*«الدَّلائل النَّاصعة في جواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف»*
*البدعة ومفهومها [1]*
*[1] التمهيد والمدخل:*
الحَمدُ للهِ الَّذِي أرسَلَ لَنا مَن بِالحَقِّ سَنَّ، وجَعَلَ لَنا مِنَ البِدَعِ ما هُوَ حَسَنٌ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على صاحِبِ الصَّوتِ والوَجهِ الحَسَنِ، أَبي القاسِمِ جَدِّ الحُسَينِ وَالحَسَنِ ﷺ.
يقول الله تعالى: ﴿لَقَد جَاءكُم رَسُولٌ مِّن أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة التّوبة، 128].
أمَّا بَعدُ، فَهَذَا بَيَانُ جَوَازِ الاحتِفَالِ بِالمَولِدِ وَأَنَّ فِيهِ أَجرًا وَثَوَابًا، نَقولُ مُتَوَكِّلينَ عَلَى اللهِ.
*[2] تعريف البِدعة ولُغَتُها:*
أكثر شبهة يطرحوها المانعون للمولد أن المولد بدعة فلا بد أن نفهم ما هي البدعة قبل أن نذكر أدلة جواز المولد النبوي الشريف.
فالبدعة لغةً: هي ما أُحدِثَ على غَيرِ مِثالٍ سابِقٍ، ويقال: جِئتُ بأمرٍ بديعٍ، أي مُحدَثٍ عَجيبٍ لم يُعرف قبل ذلك.
في الشرع: المحدث الذي لم ينصّ عليه القُرآنُ ولا جاء في السنة، كما ذكر ذلك الفقيه اللغوي المشهور الفيومي في كتابه «المصباح المنير»، والحافظ الفقيه اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في كتابه «تاج العروس» وغيرهما.
فليس معنى البدعة أنها حرام بالضرورة، بل يمكن أن تكون حسنة أو سيئة حسب مطابقتها للشريعة.
*[3] أقسام البِدعة:*
البدعة تنقسم إلى قسمين:
1. بدعة ضلالة: وهي المحدثة التي تخالف القرآن والسنة.
2. بدعة هدى: وهي المحدثة التي توافق الكتاب والسنة.
الدليل على هذا التقسيم
هذا التقسيم مفهوم من حديث البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
ورواه مسلم بلفظ آخر: «مَن عمِل عَملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌ».
فأفهم رسول الله ﷺ بقوله: «ما ليس منه» أن المحدث إنما يكون مردودًا إذا كان على خلاف الشريعة، وأن المحدث الموافق للشريعة ليس مردودًا.
وهو مفهوم أيضًا مما رواه مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
فالبدعة قد تكون حسنة موافقةً للشريعة لا إشكال فيها، بل وقد يكون لها ثواب كما ذكر رسول الله ﷺ، وقد تكون سيئة مخالفة للشريعة فتكون مكروهة أو حرامًا.
*[4] الدَّليلُ من القُرآنِ الكَرِيمِ على البِدعة الحَسَنَة:*
قَولُ الله تعالى في مَدحِ المُؤمِنِينَ مِن أُمَّةِ سَيِّدِنَا عِيسَى: ﴿وَجَعَلنَا في قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأفَةً وَرَحمَةً وَرَهبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبنَاهَا عَلَيهِم إِلَّا ابتِغَاءَ رِضوَانِ الله﴾ [سورة الحديد، 27]
فالله امتدح المسلمين الذين كانوا على شريعة عيسى عليه السلام، لأنهم كانوا أهل رحمة ورأفة، ولأنهم ابتدعوا الرهبانية، وهي الانقطاع عن الشهوات المباحة زيادةً على تجنب المحرمات، حتى إنهم انقطعوا عن الزواج وتركوا اللذائذ من المطاعم والثياب الفاخرة وأقبلوا على الآخرة إقبالًا تامًّا، فالله امتدحهم على هذه الرهبانية مع أن عيسى عليه السلام لم ينص لهم عليها.
أمَّا قَولُه تعالى في بقية الآية: ﴿فَمَا رَعَوهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [سورة الحديد، 27]، فليس فيها ذمٌّ لهم ولا للرهبانية التي ابتدعها أولئك الصادقون المؤمنون، بل الذم لمن جاء بعدهم ممن قلدهم في الانقطاع عن الشهوات مع الشرك، أي مع عبادة عيسى عليه السلام وأمه.
*[5] الدَّليلُ مِنَ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ على البِدعَةِ الحَسَنَة:*
قال رسول الله ﷺ: «مَن سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجرُهَا وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِها بَعدَهُ مِن غَيرِ أَن يَنقُصَ مِن أُجورِهِم شَيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كانَ عَلَيهِ وِزرُهَا وَوِزرُ مَن عَمِلَ بِهَا مِن بَعدِهِ مِن غَيرِ أَن يَنقُصَ مِن أَوزَارِهِم شَيءٌ» رواه مسلم في صحيحه عن حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
يفهم من هذا الحديث أن رسول الله ﷺ عَلَّمَ أمَّتَه أنَّ البدعة على ضَربَين:
1. بدعة ضلالة: وهي المحدثة المخالفة للقرآن والسُّنة.
2. بدعة هدى: وهي المحدثة الموافقة للقرآن والسُّنة.
فإن قيل: هذا المقصود به ما سَنَّ في حياة رسول الله ﷺ، أما بعد وفاته فلا، فالجواب: أنَّ «الخصوصية لا تثبت إلا بدليل»، وهنا الدليل يُعطي خلاف ما يَدَّعون، حيث إن رسول الله ﷺ قال: «مَن سَنَّ في الإسلام» ولم يقل: «مَن سَنَّ في حياتي» ولا «مَن عمل عملًا أنا عملته فأحييته»، ولم يكن الإسلام مقصورًا على زمن رسول الله ﷺ، فبَطَل زعمهم.
وإن قيل: إن سبب الحديث كان لرؤية بعض الفقراء شديدي الفقر يلبسون النِّمار، فتمعر وجه رسول الله ﷺ لما رأى من بؤسهم، فتصدَّق الناس وجمعوا لهم شيئًا كثيرًا فتهلل وجه رسول الله ﷺ، فقال: «مَن سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجرُهَا وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِها»، فالجواب: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما ذكر علماء الأصول.
*[6] الدَّليلُ مِن أَقوالِ وأفعالِ الخُلَفاءِ الرَّاشدين على البِدعَةِ الحَسَنَة:*
لقد أحدث الخُلَفاء الرَّاشدون أشياءً لم يفعلها رسول الله ﷺ ولا أمر بها مما يُوافق الكتاب والسُّنة فكانوا قدوة لنا فيها:
• أبو بَكر الصِّدِّيق رضي الله عنه يجمع القرآن ويسمّيه بالمصحف.
• عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد ويقول عنها: «نِعمَتِ البِدعَةِ هذه» كما في صحيح البخاري.
• عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أول من أمر بالأذان الأول لصلاة الجمعة كما في صحيح البخاري.
• الإمام عليّ رضي الله عنه ينقّط المصحف ويشكّله في زمانه على يد يحيى بن يعمر التَّابِعِيُّ رحمه الله كما في كتاب المصاحف لابن أبي داود..
• عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يعمل المحاريب والمآذن للمساجد.
• أَوَّلُ مَن قَالَ عِندَ الرَّفعِ مِنَ الرُّكُوعِ: «رَبَّنَا وَلَكَ الحَمدُ، حَمدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ»: رِفَاعَةُ بنُ رَافِعٍ رضي الله عنه كما قال ابن حجر، وحديثه في صحيح البخاري.
• أَوَّلُ مَن صَلَّى رَكعَتَينِ قَبلَ أَن يُقتَلَ: خُبَيبُ بنُ عَدِيٍّ رضي الله عنه كما في صحيح البخاري.
• أَوَّلُ مَا سُنَّ مِنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ جَهرًا بَعدَ الأَذَانِ: فِي عَهدِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ الأَيُّوبِيِّ [ذَكَرَهُ السَّخَاوِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ].
• أَوَّلُ مَن سَنَّ عَمَلَ الِاحتِفَالِ بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ: المَلِكُ المُظَفَّرُ حَاكِمُ أَربِلَ [ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي «حُسنِ المَقصِدِ»]، وَاستَحسَنَهُ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ وَالحَافِظُ السَّخَاوِيُّ وَغَيرُهُمَا.
فَيَتَبَيَّنُ مِن هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا أُحدِثَ فِي الإِسلَامِ مِمَّا يُوَافِقُ القَوَاعِدَ الشَّرعِيَّةَ لَيسَ بِبِدعَةٍ ضَلَالَةٍ، بَل هُوَ دَاخِلٌ تَحتَ مَسمَّى السُّنَّةِ الحَسَنَةِ، لِقَولِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَن سَنَّ فِي الإِسلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجرُهَا، وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا مِن بَعدِهِ، مِن غَيرِ أَن يَنقُصَ مِن أُجُورِهِم شَيءٌ».
