شبهة مقالة الامام مالك مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ – الجزء السادس عشر

الردود على الشبهات المثارة حول مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

الجزء 16: شبهة استدلال منكري عمل المولد بمقالة الامام مالك: “مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ”

يروج بعض منكري عمل المولد لمقالة منسوبة للإمام مالك، وهو قوله: مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ” – المائدة:3-، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا”.

والجواب على هذه الشبهة أن يقال:

– أوَّلًا: مقولة الإمام مالك التي يحتج بها المخالف هنا، ذكرها الإمام الشَّاطبي في الاعتصام بلا إسناد فقال: “قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: “مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ” الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ” – المائدة:3-، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا”. انتهى

فالمخالفون يحتجون بفهمهم لقول الإمام مالك: “يَرَاهَا حَسَنَةً” على ذم البدعة الحسنة، وبالتالي إلحاق إحياء ليلة المولد النبوي الشريف بالبدعة الضلالة بزعمهم

ولكن الرِّواية المُسندة إلى الإمام مالك بن أنس كما ذكرها ابن حزم الظَّاهري المتوفى سنة 456 هـجري في الإحكام في أصول الأحكام، بسنده إلى ابن الماجشون أنه قال: ” قال مالك بن أنس: “من أحدث في هذه الأمة اليوم شيئا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خان الرسالة لأن الله تعالى يقول: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ” – المائدة:3- الآية. فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا”. انتهى

فالرِّواية المُسندة إلى الإمام مالك ليس فيها ما ذكره الإمام الشاطبي: “يَرَاهَا حَسَنَةً”، إلا أن هذه اللَّفظة تُوهِم بادي الرأي أن كلام الإمام مُوَجَّه لمَن يقول بالبدعة الحسنة فاقتضى التَّنبيه.

– ثانيًا: على فرض صحة ثبوت عبارة ” يَرَاهَا حَسَنَةً” على الوجه الذي ذكره الإمام الشَّاطبي، فلو كان مراد الإمام مالك ذم كل المحدثات حتى التي يشهد الشرع باعتبارها لما كان لعبارة ” يَرَاهَا حَسَنَةً” معنى في كلامه، وهذا لأن استحسان المبتدَع أو استقباحه لا يُغيِّر مِن الأمر شيئا!، فعبارة ” يَرَاهَا حَسَنَةً” تعني: يراها حسنة بمجرد رأيه والهوى لا بالشرع والأصول. والدليل هو أن الإمام قد استحسن بعض الأمور لم ترد في دليل خاص، وبالمثال يتضح المقال:

– قال القاضي أبو الوليد الباجي المالكي المتوفى سنة 474هـجري في المنتقى: “رَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي “الْعُتْبِيَّةِ”: سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ عَطَسَ أَوْ رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَحَمِدَ اللَّهَ، أَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: لَا أَنْهَاهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إذَنْ أَقُولُ لَهُ: لَا تَذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى”. انتهى

– قال القاضي أبو الوليد ابن شد الجد المالكي المتوفى سنة 520 هـجري في البيان والتحصيل، عند شرح قول الإمام مالك: “وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ” مَعَ حَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ الْعُطَاسِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ بِذَلِكَ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْقُرْبَةَ وَلَا احْتَسًبَ فِيهِ الثَّوَاب وَلَا قَصَدَ بِهِ تَعْظِيم حَقّ النَّبِي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَيَكُون ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ مَكْرْوهًا، وَيُحْتَمَلُ أًَنْ يَكُونَ لَمَّا عَطَسَ فَحَمِدَ اللّه تَذَكَّرَ سُنَّة النَّبِي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي أَمْرِ العَاطِس بِحَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ عُطَاسِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ دَاعِيًا لَهُ عَلَى مَا سَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ، فَيَكُون ذَلِكَ مِن فِعْلِهِ حَسَنًا مُسْتَحْسَنًا. وَلَمَّا احْتَمَلَ صَلَاته عَلَى النَّبِي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي هَذِهِ الحَال وَجْهًا صَحِيحًا تَوَقَّفَ فِي الرِّوَايَةِ أنْ يَقُولَ: إِنَّهُ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنْ قُلْتُ ذَلِكَ كْنْتُ قَدْ أَمَرْتُهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق”. انتهى

فها هو الإمام مالك يستحسن الصلاة والسلام على خير الأنام بعد العطاس على الوجه الذي ذكره أيمة المذهب، وهذا الاستحسان لم يرد بتوقيف منه صلى الله عليه وآله وسلم في دليل خاص كما يظهر من استقراء أحاديث السنة في كيفية تشميت العاطس.

