- الجواز
- الوقوع
- لفظ (حقيقيٍّ) وهذا اللَّفظ ليس لفظ ذمٍّ وقدح ولا هُو لفظ سبٍّ وشتم ولا هُو لفظ تنقيص وإنَّما بيان.
- أهل الفتنة قسَّموا المعصية إلى ثلاثة أقسام ولم يُسبقوا إلى هذه البدعة فهي عندهم ثلاثة: حقيقيَّة ومجازيَّة وثالثة افتروها وقالوا: إنَّها معصية لا حقيقيَّة ولا مجازيَّة!
- النقول على الوقوع:
- لماذا استوعب الأنبياء أعمارهم في الاستغفار؟
- الردود
- مقالات
بسم الله الرَّحمَن الرَّحيم
1. اَلْحَمْدُ لِلْمَوْلَى تَعَالَى اللهُ ~ بِالذُّلِّ إِنَّا يَا أَخِي جِئْنَاهُ
2. سُبْحَانَ رَبِّي وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدْ ~ لَا يُشْبِهُ الرَّحْمَنُ رَبِّي مِنْ أَحَدْ
3. فَلَيْسَ يَحْتَاجُ لِعَرْشٍ أَوْ مَكَانْ ~ رَبِّي وَلَا يَجْرِي عَلَى اللهِ زَمَانْ
4. أَرْسَلَ رُسْلَهُ وَقَدْ رَفَعَهُمْ ~ مِنْ أَكْثَرِ الذُّنُوبِ قَدْ عَصَمَهُمْ
5. ثُمَّ صَلَاةُ اللهِ ذِي الْجَلَالِ ~ عَلَى النَّبِيِّ صَاحِبِ الْمَعَالِي
6. مُحَمَّدٍ لَهُ الْعُلَى وَالْكَوْثَرُ ~ مَا عَابَهُ إِلَّا الْجَهُولُ الْأَبْتَرُ
7. عَلَيْهِ صَلُّوا سَادَتِي وَسَلِّمُوا ~ فَإِنَّهُ طَهَ النَّبِيُّ الْأَعْظَمُ
[شرح]: العصمة في اللُّغة: المنع؛ والحفظ والوقاية، يُقال: (عصم الله عبده ممَّا يُوبقه) أي منعه ووقاه، وفي الاصطلاح: مَلَكَة اجتناب المعاصي مع القُدرة عليها. والجلال: العَظَمَة. المعالي: جمع مَعْلاة وهي كسب الشَّرف. الكوثر: نهر في الجنَّة أُعطِيَ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. الأبتر: الخاسر.
اعلم أنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام تجب لهُمُ العصمة مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة والدَّناءة قبل النُّبُوَّة وبعدها. أمَّا الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها: (1) فقد منع جوازها عليهمُ الأقلُّ مِن العُلماء المُتقدِّمين، (2) وقال جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة بجوازها علَى الأنبياء سهوًا وعمدًا قبل الوحي أو بعده ولكنَّهُم يُنبَّهون فَوْرًا للتَّوْبة قبل أنْ يقتديَ بهم فيها غيرُهُم.
قال الزَّبيديُّ في [تاج العروس]: <وقال المَناويُّ: العصمة: مَلَكَة اجتناب المعاصي مع التَّمكُّن منها> انتهى.
أكثر المُتقدِّمين مِن عُلماء أهل السُّنة والجماعة -وهُمُ الجُمهور- إنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام غير معصومين مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها بينما قال الأقلُّ مِن العُلماء: إنَّ الأنبياء معصومون حتَّى عن هذه الصَّغيرة.
جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة قالوا إنَّ الأنبياء عليهمُ السَّلام معصومون مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبُوَّة وبعدها ويجوز عليهم ما سوى ذلك أي الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ولكنَّهُم يُنبَّهون فورًا للتَّوبة قبل أنْ يقتديَ بهم فيها غيرُهُم؛ وقال الأقلُّ مِن العُلماء إنَّ الأنبياء معصومون من كُلِّ الذُّنوب مُطلَقًا فلا تقع منهُم صغيرة أبدًا.
واختلف العُلماء في صُدور الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها مِن نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم كما في تفسير قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} الآية.. وقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية..
وقد ذكر الإمام الرَّازيُّ مسألة عصمة الأنبياء عند أهل السُّنَّة والجماعة مُختصِرًا كُلَّ تفصيلها مرَّتين؛ مرَّة في تفسيره المُسمَّى [مفاتيح الغَيب] أو [التَّفسير الكبير]؛ ومرَّة أُخرى في كتابه المُسمَّى [عصمة الأنبياء].
قد قال الرَّازيُّ رحمه الله فِي تفسير {لِيَغْفِرَ لَكَ}: <قُلنا الجواب عنه قد تقدَّم مرارًا مِن وُجوه؛ أحدُهَا: المُراد ذنب المُؤمنين. ثانيها: المُراد ترك الأفضل. ثالثُها: الصَّغائر فإنَّها جائزة على الأنبياء بالسَّهو والعَمْد..> إلخ..
ثُمَّ قال رحمه الله: <رابعُها مِن قبل النُّبُوَّة ومِن بعدها وعلى هذا فمَا قبل النُّبُوَّة بالعفو وما بعدها بالعصمة> انتهى فهذه أربعة وُجوه يذكُرُها الرَّازيُّ في تفسير الذَّنب الوارد في الآية في حقِّ نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام.
قال الرَّازيُّ رحمه الله فِي [عصمة الأنبياء] عن قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} ما نصُّه: <جوابه: أنَّه محمول إمَّا على الصَّغيرة أو ترك الأَوْلى أو التَّواضع كما قرَّرناه فِي قول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}> انتهى.
والله تعالَى يقول: {فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ويقول تعالَى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فمِن أيِّ شيء يكون المتاب وأيُّ ظُلم يكون وأيُّ خُسران يلحقُهُما لو كانَا مأمورَين باطنًا بالأكل مِن الشَّجرة وقد فعلَا!
ادِّعاء أنَّ آدم عليه السَّلام كان مأمورًا باطنًا بالأكل مِن الشَّجرة زندقة وتكذيب للدِّين لأنَّه لا يجتمع الأمر والنَّهي في أمر بعينه في وقت واحد في الشَّرع الشَّريف ومَن زعم ذلك فقد أوقع الاختلاف في القُرآن؛ والله تعالَى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
ولو كان آدم عليه السَّلام قد فعل بأكلِه مِن الشَّجرة ما كان مأمورًا به باطنًا لَمَا قال الله تعالَى: {وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ} لأنَّ هذا شيء لا تحتملُه الشَّريعة فالله تعالَى أعزُّ مِن أنْ يتطرَّق التَّناقض إلى كتابه الكريم فلا تلتفتوا إلى ما خالف كتاب الله وقواعد الشَّرع الشَّريف والحديث الصَّحيح.
ومَن زعم أنَّ آدم عليه السَّلام كان مأمورًا بالمعصية باطنًا لأنَّه وافق بها القدَر؛ فلازمه (أنَّ كُلَّ إنسان مُطيع لله تعالَى مهما ارتكب مِن الآثام لأنَّه مُوافق بفعله للإرادة والقدَر) وهذا تكذيب للشَّرع الشَّريف والقُرآن الكريم يرُدُّه لأنَّ طاعة الله في مُوافقة أمره لا في مُوافقة القدَر وحسب.
وادِّعاء الطَّاعة لمُجرَّد مُوافقة القدَر دون الأمر نقض لعُرَى الإسلام لأنَّ فيه تسوية بين المُؤمنين والكافرين والله تعالَى يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وكُلُّ حقيقة خالفت الشَّريعة فهي زندقة.
وهذا القول يجب التَّحذير منه وهُو موجود في [تُحفة المُريد شرح جوهرة التَّوحيد] للبيجوريِّ -هذا لو صحَّ ثُبوتُه عنهُ مِن خطِّ يده- وقد نقله مِن [اليواقيت] الَّذي نصَّ البرزنجيُّ أنَّ الشَّعرانيَّ لم يُحرِّره بل قال: (لا أُحِلُّ لأحد أنْ يرويَ عنِّي هذا الكتاب حتَّى يعرضَه على عُلماء المُسلمين ويُجيزوا ما فيه) انتهَى.
والقول بأنَّ آدم كان مأمورًا بالأكل مِن الشَّجرة باطنًا فضلًا عن كونه فاسدًا كذلك لا يثبُت إلى الشَّعرانيِّ واحتمال كونه دسًّا احتمال كبير لأنَّك علمتَ أنَّ الدَّسَّ على العُلماء والأئمَّة علَّة قديمة وأمر حمل الحاقدون به على الإسلام بُغية إفساد عقائد المُسلمين وإيقاظ الفتنة مِن رُقادها.
فقد أفاد الشَّعرانيُّ أنَّ ما وقع مِن آدم كان خطيئة فقال في [تنبيه المُغترِّين]: (وكان أبو مُحمَّد المرزويُّ يقول: إنَّما شَقِيَ إبليس بخمس خصال) إلى قوله في آدم عليه السَّلام: (فإنَّه سعد بخمس خصال: أقرَّ بذنبه وندم عليه ولام نفسه وبادر إلى التَّوبة ولم يقنط مِن رحمة الله تعالَى”) انتهَى.
قال الفقيه الشَّافعيُّ العزُّ بن عبدالسَّلام المُلقَّب بشيخ الإسلام وسُلطان العُلماء في [القواعد الكُبرَى] الموسوم بـ[قواعد الأحكام في إصلاح الأنام] جـ/1 ص/210: <فقد عصَى آدمُ وداودُ وغيرُهُما ولم يخرُج واحد منهُم بمعصيته عن حُدود ولايته> إلخ.. فهل هُو كافر قادح بالأنبياء عندكُم يا أهل الفتنة لقوله: (عصى آدم وداود) في غير تلاوة القُرآن الكريم!؟
الجواز
قال القاضي الإيجي في شرح [مُختصر ابن الحاجب]: <وأمَّا بعد الرِّسالة: فإنْ كانت مِن الكبائر أو مِن الصَّغائر الخسيسة فالإجماع على عصمتهم منها؛ وإنْ كانت مِن غيرها فالأكثرُ على جوازه> انتهى باختصار.
وقال السَّعد التَّفتازانيِّ في [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى باختصار.
الوقوع
لفظ (حقيقيٍّ) وهذا اللَّفظ ليس لفظ ذمٍّ وقدح ولا هُو لفظ سبٍّ وشتم ولا هُو لفظ تنقيص وإنَّما بيان.
بعض العامَّة يُنكرون لفظ (حقيقيَّة) بعد لفظ (معصية) دون أنْ يفهم أنَّ هذا اللَّفظ لم يزد على حقيقة معنى المعصية في الشَّرع شيئًا ثُمَّ هي مُقيَّدة بأنَّها صغيرة غير مُنفِّرة لا خسَّة فيها ولا دناءة.
رأى شيخُنا رحمه الله الشيخ عبد الله الهرري ورضي عنه كثرةَ الدَّعاوي الكاذبة في مسألة العصمة ولذلك استعمل لفظ (الحقيقيَّة) لبيان أنَّها ممَّا يُقابل المجاز؛ فيُفهَم الخلاف ويمتنع تحريف الشَّريعة على أَلْسِنَة المُتصولحة.
وقد نطق كتاب الله بإضافة لفظ (ذنب) إلى الأنبياء عليهم السَّلام؛ والقائلون بالعصمة المُطلقة يقولون: (للأنبياء ذُنوب وذنوبُهُم ترك الأَولى) فمُجرَّد هذه الإضافة ليس سُوء أدب ما لم يُقصد التَّنقيص ونحوه.
فلو قيل بعد ذلك إنَّ الذَّنب المذكور (مجازيٌّ) أو (حقيقيٌّ) لا يزيد على المعنى ما يجعله مُشتمِلًا على سُوء أدب في حقِّ الأنبياء لا سيَّما وقد قيَّد المُتكلِّم ذلك بأنَّه صغير غير مُنفِّر لا خسَّة فيه ولا دناءة.
وعشرات المُفسِّرين مِن عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة يقولون إنَّ ما ورد في كتاب الله في حقِّ الأنبياء محمول على الصَّغائر أو على ترك الأَوْلى ومن ذلك ما ورد في حقِّ سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم.
فمَن حمله على الصَّغائر لم يُرد إلَّا ما يُقابل المجاز وهُو الحقيقة، قال الآمديُّ: <والأصل في الإطلاق الحقيقة> انتهى وهذا معناه أنَّ بعض العُلماء أوَّلوا وبعضَهُم لم يُؤَوِّل بل حمله على الحقيقة.
وقد بيَّنَّا أنَّ المعاني في اللُّغة لا تخرُج عن كونها (حقيقيَّة) أو (مجازيَّة) وعلى هذا التَّقسيم سائر العُلماء بل سائر النَّاس فمن زاد نوعًا ثالثًا فقد افترى على الدِّين وعلى اللُّغة وعلى النَّاس والعياذ بالله.
قال أبو إسحاق الشِّيرازيُّ في [المعونة في الجدل]: <وغير ذلك مِن الأسماء المنقولة مِن اللُّغة إلى الشَّرع. وحكمُه أنْ يُحمل على ما نُقل إليه في الشَّرع ولا يُحمل على غيره إلَّا بدليل> انتهى كلامه بحروفه.
وعليه فالذَّنب في الحقيقة الشَّرعيَّة هُو الذَّنب حقًّا وهذا معنى الذَّنب الحقيقيِّ؛ وقد انتفى الدَّليل على التَّأويل عند مَن جوَّزوا الصَّغائر غير المُنفِّرة على الأنبياء بخلاف الحال عند القائلين بالعصمة المُطلَقة.
التَّاج السُّبكيِّ لمَّا خالف الأشعريَّ في العصمة لم يأتِ بدعوى كاذبة لينتصر لرأيه بل صرَّح بمُخالفته له فقال: <والأشعريُّ إمامُنا لكنَّنا * فِي ذا نُخالفه بكُلِّ لسانِ> انتهى.
قال المُحدِّث تاج الدِّين السُّبكيُّ فِي [السَّيف المشهور فِي شرح عقيدة أبي منصور]:
<قالَ صاحبُ هذهِ العقيدةِ تَبَعًا لجماهيرِ أئمَّتِنا: (ولكن لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائرِ لئلَّا تضعُفَ شفاعتُهُم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ علَى المُبتلَى) وقالت المُعتزلة: (هُم معصومون عن الكُلِّ) لأنَّهم لا يرَون الشَّفاعة فحيث أنكروا الشَّفاعة لم يُجوِّزوا الصَّغائر إذ فائدتُها -كما ذكرنا- الرِّقَّة> انتهى.
ومع كونه مِن القائلين بالعصمة المُطلقة لم يكذب بل قال: <قالَ صاحبُ هذهِ العقيدةِ تَبَعًا لجماهيرِ أئمَّتِنا: (ولكن لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائرِ لئلَّا تضعُفَ شفاعتُهم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ على المُبتلَى)> انتهى.
والقاضي عياض مع أنَّه مِن القائلين بالعصمة المُطلقة لم يكذب بل قال: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهى.