كل هذه الأمور لم تكن في زمن رسول الله ﷺ، فهل يمنعها المانعون للمولد في أيامنا هذه، أو أنهم سيتحكمون في ما يُباح وما يُحرَّم؟! وقد فعلوا ذلك، فإنهم حرّموا المولد وأباحوا نقط المصحف وتشكيله، وأباحوا أشياء كثيرة لم يفعلها رسول الله ﷺ كالرزنامات (مواقيت الصلوات) التي لم تظهر إلا قبل نحو ثلاثمائة عام وهم يشتغلون بها وينشرونها بين الناس.
*[7] الدَّليلُ مِنَ أقوالِ عُلَمَاءِ السَّلَف على البِدعَةِ الحَسَنَة:*
• قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «المحدثات من الأمور ضَربَان: أحدهما ما أُحدِث مما يُخالِف كتابًا أو سُنَّةً أو إِجماعًا أو أثرًا فهذه البدعة الضلالة، والثانية ما أُحدِث من الخير ولا يُخالِف كتابًا أو سُنَّةً أو إِجماعًا، وهذه محدثة غير مذمومة» رواه البيهقي بالإسناد الصحيح في كتابه «مناقب الشافعي».
• قال أبو حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين»: «وما يُقال إنه أُبدع بعد رسول الله ﷺ فليس كل ما أُبدع منهيًا، بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمرًا من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيّرت الأسباب».
• قال العز بن عبد السلام في «قواعد الأحكام»: «البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرَّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة، ثم قال: والطريق في ذلك أن تُعرَض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرَّمة، أو في قواعد الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة».
• قال النووي في «شرح مسلم»: «قولُه ﷺ: (وكل بدعة ضلالة) هذا عام مخصوص، والمراد غالب البدع. قال أهل اللغة: هي كل شيء عُمِل على غير مثال سابق» إلى أن قال: «فإذا عُرف ما ذكرتُه عُلم أن الحديث من العام المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التراويح: (نعمت البدعة)، ولا يمنع من كون الحديث عامًّا مخصوصًا قولُه: (كل بدعة) مؤكدًا بكل، بل يدخلُه التخصيص مع ذلك كقوله تعالى: ﴿تُدَمَّرُ كُلُّ شَيءٍ﴾» انتهى.
• قال النووي أيضًا: «قوله ﷺ: (من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها..) إلى آخره، فيه الحث على الابتداء بالخيرات وسنّ السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام أنَّه قال في أوَّله: (فجاء رجل بصُرَّة كادت كفُّه تعجز عنها فتتابع الناس)، وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير والفاتح لباب هذا الإحسان. وفي هذا الحديث تخصيص قول ﷺ: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة»
• قال ابن حجر العسقلاني في «الفتح»: «قولُه قال عمر: (نعم البدعة) في بعض الروايات (نعمت البدعة) بزيادة التاء، والبدعة أصلها ما أُحدث على غير مثال سابق، وتُطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبَح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة».
• وقال ابن حجر في «الفتح»، المجلد الثاني، كتاب الجمعة، باب الأذان يوم الجمعة: «وكُلُّ ما لم يكن في زمنه ﷺ يُسمَّى بدعة، لكن منها ما يكون حسنًا ومنها ما يكون بخلاف ذلك».
• وروى أبو نُعيم في [حلية الأولياء] بسنده إلى حرملة بن يحيى قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السُّنَّة فهُو محمود وما خالف السُّنَّة فهُو مذموم، واحتجَّ بقول عُمر بن الخطَّاب في قيام رمضان (نعمتِ البدعةُ هي) انتهَى.
*[8] المولد النبوي الشريف: سُنَّة حسنة وليست من البدع المذمومة:*
المَولِدُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَلَيسَ داخِلاً في البِدَعِ الَّتي نَهَى عنها رسول الله ﷺ بقوله: «وكُلُّ بِدعَةٍ ضلالَةٌ».
قال الحافظ العراقي في ألفيته: «وخيرُ ما فسَّرته بالوارِد» أي أحسن ما يُفسَّر به الوارد الوارد، وقال العلماء: إن أحسن تفسير ما وافق السياق، وسياق الحديث ابتدأه الرسول ﷺ بقوله: «فَإِنَّ أَحسَنَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ» أي أحسن الكلام كلام الله، «وَأَحسَنَ الهَديِ هَديُ مُحَمَّدٍ» أي أحسن السير سيرة محمد ﷺ، ثم قال: «وَشَرُّ الأُمور مُحدَثاتها».
ويكون المعنى: إن شرَّ الأمور المحدثات التي خالفت أحسن الحديث وأحسن الهدي، وهي بدعة الضلالة، فلا دخل للبدعة الحسنة في ذلك الذم المذكور.
قال النووي في شرح صحيح مسلم (المجلد السادس، ص. 145): «قوله ﷺ: «وكُلُّ بِدعَةٍ ضلالَةٌ» هذا عامٌّ مخصوص، أي لفظه عام ومعناه مخصوص، والمراد به غالب البدع».
وقال أيضًا: لا يمنع من كونه عامًّا مخصوصًا، كما في قوله تعالى: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَىء﴾ [سورة الأحقاف، 25]، فاللفظ عام ومعناه مخصوص، لأن هذه الريح التي ورد أنها تدمر كل شيء سخّرها الله على الكافرين من قوم عاد فأهلكتهم ولم تدمر كل من على وجه الأرض، لأن الله تعالى أخبرنا أنه نجّى هودًا عليه السلام ومن معه من المؤمنين، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمرُنَا نَجَّينَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنَّا وَنَجَّينَاهُم مِن عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [سورة هود، 58].
ومن الأمثلة على العام المخصوص قول الرسول ﷺ: «كُلُّ عَينٍ زانيةٌ»، ومعروف شرعًا أن هذا الحديث لا يشمل أعين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن الله تعالى عصمهم من ذلك، لقوله تعالى: ﴿وَكُلًّا فَضَّلنَا عَلَى العَالَمِينَ﴾ [سورة الأنعام، 86].
وقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في سننه، في باب ذكر الصور والبعث، أن النبي ﷺ قال: «كُلُّ ابنِ ءادَمَ تأكُلُهُ الأرض إلا عَجبَ الذَّنَبِ مِنهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكَّبُ».
وهذا يؤيّد أن كلمة «كلّ» لا تأتي دائمًا للشمول الكلي، بدليل أن الرسول ﷺ قال: «إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»، فيكون معنى الحديث: «كل ابن آدم تأكله الأرض» الغالب، مع استثناء الأنبياء.
فاتضح بما ذكرنا أن المولد النبوي الشريف سُنَّة حسنة وليست من البدع المذمومة
وَخِتَامًا، نَسأَلُ اللَّهَ أَن يُوَفِّقَنَا لِسُلُوكِ طَرِيقِ الحَقِّ، وَأَن يُجَنِّبَنَا الفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَن يَجعَلَنَا مِن أَهلِ العِلمِ وَالبَصِيرَةِ، الَّذِينَ يَنصُرُونَ الحَقَّ وَلَو كَانُوا قِلَّةً.
فَهَنِيئًا لِلرَّاكِبِينَ فِي سَفِينَةِ النَّجَاةِ. وَاللَّهُ المُستَعَانُ، هُوَ نِعمَ المَولَى وَنِعمَ الوَكِيلُ.
*كَتَبَهُ:*
د. مُحَمَّدُ عَبدُ الجَوَادِ الصَّبَّاغُ
الرَّاجِي رَحمَةَ رَبِّهِ.
*«الدَّلائِلُ النَّاصِعَةُ في جَوَازِ الِاحتِفَالِ بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ»*
*ما مَعنَى الِاحتِفَالِ بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ وَأَقوَالُ العُلَمَاءِ فِيهِ [2]*
الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ العَرَبِيِّ الهَاشِمِيِّ الأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
*[1] كَيفَ يَكُونُ الِاحتِفَالُ بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ؟*
الِاحتِفَالُ بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ هُوَ إِظهَارُ بَعضِ مَظَاهِرِ الفَرَحِ وَالسُّرُورِ، ابتِهَاجًا بِهٰذِهِ النِّعمَةِ العَظِيمَةِ، وَهِيَ نِعمَةُ بُرُوزِ الحَبِيبِ المُصطَفَى ﷺ إِلَى هٰذِهِ الدُّنيَا، وَهَدَانَا بِهُدَاهُ وَبَيَانِهِ.