إذن: فمراد الإمام مالك من مقولته تلك ذم البدعة التي لا تستند إلى دليل ولا يشهد لها أصل من أصول الدين، وهي البدعة المذمومة. وهذا ما يؤيد تخريج مقولة الإمام على الوجه المذكور أعلاه، ويدحض احتجاج المخالف بظاهرها للحكم ببدعية عمل المَولد..

– ثالثا: الإمام مالك بن أنس نفسه له بعض المحدثات

قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِي المتوفى سنة 543 هـجري عِنْدَ الكَلاَمِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: “إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى” – طه:12- فِي أَحْكَامُ الْقُرْآنِ، مَا نَصُّهُ: “إِنْ قُلْنَا: إِنَّ خَلْعَ الْنَّعْلَيْنِ كَانَ لِيَنَالَ بَرَكَةَ الْتَّقْدِيسِ فَمَا أَجْدَرَهُ بِالْصِّحَّةِ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْتَّنْزِيهَ عَنْ الْنَّعْلِ، وَاسْتَحَقَّ الْوَاطِئُ الْتَّبَرُّكَ بِالْمُبَاشَرَةِ، كَمَا لَا تُدْخَلُ الْكَعْبَةَ بِنَعْلَيْنِ، وَكَمَا كَانَ مَالِكُ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً بِالْمَدِينَةِ، بَرًّا بِتُرْبَتِهَا الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الْأَعْظُمِ الْشَّرِيفَةِ وَالْجُثَّةِ الْكَرِيمَةِ”. انتهى

فأَحْدَثَ إِمَام دَار الْهِجْرَة سَيِّدنَا مَالِك بْن أَنَس طَرِيقَةً مُخْتَرَعَةً لَـمْ تُعْهَد قَبْلُ فِي تَعْظِيمِ حَضْرَةِ سَيِّدنَا الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم وَهُوَ فِي قَبْرِهِ الْشَّرِيفِ.

و قَالَ الْقَاضِي عِيَاض المتوفى سنة 544 هـجري في تَرْتِيبُ الْـمَدَارِك: “كَانَ مَالِكُ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ قَالَ: “مَا شَاءَ اللهُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ”، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: “وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه” – الكهف:39- ، وَجَنَّتهُ: بَيْتهُ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلىَ بَابِ مَالِك مَكْتُوبًا، يُرِيدُ لِيَتَذَكَّرَ بِرُؤْيَتِهِ قَوْل ذَلِكَ مَتَى دَخَلَ”. انتهى

فالْإِمَام مَالِك اِستَنْبَطَ ذِكْراً مُحْدَثًا انْطِلاَقًا مِنْ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَقَيَّدَهُ بِكَيْفِيَّةٍ مُحْدَثَةٍ لَـمْ تُعْهَد مِنْ قَبْلُ.

و قَالَ الْقَاضِي عِيَاض في ترتيب المدارك أيضا: ” قَالَ الْزُّبَير بن حَبِيبٍ: كُنْتُ أَرَى مَالِكًا إِذَا دَخَلَ الْشَّهْر أَحْيَا أَوَّلَ لَيْلةٍ مِنْهُ، وَكُنْتُ أَظُنُّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَفْتَتِحَ بِهِ الْشَّهْر. وَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مَالِكٍ: كَانَ مَالِكُ يُصَلِّي كُلَّ لَيْلَةٍ حِزْبَهُ، فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَة الْـجُمُعَة أَحْيَاهَا كُلَّهَا”. انتهى

فيلاحظ هنا اِلْتَزَامَ إِمَام دَار الْهِجْرَة مَالِك بْن أَنَس بإِحْيَاء أول ليلة من الشهر بِالْعِبَادَةِ، ولَا دَلِيل عَلَى هَذَا الْتَّخْصِيص بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ مِنْ غَيْر عُمُومَاتِ الْنُّصُوص.