أمَّا مَن أنكر أنَّ الخلاف بين عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة هُو في كون تلك الذُّنوب حقيقيَّة في عُرف الشَّرع؛ فالرَّدُّ عليه سهل ومِن لسان بعض أشهر القائلين بالعصمة المُطلقة عنيت به القاضي عياض.
قال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ> انتهى واحفظ كلامه جيِّدًا لتفهم ما جوَّزه الجُمهور على الأنبياء.
فلو كان ما جوَّزه الجُمهور على الأنبياء المعصية المجازيَّة لَمَا الْتَحَقَ بالكبائر إنْ تكرَّر وكثُر، فيُعلم بوُضوح أنَّ ما جوَّزه الجُمهور هُو الذَّنب الحقيقيُّ لأنَّه هُو ما يلتحق بالكبائر فيما لو تكرَّر وكثُر.
وابتعد عن الإنصاف مَن شبَّه قول شيخنا في مذهب الجُمهور: <معصية حقيقيَّة صغيرة لا خسَّة فيها ولا دناءة> اهـ؛ وبين قول الزَّمخشريِّ في نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام: <أخطأتَ وبئسَ ما فعلتَ> اهـ!
أمَّا الزَّمخشريُّ فقد أضاف لفظ (بئسَ) في حقِّ الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهذا لفظ مُستعمل للسَّبِّ والشَّتم في لُغة العرب، قال ابن منظور: <وَبِئْسَ: كَلِمَةُ ذَمٍّ> انتهى. فشتَّانَ بَين العبارَتين. من قال إن مجرد إضافة الذنب لنبي ذم له وقدح به
تكون سيدتنا عائشة -رضي الله تعالى عنها- عنده كافرة بذلك لأنها أضافت الذنب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح الثابت
روى البُخاريُّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقوم مِن اللَّيل حتَّى تتفطَّر قدماه فقالت عائشة رضي الله عنها:
<لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدَّم مِن ذنبك وما تأخَّر>
قال: <أفلا أُحِبُّ أنْ أكون عبدًا شكورًا> الحديث
فقولها <ذنبك> فيه إضافة لفظ الذَّنب بحقِّه عليه الصَّلاة والسَّلام؛ فهل صارت أم المؤمنين -رضي الله عنها- كافرة عند أهل الفتنة!؟
لو كان مجرد نسبة صغيرة لا خسة فيها لنبي ذمًّا له وقدحًا به لصار أكثر المفسرين كُفَّارًا بذلك لأنه لا يخلو مفسر من قول آدم عصى تصديقا بالآية الكريمة
وقد نقل الإمام الماتريدي عن أكثر المفسرين من الصحابة والسلف أنهم قالوا ما معناه: إن الله أثبت الذنب على النبي ثم أخبر أنه وضعه أي غفره
قال الماتُريديُّ في تفسيره المُسمَّى [تأويلات أهل السُّنَّة]:
<وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} يحتمل وجهَين أحدُهُمَا ما قال عامَّة أهل التَّأويل علَى تحقيق الوزر له والإثم كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقولِه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يقولون: (أثبت له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه)> إلخ..
أهل الفتنة قسَّموا المعصية إلى ثلاثة أقسام ولم يُسبقوا إلى هذه البدعة فهي عندهم ثلاثة: حقيقيَّة ومجازيَّة وثالثة افتروها وقالوا: إنَّها معصية لا حقيقيَّة ولا مجازيَّة!
اعلم أنَّ وصف الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها بالحقيقيَّة ليس فيه إضافة إلَى معناها وإنَّما هي شرح وبيان وإيضاح لمَن غفَل عن المُراد بالصَّغائر أو حرَّف مذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة فنسب إليهم ما لم يقولوا به مِن أقوال؛ فلا يُنكِر وصف الذَّنب الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه بالحقيقيِّ إلَّا جاهل علَى التَّحقيق.
قال الآمديُّ في [أبكار الأفكار]: <والأصل في الإطلاق الحقيقة> انتهى.
القاعدة الشَّرعيَّة تقول إنَّ تأويل النُّصوص الشَّرعيَّة بغير ضرورة عَبَث تُصان عنه النُّصوص الشَّرعيَّة.
أهل الفتنة يرون أنَّ (المعصية صُورةً) ليست (معصية مجازًا) وليست (معصية حقيقة) وهذا كلام فاسد باطل تكاد تضحك منه الأجِنَّة في بُطون الأُمَّهات.
مِن (المُستحيل عقلًا وشرعًا) أنْ يتَّصف الله باليد الحقيقيَّة لأنَّ معناها الجارحة؛ ولكن مِن (المُمكن عقلًا وشرعًا) وُقوع الأنبياء في صغائر حقيقيَّة غير مُنفِّرة لا خسَّة فيها ولا دناءة يتوبون منها قبل أنْ يُقتدى بهم فيها، والمُستحيل لا يُقاس على المُمكن.. في العقل والشَّرع.
أمَّا أهل الفتنة فقد جعلوا مِن الجائز كُفرًا؛ وقالوا إنَّ مَن قال: (يد الله حقيقيَّة) فهُو ضالٌّ كحال مَن قال: (إنَّ نبيًّا عصى معصية صغيرة حقيقيَّة غير مُنفِّرة لا خسَّة فيها ولا دناءة وتاب منها).. وعليه؛ فكُلُّ عالِم سُنِّيٍّ كافر عند أهل الفتنة إنْ لم يتأوَّل الآيات الَّتي تعلَّقت مسألة العصمة بها.
وقاس أهل الفتنة (المُستحيلَ) على (المُمكن) في العقل والشَّرع فجعلوا الأوَّل كالثَّاني، و(مَن يقول بما يجوز عقلًا وشرعًا) صار عندهُم كافرًا حُكمُه عندَهُم مثل حُكم (مَن قال بما لا يجوز عقلًا وشرعًا)! وهذا منهُم تكفير لجُمهور الأُمَّة فعلى أهل الفتنة مِن الله ما يستحقُّون.
الأصل في النُّصوص الشَّرعيَّة أنْ تُحمَل على ظاهرها ما لم يدُلَّ دليل على تأويلها، فاليد في الأصل تُحمَل على العُضو والجارحة ولكن لمَّا أُضيفَت إلى الله ودلَّ الدَّليل العقليُّ والشَّرعيُّ على استحالتها في حقِّ الله وجب صرفُها عن ظاهرها.
والذَّنب الأصل فيه أنْ يُحمَل على المعنى الحقيقيِّ لهُ فيكون ذنبًا حقيقيًّا ولكن لمَّا لم يدُلَّ الدَّليل الشَّرعيُّ على وُجوب صرفه عن ظاهره ترك كثير مِن العُلماء تأويلَه وحملوه على الذَّنب الصَّغير غير المُنفِّر لاعتقادهم جوازه على الأنبياء وتأوَّله مَن اعتقد استحالته عليهم.
أهل الفتنة؛ لم يفهموا مذهب أهل السُّنَّة فحملوا دعوى الإجماع المكذوب وانطلقوا في ميادين التَّكفير بغير حقٍّ؛
أهل الفتنة استخرجوا فتاوَى تكفير مَن أطلق نسبة معصية حقيقيَّة لنبيٍّ مِن الأنبياء دون قيد، ثُمَّ طبَّقوا الفتوَى على مَن ذكر ذلك بقُيود كثيرة! وهذا مِن أهل الفتنة تدليس خبيث وجهل عظيم
فإذا أُطلِقَتِ المعصية الحقيقيَّة ليس كما لو قُيِّدَت بكونها (أ) صغيرة (ب) لا خسَّة فيها (ج) لا تتكرَّر منهُم (د) ولا تكثُر (هـ) وأنَّ الأنبياء لو وقعوا فيها يتوبون منها فورًا قبل أنْ يقتديَ بهم فيها أحد، فضلًا أنَّ القائلين بذلك لم يُريدوا الطَّعن بالأنبياء وإنَّما مُوافقةَ ظاهر القُرآن وبيانَ محلِّ اختلاف العُلماء في مسألة العصمة وصيانةَ الشَّرع مِن الدَّعاوي الكاذبة.
فلا معنَى لاستفتاء أهل الفتنة لبعض المشايخ في مسألة المعصية الحقيقيَّة لأنَّ السَّائل تعمَّد وبخبث جليٍّ إغفال كُلِّ القُيود المذكورة آنفًا
النقول على الوقوع:
جاء في الحديث: <لَو أَنَّ اللهَ يُؤَاخِذُنِي وَعِيسَى بِذُنُوبِنَا لَعَذَّبَنَا وَلَا يَظلِمُنَا شَيئًا> قال: وأشار بالسَّبَّابةِ والَّتي تليها. وفي رواية أُخرَى: <لو يُؤاخذني اللهُ وابنَ مريمَ بما جَنَت هاتانِ -يعني الإبهامَ والَّتي تليها- لعذَّبَنا ثُمَّ لم يظلمنا شيئًا> انتَهَى.1
عند الجُمهور لا مانع مِن حمل الحديث على ظاهره لأنَّ الأنبياء يجُوز عليهم نادرًا ذنب صغير لا خسَّة فيه لا يُقتدَى بهم فيه. وأمَّا عند غير الجُمهور فيتأوَّلون الذَّنب إذا أُضِيف إلى الأنبياء في القُرآن الكريم أو الحديث الثَّابت بنحو ترك الأَولَى.
لكن الأنبياء إن عملوا معصية صغيرة لا خسَّة فيها ولا دناءة؛ لا يعملونها مِن باب الجُرأة على الله تعالَى. الجُرأة تقتضي تكرار المعصية وكثرتها والإصرار عليها وعدم التَّوبة منها وإظهار عدم المُبالاة مِن اقترافها وكُلُّ هذا لا يعملُه الأنبياء.
إنَّ كُتُب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة محشُوَّة ببيان اختلاف العُلماء المُعتبَرين في عصمة الأنبياء عن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها وأنَّهُم مُتَّفقون على عصمتهم عليهمُ السَّلام مِن الكُفر والكبائر وصغائر الخسَّة قبل النُّبُوَّة وبعدها؛ وكُلُّ كتاب في العصمة يُثبت ما قدَّمناه في هذا المقال.
فقد نصَّ على ذلك الأئمَّة أصحاب المذاهب السُّنِّيَّة وما لا يُحصَى مِن عُلماء الأُمَّة منهُم المُجتهد الطَّبريُّ والسَّمرقنديُّ والكلاباذي والأسفرايينيُّ والثَّعلبيُّ والمهدويُّ وابن بَطَّال والحافظ البيهقيُّ والمُتولِّي شيخ الشَّافعيَّة وعبدالملك الجُوينيُّ وأبو اليُسر مُحمَّد البَزدَويُّ وأبو حامد الغزاليُّ وابن الجوزيِّ وابن رشد الجَدُّ الفقيه وأبو عبد الله المازريُّ والقاضي عياض وجمال الدِّين الغزنويُّ الحنفيُّ وأبو الحَسَن الأبياريُّ وابن القطَّان وسيف الدِّين الآمديُّ وأحمد بن عُمر الأنصاريُّ القُرطبيُّ وأبو زكريا النَّوويُّ وصفيُّ الدِّين الأرمويُّ الهنديُّ وأبو الحَسَن اليفرنيُّ وابن الأمير وعضد الدِّين الإيجيُّ وتاج الدِّين السُّبكيُّ وسعد الدِّين التَّفتازانيُّ وبدر الدِّين الزَّركشيُّ وابن عرفة التُّونسيُّ المالكيُّ وابن المُلقِّن والشَّريف الجُرجانيُّ ومجد الدِّين الفيروزاباديُّ وعلاء الدِّين المرداويُّ ومُحمَّد بن عبد الرَّحمن الإيجيُّ الشِّيرازيُّ وابن زكري التِّلمسانِيُّ المانويُّ المغرانيُّ ومصلح الدِّين مُصطفى بن مُحمَّد الكستليُّ وزكريَّا الأنصاريُّ ومُحيي الدِّين شيخ زاده الحنفيُّ وابن نُجيم والمُلَّا عليٌّ القاري وقاضي القضاة شهاب الدِّين الخفاجيُّ والحُسين بن مُحمَّد المَغرِبيُّ وخير الدِّين الرَّمليُّ وعبد الله بن علوي الحدَّاد الحضرميُّ وعبد الغنيِّ النَّابُلُسيُّ وابن عابدين الدِّمشقيُّ والمُفسِّر أبو النَّضر الكلبيُّ والمُفسِّر أبو المُظفَّر السَّمعانيُّ والمُفسِّر أبو مُحمَّد البغويُّ والمُفسِّر ابن عطيَّة الأندلسيُّ والمُفسِّر فخر الدِّين الرَّازيُّ والمُفسِّر جمال الدِّين المَوصليُّ والمُفسِّر المشهور أبو عبد الله القُرطبيُّ والمُفسِّر أبو سعيد البيضاويُّ والمُفسِّر نظام الدِّين النَّيسابُوريُّ والمُفسِّر ابن علَّان الصِّدِّيقيُّ وإسمعيل حقِّي البُروسويُّ الحنفيُّ والشَّيخ داود القَرِصيُّ الحنفيُّ والشَّيخ مُحمَّد بخيت المُطيعي والشَّيخ ابن عاشور والشَّيخ عبد الله الهرريُّ الحبشيُّ وغيرُهُم كثير.
قال لسان الأُمَّة العلَّامة القاضي أبو بكر ابن الباقلَّانيِّ: (وكثير مِن أهل الحقِّ يقولون إنَّهُم وإن واقعوها فإنَّما يُواقعونها ويفعلونها مع خوف شديد وإعظام لها وتعقيبها بالنَّدم والاستغفار) نقله أبو القاسم الأنصاريُّ في شرحه على الإرشاد للجُوينيِّ.
جاء في [مخطوطة شرح أبي القاسم الأنصاريِّ على [الإرشاد] للجُوينيِّ] ما نصُّه: <وَنَحنُ إِنَّمَا نُجوِّزُ عَلَيهِم هَذِهِ الأُمُورَ قَبلَ النُّبُوَّةِ وَقَبلَ أَن جَاءُوا بِتَحرِيمِهَا. فَإِن قَالُوا: “أَلَيسَ قَد جَوَّزتُمُ الصَّغَائِرَ مِنهُم بَعدَ التَّحرِيمِ وَفِي حَالِ النُّبُوَّةِ؟” قُلنَا سَنَذكُرُ اختِلَافَ أَصحَابِنَا فِيهِ: قَالَ الأَكثَرُونَ مِنهُم وَمِن غَيرِهِم مِنَ الطَّوَائِفِ بِالتَّجوِيزِ فِي حَالِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الذُّنُوبَ الَّتِي تُفسِدُ البَلَاغَ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَتَقدَحُ فِي دَلَالَةِ المُعجِزَاتِ وَكَذَلِكَ الذُّنُوبُ الَّتِي أَجمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ مِنهُم وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى كَبَائِرَ وَلَيسَ فِي الذُّنُوبِ عِندَنَا مَا هُو صَغَائِرُ تَقَعُ مُحبَطَةً مَغفُورَةً عِندَ اجتِنَابِ الكَبَائِرِ وَقَالَتِ المُعتَزِلَةُ إِنَّ ذُنُوبَهُم تَقَعُ مَغفُورَةً وَقَالَ القَاضِي وَكَثِيرٌ مِن أَهلِ الحَقِّ يَقُولُونَ إِنَّهُم وَإِن وَاقَعُوهَا فَإِنَّمَا يُوَاقِعُونَهَا وَيَفعَلُونَهَا مَعَ خَوفٍ شَدِيدٍ وَإِعظَامٍ لَهَا وَتَعقِيبِهَا بِالنَّدَمِ وَالاِستِغفَارِ> انتَهَى.