المَولِدُ هُوَ مَظهَرُ شُكرٍ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ أَظهَرَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا ﷺ فِي مِثلِ هٰذَا الشَّهرِ، هَادِيًا لِلنَّاسِ، مُستَحِقًّا لِلتَّعظِيمِ. وَفِي المَولِدِ اجتِمَاعٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، وَذِكرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَردِ شَيءٍ مِن سِيرَتِهِ ﷺ وَنَسَبِهِ الشَّرِيفِ، وَوَصفِ بَعضِ صِفَاتِهِ الخَلقِيَّةِ وَالخُلُقِيَّةِ، وَإِطعَامِ الطَّعَامِ لِوَجهِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكُلُّ هٰذِهِ الأَعمَالِ مِمَّا حَثَّ عَلَيهِ الشَّرعُ الحَنِيفُ وَدَعَا إِلَيهِ النَّبِيُّ الكَرِيمُ ﷺ، وَلَيسَ فِيهَا حَرَجٌ، وَلَو خُصَّت بِهٰذَا الشَّهرِ. فَبَعدَ هٰذَا، لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَن يُحَرِّمَ عَمَلَ المَولِدِ فَرَحًا بِمِيلَادِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مَا لَم يَشتَمِل عَلَى مُخَالَفَاتٍ شَرعِيَّةٍ، كَالِاختِلَاطِ المُحَرَّمِ، أَو تَحرِيفِ اسمِ اللَّهِ فِي الذِّكرِ، أَو سَردِ قِصَصٍ مَوضُوعَةٍ مَنسُوبَةٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ.
*[2] مَاذَا نَفعَلُ فِي المَولِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ؟*
• قِرَاءَةُ القُرآنِ الكَرِيمِ: ﴿فَاقرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرآنِ﴾.
• ذِكرُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَاذكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ﴾.
• الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ادعُوا رَبَّكُم تَضَرُّعًا وَخُفيَةً﴾.
• التَّعَاوُنُ عَلَى الخَيرِ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى﴾.
• مَدحُ الرَّسُولِ ﷺ وَتَعظِيمُهُ: ﴿وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ﴾، وَمَعنَى «عَزَّرُوهُ» أَي عَظَّمُوهُ، وَالمَدحُ مِنَ التَّعظِيمِ.
• إِطعَامُ الطَّعَامِ: ﴿وَيُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾.
• التَّذكِيرُ بِالخَيرِ: ﴿وَذَكِّر فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ المُؤمِنِينَ﴾.
• الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا﴾.
فَإِذَا كَانَ كُلُّ مَا نَفعَلُهُ أَمرًا بِهِ القُرآنُ، فَأَينَ الحَرَامُ إِذًا؟
*[3] بَيَانُ أَنَّ الِاحتِفَالَ بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ مِنَ السُّنَنِ الحَسَنَةِ:*
إِذَا كَانَ الِاحتِفَالُ بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ، كَمَا ذَكَرنَا، كُلُّ مَا يُفعَلُ فِيهِ مُوَافِقًا لِلقُرآنِ وَالأَوَامِرِ الشَّرعِيَّةِ، وَكَانَ الأَمرُ المُحدَثُ الَّذِي يُوَافِقُ الشَّرِيعَةَ مَقبُولًا وَحَسَنًا، فَإِنَّ الِاحتِفَالَ بِالمَولِدِ لَا حَرَجَ فِيهِ.
المَولِدُ هُوَ شُكرٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَن أَظهَرَ مُحَمَّدًا ﷺ فِي مِثلِ هٰذَا الشَّهرِ، وَلَيسَ عِبَادَةً لِمُحَمَّدٍ ﷺ؛ نَحنُ لَا نَعبُدُ مُحَمَّدًا وَلَا نَعبُدُ شَيئًا سِوَى اللَّهِ، وَلٰكِن نُعَظِّمُهُ تَعظِيمًا فَقَط نُعظّم محمدًا أكثر من غيره من الأنبياء والملائكة، ثم نُعظّم كل الأنبياء، ولا نعبد واحدًا منهم، لا نعبد محمدًا ولا أي ملك، ولا نعبد الشمس ولا القمر. نهاية التذلل عندنا لله، نضع جباهنا بالأرض ونقدّسه، ونهاية التذلل هي العبادة، وهذه لا نفعلها لسيّدنا محمد ﷺ، إنما عبادتنا لله. نحن لا نعبد محمدًا بل نعتبره داعيًا إلى الله، هدى الناس ويستحق التعظيم. أقل من العبادة، أقل من أن يُعبد. والله تعالى امتدح الذين آمنوا به ﷺ وعزّروه أي عظموه، فقال عز وجل: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ المُفلِحُون﴾ [سورة الأعراف، 157].
المولد فيه اجتماعٌ على طاعة الله، اجتماعٌ على حب الله وحب رسول الله ﷺ، اجتماعٌ على ذكر الله وذكر شيءٍ من سيرة رسول الله ﷺ ونسبه الشريف، وشيءٍ من صفاته الخَلقية والخُلقية، وفيه إطعام الطعام لوجه الله تبارك وتعالى، والله تعالى يقول: ﴿وَيُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ [سورة الإنسان، 8]. بعد هذا، كيف يُحرّم شخصٌ يدّعي العلم عملَ المولد فرحًا بولادة رسول الله ﷺ؟
*[4] أَقوَالُ العُلَمَاءِ فِي جَوَازِ الِاحتِفَالِ بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ:*
1. *قَولُ الشَّيخِ مُحَمَّدِ الخَضِرِ حُسَين التُّونِسِي المالِكِي*
قَالَ الشَّيخُ مُحَمَّدُ الخَضِرِ حُسَين التُّونِسِي المَالِكِي (تُوُفِّيَ سَنَةَ 1378هـ)، شَيخُ جَامِعِ الأَزهَرِ سَابِقًا، فِي مَجَلَّةِ «الهِدَايَةِ الإِسلَامِيَّةِ» (ج11 / م2) مَا نَصُّهُ: «أَمَّا احتِفَالُنَا بِذِكرَى مَولِدِهِ فَإِنَّا لَم نَفعَل غَيرَ مَا فَعَلَهُ حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، حِينَ كَانَ يَجلِسُ إِلَيهِ النَّاسُ وَيُسمِعُهُم مَدِيحَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شِعرٍ، وَلَم نَفعَل غَيرَ مَا فَعَلَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، أَو البَرَاءُ بنُ عَازِبٍ، أَو أَنَسُ بنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم، حِينَ يَتَحَدَّثُونَ عَن مَحَاسِنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الخَلقِيَّةِ وَالخُلُقِيَّةِ فِي جَمَاعَةٍ».
2. *قَولُ الحَافِظِ العِرَاقِي (شَيخِ الحَافِظِ ابنِ حَجَرٍ العَسقَلَانِي)*
ذَكَرَ الحَافِظُ العِرَاقِي (725 – 808هـ) فِي مُؤَلَّفِهِ «المَورِدِ الهَنِيِّ فِي المَولِدِ السَّنِيِّ» مَا يَلِي: «إِنَّ اتِّخَاذَ الوَلِيمَةِ وَإِطعَامَ الطَّعَامِ مُستَحَبٌّ فِي كُلِّ وَقتٍ، فَكَيفَ إِذَا انضَمَّ إِلَى ذٰلِكَ الفَرَحُ وَالسُّرُورُ بِظُهُورِ نُورِ النَّبِيِّ ﷺ فِي هٰذَا الشَّهرِ الشَّرِيفِ. وَلَا يَلزَمُ مِن كَونِهِ بِدعَةً كَونُهُ مَكرُوهًا، فَكَم مِن بِدعَةٍ مُستَحَبَّةٍ بَل قَد تَكُونُ وَاجِبَةً».
3. *الأَصلُ الَّذِي استَخرَجَهُ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ العَسقَلَانِي مِنَ السُّنَّةِ*
الأَصلُ الَّذِي استَخرَجَهُ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى جَوَازِ عَمَلِ المَولِدِ، فِي كِتَابِهِ «الحَاوِي لِلفَتَاوَى» (1/189-197)، مَا رَوَاهُ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَومَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَن ذٰلِكَ، فَقَالُوا: «هُوَ اليَومُ الَّذِي أَظهَرَ اللَّهُ مُوسَى وَبَنِي إِسرَائِيلَ عَلَى فِرعَونَ، وَنَحنُ نَصُومُهُ تَعظِيمًا لَهُ»، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نَحنُ أَولَى بِمُوسَى»، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ أَمرَ استِحبَابٍ.
