في الممكنات أي في كل ما يجوز في العقل وجوده تارة وعدمه تارة أخرى، بها يوجِد ويُعْدِم.

قال تعالى:”وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا”

وقال تعالى: “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ”

وقال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

فهذه الآيات تثبت بوضوح أن قدرة الله تعالى متعلّقة بما يخلقه، أي بالممكنات، لا بالذات ولا بالصفات. فذاته تعالى واجب الوجود وكذلك صفاته.

وأما الإرادة، فهي المشيئة وهي صفة أزلية قديمة يخصص بها الله تعالى الممكنَات ببعض ما يجوز عليها من الصفات دون بعض، وبوقت دون آخر، كالمقادير والألوان والهيئات والجهات والأزمنة والأمكنة.

وقد دلّت النصوص النقلية على هذا المعنى دلالة واضحة، كما قال تعالى: ” وربك يخلق ما يشاء ويختار “. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه: “ما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن”

ومعنى ما شاء الله كان وما لم يشأْ لم يكن، أن كل ما شاء الله في الأزل أن يكون كان وما لم يشأ الله في الأَزل أن يكون لا يكون، ولا تتغيّر مشيئته لأنَّ تغيّر المشيئة دليلُ الحدوث، والحدوثُ مستحيلٌ على الله ، فهو على حسب مشيئته الأزليّة يغيِّر المخلوقات من غير أن تتغيّر مشيئته.

فعُلم بذلك أن مشيئة الله تتعلق بخلقه، وأن كل شيء ينشأ عن إرادته سبحانه وتعالى من دون تغيير ولا تبديل، فلا تتعلق إرادته بذاته أو صفاته.

ومن المزالق العقدية الخطيرة التي وقع فيها طوائف من الحشوية، زعمهم أن صفات الله تعالى، ومنها صفة الكلام، يمكن أن تدخل في إطار الإمكان والاختيار، فقالوا: “إن شاء تكلّم وإن شاء لم يتكلّم”. وهذه الدعوى ظاهر فسادها، لمعارضتها لما أجمعت عليه الأمة من أن صفات الله الذاتية، صفات أزلية أبدية لا يدخلها التغير، ولا تتعلّق بها الإرادة تخصيصًا وإحداثًا، كما هو الشأن في أفعال المخلوقات.

فلو سُلِّم بدعوى القائلين بأن الله يتكلم إن شاء ويسكت إن شاء، للزم من ذلك القول بحدوث صفة بعد أن لم تكن، وهو باطل عقلًا وشرعًا، إذ الحدوث علامة النقص، والناقص لا يكون إلهًا. بل إن القول بإمكان التكلُّم وعدمِه يقتضي إدخال صفة الكلام تحت حكم الإمكان، وهو لا يليق بالمقام الإلهي، لأن الواجب لذاته لا يلحقه الإمكان بحال. وهذا التأصيل الفاسد أدى بهم لقول آخر فاسد مبتدع لم يعرفه السلف وهو قولهم عن كلام الله: قديم النوع حادث الأفراد.

ومما يدخل في هذا الباب كذلك قول بعضهم ممن تلبّسوا بالتجسيم: إن الله تعالى “لو شاء لاستقر على جناح بعوضة”، وهو قول يستلزم إمكان حلول الحوادث بذات الله تعالى، وأنه سبحانه قابل للانتقال من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، وهو عين التجسيم والتشبيه، فضلاً عن كونه مصادمة صريحة لقواطع العقل والنقل.

وهذا الكلام ذكره ابن تيمية في بعض كتبه نقلا عن الدارمي، فإذا كان هذا الحراني لا يصف الله إلا بما وصف به نفسه فلماذا أثبت استقرار الله على ظهر بعوضة ويجيزه من غير انكار؟

فإن من أثبت أن الله يستقر على جناح بعوضة، بدعوى أن قدرة الله مطلقة بزعمه، أو أن ذلك دليل أن الله تعالى غير محتاج إلى العرش، ولا غيره، فقد أبدى عن سخافة عقله، و أثبت لخالقه الصغر والحد، ومن أثبت الحد لله، فقد جعله محدثًا مخلوقًا، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. ومقتضى كلام هؤلاء أن قدرة الله تسلب منه علوه على عرشه، وتجعله يستقر على أجنحة الحشرات في غياهيب الأرض. نعوذ بالله من فساد المعتقد.