وقال الإمام النَّوويِّ في [شرح مُسلم]: <فَذَهَبَ مُعْظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا> إلخ.. وقال الإمام الغزاليُّ في [المُستصفَى]: <فقد دلَّ الدَّليل على وُقوعها منهُم> انتهى.
قال الرَّازيُّ رحمه الله فِي [عصمة الأنبياء] عن قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} ما نصُّه: <جوابه: أنَّه محمول إمَّا على الصَّغيرة أو ترك الأَوْلى أو التَّواضع كما قرَّرناه فِي قول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}> انتهى.
وقال الرَّازيُّ رحمه الله فِي [التَّفسير الكبير]: <فإنْ كان المُراد هُو الأوَّل فهُو يتفرَّع على أنَّه هل صدرت عنه معصية أم لا. فمَن قال صَدَرَت المعصية عنه ذكر فِي فائدة الاستغفار وُجوهًا> إلى آخِر كلامه وهُو واضح.
قال المُحدِّث تاج الدِّين السُّبكيُّ فِي [السَّيف المشهور فِي شرح عقيدة أبي منصور]:
<قالَ صاحبُ هذهِ العقيدةِ تَبَعًا لجماهيرِ أئمَّتِنا: (ولكن لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائرِ لئلَّا تضعُفَ شفاعتُهُم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ علَى المُبتلَى) وقالت المُعتزلة: (هُم معصومون عن الكُلِّ) لأنَّهم لا يرَون الشَّفاعة فحيث أنكروا الشَّفاعة لم يُجوِّزوا الصَّغائر إذ فائدتُها -كما ذكرنا- الرِّقَّة> انتهى.
فمَن حمل الآية على المجاز وتأوَّل معناها قال إنَّ المُراد بالذَّنب ترك الأَولى؛ إذًا.. عند هؤُلاء ليس المُراد مِن الذَّنب ظاهر معناه بل المُراد عندهُم تشبيه ترك الأَولى إذَا فعله الأكابر بالذَّنب ولم يُريدوا حقيقة الذَّنب.
أمَّا مَن لم يحمل الآية على المجاز ولم يتأوَّل معناها فقد قال إنَّ المُراد بالذَّنب الصَّغيرة؛ إذًا.. عند هؤُلاء فالمُراد مِن الذَّنب في الحقيقة هُو ما يظهر مِن معناه لكنَّهُم قيَّدوه بأنَّه ليس مُنفِّرًا ولا يقدح في النُّبُوَّة.
الإمام الغزاليُّ يقول في [المنخول مِن تعليقات الأُصول]: <وأمَّا الصَّغائرُ ففيهِ تردُّدُ العُلماءِ والغالبُ على الظَّنِّ وقوعُهُ وإليهِ يُشيرُ بعضُ الآياتِ والحكاياتِ؛ هذا كلامٌ فِي وقوعِهِ> انتهى ويقول في [المُستصفى في علم الأُصول]: <فقد دلَّ الدَّليل على وُقوعها منهُم> إلى آخر كلامه.
وكان التَّفتازانيُّ رحمه الله بيَّن قول الجُمهور فقال: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى.
ولكنَّه رحمه الله اختار الأخذ بالقول الثَّاني عند أهل السُّنَّة والجماعة فقال: <والمذهب عندنا منع الكبائر بعد البعثة مُطلَقًا والصَّغائرِ عمدًا لا سهوًا لكن لا يُصرُّون ولا يقرُّون بل يُنبَّهُون فينتبهون؛ وذهب إمام الحرمين منَّا وأبو هاشم مِن المُعتزلة إلى تجويز الصَّغائر عمدًا> إلخ..
وهذان النَّقلان عن التَّفتازانيِّ أراد أهل الفتنة الاستدلال بهما ضدَّ ما نقلنا نحن عن الجُمهور؛ فخذلتهُم عُقولُهُمُ بعد أنْ تبيَّن أنَّ ما ينقُلُه التَّفتازانيُّ ينصُر ما ننقله نحن ويُعدم شُبهة أهل الفتنة الَّذين يدَّعون (الإجماع المكذوب) على عصمة الأنبياء مِن تعمُّد الصَّغائر بعد البعثة.
ففي النَّقل الأوَّل يُثبت التَّفتازانيُّ أنَّ مذهب الجُمهور عدم العصمة مِن تعمُّد الصَّغائر -الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة- وفي النَّقل الثَّاني يُثبت أنَّ إمام الحرَمين الجوينيَّ يقول بعدم العصمة مِن تعمُّد الصَّغائر بعد البعثة.. والجُوينيُّ مِن أكابر عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة الأشاعرة.
فقد قرأ بعضُهم قول التَّفتازانيِّ في [شرح المقاصد]: <وبالجُملة فمسألة جواز الصَّغيرة عمدًا على الأنبياء في معرض الاجتهاد لا قاطع فيها؛ لا نفيًا ولا اثباتًا> انتهَى فافترَى جاهل أهل الفتنة وزعم أنَّ كلمة (الاجتهاد) في قول التَّفتازانيِّ ترجع إلى فعل النَّبيِّ لا إلى اختلاف العُلماء!
وهذا خطأ لا يقع فيه إلَّا جَهَلَة مُتصولحة لا يُحسنون قراءة ولا كتابة؛ ومع ذلك فقد نقلنا لهُم ما يدحض شُبُهاتهم مِن أقوال العُلماء الَّذين شرحوا كلام التَّفتازانيِّ وعُلماء آخرين قالوا ما يُؤيِّد كلامه في أنَّ المسألة خلافيَّة لا إجماع فيها (تجدون النُّقول مرسومة في ذيل هذا المقال).
فحيث أراد أهل الفتنة الهرب مِن ثُبوت كون مسألة (عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها) مسألة خلافيَّة؛ وقعوا في غلط قبيح بشع شنيع فنسبوا إلى الأنبياء الخطأ في الاجتهاد في الأُمور الشَّرعيَّة ولهذا يقع عندهُمُ الأنبياء في معاص صغيرة نتيجة خطئهم في الاجتهاد والعياذ بالله!
وهذا مِن أهل الفتنة زيغ وضلال معناه أنَّ النَّبيَّ قد يُخطئ فيما يُبلِّغُنا إيَّاه عن ربِّنا تعالَى وأنَّ النَّبيَّ قد يفهم أحكام الدِّين عن الوحي فهمًا مغلوطًا والعياذ بالله مِن الضَّلال! فهذا ما توصَّل إليه أهل الفتنة بتحريفهم مذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة فعليهم مِن الله ما يستحقُّون.
فصار أهل الفتنة يُجوِّزون الكذب على الأنبياء قبل النُّبُوَّة ويُجوِّزون عليهمُ بعد النُّبُوَّة الخطأ في الاجتهاد وهذا يُثبت أنَّ أهل الفتنة لا يُعظِّمون الأنبياء لأنَّ تجويز الكذب عليهم يُناقض المُعجزة ويقدح بمناصبهم ونسبة الخطإ في الشَّرع إلى الأنبياء يُنافي الثِّقة بهم ولذلك هُو ضلال.
وأختم هذا المقال ببعض النُّقول الَّتي تُثبت أنَّ التفتازانيَّ إنَّما أراد أنَّ المسألة في معرض الاجتهاد أي اجتهاد المُجتهدين ولهذا اختلفت فيها آراؤُهُم:
قال التفتازاني في [شرح المقاصد؛ له]: <وبالجملة فمسألة جواز الصغيرة عمدا على الأنبياء في معرض الاجتهاد لا قاطع فيها؛ لا نفيًا ولا اثباتًا> انتهَى.
وفي [شرح المقاصد] لأبي العبَّاس أحمد بن مُحمَّد بن مُحمَّد بن يعقوب المغربيِّ المالكيِّ المُتوفَّى 1128 للهجرة قال: <فمسألة جواز عمد الصَّغيرة على الأنبياء؛ لمَّا كانت ليست ممَّا يُنَفِّر عنِ الاتِّباع ولا ممَّا يُوجب عقوبة الأنبياء ولا قاطع بنفيها عنهُم ولا مصحِّح لثُبوتها: كانت كما قال في الشَّرح: مُعَرَّضة للاجتهاد فاختلفت فيها الآراء؛ والله الهادي بمَنِّه> انتهَى.
وفي حاشية الفاروقي على [شرح المقاصد] قال: <قولُه: (فمسألة جواز الصَّغيرة إلخ..) يعني أنَّ مسألة جواز صُدور الصَّغيرة عمدًا عنهُم بعد البعثة مُختلف فيها لا قاطع في جوازها ولا في امتناعها> إلخ..
وقال إمام الحرمَين عبد الملك الجُوينيُّ في [الإرشاد إلى قواطع الأدلَّة فِي أُصول الاعتقاد]: <ولم يقُمْ عندي دليلٌ على نفيِها ولا على إثباتِها إذِ القواطعُ نُصوصٌ أو إجماعٌ ولا إجماعَ إذِ العُلماءُ مُختلِفونَ فِي تجويزِ الصَّغائرِ على الأنبياءِ> انتهَى.
وقال الشَّريف الجُرجانيُّ في [شرح المواقف]: <(وتعمُّدهُمُ الصَّغائرَ لا قاطعَ فيهِ نفيًا) كما نبَّهَ عليهِ بقولِهِ سابقًا؛ وأنتَ تعلمُ أنَّ دلالتَها في محلِّ النِّزاعِ وهي عصمتُهُم عنِ الكبيرةِ سهوًا والصَّغيرة عمدًا ليست بالقويَّةِ> إلى آخر كلامه.
وقال الشَّيخ مُحمَّد الطَّاهر بن عاشور في [تحقيقات وأنظار]: <قال إمام الحرمَين فِي [الإرشاد]: (وأمَّا الذُّنوب المعدودة مِن الصَّغائر فلم يقُم عندي قاطع سمعيٌّ على نفيها) أي: عدمِ وُقوعِها (ولا على إثباتها) أي: جوازِ وُقوعِها> إلخ..
وهذا المقال الَّذي لا طاقة لأهل الفتنة بردِّه لن يكون كافيًا لمنعهم مِن الافتراء وتحريف مذاهب الفُقهاء فقد جاء في الحديث الشَّريف: <إنَّ ممَّا أدرك النَّاس مِن كلام النُّبوَّة الأُولَى: إذَا لم تستحِ فَاصْنَعْ ما شئتَ> انتهَى وأهل الفتنة لا يستحون من الفضائح مهما كثُرت فوق رُؤوسهم ولكن يكفيهم ذُلًّا وهوانًا أنَّهُم صغار في عُيوننا وصغار في عُيون أنفُسهم.
قال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ> انتهى واحفظ كلامه جيِّدًا لتفهم ما جوَّزه الجُمهور على الأنبياء.
فلو كان ما جوَّزه الجُمهور على الأنبياء المعصية المجازيَّة لَمَا الْتَحَقَ بالكبائر إنْ تكرَّر وكثُر، فيُعلم بوُضوح أنَّ ما جوَّزه الجُمهور هُو الذَّنب الحقيقيُّ لأنَّه هُو ما يلتحق بالكبائر فيما لو تكرَّر وكثُر.
قال القاضي عياض فِي [الشِّفا]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيرُهُم عَلَى الأَنبِيَاءِ وَهُوَ مَذهَبُ أَبِي جَعفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهَى.
قال القاضي عياض في [الشِّفا]:
<مَنْ جَوَّزَ الصَّغَائِرَ؛ وَمَنْ نَفَاهَا عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى مُنْكَرٍ..> انتهى أي لا يصر على الصغيرة بل يقلع عنها فورا
الفريق الأوَّل وهُمُ الجُمهور: إنَّ الأنبياء غير معصومين مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها، وقال الفريق الآخَرُ وهُمُ الأقلُّ مِن العُلماء: إنَّ الأنبياء معصومون حتَّى مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها. فالقاضي عياض مع مُخالفته لقول الجُمهور في هذه المسألة إلَّا أنَّه لم يأتِ بإجماع مكذوب
وهذا النَّقل مِن عياض عن الجُمهور وافقه فيه الإمام النَّوويُّ الشَّافعيُّ في [شرح مُسلم] فقال: <وَاختَلَفُوا فِي وُقُوعِ غَيرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ مِنهُم فَذَهَبَ مُعظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنهُم وَحُجَّتُهُم ظَوَاهِرُ القُرآنِ وَالأَخبَارِ> انتهَى.
وأكَّد العُلماء ما نقله القاضي عياض عن الجُمهور فقال بدر الدِّين الزَّركشيُّ فِي كتابه [البحر المُحيط فِي أُصول الفقه]: <وَنَقَلَ القَاضِي عِيَاضٌ تَجوِيزَ الصَّغَائِرِ وَوُقُوعَهَا عَن جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَقَالَ فِي [الإِكمَالِ]: إِنَّهُ مَذهَبُ جَمَاهِيرِ العُلَمَاءِ> انتهَى ولاحظ قوله: <تَجوِيزَ الصَّغَائِرِ وَوُقُوعَهَا> لتعلم أنَّ كلام القاضي عياض ليس فِي الجواز دون الوُقوع وإنَّما هُو فِي الوُقوع حقيقة كذلك.
وقال الزَّركشيُّ: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ الَّتِي لَا تُزرِي بِالمَنَاصِبِ وَلَا تَقدَحُ فِي فَاعِلِهَا فَفِي جَوَازِهَا خِلَافٌ مِن حَيثُ السَّمعُ مَبنِيٌّ أَوَّلًا عَلَى ثُبُوتِ الصَّغِيرَةِ فِي نَفسِهَا فَمَن نَفَاهَا كَالأُستَاذِ أَبِي إِسحَقَ مِن حَيثُ النَّظَرُ إِلَى مُخَالَفَةِ أَمرِ الآمِرِ فَلَا تَجُوزُ عِندَهُ عَلَيهِم وَالعَجَبُ أَنَّ إِمَامَ الحَرَمَينِ فِي [الإِرشَادِ] وَافَقَ الأُستَاذَ عَلَى مَنعِ تَصَوُّرِ الصَّغَائِرِ فِي الذُّنُوبِ وَخَالَفَهُ هُنَا. وَالصَّحِيحُ تَصَوُّرُهَا. وَاختَلَفَ القَائِلُونَ بِهِ هَل تَجُوزُ عَلَيهِم وَإِذَا جَازَت هَل وَقَعَت مِنهُم أَم لَا. وَنَقَل إِمَامُ الحَرَمَينِ وَإِلْكِيَا عَنِ الأَكثَرِينَ الجَوَازَ عَقلًا. قَالَ ابنُ السَّمعَانيِّ: وَأَمَّا السَّمَاعُ فَأَبَاهُ بَعضُ المُتَكَلِّمِينَ وَالصَّحِيحُ صِحَّةُ وُقُوعِهَا مِنهُم وَتُتَدَارَكُ بِالتَّوبَةِ> انتهَى.