وَيُستَفَادُ مِن هٰذَا الحَدِيثِ فِعلُ الشُّكرِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا تَفَضَّلَ بِهِ فِي يَومٍ مُعَيَّنٍ مِن حُصُولِ نِعمَةٍ أَو رَفعِ نِقمَةٍ، وَيُعَادُ ذٰلِكَ فِي نَظِيرِ ذٰلِكَ اليَومِ مِن كُلِّ سَنَةٍ. وَالشُّكرُ لِلَّهِ يَحصُلُ بِأَنوَاعِ العِبَادَةِ كَالسُّجُودِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالتِّلَاوَةِ، وَأَيُّ نِعمَةٍ أَعظَمُ مِن نِعمَةِ بُرُوزِ النَّبِيِّ ﷺ؟
وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ العَسقَلَانِي: «إِنَّ قَاصِدِي الخَيرِ وَإِظهَارِ الفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِمَولِدِ النَّبِيِّ ﷺ وَالمَحَبَّةِ لَهُ، يَكفِيهِم أَن يَجمَعُوا أَهلَ الخَيرِ وَالصَّلَاحِ وَالفُقَرَاءَ وَالمَسَاكِينَ، فَيُطعِمُوهُم وَيَتَصَدَّقُوا عَلَيهِم مَحَبَّةً لَهُ ﷺ فإن أرادوا فوق ذلك، أَمروا من يُنشد من المدائح النبوية والأشعار المتعلقة بالحثِّ على الأخلاق الكريمة مما يُحرك القلوب إلى فعل الخيرات، والكفِّ عن البدع المُنكرات أي لأنَّ من أقوى الأسباب الباعثة على محبته صلى الله عليه وسلم سماعَ الأصوات الحسنة المطربة بإنشاد المدائح النبوية، إذا صادفت محلا قابلا فإنها تُحدِث للسامع شكرًا ومحبة» انتهى من كتاب [روح السِيَر] للبرهان ابراهيم الحلبي الحنفي»
4. *الحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ أَبِي بَكرٍ السُّيُوطِيُّ (المُتَوَفَّى 911هـ)*
الأَصلُ الَّذِي استَخرَجَهُ الحَافِظُ السُّيُوطِيُّ مِنَ السُّنَّةِ عَلَى جَوَازِ عَمَلِ المَولِدِ فِي رِسَالَتِهِ «حُسنُ المَقصِدِ فِي عَمَلِ المَولِدِ»: قَولُ النَّبِيِّ ﷺ: «ذَاكَ يَومٌ وُلِدتُ فِيهِ، وَفِيهِ أُنزِلَ عَلَيَّ» لَمَّا سُئِلَ عَن سَبَبِ صِيَامِهِ لِيَومِ الِاثنَينِ.
وَفِي هٰذَا الحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى استِحبَابِ صِيَامِ الأَيَّامِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ فِيهَا نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَإِنَّ مِن أَعظَمِ النِّعَمِ الَّتِي أَنعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَينَا إِظهَارَ النَّبِيِّ ﷺ وَبَعثَهُ إِلَينَا. وَدَلِيلُ ذٰلِكَ قَولُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولًا مِن أَنفُسِهِم﴾ [آل عمران: 164].
وَقَالَ الحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي رِسَالَتِهِ: «وَقَدِ استَخرَجَ لَهُ – أَيِ المَولِدِ – إِمَامُ الحُفَّاظِ أَبُو الفَضلِ ابنُ حَجَرٍ أَصلًا مِنَ السُّنَّةِ، وَاستَخرَجتُ لَهُ أَنَا أَصلًا ثَانِيًا…».
وَقَالَ فِي «حُسنِ المَقصِدِ فِي عَمَلِ المَولِدِ»: «إِنَّ أَصلَ عَمَلِ المَولِدِ الَّذِي هُوَ اجتِمَاعُ النَّاسِ، وَقِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرآنِ، وَرِوَايَةُ الأَخبَارِ الوَارِدَةِ فِي مَبدَإِ أَمرِ النَّبِيِّ ﷺ، وَمَا وَقَعَ فِي مَولِدِهِ مِنَ الآيَاتِ، ثُمَّ يُمَدُّ لَهُم سِمَاطٌ يَأكُلُونَهُ وَيَنصَرِفُونَ مِن غَيرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذٰلِكَ، هُوَ مِنَ البِدَعِ الحَسَنَةِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيهَا صَاحِبُهَا، لِمَا فِيهِ مِن تَعظِيمِ قَدرِ النَّبِيِّ ﷺ، وَإِظهَارِ الفَرَحِ وَالِاستِبشَارِ بِمَولِدِهِ ﷺ الشَّرِيفِ».
5. *الحَافِظُ مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الرَّحمَنِ السَّخَاوِيُّ (المُتَوَفَّى 902هـ)*
قَالَ فِي فَتَاوِيهِ: «إِنَّ عَمَلَ المَولِدِ حَدَثَ بَعدَ القُرُونِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ لَا زَالَ أَهلُ الإِسلَامِ مِن سَائِرِ الأَقطَارِ فِي المُدُنِ الكِبَارِ يَعمَلُونَ المَولِدَ وَيَتَصَدَّقُونَ فِي لَيَالِيهِ بِأَنوَاعِ الصَّدَقَاتِ، وَيَعتَنُونَ بِقِرَاءَةِ مَولِدِهِ الكَرِيمِ، وَيَظهَرُ عَلَيهِم مِن بَرَكَاتِهِ كُلُّ فَضلٍ عَمِيمٍ».
6. *الحَافِظُ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ إِسمَاعِيلَ، المَعرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ (المُتَوَفَّى 665هـ)*
قَالَ فِي «البَاعِثِ عَلَى إِنكَارِ البِدَعِ وَالحَوَادِثِ»: «وَمِن أَحسَنِ البِدَعِ مَا يُفعَلُ كُلَّ عَامٍ فِي اليَومِ المُوَافِقِ لِيَومِ مَولِدِهِ ﷺ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالمَعرُوفِ وَإِظهَارِ الزِّينَةِ وَالسُّرُورِ، فَإِنَّ ذٰلِكَ – مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الإِحسَانِ إِلَى الفُقَرَاءِ – مُشعِرٌ بِمَحَبَّتِهِ ﷺ وَتَعظِيمِهِ وَجَلَالَتِهِ فِي قَلبِ فَاعِلِ ذٰلِكَ، وَبِشُكرِ اللَّهِ عَلَى النِّعمَةِ المُحَمَّدِيَّةِ».
7. *الشَّيخُ مُحَمَّدُ بنُ أَحمَدَ عَلِيش المَالِكِيُّ (المُتَوَفَّى 1299هـ)*
قَالَ فِي كِتَابِهِ «القَولُ المُنجِي» مَا نَصُّهُ:
«لَا زَالَ أَهلُ الإِسلَامِ يَحتَفِلُونَ وَيَهتَمُّونَ بِشَهرِ مَولِدِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَعمَلُونَ الوَلَائِمَ، وَيَتَصَدَّقُونَ فِي لَيَالِيهِ بِأَنوَاعِ الصَّدَقَاتِ، وَيُظهِرُونَ السُّرُورَ، وَيَظهَرُ عَلَيهِم مِن بَرَكَاتِهِ كُلُّ فَضلٍ عَمِيمٍ، وَأَوَّلُ مَن أَحدَثَ فِعلَ المَولِدِ المَلِكُ المُظَفَّرُ أَبُو سَعِيدٍ صَاحِبُ إِربِل، فَكَانَ يَعمَلُهُ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَيَحتَفِلُ احتِفَالًا هَائِلًا، وَقَد حَكَى بَعضُ مَن حَضَرَ سِمَاطَهُ فِي بَعضِ المَوَالِدِ أَنَّهُ عَدَّ فِيهِ (خَمسَةَ آلَافِ رَأسِ غَنَمٍ مَشوِيٍّ، وَعَشَرَةَ آلَافِ دَجَاجَةٍ، وَمِائَةَ أَلفِ زُبدِيَّةٍ، وَثَلَاثِينَ أَلفَ صَحنِ حَلوَى)، وَكَانَ شَهمًا شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا عَالِمًا عَادِلًا، وَكَانَ يَحضُرُ عِندَهُ فِي المَولِدِ أَعيَانُ العُلَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ».
8. *الشَّيخُ عَبدُ المَجِيدِ المَغرِبِيُّ الطَّرَابُلُسِيُّ (المُتَوَفَّى 1352هـ)*
قَالَ فِي «المِنهَاجِ فِي المِعرَاجِ»: «اعتَادَ النَّاسُ الِاحتِفَالَ لِاستِمَاعِ قِصَّةِ مَولِدِهِ الشَّرِيفِ ﷺ، وَلَنِعمَتِ الذِّكرَى بِمَولِدِ النَّبِيِّ العَظِيمِ الَّذِي أَخرَجَ اللَّهُ الخَلقَ بِهِدَايَتِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ».
9. *السَّيِّدُ عَلَوِيُّ المَالِكِيُّ، المُدَرِّسُ بِالمَسجِدِ الحَرَامِ (المُتَوَفَّى 1391هـ)*
قَالَ فِي [مَجمُوعِ فَتَاوَاهُ وَرَسَائِلِهِ] مَا نَصُّهُ:
«يَحتَوِي المَولِدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشيَاءَ:
أَوَّلًا: أَنَّهُ يَحتَوِي عَلَى ذِكرِ اسمِهِ ﷺ وَنَسَبِهِ، وَكَيفِيَّةِ وِلَادَتِهِ، وَمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الآيَاتِ، وَكَيفِيَّةِ نَشأَتِهِ، وَمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الرِّحلَةِ لِلتِّجَارَةِ، وَالإِرهَاصَاتِ الغَرِيبَةِ، وَالأَحوَالِ العَجِيبَةِ، وَذِكرِ مَبدَإِ بَعثَتِهِ، وَمَا لَاقَاهُ مِنَ الأَذَى وَالمِحنَةِ فِي سَبِيلِ نَشرِ الدَّعوَةِ وَتَبلِيغِ القُرآنِ، وَذِكرِ هِجرَتِهِ، وَمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الغَزَوَاتِ وَالمَوَاقِفِ وَالأَحوَالِ، وَذِكرِ وَفَاتِهِ. وَهَل يَشُكُّ النَّاظِرُ فِي ذٰلِكَ أَنَّ سِيرَةَ سَيِّدِ الخَلقِ ﷺ وَسِيلَةٌ لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ، وَوَاسِطَةٌ لِتَمَامِ مَعرِفَتِهِ؟
الثَّانِي: أَنَّ المَولِدَ سَبَبٌ لِلصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ المَطلُوبُ مِنَّا بِقَولِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا﴾، وَكَم لِلصَّلَاةِ عَلَيهِ مِن فَوَائِدَ.