ولا يقل خطورة عن ذلك ما ورد في بعض الكتب المنسوبة للسلف كقول الدارمي في رده على المريسي: “فكما قدر على ذلك فهو القادر على أن يجيء ويأتي متى شاء وكيفما شاء”، إذ هذا النص يتضمّن جعل القدرة متعلّقة بذات الله من حيث الكيف والزمان، وهو تأصيل باطل، يخالف مقتضى تنزيه الله عن الحوادث، ويجعل أفعال الله مشروطة بإمكانات زمانية ومكانية، وهو ما يتنافى مع أزلية الصفات الإلهية ووجوب كماله عز وجل.

بل الأعجب من ذلك ما يُروى عن بعض الحشوية من أقوال ينسبونها إلى الله من قبيل: “قادر على أن يستلقي، ويضع رجلًا على رجل، ويهرول، ويقعد ويجلس”، وهي عبارات صريحة في التجسيم، تُفضي إلى القول بأن الله قابل للتغير، وأن ذاته محلّ للحركات والأوضاع، مما يؤدي بالضرورة إلى إثبات الحدوث في ذاته، وهو مما يكفر به من قاله لأنه يناقض أصل التوحيد في تنزيه الله عن مشابهة الحوادث.

ملاحظة:

ما ينسب للإمام أحمد أنه قال: “لم يزل متكلما إذا شاء”

أي أن كلام الله قديم، يُسمعه من يشاء، متى شاء.

وإلا فالإمام أحمد أنكر على داوود الظاهري قوله: كلام الله محدث غير مخلوق، ووصفه بعدو الله.

روابط ذات علاقة:

شبهة قول الفخر الرازي أن الله يتكلم بكلام يقوم بمشيئته

https://www.facebook.com/share/14HEU3cXp4q/

شبهة قول البخاري ان الله تكلم كيف شاء

https://www.facebook.com/share/19hFBqStLB/

بيان ما نقله ابن حجر عن الفخر الرازي أنه قال ان القول بأن الله يتكلم بكلام يقوم بمشيئته هو أصح الأقوال

ينقل بعض المجسمة عن الحافظ ابن حجر أنه قال في الفتح: ” وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية أن قول من قال : إنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره هو أصح الأقوال نقلا وعقلا ، وأطال في تقرير ذلك “. انتهى

والرد على هذه الشبهة أن يقال: هذا الكلام نقله ابن حجر عن شخص مجهول لم يذكر اسمه. فبعد أن نقل كلام ابن حزم في الملل و النحل قال الحافظ: ” وقال غيره” ثم ساق كلامه و فيه: وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية… “.