وقال عليٌّ القاري الحنفيُّ فِي [شرح الشِّفا]: <(وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا) أَي وُجُودَهَا وَوُقُوعَهَا (جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيرُهُم) مِنَ الخَلَفِ كَإِمَامِ الحَرَمَينِ مِنَّا وَأَبِي هَاشِمٍ مِنَ المُعتَزِلَةِ حَيثُ جَوَّزُوا الصَّغَائِرَ غَيرَ المُنَفِّرَةِ (عَلَى الأَنبِيَاءِ وَهُوَ مَذهَبُ أَبِي جَعفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ) أَي المُجتَهِدِينَ..> انتهَى ولاحظ قوله <(مِنَ الفُقَهَاءِ) أَيِ المُجْتَهِدِينَ> لتتأكَّد أخي القارئ مِن صدق مقالنا ومُوافقته ما جاء به العُلماء ونقلوه عن المُجتهِدين مِن الأئمَّة.
وكُلُّ هذه النُّقول تُفيد بما يقطع دابر الشَّكِّ بأنَّ العُلماء اختلفوا في جواز الصَّغائر الحقيقيَّة الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة على الأنبياء -عليهمُ السَّلام- وليس في الصَّغائر غير الحقيقيَّة كما افترَى أهل الفتنة الجَهَلَة المُتصولحة! وذلك لأنَّ الصَّغيرة المجازيَّة -الَّتي تكون كنحو ترك الأَولَى والأفضل أو نحو ما يقع سهوًا- فإنَّها ولو كثُرت وتكرَّرت فإنَّها لا تلتحق بالكبائر.
أهل الفتنة أنكروا أنْ تكون الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها حقيقيَّة مع أنَّهُم بُهِتوا عندما كشفنا لهُم قول الماتُريديِّ في تفسيره: <وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهى.
فهل يقول سُنِّيٌّ إنَّ الله يُعذِّب على ترك الأَولى؟ هل يقول سُنِّيٌّ إنَّ الله يُعذِّب على التَّواضُع؟ هل يقول سُنِّيٌّ إنَّ الله يُعذِّب على فعل الخير أو إنَّه تعالَى يُعذِّب على معصية مجازيَّة؟ لا واللهِ لا يقول هذا الفساد سُنِّيٌّ أبدًا.
ولذلك قال القاضي عياض فِي [الشِّفا]: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَولَينِ أَن يُختَلَفَ أَنَّهُم مَعصُومُونَ عَن تَكرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثرَتِهَا إِذ يُلحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ. وَلَا فِي صَغِيرَةٍ أَدَّت إِلَى إِزَالَةِ الحِشمَةِ وَأَسقَطَتِ المُرُوءَةَ وَأَوجَبَتِ الإِزرَاءَ وَالخَسَاسَةَ؛ فَهَذَا أَيضًا مِمَّا يُعصَمُ عَنهُ الأَنبِيَاءُ إِجمَاعًا> انتهَى.
قال القاضي عياض في [الشِّفا]: <اعلَم أَنَّ المُجَوِّزِينَ الصَّغَائِرَ عَلَى الأَنبِيَاءِ مِنَ الفُقَهَاءِ؛ وَالمُحَدِّثِينَ؛ وَمَن شَايَعَهُم عَلَى ذَلِكَ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ؛ احتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِظَوَاهِرَ كَثِيرَةٍ مِنَ القُرآنِ وَالحَدِيثِ إِنِ التَزَمُوا ظَوَاهِرَهَا أَفضَت بِهِم إِلَى تَجوِيزِ الكَبَائِرِ وَخَرقِ الإِجمَاعِ وَمَا لَا يَقُولُ بِهِ مُسلِمٌ> انتهَى.
القاضي عياضًا نسب فيه القول بجواز الصَّغائر على الأنبياء للفُقهاء؛ والمُحدِّثين؛ والمُتكلِّمين أي العُلماء الَّذين تكلَّموا وألَّفوا في العقائد، وهُو -أي القاضي عياض- ولو خالف الجُمهور إلَّا أنَّه لم يُكفِّرهُم ولم يُضلِّلهُم ولم يُخرجهُم مِن أهل السُّنَّة والجماعة ولكنَّه خالفهُم الرَّأي في هذه المسألة الَّتي لم يقع فيها إجماع.
وتعلَّق أهل الفتنة بقول القاضي عياض: <إِنِ التَزَمُوا ظَوَاهِرَهَا أَفضَت بِهِم إِلَى تَجوِيزِ الكَبَائِرِ وَخَرقِ الإِجمَاعِ وَمَا لَا يَقُولُ بِهِ مُسلِمٌ> إلخ.. فزعموا أنَّ القول بوُقوع صغائر لا خسَّة فيها مِن الأنبياء هُو قول لا يقول به مُسلم!
وكذب أهل الفتنة؛ بل صريح حُروف القاضي عياض أنَّ ما لا يقول به مُسلم هُو القول بوُقوع الكبائر مِن الأنبياء بعد النُّبُوَّة؛ وأنَّ مَن حمل كُلَّ ما ورد مِن إضافة الذَّنب للأنبياء -في القُرآن والحديث- على ظاهره فإنَّ ذلك يُفضي إلى اعتقاد وُقوع الكبائر مِن الأنبياء بعد النُّبُوَّة، ولكن القاضي عياض لم يقُل إنَّ الجُمهور يحملون كُلَّ ما ورد مِن ذلك على ظاهره؛ والصَّواب أنَّ الجُمهور لا يحملون كُلَّ ما ورد مِن ذلك على ظاهره بل أوَّلوا ما أوهم وُقوع الأنبياء في كبيرة أو خسيسة وأمَّا ما لم يُوهم ذلك فلم يُؤوِّلوه؛ وبهذا زال الإشكال الَّذي أراد أهل الفتنة التَّدليس به على العوامِّ مِن المُسلمين.
ويشهد على (صدقنا) و(كذب أهل الفتنة) في فهم كلام القاضي عياض جُملة من الفُقهاء والعُلماء الَّذين شرحوا كلامه فيقول مُلَّا عليٌّ القاري الحنفيُّ في [شرح الشِّفا]: <(وَمَا لَا يَقُولُ بِهِ مُسلِمٌ) أَي مِن تَجوِيزُ الكَبَائِرِ بَعدَ البِعثَةِ عَمدًا فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِهِ إِلَّا الحَشوِيَّةُ> إلخ..
ويقول شهاب الدِّين الخفاجيُّ الشَّافعيُّ في [شرح الشِّفا]: <(وَمَا لَا يَقُولُ بِهِ مُسلِمٌ) أَي أَفضَت بِهِ إِلَى رَأيٍ لَم يَقُلهُ أَحَدٌ مِنَ المُسلِمِينَ وَهُوَ تَجوِيزُ الكَبَائِرِ عَلَيهِم عَمدًا فَإِنَّهُ لَم يَقُلهُ إِلَّا الحَشوِيَّةُ وَأَمَّا سَهوًا فَجَوَّزَهُ بَعضُهُم> إلخ..
فهذه شهادة مِن عُلماء كبار على كذب أهل الفتنة وتحريفهم لمذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة. فكيف لا يستحي أهل الفتنة بعد هذا البيان مِن الكذب على المُسلمين! ومِن مُحاولة خداع المُسلمين! وإلى متَى يزعُمون أنَّ الصَّغيرة الَّتي اختلف العُلماء في جوازها على الأنبياء هي المجازيَّة وحسب بينما يقول الخفاجيُّ الشَّافعيُّ في [شرح الشِّفا]: <(عَلَى مَا احتَجُّوا بِهِ مِن ذَلِكَ) أَي جَوَازِ الصَّغَائِرِ عَلَيهِم؛ وَالصَّغِيرَةُ مَا عَدَا الكَبِيرَةَ> إلخ..
فهل كُلُّ ما عدا الكبيرة لا يكون حقيقيًّا عند جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة! وهل الصَّغيرة الَّتي تلتحق بالكبائر إنْ كثُرت وتكرَّرت ليست حقيقيَّة! بل لا يقول ذلك إلَّا جاهل مُتصولح لا علم له ولا تحقيق ولا إنصاف عنده.
ويُكمل الخفاجيُّ فيقول: <وَالصَّغائِرُ كَالكَبَائِرِ فِي تَوَقُّفِ العَفوِ عَنهَا عَلَى مَشِيئَةِ اللهِ؛ وَكَونُ اجتِنَابِ الكَبَائِرِ مُكَفِّرًا لَهَا: لَا يُنَافِي التَّوَقُّفَ عَلَيهَا؛ وَجَوَازُهَا عَلَيهِم مُطلَقًا وَسَهوًا مَشرُوطٌ بِأَن لَا تَكُونَ مُشعِرَةً بِخِسَّةٍ وَرَذَالَةٍ مُنَفِّرَةٍ لِلطِّبَاعِ> إلخ.. فها هُو الخفَّاجيُّ رحمه الله قد جعل الصَّغائر الَّتي تجوز على الأنبياء قسيمة للكبائر مِن حيثُ توقُّف العفو عنها على مشيئة الله وهذا بإجماع أهل السُّنَّة والجماعة لا يكون في غير المعاصي الحقيقيَّة.
وكان أهل الفتنة زعموا أنَّ أحدًا مِن العُلماء لم يحمل الآية {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} على ظاهرها لأنَّها في حقِّ سيِّدنا مُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، ويُكذِّبُهُمُ الخفَّاجيُّ فيُثبت أنَّها دليل الجُمهور في أنَّه ذنب صغير -لا خسَّة فيه- فيقول: <(فَمِن ذَلِكَ) الَّذِي احتَجُّوا بِهِ عَلَى تَجوِيزِهَا عَلَيهِم (قَولُهُ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيهِ وَسَلَّمَ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}) وَجهُ تَمَسُّكِ مَن جَوَّزَ عَلَيهِمُ الصَّغَائِرَ بِهَذِه الآيَةِ: نِسبَةُ ذَنبٍ إِلَيهِ مَغفُورٍ، وَلَم يُسَمِّهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صَغِيرَةٌ> إلخ.
ولاحظ كيف أنَّ الخفَّاجيَّ يذكُر أنَّ الجُمهور استدلُّوا بهذه الآية في قولهم بجواز الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء، ولا تنسَ قولَه: (والظَّاهر أنَّه صغيرة) مع قولِه قبلَ ذلك: (والصَّغيرة ما عدا الكبيرة) وقولِه قبلُ: (والصَّغائر كالكبائر في توقُّف العفو عنها على مشيئة الله) ليتأكَّد عندك أخي القارئ أنَّه لا يحمل الصَّغائر الَّتي نقل القاضي عياض عن الجُمهور جوازها على الأنبياء: إلَّا على الصَّغائر الحقيقيَّة الَّتي لا خسَّة فيها.
ولا تغفل عن قول الخفَّاجيِّ: <نِسبَةُ ذَنبٍ إِلَيهِ مَغفُورٍ، وَلَم يُسَمِّهِ> إلخ.. وهُو ما كان شيخُنا الهرريُّ رحمه الله قد علَّمنا إيَّاه حيث منع التَّمثيل أي إعطاء الأمثلة عن الذَّنب الَّذي أُضيف إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأنَّ الله تعالَى لم يسمِّه بل أخفاه إكرامًا لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ولو كان عند أهل الفتنة أدب مع الرَّسول لَمَا سألوا عن الذَّنب الَّذي أضافه الله إلى النَّبيِّ في الآية المذكورة أعلاه.
قال الإمام الطَّبريُّ شيخ المُفسِّرين في تفسير {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}: <وسل ربَّك غُفران سالف ذُنوبك وحادثها> انتهَى وقال في {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ}: <فَيَغْفِرَ لَكَ بِفِعَالِكَ ذَلِكَ رَبُّكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قَبْلَ فَتْحِهِ لَكَ مَا فَتَحَ وَمَا تَأَخَّرَ بَعْدَ فَتْحِهِ لَكَ ذَلِكَ مَا شَكَرْتَهُ وَاسْتَغْفَرْتَهُ> انتهَى.
وصرَّح بصحَّة اختياره: <وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الْقَوْلَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ لِدَلَالَةِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ> انتهَى بل وانتصر لرأيه فقال إنَّ في <صِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ> ما أسماه: <الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الَّذِي قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ> انتهَى.
وقال الطَّبريُّ رحمه الله: <وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِهِ إِيَّاهُ بِالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا لِاسْتِغْفَارِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بَعْدَهَا مَعْنًى يُعْقَلُ، إِذِ الِاسْتِغْفَارُ مَعْنَاهُ: طَلَبُ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذُنُوبٌ تُغْفَرُ لَمْ يَكُنْ لِمَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ غُفْرَانَهَا مَعْنًى لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبًا لَمْ أَعْمَلْهُ> انتهَى.
وقال الزَّركشيُّ في [البحر]: <ونقل القاضي عياض تجويزَ الصَّغائر ووقوعَها عن جماعة مِن السَّلف ومنهم أبو جعفر الطَّبريُّ وجماعة مِن الفقهاء والمُحدِّثين> انتهَى؛ وكذلك أسند القُرطبيُّ في تفسيره الوقوع للطَّبريِّ ربطًا بما أسماه <جَرَيَانِ الصَّغَائِرِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ> انتهَى.
وقال بدر الدِّين الزَّركشيُّ فِي كتابه [البحر المُحيط فِي أُصول الفقه]: <وَنَقَلَ القَاضِي عِيَاضٌ تَجْوِيزَ الصَّغَائِرِ وَوُقُوعَهَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَقَالَ فِي [الإِكْمَالِ]: إِنَّهُ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ العُلَمَاءِ> انتهى
وقال: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ الَّتِي لَا تُزْرِي بِالمَنَاصِبِ وَلَا تَقْدَحُ فِي فَاعِلِهَا فَفِي جَوَازِهَا خِلَافٌ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ مَبْنِيٌّ أَوَّلًا عَلَى ثُبُوتِ الصَّغِيرَةِ فِي نَفْسِهَا> إلخ.
قال ابن بَطَّال في [شرح البُخاريِّ]: <وقال أهل السُّنَّة: جائزٌ وقوعُ الصَّغائر مِنَ الأنبياء؛ واحتجُّوا بقوله تعالى مخاطبًا لرسوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فأضاف إليه الذَّنْب> انتهى
فهل كان الإمام الطَّبريُّ غبيًّا كما يدَّعي أهل الفتنة أم أنَّهُم يُضلِّلونه ويُكفِّرونه ويُفسِّقونه ويُبدِّعونه بغير حقٍّ والعياذ بالله تعالَى لأنَّهُم لم يفهموا أنَّ صُدور الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة مِن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه لا يقدح بمناصبهم ولا يزري بهم.. ألبتَّة.