الثَّالِث: أَنَّهُ يَحتَوِي عَلَى ذِكرِ أَخلَاقِهِ الشَّرِيفَةِ، وَسُنَّتِهِ الجَلِيلَةِ، وَآدَابِهِ الَّتِي أَدَّبَهُ بِهَا رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَفِي ذٰلِكَ حَثٌّ عَلَى مُتَابَعَتِهِ، وَحَضٌّ عَلَى آثَارِهِ، وَالسَّيرِ عَلَى مَنهَجِهِ، وَالِاقتِدَاءِ بِآدَابِهِ. هٰذَا، وَقَدِ اكتَسَبَ العُلَمَاءُ الدُّعَاةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي البِلَادِ الحَضرَمِيَّةِ فُرصَةَ اجتِمَاعِ العَامَّةِ فِي مَجلِسِ المَولِدِ الشَّرِيفِ، فَقَامُوا بِمُذَاكَرَتِهِم، وَجَعَلُوا ذٰلِكَ وَسِيلَةً لِإِرشَادِهِم، وَفِي ذٰلِكَ نَفعٌ عَمِيمٌ وَإِرشَادٌ لِلصِّرَاطِ المُستَقِيمِ».انتَهَى كَلَامُ السَّيِّدِ عَلَوِيِّ المَالِكِيِّ.
وَلَو أَرَدنَا الِاستِقصَاءَ فِي جَمعِ أَقوَالِ عُلَمَاءِ أَهلِ السُّنَّةِ فِي جَوَازِ وَمَشرُوعِيَّةِ عَمَلِ المَولِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ لَاحتَجنَا إِلَى عَشَرَاتِ المَقَالَاتِ، وَاللَّبِيبُ مِنَ الإِشَارَةِ يَفهَمُ.
وَخِتَامًا نَسأَلُ اللَّهَ أَن يُوَفِّقَنَا لِسُلُوكِ طَرِيقِ الحَقِّ، وَأَن يُجَنِّبَنَا الفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَن يَجعَلَنَا مِن أَهلِ العِلمِ وَالبَصِيرَةِ، الَّذِينَ يَنصُرُونَ الحَقَّ وَلَو كَانُوا قِلَّةً.
فَهَنِيئًا لِلرَّاكِبِينَ فِي سَفِينَةِ النَّجَاةِ. وَاللَّهُ المُستَعَانُ، هُوَ نِعمَ المَولَى وَنِعمَ الوَكِيلُ.
كَتَبَهُ:
د. مُحَمَّدُ عَبدُ الجَوَادِ الصَّبَّاغُ
الرَّاجِي رَحمَةَ رَبِّهِ.
*«الدَّلائِلُ النَّاصِعَةُ في جَوَازِ الِاحتِفَالِ بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ»*
*رَدُّ بَعْضِ شُبَهَاتِ مُنكِرِي الْاحْتِفَالِ بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ الجزء الأول [3]*
الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ العَرَبِيِّ الهَاشِمِيِّ الأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
*[1] الرَّدُّ عَلَى مَن يَقُولُ: تُحِبُّونَ النَّبِيَّ فَقَط فِي هَذَا الشَّهرِ، وَتَحتَفِلُونَ بِيَومِ وَفَاتِهِ وَلَيسَ مَولِدِهِ:*
إِقَامَةُ المَولِدِ فِي شَهرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ لَيسَ فِيهَا اختِزَالٌ لِمَحَبَّتِنَا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي يَومٍ وَاحِدٍ. أَلَيسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ لِليَهُودِ: «نَحنُ أَولَى بِمُوسَى مِنكُم»، وَأَمَرَ بِصِيَامِ يَومِ عَاشُورَاءَ؟ فَهَل يَكُونُ ﷺ بِذَلِكَ قَدِ اختَزَلَ مَحَبَّتَهُ لِمُوسَى عَلَيهِ السَّلَامُ فِي يَومٍ وَاحِدٍ؟ كَلَّا.
وَإِظهَارُنَا لِلفَرَحِ وَالسُّرُورِ فِي مِثلِ هَذَا اليَومِ بِمَولِدِهِ وَبِعثَتِهِ، لَيسَ قَدحًا فِي مَحَبَّتِنَا لَهُ ﷺ لِمُجَرَّدِ أَنَّ وَفَاتَهُ وَقَعَت فِي نَظِيرِ يَومِ وِلَادَتِهِ. أَلَيسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَالَ: «خَيرُ يَومٍ طَلَعَت عَلَيهِ الشَّمسُ يَومُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ ءَادَمُ، وَفِيهِ أُدخِلَ الجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخرِجَ مِنهَا»؟ فَتَفضِيلُنَا لِيَومِ الجُمُعَةِ لَا يَطعَنُ فِي مَحَبَّتِنَا لِآدَمَ عَلَيهِ السَّلَامُ، مَعَ أَنَّهُ نَظِيرُ اليَومِ الَّذِي أُخرِجَ فِيهِ مِنَ الجَنَّةِ. وَكَذَلِكَ، فَإِظهَارُ الفَرَحِ فِي يَومِ مَولِدِ النَّبِيِّ ﷺ لَا يَقدَحُ فِي مَحَبَّتِنَا لَهُ، مَعَ أَنَّ وَفَاتَهُ كَانَت فِي مِثلِ هَذَا اليَومِ.
المَولِدُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وإِظهارُنَا لِلفَرَحِ والسُّرورِ في مِثلِ هَذا اليوم بِوِلادَتِهِ وَبِعثَتِهِ لَيسَ قَدحًا في مَحَبَّتِنا لَهُ لِمُجَرَّدِ أنَّ يَومَ وَفاتِهِ كانَ في نَظيرِ يَومِ وِلادَتِهِ كَما زَعَمَ المانِعونَ لِلمَولِدِ : فَمَا استَنَدُوا عَلَيهِ لَيسَ لَهُم فيهِ مُتَمَسَّكٌ لأنَّ أيامَ الأُسبوعِ على مَرِّ العُصُورِ لا يَخلُو مِنها يَومٌ إِلا وَحَصَلَ فيهِ حادِثٌ أو مُصيبَةٌ ألَمَّت بِالمُسلمينَ وأحزَنَتهُم، فَعَلَى قَولِكُم المُسلِمونَ لا يَحتَفِلُونَ بِعُرسٍ ولا بِعيدٍ لأنَّهُ قَد يَكُونُ في مِثلِ اليومِ الَّذي ماتَ فيهِ الرَّسُولُ أو في مِثلِ اليَومِ الَّذي كُسِرَت رَبَاعِيَتُهُ وَشُقَّت شَفَتُهُ الشَّريفَةُ كَمَا حَصَلَ في غَزوَةِ أُحُدٍ. الحاصِلُ أنَّ ما ادَّعَيتُمُوهُ لا يَقبَلُهُ العَقلُ ولا النَّقلُ. ثُمَّ ألَيسَ الرَّسُولُ قال “خَيرُ يومٍ طَلَعَت عَلَيهِ الشَّمسُ يَومُ الجُمُعَةِ فيهِ خُلِقَ ءادَمُ وفيهِ أُدخِلَ الجَنَّةَ وفيه أُخرِجَ مِنهَا”رَواهُ مُسلِمٌ في الصَّحيحِ، فَتَفضيلُ الرَّسُولِ لِيومِ الجُمُعَةِ وَتَفضيلُنا لِهَذا اليومِ لَيسَ فيهِ قَدحٌ في مَحَبَّتِنا لآدَمَ مَعَ أنَّهُ نَظيرُ اليَومِ الَّذي أُخرِجَ فيهِ مِنَ الجَنَّةِ، كَذَلِكَ تَعظيمُنا لِيومِ عاشُوراءَ لِقَولِهِ “نَحنُ أولى بِمُوسى مِنكُم” وأمَرَ بِصَومِهِ لَيسَ فيهِ قَدحٌ في مَحَبَّتِنا لِسَيِّدِ شبابِ أهلِ الجنَّةِ الحَسَينِ بنِ عليٍّ رَضيَ اللهُ عَنهُما مَعَ أنَّهُ نَظيرُ اليَومِ الَّذي قُتِلَ فيهِ، كَذَلِكَ إِظهارُنا لِلفَرَحِ في مِثلِ يَومِ مَولِدِهِ لَيسَ فيهِ قَدحٌ لِمَحَبَّتِنا لَهُ مَعَ أنَّ وَفاتَهُ كَانَت في مِثلِ هَذا اليومِ.