وفي ما يلي نص عبارة الحافظ ابن حجر في فتح الباري 13/455 حيث قال بعد أن ساق كلام ابن حزم: ” وقال غيره : “اختلفوا فقالت الجهمية والمعتزلة وبعض الزيدية والإمامية وبعض الخوارج : كلام الله مخلوق خلقه بمشيئته وقدرته في بعض الأجسام كالشجرة حين كلم موسى ، وحقيقته قولهم : إن الله لا يتكلم وإن نسب إليه ذلك فبطريق المجاز ، وقالت المعتزلة يتكلم حقيقة لكن يخلق ذلك الكلام في غيره وقالت الكلابية : الكلام صفة واحدة قديمة العين لازمة لذات الله كالحياة ، وأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته وتكليمه لمن كلمه إنما هو خلق إدراك له يسمع به الكلام ونداؤه لموسى لم يزل لكنه أسمعه ذلك النداء حين ناجاه ويحكى عن أبي منصور الماتريدي من الحنفية نحوه لكن قال : خلق صوتا حين ناداه فأسمعه كلامه ، وزعم بعضهم أن هذا هو مراد السلف الذين قالوا : إن القرآن ليس بمخلوق ، وأخذ بقول ابن كلاب القابسي والأشعري وأتباعهما وقالوا : إذا كان الكلام قديما لعينه لازما لذات الرب وثبت أنه ليس بمخلوق فالحروف ليست قديمة ؛ لأنها متعاقبة ، وما كان مسبوقا بغيره لم يكن قديما ، والكلام القديم معنى قائم بالذات لا يتعدد ولا يتجزأ بل هو معنى واحد إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن أو بالعبرانية فهو توراة مثلا وذهب بعض الحنابلة وغيرهم إلى أن القرآن العربي كلام الله وكذا التوراة ، وأن الله لم يزل متكلما إذا شاء وأنه تكلم بحروف القرآن وأسمع من شاء من الملائكة والأنبياء صوته ، وقالوا : إن هذه الحروف والأصوات قديمة العين لازمة الذات ليست متعاقبة بل لم تزل قائمة بذاته مقترنة لا تسبق والتعاقب إنما يكون في حق المخلوق بخلاف الخالق ، وذهب أكثر هؤلاء إلى أن الأصوات والحروف هي المسموعة من القارئين ، وأبى ذلك كثير منهم فقالوا ليست هي المسموعة من القارئين ، وذهب بعضهم إلى أنه متكلم بالقرآن العربي بمشيئته وقدرته بالحروف والأصوات القائمة بذاته وهو غير مخلوق لكنه في الأزل لم يتكلم لامتناع وجود الحادث في الأزل ، فكلامه حادث في ذاته لا محدث ، وذهب الكرامية إلى أنه حادث في ذاته ومحدث ، وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية أن قول من قال : إنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره هو أصح الأقوال نقلا وعقلا ، وأطال في تقرير ذلك “. انتهى
فحتى قوله: ” وأطال في تقرير ذلك” هذا ليس من كلام ابن حجر، فهذا الغير هو الذي نقل الحافظ عنه الكلام المنسوب للإمام الرازي وهو الذي حرف كلام الفخر الرازي لأنه لا وجود له في كتاب المطالب العالية , لا في مباحث الكلام و لا في غيره من المباحث. بل الموجود عكسه فقد خصص الفخر الرازي في الجزء 2 صحيفة 106 فصلا مخصوص بعنوان “الفصل الخامس عشر : في بيان أن يمتنع كونه تعالى محلاً لغيره”. ومن قال خلاف ذلك فليأت به من كتاب المطالب.
وقد رد الحافظ ابن حجر هذا القول وقال:” والمحفوظ عن جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه ، والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق ثم السكوت عما وراء ذلك ” انتهى

فهذا كلام الحافظ رحمه الله وليس فيه إقرار بالكلام المنسوب للرازي الذي نقله ذلك الشخص المجهول متصرفا فيه. ونقل ذلك الشخص المجهول عن الفخر الرازي غير دقيق لأنه أراد أن يثبت هذه الأشياء عليه ويظهره أنه يتبنى القول من قبله و الصحيح أن الفخر ينقل الأقوال من غير تقرير. ولا يبعد أن يكون ذلك الشخض الذي لم يذكر الحافظ اسمه هو ابن تيمية لأنه يشبه أسلوبه في سبك العبارات و ولأنه سبق أن نسب إلى الفخر الرازي مقالات لا تثبت عنه.
كما ينبغي الإشارةهنا إلى طريقة الفخر الرازي في “المطالب العالية” التي تخالف طريقته في سائر كتبه فإنه حاول عرض و سبر الأقوال والمذاهب بحياد وتجرد ودون ترجيح لأي منها في كثير من الأحيان. فسعى في هذا الكتاب إلى البحث والجمع والكشف أكثر مما هدف إلى إثبات عقيدة أهل السنة أو نصرتها.