قال الفقيه الشَّافعيُّ العزُّ بن عبدالسَّلام المُلقَّب بشيخ الإسلام وسُلطان العُلماء في [القواعد الكُبرَى] الموسوم بـ[قواعد الأحكام في إصلاح الأنام] جـ/1 ص/210: <فقد عصَى آدمُ وداودُ وغيرُهُما ولم يخرُج واحد منهُم بمعصيته عن حُدود ولايته> إلخ.. فهل هُو كافر قادح بالأنبياء عندكُم يا أهل الفتنة لقوله: (عصى آدم وداود) في غير تلاوة القُرآن الكريم!؟
ثُمَّ قال: <فإنْ قيل: كيف تجوز غِيبة الأنبياء بنسبتهم إلى ما صدر منهُم مِنَ الذُّنوب؟ قُلنا: إنْ ذُكِرَ ذلك تعييرًا لهُم أو إزراء عليهم حَرُمَ وكان ذلك كُفرًا فإنَّ اللهَ ما ذكر ذلك تعييرًا لهُم ولا استنقاصًا لهُم وإنَّما ذكره تنبيهًا على سَعَة رحمته وسُبوغ نعمته وإطماعًا في التَّوبة مِن معصيته ومُخالفته فإنَّ مُسامحة الأكابر تدُلُّ على أنَّ مُسامحة الأصاغر أولَى> إلخ..
ثُمَّ قال رحمه الله: <وإنْ ذُكِرَ ذلك للغرض الَّذي ذكره اللهُ لأجله فلا بأس به بل رُبَّما يُندَبُ إليه ويُحَثُّ عليه إذا كان فيه مصلحة للمُذنبِين القانطِين مِن رحمة ربِّ العالمين> انتهَى فهل يرَى الجَهَلَة المُتصولحة أهل الفتنة أنَّ العزَّ بن عبدالسَّلام كافر على قول عند المالكيَّة كما أوهموا البُسطاء بإنزالهم بعض فتاوَى المالكيَّة في غير محلِّها! والعياذ بالله تعالى.
وقد تحدَّينا أهل الفتنة أنْ يقرأوا مقالنا كاملًا على الشَّيخ الخديم المُوريتانيِّ فعجزوا وذهبوا إليه بعبارة أو عبارتين وأجاب بكلام غير واضح لأنَّهُم يُريدون أنْ يستعملوا فتواه في تكفير أهل الإسلام وفي إيهام العامَّة أنَّ عُلماء الإسلام يُكفِّر بعضُهُم بعضًا في مسألة عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها ولا دناءة؛ ولعلَّ “الخديم” بريء ممَّا يُريدون إلصاقه به مِن تكفير.
لقد أفتَى بعض المالكيَّة بكُفر مَن قال: (آدمُ عصَى) مُريدًا السَّبَّ والطَّعن ولم يُكفِّروا مَن قال ذلك بغير سياق السَّبِّ والطَّعن والتَّحقير والتَّعيير، ولكنَّ أهل الفتنة حملوا تلك الفتوَى فكفَّروا بها كُلَّ عالِم من عُلماء الإسلام وكُلَّ فقيه ومُحدِّث وحافظ قال: (آدمُ عصَى) في غير تلاوة القُرآن الكريم وهذه بدعة عجيبة وتكفير شموليٌّ لأئمَّة الإسلام مِن سَلَف وخَلَف.
ونقل الزَّبيديُّ في [إتحاف السَّادة المُتَّقين] أنَّ عيسَى عليه السَّلام قال: <لا تُعلِّقوا الجواهر في أعناق الخنازير> انتهَى وذكر الخطيب البغداديُّ في [الجامع لأخلاق الرَّواي] أنَّ شُعبة قال: <رَآنِي الْأَعْمَشُ وَأَنَا أُحَدِّثُ قَوْمًا فَقَالَ: وَيْحَكَ -أَوْ وَيْلَكَ- يَا شُعْبَةُ تُعَلِّقُ اللُّؤْلُؤَ فِي أَعْنَاقِ الْخَنَازِيرِ!> انتهَى وهذا يستقيم فيمَن عرفتَ أنَّه يستعمل الفتوَى في غير محلِّها.
وإنَّ قول شيخنا الهرريِّ رحمه الله ورضي عنه: (معصية حقيقيَّة صغيرة لا خسَّة فيها ولا دناءة) ليس فيها زيادة عن قولنا: (معصية صغيرة لا خسَّة فيها ولا دناءة) وذلك لأنَّ لفظ (حقيقيَّة) لم يزد على المعنَى شيئًا، ولكنَّه منع التباس المعنَى على العوامِّ وأهل الفتنة يعرفون ولكنَّهُم يفترون وعن وجه الحقِّ والصَّواب في كُلِّ باب يغفلون فوَيل لهُم ممَّا يُجرمون.
قال ابن رشد الجَدُّ الفقيه في [البيان والتَّحصيل]: <وفي قولِهِ: (كُلُّ بَنِي آدَمَ يَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إِلَّا مَا كَانَ مِن يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ) دليلٌ ظاهرٌ على أنَّ الأنبياءَ غيرُ معصومِينَ مِنَ الذُّنوبِ الصَّغائرِ. إذ لا اختلافَ أنَّهم معصومونَ مِنَ الكبائرِ. ويدلُّ على ذلكَ مِنَ القُرآنِ قولُهُ عزَّ وجلَّ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}> إلى آخر كلامه
لماذا استوعب الأنبياء أعمارهم في الاستغفار؟
استغفار الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه منه ما وقع كَفَّارة للصَّغائر الجائزة عليهم في قول الجُمهور أي الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة؛ ومنه ما وقع على سبيل الذِّكر اللِّسانيِّ تداركًا للثَّواب إنْ كان حصل منهُم ترك للأَولَى فلا يفوتُهُمُ الثَّواب؛ أو وقع على سبيل التَّواضُع أو تعليم النَّاس كيف يفعلون إنْ صدرت منهُم زلَّات ومعاص.
قال إمام الحرمين أبو المعالي الجوينيُّ في [غياث الأُمم في التياث الظُّلَم]: <فإنْ قالوا: كان الأنبياء يستغفرون أيضًا مع وُجوب العصمة لهُم. قُلنا مذهبُنا الَّذي ندين به أنَّه لا يجب عصمة الأنبيـاء عن صغائر الذُّنوب، وآيُ القُرآن في أقاصيص النَّبيِّين مشحونة بالتَّنصيص على هنـَّات كانت منهُم، استوعبوا أعمارهم في الاستغفار منها> إلخ..
العُلماء الَّذين جوَّزوا على الأنبياء صغيرة لا خسَّة فيها لا يقولون إنَّ الله تعالَى يُعذِّب الأنبياء إنْ صدرت منهُم صغائرُ لا خسَّة فيها بل يقولون إنَّه تعالَى يغفرُها لهُم ويعفو عنهُم لأنَّهُم يتوبون فورًا ولأنَّ الله يغفر الصَّغائر لمَن تجنَّب الكبائر ولأنَّه تعالَى يعفو عن المُستغفرين.
ولهذا قال الماتُريديُّ في [تأويلات أهل السُّنَّة] [ج/10]: <وقال تعالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ولو لم يكُن لله تعالَى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر أحدًا، لم يكُن له على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ موضعُ الامتنان بما غفر له ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر> انتهَى.
وكان الماتُريديُّ قال قبل أسطُر: <وفي قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} دلالة أنَّ لله تعالَى أنْ يُعذِّب على الصَّغائر؛ لأنَّ رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مع مَن سبقه مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام قد عُصموا عن ارتكاب الكبائر؛ فلا يجوز أنْ يرتكبوا الكبائر فيهلِكوا لأجلها؛ فثبت أنَّهُم لو أُهلِكوا لأُهلِكوا بالصَّغائر، فلو لم يكُن لله تعالَى أنْ يُعذِّب أهل الصَّغائر، لصار هُو بإهلاكه إيَّاه بمَن معه جائرًا ظالمًا، وجلَّ اللَّه تعالَى عن الوصف بالجَور> انتهَى.
اعلم أنَّ الماتُريديَّ بعد أنْ نقل قول أكثر مُفسِّري الصَّحابة والسَّلف في تفسير الوزر بالإثم لم يستأنس بمذهبهم فاختار خلافه وقال في تفسيره المُسمَّى [تأويلات أهل السُّنَّة] بعد أنْ نقل كلامهُم: <ولكنَّ هذا وحش مِن القَول؛ لكنَّا نقول إنَّ قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} الوزر هُو الحِمل والثِّقَل كأنَّه يقول: قد خفَّفنا عليك مِن أمر النُّبُوَّة والرِّسالة والأحمال الَّتي حمَّلنا عليك كأنَّه يقول قد خفَّفنا ذلك عليك ما لو لم يكُن تخفيفُنا إيَّاه عليك لأنقض ظهرَك أي أثقل> انتهى.
واعلم أنَّ عامَّة أهل التَّأويل عند الماتُريديِّ هُم المُفسِّرون مِن الصَّحابة والسَّلف وليس الضَّالِّين الَّذين لا يعرفون قواعد العلم كما افترَى الجَهَلَة المُتصولحة بدليل قول الماتُريديِّ في موضع آخَرَ مِن تفسيره: <قال عامَّة أهل التَّأويل نحوُ ابن عبَّاس والضَّحَّاك ومُجاهد> إلخ..
وتفسيرُ عامَّة أهل التَّأويل للوزر بالإثم صريح في أنَّهُم أرادوا الذَّنب الحقيقيَّ أي الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه؛ ومذهب الماتُريديِّ أنَّ ذُنوب الأنبياء مجازيَّة فلو كان مُرادُهُم الذَّنب المجازيَّ لَمَا كرهَه الماتُريديُّ ولَمَا قال: (لكنَّه وحش مِن القول) أي وجده مُوحشًا ولم يستأنس به.
فالجَهَلَة المُتصَولحة ضلَّلوا عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة في المسألة؛ فكان لا بُدَّ مِن الرَّدِّ عليهم بدليل الشَّرع منعًا لتكفير عُلمائنا وصيانةً للشَّرع مِن تحريفات أهل الفتنة وردًّا لادِّعائهمُ الإجماع الكاذب وكشفًا لتمويهاتهم على البُسطاء في مسألة لا نُحبُّ أنْ نُكثر مِن الكلام فيها أمام العامَّة إذ محلُّها كُتُب العلم لولا ضرورة وأد الفتنة وكسر أهلها وحفظ العوامِّ مِن أنْ يتوهَّموا أنَّ مذهب الجُمهور ينسب إلى الأنبياء ما لا يجوز في حقِّهم.
لا يُكثر العُلماء مِن الكلام فيها أمام العامَّة وإنَّما جعلوها في كُتُبهم الَّتي تكون عادة بين أيدي طَلَبَة العلم الشَّرعيِّ فالله المستعان.
وبين أيدينا كلام للإمام الماتُريديِّ -رحمه الله- مِن تفسيره للقُرآن المعروف بكتاب [تأويلات أهل السُّنَّة].. والإمام الماتُريديُّ هُو واحد مِن رُؤوس القائلين بالقول الثَّاني أي بالعصمة المُطلقة أي عصمة الأنبياء حتَّى مِن الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها؛ فنتدارس معًا معاني كلامه وما دلَّ عليه مِن اعتقاد الجُمهور واعتقاد بقيَّة عُلماء الأُمَّة ليعرف كُلُّ أَحَد ما هُو المُعتبَر مِن أقوال العُلماء فيمتنع عن تضليل وتبديع وتفسيق أهل السُّنَّة والجماعة.
قال الماتُريديُّ في تفسيره: <وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} يحتمل وجهَين أحدُهُمَا ما قال عامَّة أهل التَّأويل على تحقيق الوزر له والإثم كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} يقولون: أثبت له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه ولكنَّ هذا وحش مِن القَول؛ لكنَّا نقول إنَّ قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} الوزر هُو الحِمل والثِّقَل كأنَّه يقول: قد خفَّفنا عليك مِن أمر النُّبُوَّة والرِّسالة والأحمال الَّتي حمَّلنا عليك كأنَّه يقول قد خفَّفنا ذلك عليك ما لو لم يكُن تخفيفُنا إيَّاه عليك لأنقض ظهرَك أي أثقل> انتهى.
سُؤال: ما هي الآية أو الآيات الَّتي تناولها الإمام الماتُريديُّ بهذا الكلام؟
جواب: قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} وقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.
سُؤال: كم احتمال تحتمل هذه الآيات في تفسيرها؟
جواب: تحتمل وجهَين اثنَين ذكرهُما الإمام الماتُريديُّ.
سُؤال: مَن الَّذي قال بالوجه الأوَّل منهُما؟
جواب: عامَّة أهل التَّأويل أي أكثرُ المُفسِّرين مِن الصَّحابة والسَّلف.
سُؤال: ماذا قال عامَّة أهل التَّأويل في هذه الآية؟
جواب: قالوا: <أثبتَ له الذَّنب والوزر فوَضع ذلك عنه> انتهى وقولُهُم: (أثبت) أي الله تعالى. وقولهُم: (له) أرادوا للنَّبيِّ عليه السَّلام.
سُؤال: ماذا أراد الماتُريديُّ بقوله: (الإثم) و(الوزر) و(الذَّنب)؟
جواب: أراد بقوله ذلك فيما نسبه إلى عامَّة أهل التَّأويل الذَّنب الحقيقيَّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه لأنَّه مُمكن وُقوع الأنبياء فيه عند الجُمهور.
سُؤال: ما الدَّليل على أنَّ الماتُريديَّ أراد بذلك الحقيقة لا المجاز؟
سُؤال: هل فَهِمَ أهل الفتنة هذا المعنَى الَّذي بيَّنتَه؟
جواب: نعم ولذلك اتَّهموا (عامَّة أهل التَّأويل) بالجهل والفتوَى بغير علم أوَّل الأمر؛ وكان أهل الفتنة يجهلون أنَّ المعنَى أكثر المُفسِّرين مِن الصَّحابة والسَّلف فعلَّمناهُم ذلك.
سُؤال: ما الدَّليل أنَّ كلمة (عامَّة) تأتي بمعنَى أكثر؟
جواب: جاء في الحديث: <استنزهوا مِن البَول فإنَّ عامَّة عذاب القبر منه> رواه الدَّارقطنيُّ وفي رواية <أكثر عذاب القبر مِن البَول> رواه الحاكم، والرِّوايتانِ معناهُما واحد؛ فدلَّ أنَّ (عامَّة) تعنِي (أكثر).
سُؤال: ما الدَّليل أنَّ عامَّة أهل التَّأويل تعني أكثر مُفسِّري الصَّحابة والسَّلف؟
جواب: لأنَّ الماتُريديَّ قال في موضع آخَرَ مِن تفسيره: <قال عامَّة أهل التَّأويل نحو ابن عبَّاس والضَّحَّاك ومُجاهد> إلخ..
فأراد أهل الفتنة الهرب ثانية فزعموا أنَّ عامَّة أهل التَّأويل قالوا بإثبات الوزر والإثم على الأنبياء مجازًا لا حقيقة؛ ولكنَّ الماتُريديَّ وصف قول عامَّة أهل التَّأويل فقال: <ولكن هذا وَحش مِن القَول> انتهى فدلَّ أنَّه يُخالفُ قولهُم لأنَّه يقول في تفسيره: <وَذَنْبُهُمْ تَرْكُ الأَفْضَلِ> انتهى فثبت أنَّه رضي الله عنه نسب إلى عامَّة أهل التَّأويل القول بوُقوع صغائر حقيقيَّة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام.. وضرب كلامُه أهلَ الفتنة مرَّة ثالثة.