*[2] الرَّدُّ عَلَى مَن يَقُولُ: أن مولد الرَّسول هو يوم وفاته ﷺ:*
شبهة أن مولد الرَّسول هو يوم وفاته صلَّى الله عليه:
يقول بعض مَن لم يكُن له نصيب مِن العلم (إنَّ التَّاريخ الَّذي وُلد فيه النَّبيُّ هُو التَّاريخ الَّذي تُوفِّيَ فيه وليس الفرح فيه بأَولى مِن الحُزن). انتهَى
والجواب على هذه الشبهة أن يقال أن اتفاق يوم المولد مع يوم الوفاة لا ينفي فضل يوم المولد، فنحن مأمورون بإظهار الفرح بالرَّحمة بنصِّ القُرآن الكريم (قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَليَفرَحُوا) ولا شكَّ أنَّ مولد نبيِّنا عليه السَّلام رحمةٌ مهداة، وقد حثَّنا الشَّرع أن نُظهر الفرح بالرَّحمة لولادة ابن أو ابنة ولم يحثَّنا على إظهار الجزع والتَّفجُّع لوفاة الولد وأوصانا بالصَّبر، فبطلت حُجَّة المُتفيهقين القائلين بمنع الاحتفال بيوم المولد النَّبويِّ بحجَُّة أنَّه هُو يوم وفاته.
ثم إن النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام قال (خَيرُ يومٍ طَلَعَت عَلَيهِ الشَّمسُ يَومُ الجُمُعَةِ فيهِ خُلِقَ ءادَمُ وفيهِ أُدخِلَ الجَنَّةَ وفيه أُخرِجَ مِنهَا) رواه مُسلم، فيوم الجمعة هو من أفضل أيام الأسبوع بالرغم أنه اليوم الذي خُلق فيه سيدنا آدم عليه السلام وهو أيضا اليوم الذي وافق خروجه من الجنة.
ثم إنه من الثابت بالإجماع أن خطبة الوداع كانت يوم جمعة وبالإجماع أيضا أن وفاته ﷺ كانت يوم إثنين وهذا يجعل من المستحيل أن يكون يوم الإثنين هو يوم 12 ربيع أول.
قال السهيلي في الروض الأنف (وَلَا يَصِحّ أَن يَكُونَ تُوُفّيَ ﷺ إلّا فِي الثّانِي مِن الشّهرِ أَو الثّالِثَ عَشَرَ أَو الرّابِعَ عَشَرَ أَو الخَامِسَ عَشَرَ لِإِجمَاعِ المُسلِمِينَ عَلَى أَنّ وَقفَةَ عَرَفَةَ فِي حَجّةِ الوَدَاعِ كَانَت يَومَ الجُمُعَةِ وَهُوَ التّاسِعُ مِن ذِي الحَجّةِ فَدَخَلَ ذُو الحَجّةِ يَومَ الخَمِيسِ فَكَانَ المُحَرّمُ إمّا الجُمُعَةُ وَإِمّا السّبتُ فَإِن كَانَ الجُمُعَةُ فَقَد كَانَ صَفَرٌ إمّا السّبتُ وَإِمّا الأَحَدُ فَإِن كَانَ السّبتُ فَقَد كَانَ رَبِيعٌ الأَحَدَ أَو الِاثنَينِ وَكَيفَا دَارَت الحَالُ عَلَى هَذَا الحِسَابِ فَلَم يَكُن الثّانِي عَشَرَ مِن رَبِيعٍ يَومَ الِاثنَينِ بِوَجهِ وَلَا الأَربِعَاءَ أَيضًا كَمَا قَالَ القُتَبِيّ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ عَن ابنِ الكَلبِيّ وَأَبِي مِخنَفٍ أَنّهُ تُوُفّيَ فِي الثّانِي مِن رَبِيعٍ الأَوّلِ وَهَذَا القَولُ وَإِن كَانَ خِلَافَ أَهلِ الجُمهُورِ فَإِنّهُ لَا يُبعَدُ أَن كَانَت الثّلَاثَةُ الأَشهُرُ الّتِي قَبلَهُ كُلّهَا مِن تِسعَةٍ وَعِشرِينَ فَتَدَبّرهُ فَإِنّهُ صَحِيحٌ وَلَم أَرَ أَحَدًا تَفَطّنَ لَهُ وَقَد رَأَيت لِلخَوَارِزمِيّ أَنّهُ تُوُفّيَ عَلَيهِ السّلَامُ فِي أَوّلِ يَومٍ مِن رَبِيعٍ الأَوّلِ وَهَذَا أَقرَبُ فِي القِيَاسِ بِمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ عَن ابنِ الكَلبِيّ وَأَبِي مِخنَفٍ). انتهى
فبهذا النقل يظهر أنه لا إجماع على يوم وفاته كما زعم الزاعمون بل اتفقوا على أنه يوم الإثنين واختلفوا في تحديد التاريخ.
*[3] الرَّدُّ عَلَى مَن يَقُولُ: أن يوم مولد النبي ﷺ غير ثابت:*
شبهة أن يوم مولد النبي ﷺ غير ثابت:
يقول بعض من أنكر مشروعية عمل المولد الشريف (إنَّ يوم وفاة النَّبيِّ ثابت أمَّا يوم مولده فغير ثابت، فقد جاء أنَّه في ربيع الأوَّل وجاء أنَّه في غيره مِن الشُّهور). انتهَى
وقد أجاب الكوثريُّ على هذه الشُّبهة فقال (وأنَّ شهر مولده هُو شهر ربيع الأوَّل وذِكرُ شهرٍ سواه لمولده عليه السَّلام ليس إلَّا مِن قَبيل سبق القلم عند النُّقَّاد، فيدور الخِلاف المُعتَدُّ به في تعيين اليوم مِن شهر ربيع الأوَّل أهُو عند انقضاء اليوم الثَّامن أم العاشر أم الثَّاني عشَر، فلا يَعتدُّون بروايةِ تقدُّم مولده عليه السَّلام على تلك الأيَّام ولا برواية تأخُّره عنها لعدم استنادهما على شيء يُلتفت إليه). انتهَى كلام الكوثريِّ
فإذا صحَّ كلام الكوثريِّ علمتَ أنَّ ولادة النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام كانت في عام الفيل في يوم الاثنين في شهر ربيع الأوَّل ثُمَّ اختلف العُلماء في تعيين يوم ولادته مِن شهر ربيع الأوَّل هل كانت بعد انقضاء ثمانية أيَّام مِنه؟ أو في العاشر منه؟ أو في الثَّاني عشَر؟ فصار كلُّ شهر ربيع الأوَّل عندهم موسمًا لإظهار الفرح بمولد الرَّحمة المُهداة عليه الصَّلاة والسَّلام ولكن غلبت العادة في المُسلمين على الاحتفال ليلة الثَّاني عشر لأنَّ ولادته لم تتأخَّر عن هذا التَّاريخ عند الجميع فيحتفون به في ليلة لا يبقَى أيُّ خلاف يُعتدُّ به بعدها في كونه عليه السَّلام مولودًا قبل ذلك الزَّمن.
وقال ابن الحاجِّ المالكيُّ في المدخل (فَعَلَى هَذَا يَنبَغِي إذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهرُ الكَرِيمُ أَن يُكَرَّمَ وَيُعَظَّمَ وَيُحتَرَمَ الِاحتِرَامَ اللَّائِقَ بِهِ وَذَلِكَ بِالِاتِّبَاعِ لَهُ ﷺ فِي كَونِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَخُصُّ الأَوقَاتَ الفَاضِلَةَ بِزِيَادَةِ فِعلِ البِرِّ فِيهَا وَكَثرَةِ الخَيرَاتِ). انتهَى
وقال الشَّيخ مُحمَّد عِلِّيش المالكيُّ في كتابه القول المُنجي على مولد البَرزَنجِي ما نصه (ولا زال أهل الإسلام يحتفلون ويهتمُّون بشهر مولده عليه الصَّلاة والسَّلام ويعملون الولائم ويتصدَّقون في لياليه بأنواع الصَّدقات ويُظهرون السُّرور ويظهر عليهم مِن بركاته كلُّ فضل عميم، وأوَّل مَن أحدث فعل المَولد المَلِك المُظفَّر أبو سعيد صاحب إربل فكان يعمله في ربيع الأوَّل ويحتفل احتفالًا هائلًا). انتهَى
*[4] الرَّدُّ عَلَى مَن يَقُولُ: أن يوم مولده أصلَهُ هُوَ أنَّ أُناسًا كانُوا يَحتَفِلُونَ بِوفاتِهِ ﷺ:*
المَولِدُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَأَوَّلُ مَن عَمِلَ بِهِ المُسلِمُونَ وَلَيسَ كَمَا قيلَ إِنَّ أصلَهُ هُوَ أنَّ أُناسًا كانُوا يَحتَفِلُونَ بِوفاتِهِ ﷺ : فَقَد ذَكَرَ الحُفَّاظُ والعُلَمَاءُ مِن أَصحابِ التَّوارِيخِ وغَيرِهِم أنَّ أَوَّلَ مَنِ استَحدَثَ عَمَلَ المَولِدِ هُوَ المَلِكُ المُظَفَّرُ الَّذي كانَ يَحكُمُ إِربِلَ، وَهُوَ وَرِعٌ، صالِحٌ، عالِمٌ، شُجَاعٌ، ذُو عِنَايَةٍ بِالجِهَادِ، كانَ من الأَبطالِ، مَاتَ وَهُوَ يُحَاصِرُ الفِرِنجَ بِعَكَّا، هُوَ أَوَّلُ مَن استَحدَثَ هَذَا الأَمرَ، ثُمَّ وافَقَهُ العُلَماءُ والفُقَهاءُ، حَتَّى عُلَمَاءُ غَيرِ بَلَدِهِ الَّذينَ لا يَحكُمُهُ، ذَكَرَ ذَلِكَ الحافِظُ السيوطِيُّ في كِتابِهِ الأوائِلِ، ولا زالَ المُسلِمونَ على ذَلِكَ مُنذُ ثَمانِمِائةِ سَنَةٍ حَتَّى الآنَ. فأيُّ أَمرٍ استَحسَنَهُ عُلَمَاءُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وأَجمَعوا عَلَيهِ فَهُوَ حَسَنٌ وَأَيُّ شىءٍ استَقبَحَهُ عُلَمَاءُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ قَبيحٌ، ومَعلومٌ أنَّ عُلَمَاءَ الأُمَّةِ لا يَجتَمِعُونَ على ضَلالَةٍ لِحديثِ “إِنَّ أُمَّتي لا تَجتَمِعُ على ضَلالةٍ” رَواهُ ابنُ ماجَه في سُنَنِهِ.