كما ينبغي التنبيه أيضا أن الإمام قد ينقل وجها او حجة للفلاسفة أو المعتزلة بلسان أحدهم وحكايته له مع إيراد ما ذكروه في دفع حجج خصومهم من اهل السنة وإبطالها فيستغرق ذلك عشرة صفحات ويختلط الكلام في أثناءها فيظنه البعض كلامه وهو ليس كلامه ، فيجب التنبه جيدا عند قراءته حتى يعرف المعنى ويعرف إلى من ينسب الكلام. ومن أجل هذا انتقده بعض أهل العلم بأنه يورد الإشكالات ناجزة ويحلها نسيئة حتى ليخيل للقارئ أنه يقول بهذه النقول ، وليس كذلك ، لأنه قد نبه أكثر من مرة في المطالب إلى الرجوع إلى بعض كتبه كالمحصل وأصول الدين لمعرفة تفصيل المسألة لدى أهل السنة. فمذهبه في العقيدة كمتكلم أشعري سني قد سطره رحمه الله في عدة كتب أخرى كالأربعين والمعالم والمحصل و في ثنايا تفسيره للقرآن الكريم.

بيان كلام الحافظ ابن حجر عن البخاري وقوله ان الله يتكلم كيف يشاء

قال الحافظ في الفتح 13 / 469 : ” واستدل البخاري في كتاب خلق أفعال العباد على أن الله يتكلم كيف شاء وأن أصوات العباد مؤلفة حرفا حرفا فيها التطريب – بالهمز – والترجيع ، بحديث أم سلمة ثم ساقه من طريق يعلى بن مملك بفتح الميم واللام بينهما ميم ساكنة ثم كاف ، أنه سأل أم سلمة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته فذكر الحديث ، وفيه ونعتت قراءته فإذا قراءته حرفا حرفا وهذا أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما” .انتهى

و الرد على هذه الشبهة أن يقال أن اسناد الكلام لله سبحانه و تعالى يكون في حالات على الحقيقة و في حالات على المجاز.

– أما على الحقيقة: فيكون كلامه سبحانه و تعالى بلا حرف و لا صوت و لا آلة. فقد كلم الله عز وجل سيدنا موسى على الحقيقة و أسمعه كلامه الأزلي الأبدي الذي لا يبتدأ و لا يختتم و لا يشبه كلام المخلوقين. فكلامه الذي هو صفة ذاته لا تعلق للمشيئة أو للقدرة به.

– و أما على المجاز: فيكون كلامه كما شاء سبحانه و تعالى إما عن طريق ملك ينادي و يبلغ عن الله أو عن طريق رسول يوحي إليه أو بخلق صوت يُسمعه لمن يشاء. فيكون اسناد الكلام إلى الله اسنادا مجازيا فلا يقال عنه هنا أنه صفة له عز وجل.

قال تعالى “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء” سورة الشورى

بعد هذا البيان نقول: هذا الكلام الذي نقله ابن حجر عن الإمام البخاري ليس على إطلاقه بل هو متعلق بالكلام المسند لله من باب المجاز بدليل أن الحافظ ساقه عند شرحه لحديث ” يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فيُنادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار”. قال الحافظ ابن حجر: “فإن قرينة قوله ” إن الله يأمرك ” تدل ظاهرا على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك”.انتهى

فهذا الكلام ليس هو كلام الله الذاتي و إنما هو كلام الملك الذي كان ينادي مخبرا عن الله عز و جل, فأسند الكلام لله من باب المجاز.فيكون معنى قول البخاري “أن الله يتكلم كيف شاء” أي أن الله يُسمع كلامه لخلقه كما يشاء: وقد شاء أن يسمعه لآدم عن طريق ملك ينادي بصوت ويبلغه أمره سبحانه و تعالى.

قال شيخ المجسمة ابن قيم الجوزية في كتابه ” مدارج السالكين” ما نصه: ” قال الفراء: العرب تسمي ما يوصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل, ولكن لا تحققه بالمصدر ، فإذا حققته بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام ” انتهى

و قال الإمام الباقلاني في الإنصاف: “تارة يسمع من شاء كلامه بغير واسطة لكن من وراء حجاب , ونعني بالحجاب للخلق لا للحق كموسى عليه السلام، أسمعه كلامه بلا واسطة لكن حجبه عن النظر إليه، وتارة يسمع كلامه من شاء بواسطة مع عدم النظر والرؤية أيضاً من ملك, أو رسول”. انتهى