قال الماتُريديُّ في تفسيره: <قال عامَّة أهل التَّأويل نحو ابن عبَّاس والضَّحَّاك ومُجاهد> إلخ.. فهذا دليل أنَّه لا يقصد الجَهَلَة بقوله: <عامَّة أهل التَّأويل> وإلَّا لَمَا أدخل فيهم ابنَ عبَّاس الَّذي دعا له الرَّسول عليه السَّلام فقال: <اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ> صحَّحه الحافظ العراقيُّ في [تخريج أحاديث الإحياء].
فلمَّا أُغلقت السُّبُل في وجوه أهل الفتنة لجأوا إلى ما لا يقوم عليه دليل فقالوا: (إنَّ ابن عبَّاس يقول بأنَّ كُلَّ ما نهَى الله عنه فهُو معصية كبيرة فإنْ زعمتُم أنَّ ابن عبَّاس مِن عامَّة أهل التَّأويل فقد نسبتُم إليه القول بوُقوع كبائر مِن الأنبياء عليهمُ السَّلام).. وغفل الجَهَلَة المُتصَولحة أنَّ الإمام الماتُريديَّ هُو مَن جعل ابن عبَّاس في رأس عامَّة أهل التَّأويل وليس نحن! فانقلب سحر أهل الفتنة علَيهم وعاد كيدُهُم إلَيهم وكفى الله المُؤمنين القتال.
ثُمَّ إنَّ القُرطبيَّ يقول: <وما أظُنُّه يصحُّ عن ابن عبَّاس أنَّ كُلَّ ما نهَى الله عزَّ وجلَّ عنه كبيرة لأنَّه مُخالف لظاهر القُرآن في الفرق بَين الصَّغائر والكبائر في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وقولِه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فجعل في المنهيَّات صغائرَ وكبائر وفرَّق بينهُما في الحُكم إذ جعل تكفير السَّيِّئات في الآية مشروطًا باجتناب الكبائر واستثنَى اللَّمَم مِن الكبائر والفواحش فكيف يخفَى ذلك على حَبر القُرآن؟> انتهى.
وكلام القُرطبيِّ ذكره ابن حَجَر في [فتح الباري] ثُمَّ قال: <ويُؤيِّدُه ما سيأتي عن ابن عبَّاس في تفسير اللَّمَم لكنَّ النَّقل المذكور عنه أخرجه إسمعيل القاضي والطَّبريُّ بسَنَد صحيح على شرط الشَّيخَين إلى ابن عبَّاس فالأَوْلَى أنْ يكون المُراد بقوله: (نهى الله عنه) محمولًا على نهي خاصٍّ وهُو الَّذي قُرِنَ به وعيد كما قيَّد في الرِّواية الأُخرى عن ابن عبَّاس فيُحمَل مُطلَقُه على مُقيَّده جمعًا بين كلامَيه> انتهى و(الوعيد) التَّهديد بعذاب شديد.
وهكذا تبيَّن أنَّ العُلماء منهُم مَن لم يُصحِّح الرِّواية المذكورة عن ابن عبَّاس رضي الله عنه ومنهُم مَن صحَّح سندها على معنًى مخصوص لم يفهمه أهل الفتنة بل حَمَلَها على النَّهي الَّذي قُرن به وعيد بعذاب شديد؛ وثبت أنَّ ابن عبَّاس قيَّد بذلك في الرِّواية الأُخرَى الَّتي أشار إليها ابن حَجَر.. فيا لخيبة أهل الفتنة يحتفرون في الأرض ولا يجدون منفذًا ليخرجوا ممَّا ورَّطوا به أنفسهم مِن تضليل جُمهور عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة.
سُؤال: هل لديك دليل آخَر أنَّ عامَّة أهل التَّأويل أرادوا الذَّنب الحقيقيَّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه؟
جواب: قول الماتُريديِّ بعد أنْ نقل قولهُم: <ولكن هذا وَحِش مِن القَول> يُثبت أنَّه نسب إليهم إثبات الذَّنب الحقيقيِّ الصَّغير الَّذي لا خسَّة فيه، ولو أرادوا المجازيَّ لَمَا خالفهُم ولَمَا وجد قولهُم مُوحشًا.
ويزيد كلامَنا تأكيدًا أنَّ الماتريديَّ يقول في تفسيره: <وَذَنْبُهُمْ تَرْكُ الأَفْضَلِ> انتهى فلو كان ينسب لعامَّة أهل التَّأويل مثل قول نفسه لَمَا صرَّح بمُخالفتهم. وهذه الدَّلائل القويَّة أخرست أهل الفتنة فلم يستطيعوا الجواب عليها مع أنَّهُم حاولوا مرَّات فغيَّروا في كلامهم وبدَّلوا فأعياهُم الأمر وازدادوا سُقوطًا وانطبق عليهمُ المَثَل العربيُّ: (ضلَّ الدُّرَيْص نَفَقَه) أي جُحْره.
وكان التَّفتازانيُّ رحمه الله بيَّن قول الجُمهور فقال: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى.
ولكنَّه رحمه الله اختار الأخذ بالقول الثَّاني عند أهل السُّنَّة والجماعة فقال: <والمذهب عندنا منع الكبائر بعد البعثة مُطلَقًا والصَّغائرِ عمدًا لا سهوًا لكن لا يُصرُّون ولا يقرُّون بل يُنبَّهُون فينتبهون؛ وذهب إمام الحرمين منَّا وأبو هاشم مِن المُعتزلة إلى تجويز الصَّغائر عمدًا> إلخ..
وهذان النَّقلان عن التَّفتازانيِّ أراد أهل الفتنة الاستدلال بهما ضدَّ ما نقلنا نحن عن الجُمهور؛ فخذلتهُم عُقولُهُمُ بعد أنْ تبيَّن أنَّ ما ينقُلُه التَّفتازانيُّ ينصُر ما ننقله نحن ويُعدم شُبهة أهل الفتنة الَّذين يدَّعون (الإجماع المكذوب) على عصمة الأنبياء مِن تعمُّد الصَّغائر بعد البعثة.
ففي النَّقل الأوَّل يُثبت التَّفتازانيُّ أنَّ مذهب الجُمهور عدم العصمة مِن تعمُّد الصَّغائر -الَّتي لا خسَّة فيها ولا دناءة- وفي النَّقل الثَّاني يُثبت أنَّ إمام الحرَمين الجوينيَّ يقول بعدم العصمة مِن تعمُّد الصَّغائر بعد البعثة.. والجُوينيُّ مِن أكابر عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة الأشاعرة.
فقد قرأ بعضُهم قول التَّفتازانيِّ في [شرح المقاصد]: <وبالجُملة فمسألة جواز الصَّغيرة عمدًا على الأنبياء في معرض الاجتهاد لا قاطع فيها؛ لا نفيًا ولا اثباتًا> انتهَى فافترَى جاهل أهل الفتنة وزعم أنَّ كلمة (الاجتهاد) في قول التَّفتازانيِّ ترجع إلى فعل النَّبيِّ لا إلى اختلاف العُلماء!
وهذا خطأ لا يقع فيه إلَّا جَهَلَة مُتصولحة لا يُحسنون قراءة ولا كتابة؛ ومع ذلك فقد نقلنا لهُم ما يدحض شُبُهاتهم مِن أقوال العُلماء الَّذين شرحوا كلام التَّفتازانيِّ وعُلماء آخرين قالوا ما يُؤيِّد كلامه في أنَّ المسألة خلافيَّة لا إجماع فيها (تجدون النُّقول مرسومة في ذيل هذا المقال).
فحيث أراد أهل الفتنة الهرب مِن ثُبوت كون مسألة (عصمة الأنبياء عن صغائر لا خسَّة فيها) مسألة خلافيَّة؛ وقعوا في غلط قبيح بشع شنيع فنسبوا إلى الأنبياء الخطأ في الاجتهاد في الأُمور الشَّرعيَّة ولهذا يقع عندهُمُ الأنبياء في معاص صغيرة نتيجة خطئهم في الاجتهاد والعياذ بالله!
وهذا مِن أهل الفتنة زيغ وضلال معناه أنَّ النَّبيَّ قد يُخطئ فيما يُبلِّغُنا إيَّاه عن ربِّنا تعالَى وأنَّ النَّبيَّ قد يفهم أحكام الدِّين عن الوحي فهمًا مغلوطًا والعياذ بالله مِن الضَّلال! فهذا ما توصَّل إليه أهل الفتنة بتحريفهم مذاهب عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة فعليهم مِن الله ما يستحقُّون.
فصار أهل الفتنة يُجوِّزون الكذب على الأنبياء قبل النُّبُوَّة ويُجوِّزون عليهمُ بعد النُّبُوَّة الخطأ في الاجتهاد وهذا يُثبت أنَّ أهل الفتنة لا يُعظِّمون الأنبياء لأنَّ تجويز الكذب عليهم يُناقض المُعجزة ويقدح بمناصبهم ونسبة الخطإ في الشَّرع إلى الأنبياء يُنافي الثِّقة بهم ولذلك هُو ضلال.
وأختم هذا المقال ببعض النُّقول الَّتي تُثبت أنَّ التفتازانيَّ إنَّما أراد أنَّ المسألة في معرض الاجتهاد أي اجتهاد المُجتهدين ولهذا اختلفت فيها آراؤُهُم:
قال التفتازاني في [شرح المقاصد؛ له]: <وبالجملة فمسألة جواز الصغيرة عمدا على الأنبياء في معرض الاجتهاد لا قاطع فيها؛ لا نفيًا ولا اثباتًا> انتهَى.
وفي [شرح المقاصد] لأبي العبَّاس أحمد بن مُحمَّد بن مُحمَّد بن يعقوب المغربيِّ المالكيِّ المُتوفَّى 1128 للهجرة قال: <فمسألة جواز عمد الصَّغيرة على الأنبياء؛ لمَّا كانت ليست ممَّا يُنَفِّر عنِ الاتِّباع ولا ممَّا يُوجب عقوبة الأنبياء ولا قاطع بنفيها عنهُم ولا مصحِّح لثُبوتها: كانت كما قال في الشَّرح: مُعَرَّضة للاجتهاد فاختلفت فيها الآراء؛ والله الهادي بمَنِّه> انتهَى.
وفي حاشية الفاروقي على [شرح المقاصد] قال: <قولُه: (فمسألة جواز الصَّغيرة إلخ..) يعني أنَّ مسألة جواز صُدور الصَّغيرة عمدًا عنهُم بعد البعثة مُختلف فيها لا قاطع في جوازها ولا في امتناعها> إلخ..
وقال إمام الحرمَين عبد الملك الجُوينيُّ في [الإرشاد إلى قواطع الأدلَّة فِي أُصول الاعتقاد]: <ولم يقُمْ عندي دليلٌ على نفيِها ولا على إثباتِها إذِ القواطعُ نُصوصٌ أو إجماعٌ ولا إجماعَ إذِ العُلماءُ مُختلِفونَ فِي تجويزِ الصَّغائرِ على الأنبياءِ> انتهَى.
وقال الشَّريف الجُرجانيُّ في [شرح المواقف]: <(وتعمُّدهُمُ الصَّغائرَ لا قاطعَ فيهِ نفيًا) كما نبَّهَ عليهِ بقولِهِ سابقًا؛ وأنتَ تعلمُ أنَّ دلالتَها في محلِّ النِّزاعِ وهي عصمتُهُم عنِ الكبيرةِ سهوًا والصَّغيرة عمدًا ليست بالقويَّةِ> إلى آخر كلامه.
وقال الشَّيخ مُحمَّد الطَّاهر بن عاشور في [تحقيقات وأنظار]: <قال إمام الحرمَين فِي [الإرشاد]: (وأمَّا الذُّنوب المعدودة مِن الصَّغائر فلم يقُم عندي قاطع سمعيٌّ على نفيها) أي: عدمِ وُقوعِها (ولا على إثباتها) أي: جوازِ وُقوعِها> إلخ..
وهذا المقال الَّذي لا طاقة لأهل الفتنة بردِّه لن يكون كافيًا لمنعهم مِن الافتراء وتحريف مذاهب الفُقهاء فقد جاء في الحديث الشَّريف: <إنَّ ممَّا أدرك النَّاس مِن كلام النُّبوَّة الأُولَى: إذَا لم تستحِ فَاصْنَعْ ما شئتَ> انتهَى وأهل الفتنة لا يستحون من الفضائح مهما كثُرت فوق رُؤوسهم ولكن يكفيهم ذُلًّا وهوانًا أنَّهُم صغار في عُيوننا وصغار في عُيون أنفُسهم.
فإذا أُطلِقَتِ المعصية الحقيقيَّة ليس كما لو قُيِّدَت بكونها (أ) صغيرة (ب) لا خسَّة فيها (ج) لا تتكرَّر منهُم (د) ولا تكثُر (هـ) وأنَّ الأنبياء لو وقعوا فيها يتوبون منها فورًا قبل أنْ يقتديَ بهم فيها أحد، فضلًا أنَّ القائلين بذلك لم يُريدوا الطَّعن بالأنبياء وإنَّما مُوافقةَ ظاهر القُرآن وبيانَ محلِّ اختلاف العُلماء في مسألة العصمة وصيانةَ الشَّرع مِن الدَّعاوي الكاذبة.
فلا معنَى لاستفتاء أهل الفتنة لبعض المشايخ في مسألة المعصية الحقيقيَّة لأنَّ السَّائل تعمَّد وبخبث جليٍّ إغفال كُلِّ القُيود المذكورة آنفًا؛ وتَعَمُّد أهل الفتنة ذلك ليس بريئًا لأنَّهُم يعلمون أنَّنا ما نقلنا عن الجُمهور إلَّا جواز ووُقوع صغيرة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء، ولكنَّهُم يُحرِّفون ليخرُجوا بما يُوهمون به العوامَّ بغير الحقِّ وسعيًا لإشعال فتيل الفتنة والعياذ بالله.
وكذلك لا معنَى لتلك الفتاوَى لأنَّ المشايخ لم يُصرِّحوا بتكفير مَن حمل قوله تعالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقولَه تعالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} على ظاهرهما فقال: إنَّ الذَّنب المذكور هُو -عند الجُمهور- ذنب صغير حقيقيٌّ لا خسَّة فيه ولا دناءة تاب منه صلَّى الله عليه وسلَّم وغفره الله تعالَى له وستره كرامة لنبيِّه المُصطفَى عليه السَّلام.
فأيُّ معنًى لفتاوَى أُغفل فيها ذكر عماد المبحث في الحوار وهُو أنَّ الذَّنب الوارد في الآيات مُضافًا إلى النَّبيِّ لو لم يكُن في مذهب الجُمهور ذنبًا حقيقيًّا صغيرًا لا خسَّة فيه لَمَا قال العُلماء: “إنَّه لا يتكرَّر ولا يكثُر مِن الأنبياء لأنَّ ذلك يُلحقه بالكبائر” انتهَى وقد علمتَ أنَّ عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة لم يقُل أحد منهُم: إنَّ الذَّنب المجازيَّ يصير ذنبًا مِن الكبائر إنْ تكرَّر وكثُر!