*[5] الرَّدُّ عَلَى مَن يَقُولُ: أن يوم مولده لو كانَ خَيرًا لَدَلَّ الرَّسُولُ أُمَّتَهُ عليهِ:*
المَولِدُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ ولا يُقالُ عَنهُ لو كانَ خَيرًا لَدَلَّ الرَّسُولُ أُمَّتَهُ عليهِ: فَجَمعُ المُصحَفِ وَنَقطُهُ وتَشكيلُهُ عَمَلُ خَيرٍ مَعَ أنَّهُ ﷺ ما نَصَّ عليهِ ولا عَمِلَهُ. فَهُؤلاءِ الَّذينَ يَمنَعُونَ عَمَلَ المَولِدِ بِدَعوى أنَّهُ لَو كانَ خَيرًا لَدَلَّنا الرَّسولُ عليهِ وَهُم أَنفُسُهُم يَشتَغِلُونَ في تَشكيلِ المُصحَفِ وَتَنقيطِهِ يَقَعونَ في أَحَدِ أمرَينِ : فَإِمَّا أن يَقولُوا إِنَّ نَقطَ المُصحَفِ وتَشكيلَهُ لَيسَ عَمَلَ خَيرٍ لأنَّ الرَّسولَ ما فَعَلَهُ وَلَم يَدُلَّ الأُمَّةَ عليهِ وَمَعَ ذَلِكَ نَحنُ نَعمَلُهُ، وإِمَّا أن يَقولُوا إنَّ نَقطَ المُصحَفِ وتَشكيلَهُ عَمَلُ خيرٍ لَو لَم يَفعَلهُ الرَّسولُ وَلَم يَدُلَّ الأُمَّةَ عليهِ لِذَلِكَ نَحنُ نَعمَلُهُ. وَفي كِلا الحالَينِ نَاقَضُوا أَنفُسَهُم.
فالمَولِدُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ ولا يُقالُ الرَّسُولُ لَم يأتِ بِه فَلا نَعمَلُهُ احتِجَاجًا بِقولِهِ تعالى { وَما ءاتَاكُمُ الرَّسولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فانتَهوا } فَلَيسَ كُلُّ أمرٍ لَم يأمُرنا بِهِ الرَّسُولُ ولا نَهانا عَنهُ فَهُوَ حَرامٌ، فالرَّسُولُ لَم يأمُرنا بِنَقطِ المُصحَفِ ولا نَهانا عَنهُ فلَيسَ حَرامًا عَلَينَا عَمَلُهُ لأنَّهُ مُوافِقٌ لِدينِهِ ﷺ، كَذَلِكَ عَمَلُ المَولِدِ الرَّسُولُ لَم يأمُرنا بِهِ ولا نَهانا عَنهُ فَلَيسَ حَرامًا عَلَينا عَمَلُهُ لأَنَّهُ مُوافِقٌ لِدِينِهِ ﷺ. الحاصِلُ لَيسَت كُلُّ أُمُورِ الدِّينِ جَاءَت نَصًّا صَريحًا في القُرءانِ أو في الحديثِ، فَلَو لَم يُوجَد فيهِما فَلِعُلَمَاءِ الأُمَّةِ المُجتَهِدينَ أَهلِ المَعرِفَةِ بِالحَديثِ أن يَستَنبِطُوا أَشياءَ تُوافِقُ دينَهُ ﷺ، وَيُؤيِّدُ ذَلِكَ قَولُهُ ﷺ “مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجرُهَا…”، فيُستفَادُ مِن هَذَا الحَديثِ أنَّ اللهَ تباركَ وتعالى أَذِنَ للمُسلمينَ أَن يُحدِثُوا في دينِهِ ما لا يُخالِفُ القُرءانَ والحديثَ فيُقالُ لذلكَ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ.
المَولِدُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَلَيسَ دَاخِلاً تَحتَ نَهيٍ مِنهُ ﷺ بِقَولِهِ “مَن أَحدَثَ في أَمرِنَا هَذَا ما لَيسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌ” : لأنَّهُ ﷺ أَفهَمَ بِقَولِهِ “ما لَيسَ مِنهُ” أَنَّ المُحدَثَ إِنَّما يَكُونُ ردًّا أي مَردُودًا إِذا كانَ على خِلافِ الشَّريعَةِ، وأَنَّ المُحدَثَ المُوافِقَ لِلشَّريعَةِ لَيسَ مَردُودًا. فالرَّسُولُ لَم يَقُل مَن أَحدَثَ في أمرِنا هَذا فَهُوَ رَدٌّ بَل قَيَّدَهَا بِقَولِهِ “ما لَيسَ مِنهُ” لِيُبَيِّنَ لَنَا أنَّ المُحدَثَ إِن كانَ مِنهُ (أي مُوافِقًا لِلشَّرعِ) فَهُوَ مَشرُوعٌ وإِن لَم يَكُن مِنهُ (أي لَم يَكُن موافِقًا لِلشَّرعِ) فَهُوَ مَمنوعٌ. وَلَمَّا كانَ عَمَلُ المَولِدِ أمرًا مَشروعًا بِالدَّليلِ النَّقلِيِّ مِن قُرءانٍ وَسُنَّةٍ ثَبَتَ أنَّهُ لَيسَ بِمَردُودٍ.
*[6] الرَّدُّ عَلَى مَن يَقُولُ: لِمَاذَا لَم يَحتَفِلِ الصَّحَابَةُ بِالمَولِدِ النَّبَوِيِّ؟:*
عَمَلُنَا لِلمَولِدِ لَيسَ فِيهِ قَدحٌ فِي أَصحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَلَيسَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّنَا نُحِبُّهُ أَكثَرَ مِنهُم. فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَم يَجمَعِ القُرآنَ فِي مُصحَفٍ وَاحِدٍ، بَل جَمَعَهُ أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ وَسَمَّاهُ المُصحَفَ، وَلَم يُنكِر عَلَيهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِحُجَّةِ أَنَّ ذَلِكَ يُوحِي بِأَنَّهُ أَحَبَّ القُرآنَ أَكثَرَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ.
ثُمَّ أَلَيسَ العُلَمَاءُ قَالُوا: «المَزِيَّةُ لَا تَقتَضِي التَّفضِيلَ»؟ فَإِن كَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، وَلَم يَفعَل ذَلِكَ أَبُو بَكرٍ، فَهَل يَعنِي ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ أَفضَلُ مِن أَبِي بَكرٍ؟ كَلَّا. وَإِن كَانَ عُثمَانُ بنُ عَفَّانَ قَد أَمَرَ بِالأَذَانِ الأَوَّلِ لِلجُمُعَةِ، وَلَم يَفعَلهُ عُمَرُ، فَهَل يَعنِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَفضَلُ مِنهُ؟ كَلَّا.
كَذَلِكَ عَمَلُ المَولِدِ إِذَا فَعَلنَاهُ، مَعَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَم يَفعَلُوهُ، فَلَا يَعنِي ذَلِكَ أَنَّنَا أَفضَلُ مِنهُم، وَلَا أَنَّنَا نُحِبُّ النَّبِيَّ ﷺ أَكثَرَ مِنهُم.
وَنُعِيدُ وَنُؤَكِّدُ قَولَ النَّبِيِّ ﷺ: «مَن سَنَّ فِي الإِسلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجرُهَا، وَأَجرُ مَن عَمِلَ بِهَا بَعدَهُ، مِن غَيرِ أَن يَنقُصَ مِن أُجُورِهِم شَيءٌ».
فالمَولِدُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَلَيسَ فيهِ قَدحٌ لِصَحابَتِهِ ﷺ بِزَعمِ أنَّ فيهِ إِشارَةً إلى أنَّنا نُحِبُّهُ أَكثَرَ مِنهُم فالرَّسولُ ﷺ ما جَمَعَ القُرءانَ في كتابٍ واحِدٍ بل أبو بَكرٍ الصِّديقُ هُوَ الَّذي جَمَعَهُ وَسَمَّاهُ المُصحَفَ، وَلَم يُنكِر عَلَيهِ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ بِحُجَّةِ أنَّ فِعلَهُ هَذَا يُشيرُ إلى أنَّهُ يُحِبُّ القُرءانَ أَكثَرَ مِنَ رَسُولِ اللهِ. ثُمَّ أليسَ العُلَمَاءُ قالُوا “المَزِيَّةُ لا تَقتَضي التَّفضيلَ”، فإن كانَ أبو بكرٍ الصِّديقُ جَمَعَ القُرءانَ والرَّسولُ لَم يَجمَعهُ في كِتابٍ واحِدٍ على هَيئَتِهِ اليومَ فهَذا لا يَعني أنَّهُ أفضَلُ مِن رَسولِ الله، وإن كانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ جَمَعَ النَّاسَ في صلاةِ التَّراويحِ على إمامٍ واحِدٍ وأبو بكرٍ لَم يَفعَلهُ فهَذا لا يَعني أنَّهُ أفضَلُ مِن أبي بَكرٍ، وإن كانَ عُثمانُ بنُ عَفَّانَ أمَرَ بالأذانِ الأوَّلِ لِصَلاةِ الجُمُعَةِ وَعُمَرُ لَم يَفعَلهُ فَهذا لا يَعني أنَّهُ أَفضَلُ مِن عُمَرَ، كَذَلِكَ عَمَلُ المَولِدِ إِن نَحنُ عَمِلناهُ لَكِنَّ الصَّحابَةَ ما عَمِلُوهُ فَمُجَرَّدُ هَذا لا يَعني أنَّنا أَفضلُ مِنهُم ولا أنَّنا نُحِبُّهُ أَكثَرَ مِنهُم.
*[7] الرَّدُّ عَلَى مَن يَقُولُ: المولدُ النبويُّ لا يجوز؛ لأنَّ الله تعالى يقول: ﴿اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم﴾، والاحتفالُ بالمولد فيه تكذيبٌ لهذه الآية؛ لأنَّ النبيَّ ﷺ لم يفعله:*
والجواب: أنَّ المولدَ سنَّةٌ حسنة، وهو داخلٌ في حديث النبيِّ ﷺ: «مَن سنَّ في الإسلامِ سنَّةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ مَن عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء» (رواه مسلم).
والاحتفالُ بالمولد ليس فيه إشارةٌ إلى أنَّ الدِّينَ لم يكتمل، ولا هو تكذيبٌ لقولِه تعالى في سورةِ المائدة: ﴿اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم﴾؛ إذ معناها أنَّ قواعدَ الدِّينِ وأصولَه قد تمَّت.
قالَ القُرطُبِيُّ في تَفسيرِهِ “وَقالَ الجُمهُورُ : المُرادُ مُعظَمُ الفَرَائِضِ والتَّحليلِ والتَّحريمِ، قالوا : وقَد نَزَلَ بَعدَ ذَلِكَ قُرءانٌ كثيرٌ، ونَزَلَت ءايةُ الرِّبا وَنَزَلَت ءايةُ الكَلالَةِ إلى غَيرِ ذَلِكَ”.
ثم إنَّ هذه الآيةَ ليست آخرَ ما نزل من القرآن، بل آخرُ آيةٍ نزلت هي قولُه تعالى في سورة البقرة: ﴿وَاتَّقُوا يَومًا تُرجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ مَا كَسَبَت وَهُم لَا يُظلَمُونَ﴾ [سورة البقرة، 285] ذَكَرَ ذَلِكَ القُرطُبِيُّ في تَفسيرِهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
المَولِدُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَلَيسَ فيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ الدِّينَ لَم يَكتَمِل وَلا تَكذيبًا لِقَولِهِ تعالى: {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم} [سورة المائدة، 2]: لأنَّ مَعناها أنَّ قواعِدَ الدِّينِ تَمَّت
*[8] الرَّدُّ عَلَى مَن يَقُولُ: المولدُ النبويُّ فيهِ اتَّهامٌ لِرَسُولِ اللهِ بِالخِيانَةِ بِدَعوى أنَّهُ لَم يُعَرِّف أُمَّتَهُ بِهِ:*
المَولِدُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَلَيسَ فيهِ اتَّهامٌ لِرَسُولِ اللهِ بِالخِيانَةِ بِدَعوى أنَّهُ لَم يُعَرِّف أُمَّتَهُ بِهِ كَمَا زَعَمَ المانعُونَ لِلمَولِدِ : فإِن كانَ كُلُّ فِعلٍ أُحدِثَ بَعدَ الرَّسُولِ لَم يُعَرِّفِ النَّبِيُّ أُمَّتَهُ بِهِ مِمَّا هُوَ موافِقٌ لِلقُرءانِ والسُّنةِ يَكونُ فيه اتَّهامٌ لِلرَّسولِ بِالخِيانَةِ فَعلى قَولِكُم أبو بَكرٍ وعُمَرُ وعُثمانُ وَعَلِيٌّ وعُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ وصَفوةٌ مِن عُلَماءِ الأُمَّةِ اتَّهَمُوا الرَّسُولَ بِالخِيانَةِ لأنَّهُم أَحدَثُوا أشياءَ موافِقَةً للقُرءانِ والسُّنَّةِ مِمَّا لَم يُعَرِّفِ الرَّسولُ أُمَّتَهُ بِها. أمَّا استِشهادُكُم بِما تَنسُبُونَهُ للإمامِ مالِكٍ مِن أنهُ قالَ “مَنِ ابتَدَعَ في الإسلامِ بِدعَةً يَراهَا حَسَنَةً فَقَد زَعَمَ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ خانَ الرِّسالةَ” فَمَعناهُ البِدعَةُ المُحَرَّمَةُ كَعقيدَةِ التَّشبيهِ والتَّجسيم ولَيسَ في المَولِدِ وما أَشبَه. ثُمَّ أَنتُم تَستَشهِدُونَ بِقَولِ الإمامِ مالِكٍ وأَنتُم تُكَفِّرونَهُ مَعنًى وإن لَم تُكَفِّروهُ لَفظًا، لأنَّ الخَليفةَ المَنصورَ لَمَّا جاءَ المَدينةَ سَأَلَهُ “يا أَبا عبدِ الله أستَقبِلُ القِبلَةَ وأدعو أم أستَقبِلُ رَسُولَ الله ﷺ؟ قالَ : وَلِمَ تَصرِفُ وَجهَكَ عَنهُ وَهُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسيلَةُ أبيكَ ءادَمَ ﷺ إلى اللهِ تعالى؟ بَلِ استَقبِلهُ واستَشفِع بِهِ فَيُشَفِّعَهُ اللهُ”، وهَذا عِندَكُم شِركٌ وضلالٌ مُبين. رَمَيتُم عُلَماءَ الأمَّةِ بالشِّركِ ثُمَّ استَشهَدتُم بِأقوالِهِم.
المَولِدُ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَمَنِ اشتَرَطَ لِجَوازِهِ أَن يَكُونَ الرَّسُولُ ﷺ عَمِلَهُ فَشَرطُهُ باطِلٌ : كَمَا أنَّ نَقطَ المُصحَفِ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَمَنِ اشتَرَطَ لِجَوازِهِ أن يَكُونَ الرَّسُولُ ﷺ عَمِلَهُ فَشَرطُهُ باطِلٌ لأنَّ هَذَينِ الشَّرطَينِ لا أصلَ لَهُمَا في دينِ اللهِ تعالى والرَّسُولُ ﷺ يقُولُ “كُلُّ شَرطٍ لَيسَ في كِتابِ اللهِ تعالى فَهُوَ باطِلٌ وإِن كانَ مِائَةَ شَرطٍ”، رَواهُ البَزَّارُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا.
وَخِتَامًا نَسأَلُ اللَّهَ أَن يُوَفِّقَنَا لِسُلُوكِ طَرِيقِ الحَقِّ، وَأَن يُجَنِّبَنَا الفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَن يَجعَلَنَا مِن أَهلِ العِلمِ وَالبَصِيرَةِ، الَّذِينَ يَنصُرُونَ الحَقَّ وَلَو كَانُوا قِلَّةً.
فَهَنِيئًا لِلرَّاكِبِينَ فِي سَفِينَةِ النَّجَاةِ. وَاللَّهُ المُستَعَانُ، هُوَ نِعمَ المَولَى وَنِعمَ الوَكِيلُ.
*كَتَبَهُ:*
د. مُحَمَّدُ عَبدُ الجَوَادِ الصَّبَّاغُ
الرَّاجِي رَحمَةَ رَبِّهِ.