و قال ابن حمدان الحنبلي في “نهاية المبتدئين” في الصحيفة 28 ما نصه: ” قال ابن حامد وابن جلبة: يسمع من الله تعالى حقيقة والعبد القارئ مجازا، وتلاوة التالي لا تنفي حقيقة سماعنا كلامه تعالى منه بلا حركة منه ولا تشبيه، ومن العبد بحركة وإدارات الجوارح به”. انتهى

و في الجملة نقول: إن كان اسناد الكلام لله تعالى على الحقيقة فإن المشيئة لا تتعلق لها به. قال أبو الحسن ابن الزاغوني الحنبلي المتوفى سنة 527هجري في كتابه الإيضاح، في الصحيفة 451 ما نصه: “الكلامُ ليس من جملة المقدورات للبارئ، وإنما هو من جملة الصفات القديمة”. انتهى

و إن كان اسناد الكلام لله من باب المجاز فإن الله يُسمعه لخلقه كما شاء و متى شاء. وهذا مذهب البخاري الذي أشار إليه ابن حجر في الفتح ” 13/496 تحت فصل “باب قوله تعالى: “وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم” فقال ما نصه: ” فأنزل الله تعالى وما كنتم تستترون وقد تقدم شرحه في تفسير فصلت. قال ابن بطال غرض البخاري في هذا الباب إثبات السمع لله وأطال في تقرير ذلك، وقد تقدم في أوائل التوحيد في قوله “وكان الله سميعا بصيرا” والذي أقول إن غرضه في هذا الباب إثبات ما ذهب إليه أن الله يتكلم متى شاء. وهذا الحديث من أمثلة إنزال الآية بعد الآية على السبب الذي يقع في الأرض. وهذا ينفصل عنه من ذهب إلى أن الكلام صفة قائمة بذاته وأن الإنزال بحسب الوقائع من اللوح المحفوظ أو من السماء الدنيا”. انتهى

فمذهب البخاري أن الله عز و جل يبلغ القرآن لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم عن طريق واسطة وهو جبريل عليه السلام لا أنه يكلمه بكلامه الأزلي الذي هو صفة ذاته. فيكون اسناد الفعل لله من باب المجاز ومعناه أن الله أسمع كلامه لرسوله محمد صلى الله عليه و سلم كما شاء عن طريق الملك جبريل و في الوقت الذي شاءه على اثر حادثة اجتماع بعض الأشخاص عند البيت و الجدال الذي وقع بينهم: هل أن الله يسمع كلامهم أو لا.

وهذا هو معنى قول الحافظ: “وهذا الحديث من أمثلة إنزال الآية بعد الآية على السبب الذي يقع في الأرض” انتهى

وأما قوله: ” وهذا ينفصل عنه من ذهب إلى أن الكلام صفة قائمة بذاته وأن الإنزال بحسب الوقائع من اللوح المحفوظ أو من السماء الدنيا” معناه أن الذي يثبت أن كلام الله صفة قائمة بذاته وأن الله لا يكلم خلقه إلا بكلامه الأزلي وينفي أن يكون كلامه عز وجل لهم في بعض الأحوال عن طريق واسطة فيجيب عن استدلاله بأن الآية نزل بها الملك من اللوح المحفوظ أو من بيت العزة، لا أنه سمعها من الله تعالى. ولكن الذي عليه البخاري و أهل السنة من الأشاعرة أن الله يخلق صوتا بنظم القرآن فيسمعه جبريل, وليس جبريل يسمعه من الله تعالى لأن كلام الله ليس حرفا و لا صوتا. ثم يأخذ جبريل هذا الصوت وهو صوت القرآن, يأخذه بأمر الله و يقرأه على سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم. قال الله سبحانه و تعالى:”قل نزَّله روح القدس من ربك” ومع أن حروف القرآن مكتوبة في اللوح المحفوظ إلا أن سيدنا جبريل يُسمع سيدنا محمدا القرآن كما تلقاه هو من الصوت الذي خلقه الله و ليس مجرد أنه يرأى حروف القرآن ويقرأها من اللوح المحفوظ ثم يحملها إلى سيدنا محمد بل يسمع الرسول ما يتلقاه. قال الله تعالى:”إنه لقول رسول كريم” أي جبريل يقرأه على سيدنا محمد.