فبعد أنْ ذكر أنَّ جُمهور العُلماء على القول بجواز الصَّغائر الَّتي لا خسَّة فيها على الأنبياء قال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ> انتهَى فكيف يرَى أهل الفتنة أنَّ الذَّنب مجازيٌّ ومع ذلك يلتحق بكبائر الذُّنوب والمعاصي والآثام بالتَّكرار والكثرة لولا أنَّهُم مِن الجَهَلَة على التَّحقيق!؟
وليت شعري هل تلك الفتاوَى أراد بها مُطلِقوها ردَّ كلام المُتكلِّم التَّفتازانيِّ في [شرح العقائد النَّسفيَّة]: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ، هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهَى أم يُوافقون عليه لو لم يُغفله سائل أهل الفتنة!؟
وليت شعري هل أُريد بتلك الفتاوَى تكفير الإمام الماتُريديِّ رضي الله عنه لأنَّه أخذ بقول جُمهور العُلماء مرَّة خلال ردِّه على المُعتزلة في [تفسيره] فقال: <وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهَى.
وهل أُريد بتلك الفتاوَى تكفير الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لأنَّه ردَّ على المُعتزلة فقال: <وَأَمَّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ آدَمَ كَافِرٌ> رواه ابن الجوزيِّ فِي [مناقب أحمد] ومثله في [طبقات الحنابلة] وهُو دليل أنَّ ذنب آدم عليه السَّلام عنده صغير حقيقيٌّ لأنَّ المُعتزلة لم يُكفِّروا بالذُّنوب المجازيَّة.
وهل أُريد بتلك الفتاوَى تكفير الكستليِّ الفقيه الحنفيِّ لقوله في [حاشية على شرح السَّعد التَّفتازانيِّ]: <أو المُراد الصَّغيرة سهوًا أو عمدًا أو ما كان منه قبل النُّبوَّة، والآية على الوجه الأوَّل مصروفة عن ظاهرها بخلاف الوُجوه الأُخَر إذ ليس فيها إخراجها عن ظاهرها بالكلمة فتدبَّر وقِس عليها نظائرها> انتهَى لأنَّه أشار إلى صحَّة قول مَن حمل الآيات على ظاهرها!؟
وليت شعري هل احتجَّ أحد مِن أولئك المشايخ بكلام ابن حزم الظَّاهريِّ كما فعل أهل الفتنة! وهل يُوافق أولئك المشايخ على أنَّ لفظ المعصية له إطلاقات ثلاثة (1) الأوَّل حقيقيٌّ (2) والثَّاني مجازيٌّ (3) وثالث لا هُو حقيقيٌّ ولا مجازيٌّ كما افترَى أهل الفتنة! وهل يُوافق أولئك المشايخ على بدعة أهل الفتنة في قولهم: إنَّه لا يُوجد صغائر غير ذات الخسَّة والدَّناءة!؟
وهل أحد مِن أولئك المشايخ تجرَّأ على شتم الفقيه الحنفيِّ الشَّيخ مُلَّا عليٍّ القاري رحمه الله لأنَّ الشَّيخ المذكور بيَّن أنَّ قول الجُمهور -بحمل الآيات الَّتي أُضيف فيها الذَّنب للأنبياء على ظاهرها- لا يُناقض إجماع الصَّحابة على التَّأسِّي بالرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم لأنَّ قول الجُمهور فيه شرط وهُو أنَّ النَّبيَّ لو وقع في صغيرة لا خسَّة فيها يُنبَّه للتَّوبة قبل أنْ يُقتدَى به فيها.
وقال ابن بَطَّال -شيخ المالكيَّة- في [شرح البُخارِيِّ]: <وقالَ أهلُ السُّنَّةِ: جائزٌ وقوعُ الصَّغائرِ مِنَ الأنبياءِ. واحتجُّوا بقولِهِ تعالَى مُخاطبًا لرسولِهِ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فأضافَ إليهِ الذَّنْبَ> انتهَى وقال فيه: <وَإِنَّمَا يَقَعُ اسْتِغْفَارُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَفَّارَةً لِلصَّغَائِرِ الجَائِزَةِ عَلَيْهِ وَهِيَ الَّتِي سَأَلَ اللَّهَ غُفْرَانَهَا لَهُ بِقَوْلِهِ: {اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ}> انتهَى.
وقال المُتولِّي -شيخ الشَّافعيَّة- فِي [الغُنية]: <وأمَّا الصَّغائرُ فاختلفُوا فِي جوازِها عليهمْ..> انتهَى وقال: <ومنهمْ مَن جوَّزها وعليه يدلُّ قَصَصُ الأنبياءِ وهوَ ظاهرٌ فِي القُرآنِ> انتهَى فهل ظاهر القُرآن إلَّا إضافة الذَّنب؟ وهل يرى أهل الفتنة بحملهم تلك الفتاوَى في غير محلِّها وُجوب استتابة ابن بطَّال شيخ المالكيَّة واستتابة المُتولِّي شيخ الشافعيَّة بعلَّة القدح بالأنبياء!؟
ولو كان الإجماع مُنعقدًا على أنَّ الأنبياء لا يقعون في صغيرة لا خسَّة فيها -كما يفتري أهل الفتنة- فلماذا قال الإمام الغزاليُّ فِي [المنخول مِن تعليقات الأُصول]: <وأمَّا الصَّغائرُ ففيهِ تردُّدُ العُلماءِ والغالبُ على الظَّنِّ وقوعُهُ وإليهِ يُشيرُ بعضُ الآياتِ والحكاياتِ؛ هذا كلامٌ فِي وقوعِهِ> انتهَى أم تُراهم كذلك يُوجبون استتابة الإمام الغزاليِّ لقوله بوُقوع الصَّغائر مِن الأنبياء!
وقال المازريُّ المالكيُّ في [إيضاح المحصول]: <فبَيْنَ أئمَّتِنا اختلافٌ فِي وُقوعِ الصَّغائرِ> إلخ.. وقال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهَى وقال النَّوويُّ الشَّافعيُّ مثله في [شرح مُسلم] فهل كُلُّ عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة يُستتابون عند أهل الفتنة!
وقال الأبياريُّ الأُصوليُّ المالكيُّ فِي [التَّحقيق والبيان فِي شرح البُرهان فِي أصول الفقه] ما نصُّه: <وَقَوْلُهُ: (إِنَّ الصَّغَائِرَ مُخْتَلَفٌ فِي وُقُوعِهَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ) فَهُوَ كَذَلِكَ “وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ” مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}> انتهَى فهل يودُّ أهل الفتنة أنْ يستتيبوا الإمام مالكًا رضي الله عنه!
وقبل أنْ يهجم أهل الفتنة والزَّيغ على تكفير المُؤمنين -المُعظِّمين للأنبياء- بغير حقٍّ؛ نسألُهُم هل أخفَوا عن أُولئك المشايخ -لغرض خبيث- أم بيَّنوا لهُم أنَّ مَن قال بوُقوع صغيرة لا خسَّة فيها مِن الأنبياء اشترط أنَّ الأنبياء لا يُصرُّون عليها وبيَّن أنَّهُم صلوات الله عليهم وسلامُه لا يقتحمونها اقتحامًا ولا يتلبَّسون بها وإنَّما تكون طارئة على جليل أحوالهم يتبرَّأون منها فورًا!؟
ولو كان أهل الفتنة صادقين في تبرئة الأنبياء مِن مُخالفة الأمر والنَّهي فلماذَا زعموا أنَّ القول بنُبُوَّة إخوة يُوسف هُو قول مُعتبَر صحيح يجوز اعتقادُه! مع أنَّ القُرآن الكريم أثبت في حقِّهم أنَّهُم كَذَبُوا وفعلوا الكبائر والخسائس؛ ولمَّا نبَّهناهُم إلى هذه السَّقطة وقُلنا لهُم هذا منكُم طعن بمقام النُّبُوَّة ركبوا رُؤوسَهُم وأخذتهُمُ العزَّة بالإثم وتكبَّروا عن قَبول النُّصح.
وفي الختام هل يجرُؤ أهل الفتنة على قراءة مثل هذا المقال بحروفه كاملًا أمام أُولئك المشايخ الَّذين يستفتونهُم في مسألة عصمة الأنبياء؟ أم أنَّهُم يخافون لو فعلوا أنْ تنكشف ألاعيبُهُم ومُخادعاتُهُم لهُم في صِيَغ السُّؤال وأنْ يفوتَهُم ما يبتغون مِن الشُّرور وتحريف الشَّرع الشَّريف وأنْ يُطرَدوا مِن مجالسهم طرد الكلاب الشَّاردة.. وما قول بعضهم (ترجم) عنهُم ببعيد!
جاء في حقِّ نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام آيات فيها: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} و{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} و{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} واختلف العُلماء هل الذَّنب والوزر فيها علَى الحقيقة أم علَى المجاز.
وانقسم المُعتزلة إلَى فريقَين في المعصية الصَّغيرة فقال فريق منهُم وافقوا الخوارج: (إنَّ مَن ارتكب الصَّغيرة كافر) وقال فريق آخَرُ منهُم: (إنَّ اللهَ لا يُعذِّب علَى الصَّغائر مُطلَقًا)، فردَّ الإمام أحمدُ بن حنبل رضي الله عنه علَى الفريق الأوَّل مِن المُعتزلة فقال: <وَأَمَّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَذَلِكَ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ آدَمَ كَافِرٌ> رواه ابن الجَوزيِّ فِي [مناقب أحمد] ومثلُه فِي [طبقات الحنابلة]، وردَّ الإمام الماتُريديُّ علَى الفريق الثَّاني مِن المُعتزلة فقال في تفسيره: <وَلَوْ لَمْ يَكُن للهِ تَعَالَى أَنْ يُعَذِّبَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَحَدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعُ الِامْتِنَانِ بِمَا غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ> انتهى. فدلَّ كلام الإمام أحمد أنَّ ما جاء في حقِّ آدم عليه السَّلام ذنب صغير حقيقيٌّ لأنَّ المُعتزلة الَّذين كفَّروا بالذَّنب كفَّروا بالحقيقيِّ لا بالمجازيِّ؛ وجاء كلام الإمام الماتُريديِّ في هذا المَوضع علَى مذهب الجُمهور في تفسير قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} فلو لم يكُنِ الذَّنب الوارد في الآية محمولًا علَى الذَّنب الصَّغير الحقيقيِّ لَمَا كان في كلامه ردٌّ علَى المُعتزلة الَّذين زعموا أنَّ الصَّغائر لا عذاب عليها مُطلَقًا.
قال ابن عطيَّة فِي [المُحرَّر الوجيز]: <وأجمع العُلماء علَى عصمة الأنبياء عليهم السَّلام مِن الكبائر والصَّغائر الَّتي هي رذائل. وجوَّز بعضُهُمُ الصَّغائر الَّتي ليست برذائل واختلفوا هل وقع ذلك مِن مُحمَّد عليه السَّلام أو لم يقع> انتهَى وقال: <قال الثَّعلبيُّ: الإماميَّة لا تُجوِّز الصَّغائر علَى النَّبيِّ ولا علَى الإمام والآية ترُدُّ عليهم> انتهى.
وقال سيف الدِّين الآمديُّ الحنبليُّ ثُمَّ الشَّافعيُّ الأشعريُّ في [أبكار الأفكار]: <آدمُ عليه السَّلام عصَى وارتكب الذَّنب> انتهَى وقال: <قولُه تعالَى مُخاطِبًا لمُحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} وهُو صريح في أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم له ذنوب> انتهَى فلو كان مُجرَّد قول: (آدم عصَى) كُفرًا -كما افترَى أهل الفتنة- لصار الآمديُّ وما لا يُحصَى مِن العُلماء كُفَّارًا فبئس أهل الفتنة؛ واعلم أنَّ كلام الآمديِّ في تفسير {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مُوافق لقول الجُمهور.
قال الشَّيخ داود القَرِصيُّ الحنفيُّ فِي [شرحه علَى القصيدة النُّونيَّة لخضر بيك]: <وأمَّا صُدور صغائر غير مُنفِّرة بعدَها فجوَّزه الجُمهور عمدًا وسهوًا> إلَى قوله: <وزعم جُمهور الشِّيعة والرَّوافض أنَّه لا يجوز عليهم ذنب أصلًا لا كبيرةٌ ولا صغيرة لا عمدًا ولا سهوًا لا قبل النُّبُوَّة ولا بعدها وهذا كما تَرَى يُرَى أنَّه تعظيم لهُم ولذا اشتَهَر بين الجَهَلَة المُتصَولحة زعمًا منهُم أنَّه هُو التَّعظيم> انتهى.
الردود
كيف يقعون في ذنب وقد قيل: إنَّ الذَّنب عار2
الذُّنوب والمعاصي منها ما يُوجب الإزراء والخساسة ويقدح بالمراتب ويُخِلُّ بالمناصب ومنها ما لا يُوجب ذلك؛ والصَّغائر الَّتي جوَّزها جُمهور العُلماء على الأنبياء هي غير ذات الخسَّة والدَّناءة.
ماهي الحكمة من الوقوع:
الحكمة مِن وُقوع الأنبياء عليهمُ السَّلام في صغائر لا خسَّة فيها على قول الجُمهور قال الإمام الرَّازيُّ في [تفسيره]: <ثَالِثُهَا الصَّغَائِرُ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالسَّهْوِ وَالْعَمْدِ، وَهُوَ يَصُونُهُمْ عَنِ الْعُجْبِ> انتهى.
والعُجْب في اللُّغة هُو الزُّهُوُّ.. ورجُلٌ مُعْجَبٌ: مَزْهُوٌّ بما يكون منه حسَنًا أو قبيحًا.. والعُجْبُ بطاعة الله هُو كما قال الفُقهاء: شُهود العِبادة صادرة مِن النَّفس غائبًا عن المِنَّة، ويُحبط ثوابها إذَا اقترن بالعمل.
قال النَّوويُّ في [شرح مُسلم]: <وَاخْتَلَفُوا فِي إِمْكَانِ وُقُوعِ الصَّغَائِرِ؛ وَمَنْ جَوَّزَهَا مَنَعَ مِنْ إِضَافَتِهَا إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَى طَرِيقِ التَّنْقِيصِ> انتهى.
وقال الماتُريديُّ في تفسيره: <والثَّالث: ذَكَرَ زلَّاتهم ليعلموا أعني الخَلْقَ كيف عاملوا ربَّهُم عند ارتكابهمُ الزَّلَّات والعَثَرات؛ فيُعامِلون ربَّهُم عند ارتكابهم ذلك علَى ما عامله الرُّسُل بالبُكاء والتَّضرُّع والفزع إليه والتَّوبة علَى ذلك والله أعلم، أو أنْ يكون ذَكَرَها ليُعلَم أنَّ ارتكاب الصَّغائر لا يُزيل الولاية ولا يُخرجه مِن الإيمان وذلك علَى الخوارج بقولهم: إنَّ مَن ارتكب صغيرة أو كبيرة خرج مِن الإيمان، أو أنْ يكون ذلك ليُعلَم أنَّ الصَّغيرة ليست بمغفورة ولكن له أنْ يُعذِّب عليها> إلخ..
قال الرَّازيُّ في [تفسيره]: <المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبٌ، فَمَاذَا يُغْفَرُ لَهُ؟ قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا مِنْ وُجُوهٍ: (أَحَدُهَا) الْمُرَادُ ذَنْبُ الْمُؤْمِنِينَ. (ثَانِيهَا) الْمُرَادُ تَرْكُ الْأَفْضَلِ. (ثَالِثُهَا) الصَّغَائِرُ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالسَّهْوِ وَالْعَمْدِ، وَهُوَ يَصُونُهُمْ عَنِ الْعُجْبِ؛ (رَابِعُهَا) الْمُرَادُ الْعِصْمَةُ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ> انتهى.