و قَالَ الْقَاضِي عِيَاض أيضا في ترتيب المدارك: ” كَانَ مَالِكُ إِذَا جَلَسَ لِلْحَدِيثِ تَوَضَّأَ، وَجَلَسَ عَلَى صَدْرِ فِرَاشِهِ، وَسَرَّحَ لِـحْيَتَهُ، وَتَـمَكَّنَ فِي جُلُوسِهِ بِوَقَارٍ وَهَيْبَةٍ، ثُمَّ حَدَّثَ. فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ أُعَظِّمَ حَدِيثَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أُحَدِّث بِهِ إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ”. انتهى

وهنا أَحْدَثَ إِمَام دَار الهِجْرَة الْإِمَام مَالِك بْن أَنَس كَيْفِيَّةً جَدِيدَةً لَـمْ تَرِد فِي تَعْظِيم حَدِيث رَسُول اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم، والْتَزمَ الْتَّوْقِيتَ لِعِبَادَةِ الْوُضُوءِ بِصُورَةٍ مُحْدَثَةٍ.

فهذه الأفعال كلها: “بِدْعَة ضَلَالَة” وفق توجيه المخالف لمقولة الإمام، وهذا يدلك على براءة الإمام مالك من هذا الفهم السَّقيم لمقولته.

روابط ذات علاقة:

روابط ذات علاقة:

الجزء 1:

أ- الرد على من زعم أن الفاطميين هم أول من احتفل بالمولد النبوي

ب-بيان ان الترك لا يفيد التحريم كما يزعم المبتدعة

ج-الدليل على ان النبي بيّن لصحابته عظيم قدر يوم ولادته، وان الصحابة كانوا يعظمون يوم مولده

د- ذكر بعض الأصول التي اعتمدها العلماء لتجويز عمل المولد

هـ- قياسهم عمل المولد بتخصيص قيام الليل يوم الجمعة

و- احتفالهم باسبوع ابن عبد الوهاب

ز- رنين أتباع ابليس بمناسبة المولد الهادي المختار.

الرابط:

الجزء 2: ذكر بعض من ألف في المولد النبوي المبارك

الجزء 3: في بيان جواز قول “عيد المولد النَّبوي”

الجزء 4: شبهة أن مولد الرَّسول هو يوم وفاته صلَّى الله عليه وسلَّم، وشبهة أن يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم غير ثابت.

الجزء 5: زعمهم أن المولد لو كان خيرا لسبقنا إليه الصحابة و التابعون

الجزء 6: شبهة سؤال المنكرين هل المولد طاعة لله أم معصية؟

الجزء 7: رد شبهة احتجاج المنكرين لعمل المولد بكلام الفاكهاني

الجزء 8: رد شبهة احتجاج المنكرين لعمل المولد بكلام ابن الحاج المالكي

الجزء 9: تلبيسات ابن تيمية حول عمل المولد النبوي الشريف

الجزء 10: التحقيق في يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:

الجزء 11: قول سيدنا عمر: ” نعمت البدعة هذه”

الجزء 12: حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين

الجزء 13: رد شبهة احتجاج المنكرين لعمل المولد بكلام الشاطبي

الجزء 14: أول من احتفل بالمولد النبوي في المغرب والأندلس

الجزء 15: الخيانة العلمية للوَهَّابي إسماعيل الأنصاري في نقل كلام بعض الأئمَّة حول عمل الـمولد.

https://www.facebook.com/share/p/SwQQThyqWX2QzRGm/?mibextid=qi2Omg

الجزء 16: شبهة استدلال منكري عمل المولد بمقالة الامام مالك: “مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ”

https://www.facebook.com/share/p/dS7kWXVokjgVEmrz/?mibextid=qi2Omg

لله تعالى صدقة جارية و صدقة عن روح المرحوم بإذن الله فتحي المهذبي

فكرتان اثنتان على ”شبهة مقالة الامام مالك مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ – الجزء السادس عشر

التعليقات مغلقة.