وقال المُحدِّث تاج الدِّين السُّبكيُّ فِي [السَّيف المشهور فِي شرح عقيدة أبي منصور]: <قالَ صاحبُ هذهِ العقيدةِ تَبَعًا لجماهيرِ أئمَّتِنا: (ولكن لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائرِ لئلَّا تضعُفَ شفاعتُهُم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ علَى المُبتلَى) وقالت المُعتزلة: (هُم معصومون عن الكُلِّ) لأنَّهم لا يرَون الشَّفاعة فحيث أنكروا الشَّفاعة لم يُجوِّزوا الصَّغائر إذ فائدتُها -كما ذكرنا- الرِّقَّة> انتهى.
قول الصَّحابة: (إنَّا لسنا كهيئتك يا رسول الله إنَّ الله قد غفر لك..)
يقول أهل الفتنة: (نحن لا نعتقد تجويز الكذب على الأنبياء قبل الوحي) ولكنَّهُم يُخفُون على النَّاس أنَّهُم يُصحِّحون القول بنُبُوَّة إخوة يوسُف الَّذين أثبت الله في القُرآن أنَّهم كذبوا على أبيهم نبيَّ الله يعقوب وأنَّهُم أرادوا قتل نبيِّ الله يوسُف وأنَّهُم آذَوه وباعوه على صُورة العبد المملوك.
نعم إخوة يوسُف تابوا وحَسُن إسلامُهُم بعد ذلك؛ هذا شيء والنُّبُوَّة شيء آخَرُ فقد وقع الإجماع على أنَّ مَن وقع في الكذب لا يصير نبيًّا؛ فإنْ وجدنا في الكُتُب ما يُخالف إجماع المُسلمين لا نُوافقُه بل يجب علينا إنكار كُلِّ قول فيه خرق لإجماع عُلماء المُسلمين ولو وُجِد في ألف كتاب.
قول أبي العبَّاس المغربيِّ المالكيِّ المُتوفَّى 1128 للهجرة في [شرح المقاصد] في أنَّ تعمُّد الصَّغيرة الَّتي لا خسَّة فيها: (ليس ممَّا يُنَفِّر عنِ الاتِّباع ولا ممَّا يُوجب عقوبة الأنبياء)، فكذَّبه أهل الفتنة وزعموا أنَّها تُنفِّر عن الاتِّباع وأنَّها تُوجب عُقوبة الأنبياء والعياذ بالله!
قال عياض في [الشِّفا]: <وَبِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَا الِاتِّسَامُ بِهِ فِي أُمُورِهِمْ وَأَحْوَالِ دُنْيَاهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُزْرِي وَيُرِيبُ وَيُنَفِّرُ الْقُلُوبَ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ بَعْدُ> انتهَى.
وأهل السُّنَّة نصُّوا أنَّ الكاذب لا يصلُح للرِّسالة. قال الماتُريديُّ في [شرح الفقه الأكبر]: <فَإِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ مِنْهَا لَمْ يَنْفَكُّوا عَنِ الْكَذِبِ؛ وَالْكَاذِبُ لَا يَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ> انتهَى.
وقال ابن الجوزيِّ: <اعلم أنَّ الكذب لا يجوز على الأنبياء بحال، فهذا أصل ينبغي أنْ يُعتَقَد ولا يُناقَض بأخبار الآحاد فإنَّه ثابت بدليل أقوَى منها> إلخ.. والله تعالَى حكيم لا يُرسل أنبياء مُتَّهمين بالكذب لا يُصدِّقُهُمُ النَّاس.
وقال ابن عقيل: <وذاك أنَّ العقل قطع بأنَّ الرَّسول ينبغي أنْ يكون موثوقًا به ليُعلَم صدقُ ما جاء به عن الله، ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه فكيف مع وجود الكذب منه!> إلخ.. فهذا اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة.
فمَن جوَّز نُبُوَّة إخوة يوسُف أو صحَّحها أو قرَّرها فقد جوَّز الكذب والكبائر على الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامُه؛ ومقام الأنبياء أعلَى مِن أنْ يكون بينهُم كاذب ولكنَّ أهل الفتنة لا يُعظِّمون أنبياء الله عليهمُ السَّلام.
قال المفتي الشَّيخ مُحمَّد علِّيش في [فتح العليِّ المالك فِي الفتوى على مذهب الإمام مالك]:
<قَالَ البُرْزُلِيُّ: فَتَمْثِيلُ النُّحَاةِ لِلَمْ وَلَمَّا بِقَوْلِهِمْ: “وَلَمَّا عَصَى آدَم رَبَّهُ وَلَمْ يَنْدَمْ” كُفِّرَ. وَكُفْرُهُ أُخْرَوِيٌّ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى نَصِّ القُرْآنِ وَلَمْ يَنْدَمْ وَهُوَ زِيَادَةٌ فِي القَدْحِ> انتهى.
فالعلماء لن يحكموا بكفره لقوله (آدم عصى) ولكن لأنه قال إن آدم لم يندم
قال الرَّمليُّ: <ويكفر مَن أراد بالمعصية الكبيرة>
قال أي ابن عابدين: <أي بأنْ قال إنَّ المعصية الَّتي صدرت مِن آدم كبيرة فإنَّه يكفر لأنَّه قد خالف الإجماع> انتهى
وقد علمتم أن جمهور علماء أهل السنة والجماعة هم من جوَّزوا الصغائر التي لا خسة فيها على الأنبياء فهذا دليل أن الوقوع في صغائر لا خسة فيها لا يوجب الذم والقدح
قال الإمام الأشعريُّ في [المُجرَّد]: <إنَّ أنواعَ الألطافِ إذا توالَتْ وفعلَها اللهُ بالمكلَّفِ ولمْ تتخلَّلْها كبيرةٌ قيل لمَن فُعِلَ بهِ ذلكَ إنَّهُ معصومٌ مُطلقًا وذلكَ كأحوالِ الأنبياءِ والمُرسلينَ> انتهى
وقال التَّفتازانيُّ: <وبمجرَّد كبيرة سهوًا أو صغيرة ولو عمدًا لا يُعدُّ المرء مِنَ الظَّالمين على الإطلاق؛ ولا مِن الَّذين أغواهم الشَّيطان؛ ولا مِن حزب الشَّيطان؛ سيَّما مع الإنابة> انتهى
رد الافتراء على الشيخ عبد الله الهرري
مقالات
قال المُحدِّث تاج الدِّين السُّبكيُّ فِي [السَّيف المشهور فِي شرح عقيدة أبي منصور]:
<قالَ صاحبُ هذهِ العقيدةِ تَبَعًا لجماهيرِ أئمَّتِنا: (ولكن لم يُعصَموا مِنَ الصَّغائرِ لئلَّا تضعُفَ شفاعتُهُم لأنَّ مَن لا يُبتلَى لا يَرِقُّ علَى المُبتلَى) وقالت المُعتزلة: (هُم معصومون عن الكُلِّ) لأنَّهم لا يرَون الشَّفاعة فحيث أنكروا الشَّفاعة لم يُجوِّزوا الصَّغائر إذ فائدتُها -كما ذكرنا- الرِّقَّة> انتهى.
قال لسان الأُمَّة العلَّامة القاضي أبو بكر ابن الباقلَّانيِّ: (وكثير مِن أهل الحقِّ يقولون إنَّهُم وإن واقعوها فإنَّما يُواقعونها ويفعلونها مع خوف شديد وإعظام لها وتعقيبها بالنَّدم والاستغفار) نقله أبو القاسم الأنصاريُّ في شرحه على الإرشاد للجُوينيِّ.
وقال الإمام النَّوويِّ في [شرح مُسلم]: <فَذَهَبَ مُعْظَمُ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا> إلخ.. وقال الإمام الغزاليُّ في [المُستصفَى]: <فقد دلَّ الدَّليل على وُقوعها منهُم> انتهى
قال الرَّازيُّ رحمه الله فِي [عصمة الأنبياء] عن قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} ما نصُّه: <جوابه: أنَّه محمول إمَّا على الصَّغيرة أو ترك الأَوْلى أو التَّواضع كما قرَّرناه فِي قول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}> انتهى.
وقال الرَّازيُّ رحمه الله فِي [التَّفسير الكبير]: <فإنْ كان المُراد هُو الأوَّل فهُو يتفرَّع على أنَّه هل صدرت عنه معصية أم لا. فمَن قال صَدَرَت المعصية عنه ذكر فِي فائدة الاستغفار وُجوهًا> إلى آخِر كلامه وهُو واضح.
الإمام الغزاليُّ يقول في [المنخول مِن تعليقات الأُصول]: <وأمَّا الصَّغائرُ ففيهِ تردُّدُ العُلماءِ والغالبُ على الظَّنِّ وقوعُهُ وإليهِ يُشيرُ بعضُ الآياتِ والحكاياتِ؛ هذا كلامٌ فِي وقوعِهِ> انتهى ويقول في [المُستصفى في علم الأُصول]: <فقد دلَّ الدَّليل على وُقوعها منهُم> إلى آخر كلامه.
وكان التَّفتازانيُّ رحمه الله بيَّن قول الجُمهور فقال: <أَمَّا الصَّغَائِرُ فَيَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. وَيَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ -إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ- لَكِنَّ المُحَقِّقِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبَّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنهُ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الوَحْيِ> انتهى.
ولكنَّه رحمه الله اختار الأخذ بالقول الثَّاني عند أهل السُّنَّة والجماعة فقال: <والمذهب عندنا منع الكبائر بعد البعثة مُطلَقًا والصَّغائرِ عمدًا لا سهوًا لكن لا يُصرُّون ولا يقرُّون بل يُنبَّهُون فينتبهون؛ وذهب إمام الحرمين منَّا وأبو هاشم مِن المُعتزلة إلى تجويز الصَّغائر عمدًا> إلخ..
القاضي عياض مع أنَّه مِن القائلين بالعصمة المُطلقة لم يكذب بل قال: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَالمُتَكَلِّمِينَ> انتهى.
أمَّا مَن أنكر أنَّ الخلاف بين عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة هُو في كون تلك الذُّنوب حقيقيَّة في عُرف الشَّرع؛ فالرَّدُّ عليه سهل ومِن لسان بعض أشهر القائلين بالعصمة المُطلقة عنيت به القاضي عياض.
قال القاضي عياض في [الشِّفا]: <وَلَا يَجِبُ عَلَى القَوْلَيْنِ أَنْ يُخْتَلَفَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنْ تَكْرَارِ الصَّغَائِرِ وَكَثْرَتِهَا إِذْ يُلْحِقُهَا ذَلِكَ بِالكَبَائِرِ> انتهى واحفظ كلامه جيِّدًا لتفهم ما جوَّزه الجُمهور على الأنبياء.
فلو كان ما جوَّزه الجُمهور على الأنبياء المعصية المجازيَّة لَمَا الْتَحَقَ بالكبائر إنْ تكرَّر وكثُر، فيُعلم بوُضوح أنَّ ما جوَّزه الجُمهور هُو الذَّنب الحقيقيُّ لأنَّه هُو ما يلتحق بالكبائر فيما لو تكرَّر وكثُر.
وابتعد عن الإنصاف مَن شبَّه قول شيخنا في مذهب الجُمهور: <معصية حقيقيَّة صغيرة لا خسَّة فيها ولا دناءة> اهـ؛ وبين قول الزَّمخشريِّ في نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام: <أخطأتَ وبئسَ ما فعلتَ> اهـ!
وأكَّد العُلماء ما نقله القاضي عياض عن الجُمهور فقال بدر الدِّين الزَّركشيُّ فِي كتابه [البحر المُحيط فِي أُصول الفقه]: <وَنَقَلَ القَاضِي عِيَاضٌ تَجوِيزَ الصَّغَائِرِ وَوُقُوعَهَا عَن جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الفُقَهَاءِ وَالمُحَدِّثِينَ وَقَالَ فِي [الإِكمَالِ]: إِنَّهُ مَذهَبُ جَمَاهِيرِ العُلَمَاءِ> انتهَى ولاحظ قوله: <تَجوِيزَ الصَّغَائِرِ وَوُقُوعَهَا> لتعلم أنَّ كلام القاضي عياض ليس فِي الجواز دون الوُقوع وإنَّما هُو فِي الوُقوع حقيقة كذلك.
وقال الزَّركشيُّ: <وَأَمَّا الصَّغَائِرُ الَّتِي لَا تُزرِي بِالمَنَاصِبِ وَلَا تَقدَحُ فِي فَاعِلِهَا فَفِي جَوَازِهَا خِلَافٌ مِن حَيثُ السَّمعُ مَبنِيٌّ أَوَّلًا عَلَى ثُبُوتِ الصَّغِيرَةِ فِي نَفسِهَا فَمَن نَفَاهَا كَالأُستَاذِ أَبِي إِسحَقَ مِن حَيثُ النَّظَرُ إِلَى مُخَالَفَةِ أَمرِ الآمِرِ فَلَا تَجُوزُ عِندَهُ عَلَيهِم وَالعَجَبُ أَنَّ إِمَامَ الحَرَمَينِ فِي [الإِرشَادِ] وَافَقَ الأُستَاذَ عَلَى مَنعِ تَصَوُّرِ الصَّغَائِرِ فِي الذُّنُوبِ وَخَالَفَهُ هُنَا. وَالصَّحِيحُ تَصَوُّرُهَا. وَاختَلَفَ القَائِلُونَ بِهِ هَل تَجُوزُ عَلَيهِم وَإِذَا جَازَت هَل وَقَعَت مِنهُم أَم لَا. وَنَقَل إِمَامُ الحَرَمَينِ وَإِلْكِيَا عَنِ الأَكثَرِينَ الجَوَازَ عَقلًا. قَالَ ابنُ السَّمعَانيِّ: وَأَمَّا السَّمَاعُ فَأَبَاهُ بَعضُ المُتَكَلِّمِينَ وَالصَّحِيحُ صِحَّةُ وُقُوعِهَا مِنهُم وَتُتَدَارَكُ بِالتَّوبَةِ> انتهَى.
وقال عليٌّ القاري الحنفيُّ فِي [شرح الشِّفا]: <(وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَجَوَّزَهَا) أَي وُجُودَهَا وَوُقُوعَهَا (جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَغَيرُهُم) مِنَ الخَلَفِ كَإِمَامِ الحَرَمَينِ مِنَّا وَأَبِي هَاشِمٍ مِنَ المُعتَزِلَةِ حَيثُ جَوَّزُوا الصَّغَائِرَ غَيرَ المُنَفِّرَةِ (عَلَى الأَنبِيَاءِ وَهُوَ مَذهَبُ أَبِي جَعفَرٍ الطَّبَرِيِّ وَغَيرِهِ مِنَ الفُقَهَاءِ) أَي المُجتَهِدِينَ..> انتهَى ولاحظ قوله <(مِنَ الفُقَهَاءِ) أَيِ المُجْتَهِدِينَ> لتتأكَّد أخي القارئ مِن صدق مقالنا ومُوافقته ما جاء به العُلماء ونقلوه عن المُجتهِدين مِن الأئمَّة.
