الْقَاعِدَةُ: الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ، أَوْ “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”

ٱلْيَوْمَ إِنْ شَاءَ اللهُ سَنَتَكَلَّمُ عَنْ قَاعِدَةٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ أَيْضًا مِنَ ٱلْقَوَاعِدِ ٱلْخَمْسِ ٱلْكُبْرَى وَهِيَ قَاعِدَةُ “ٱلضَّرَرِ يُزَالُ”، مَعْنَاهُ لَا بُدَّ مِنْ إِبْعَادِ ٱلضَّرَرِ عَنِ ٱلْفَرْدِ وَعَنِ ٱلْمُجْتَمَعِ، وَٱلْأَصْلُ فِي هَذِهِ ٱلْقَاعِدَةِ حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ٱلَّذِي رَوَاهُ ٱلدَّارَقُطْنِيُّ وَٱلْإِمَامُ أَحْمَدُ وَٱبْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سَيِّدِنَا أَبِي سَعِيدٍ ٱلْخُدْرِيِّ رَضِيَ ٱللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى ٱللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”، الأَوْلَى فِي ٱلْحَقِيقَةِ تَسْمِيَةُ هَذِهِ ٱلْقَاعِدَة بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ ٱلصَّلَاةُ وَٱلسَّلَامُ “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ” لِمَاذَا؟ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ ٱلصَّلَاةُ وَٱلسَّلَامُ حَدِيثٌ نَبَوِيٌّ، هَذَا شَيْءٌ، فَقَوْلُهُ: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”، بمَا أَنَّهُ حَدِيثٌ نَبَوِيٌّ أَوْلَى مِنْ تَسْمِيَةِ هَذِهِ ٱلْقَاعِدَةِ: “ٱلضَّرَرُ يُزَالُ”. ٱلشَّيْءُ ٱلثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ” يَشْمَلُ شَيْئَيْنِ: ٱلشَّيْءُ ٱلْأَوَّلُ أَنَّهُ يَشْمَلُ مَنْعَ ٱلضَّرَرِ مِنَ ٱلْوُقُوعِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَيَشْمَلُ رَفْعَ ٱلضَّرَرِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَحُصُولِهِ، حَتَّى نَفْهَمَ هَذَا ٱلْكَلَامَ جَيِّدًا يَنْبَغِي أَنْ نَفْهَمَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ ٱلصَّلَاةُ وَٱلسَّلَامُ: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”، مَا مَعْنَى ٱلضَّرَرِ؟ أَن تُلْحِقَ مَفْسَدَةً بِغَيْرِكَ، أَنْ تُوَقِّعَ بِغَيْرِكَ مَفْسَدَةً هَذَا يُقَالُ لَهُ ضَرَرٌ. وَأَمَّا ٱلضِّرَارُ فَهُوَ أَنْ يُعَاقِبَكَ مَنْ أَوْقَعْتَ بِهِ مَفْسَدَةً بِمَفْسَدَةٍ أُخْرَى، أَضْرِبُ لِهَذَا مِثَالًا؛ لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا أَحْرَقَ لِزَيْدٍ سَيَّارَتَهُ هَذَا يُسَمَّى ضَرَرًا لِأَنَّهُ أَلْحَقَ مَفْسَدَةً بِسَيَّارَةِ زَيْدٍ، لَكِنَّ زَيْدًا أَرَادَ أَنْ يَنْتَقِمَ مِمَّنْ أَحْرَقَ لَهُ سَيَّارَتَهُ فَجَاءَ فَأَحْرَقَ سَيَّارَةَ ٱلَّذِي أَحْرَقَ سَيَّارَتَهُ، هَذَا ٱلْفِعْلُ ٱلثَّانِي مُعَاقَبَةُ زَيْدٍ بِإِحْرَاقِ سَيَّارَةِ مَن أَحْرَقَ سَيَّارَتَهُ ٱبْتِدَاءً يُسَمَّى ٱلضِّرَارُ. إِذًا ٱلضَّرَرُ هُوَ إِيقَاعُ ٱلْمَفْسَدَةِ بِٱلْغَيْرِ، ٱلضِّرَارُ مَا هُوَ؟ هُوَ مُعَاقَبَةُ مَنْ أَضَرَّ بِكَ بِضَرَرٍ هَذَا يُقَالُ لَهُ ضِرَارٌ. هذا الحديثُ بمَنطُوقِهِ ومَفهُومِهِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ عُنْوَانًا لِهَذِهِ ٱلْقَاعِدَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ “ٱلضَّرَرُ يُزَالُ”، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ “ٱلضَّرَرُ يُزَالُ”، مَعْنَاهُ يُزَالُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَحُصُولِهِ فَلَا يَشْمَلُ مَنْعَ ٱلضَّرَرِ قَبْلَ وُقُوعِهِ أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ أَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ ٱلصَّلَاةُ وَٱلسَّلَامُ: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”، يَشْمَلُ كِلَا ٱلْأَمْرَيْنِ، يَشْمَلُ مَنْعَ ٱلضَّرَرِ مِنَ ٱلْوُقُوعِ وَيَشْمَلُ رَفْعَ ٱلضَّرَرِ بَعْدَ ٱلْوُقُوعِ “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”. ثمَّ هَذِهِ ٱلْقَاعِدَةُ تَدْخُلُ فِي أَبْوَابٍ فِقْهِيَّةٍ كَثِيرَةٍ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا رَفْعُ ٱلضَّرَرِ وَمَنْعُهُ عَنِ ٱلنَّاسِ سَوَاءٌ كَانَ فَرْدًا أَوْ مُجْتَمَعًا. ولِهَذا مَثَلًا إِذَا إِنْسَانٌ تَعَدَّى حُدُودَ أَرْضِهِ فَبَنَى شَيْئًا فِي مَمَرِّ ٱلنَّاسِ وَطَرِيقِهِمْ بِحَيْثُ إِنَّهُ أَضَرَّ بِهِمْ، ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ طَرِيقَهُمُ ٱلَّذِي يَمُرُّونَ بِهِ، فَهَذَا ٱلْبِنَاءُ ٱلَّذِي بَنَاهُ فِي مَمَرِّ ٱلنَّاسِ وَطَرِيقِهِمْ بِمَا أَنَّهُ أَوْقَعَ ضَرَرًا بِٱلنَّاسِ يُزَالُ فِي حُكْمِ ٱلشَّرْعِ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ ٱلْقَاعِدَةَ تَقُولُ: “ٱلضَّرَرُ يُزَالُ”. وَمِنْ جُمْلَةِ ٱلْأَمْثِلَةِ عَلَى هَذِهِ ٱلْقَاعِدَةِ؛ لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ وَهَذَا ٱلْبُسْتَانُ بِجَانِبِهِ بَيْتٌ لِشَخْصٍ فَنَمَتْ هَذِهِ ٱلْأَشْجَارُ وَإِنْ كَانَتْ أُصُولُهَا فِي أَرْضِ مَالِكِهَا فَنَمَتْ هَذِهِ ٱلْأَشْجَارُ حَتَّى ٱمْتَدَّتْ إِلَى بَيْتِ هَذَا ٱلْإِنْسَانِ ٱلَّذِي بِجَانِبِ ٱلْأَرْضِ بِحَيْثُ إِنَّ هَذِهِ ٱلْأَشْجَار أَضَرَّتْ بِهِ، حُكْمُ ٱلشَّرْعِ يَقُولُ هَذَا ٱلشَّجَرُ ٱلَّذِي نَمَا وَٱمْتَدَّ إِلَى بَيْتِ هَذَا ٱلْإِنْسَانِ يُزَالُ، فَالْجُزْءُ ٱلَّذِي أَضَرَّ بِهِ يُزَالُ وَيُقْطَعُ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ ٱلْقَاعِدَةَ تَقُولُ: “ٱلضَّرَرُ يُزَالُ”.

مِثَالٌ ثَالِثٌ: أَحْيَانًا قَدْ يَنْزِلُ بِٱلنَّاسِ مَجَاعَةٌ وَحَاجَةٌ إِلَى ٱلْقُوتِ، يَعْنِي ٱلْأَشْيَاء ٱلَّتِي يَقُومُ بِهَا ٱلْبَدَنُ، مِنْ نَحْوِ ٱلْقَمْحِ، مِنْ نَحْوِ ٱلْأَرُزِّ، مِنْ نَحْوِ ٱلْحِمَّصِ، مِنْ نَحْوِ ٱلْعَدَسِ، هَذِهِ ٱلْأَشْيَاءُ يَتَقَوَّتُ ٱلنَّاسُ بِهَا وَتَقْوَى أَبْدَانُهُمْ بِأَكْلِهَا، هَذَا ٱلْإِنْسَانُ كَانَ عِنْدَهُ أَقْوَاتٌ وَلَكِنَّهُ مَنَعَ بَيْعَهَا لِلنَّاسِ مَعَ أَنَّ ٱلنَّاسَ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا ٱلْقُوتِ بِحَيْثُ إِنَّهُم إنْ لَمْ يَتَقَوَّتوا لَحِقَهُمْ ضَرَرٌ بِأَبْدَانِهِمْ وَهَذَا ٱلَّذِي يَمْلِكُ هَذِهِ ٱلْأَقْوَاتِ ٱمْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا لِلنَّاسِ، لَوْ كَانَ هُنَاكَ حَاكِمٌ خَلِيفَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُلْزِمُهُ، يُوجِبُ عليْهِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ هَذِهِ ٱلْأَقْوَاتِ لِلْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا بِسِعْرِ ٱلْمِثْلِ، يَعْنِي كَمْ يُسَاوِي ثَمَنُهَا عَادَةً فِي ٱلسُّوقِ يُلْزِمُهُ أَنْ يَبِيعَهَا مَعَ أَنَّهَا مِلْكٌ لَهُ بِسِعْرِ ٱلْمِثْلِ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبِعِ ٱلنَّاسَ هَذِهِ ٱلْأَقْوَات يَلْحَقُهُمْ ضَرَرٌ فِي أَبْدَانِهِمْ. إِنْ حَجَرَ بَيْعَهَا وَمَنَعَ بَيْعَهَا، ٱلْحَاكِمُ يُلْزِمُهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِسِعْرِ ٱلْمِثْلِ لِيَدْفَعَ ٱلضَّرَرَ عَنِ ٱلْمُسْلِمِينَ بِناءً عَلَى أَيَّةِ قَاعِدَةٍ؟ عَلَى قَاعِدَةِ: “ٱلضَّرَرُ يُزَالُ”. مِثَالٌ رَابِعٌ: لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا أَفْلَسَ, مَنْ هُوَ ٱلْمُفْلِسُ؟ هُوَ ٱلَّذِي زَادَتْ دُيُونُهُ ٱلْحَالَّةِ لَا المُؤَجَلَةِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ الآنَ مِنْ مَالٍ، فالقَاضِي يَحْجُرُ عَلَى مَالِهِ، مَا مَعْنَى “يَحْجُرُ عَلَى مَالِهِ”؟ يَمْنَعُهُ مِنَ ٱلتَّصَرُّفِ فِي مالِهِ إِلَّا الشَّىءِ الذي لا بُدَّ مِنْهُ، كَٱلْمَطْعَمِ والقُوتِ ونحوِ ذَلك. يَمنعُهُ مِنَ التَّصرُّفِ بِمَالِهِ، لمَاذَا؟ لِأَنَّهُ أَفلَسَ، وقَعَ تحتَ عَجزٍ بِحيثُ ما عادَ يَستطيعُ أنْ يُسَدِّدَ هذهِ الدُّيونَ الحَالَّةِ، لمَاذَا يَحْجُرُ عليْهِ القَاضِي أوِ الحَاكِم فيَمنَعُهُ منَ التَّصرُّفِ في مالِهِ وقَدْ أفلَس؟ لأجلِ أنْ لا يُلحِقَ ضَرَرًا بالنَّاسِ الذِينَ لهم عليْهِ أموَالٌ، لأنَّ المُفلِسَ عَادَةً رُبَّما إذا لمْ يُحجَرْ عليْهِ يَزْدَادُ إِفْلَاسًا، فيَحجُرُ القَاضِي على مَالِهِ ويَمنَعُهُ مِنَ التَّصرُّفاتِ بِمَالِهِ كي لا يَلحَقَ أصحَابَ الحُقُوقِ الضَّرَر، بِنَاءً على أيَّةِ قَاعِدَة؟ “ٱلضَّرَرُ يُزَالُ”، أو لقَوْلِهِ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”.

لِمَاذَا شَرَعَ اللّٰهُ تَعَالَى لَنَا خِيَارَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ؟ لِأَجْلِ دَفْعِ الضَّرَرِ، أَلَيْسَ يَلْحَقُكَ ضَرَرٌ بِهٰذَا الْعَيْبِ الَّذِي فِي السَّيَّارَةِ مِنْ حِينِ شِرَائِكَ لَهَا؟ وَلَعَلَّكَ لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ بِهٰذَا الْعَيْبِ لَمَا شَرَيْتَهَا، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟ إذًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْكَ، عَنْ هٰذَا الْمُشْتَرِي، الشَّرْعُ شَرَعَ لَنَا رَدَّ هٰذِهِ السَّيَّارَةِ أَوْ هٰذِهِ السِّلْعَةِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ الَّذِي فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَيِّ قَاعِدَةٍ؟ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ: “الضَّرَرُ يُزَالُ”. أَوْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”. لٰكِنْ يَنْدَرِجُ تَحْتَ هٰذِهِ الْقَاعِدَةِ قَيْدٌ، وَيَصِحُّ أَنْ نُسَمِّيَهُ قَاعِدَةً أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: “الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ”، مَا مَعْنَى هٰذَا الْكَلَامِ؟ لَوْ أَنَّ زَيْدًا أَحْرَقَ لَكَ سَيَّارَتَكَ، ثُمَّ ذَهَبْتَ أَنْتَ فَأَحْرَقْتَ لَهُ سَيَّارَتَهُ انْتِقَامًا مِنْهُ، الشَّرْعُ لَا يُبِيحُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ ذٰلِكَ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ. أَنْتَ أَرَدْتَ أَنْ تَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْكَ، فَفَعَلْتَ مِثْلَ مَا أَضَرَّ بِكَ، أَحْرَقْتَ لَهُ سَيَّارَتَهُ، الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ. تَقُولُ لِي: طَيِّبْ، أنا كَيْفَ أُحْصِّلُ حَقِّي؟ أَحْرَقَ لِي سَيَّارَتِي! أَقُولُ لَكَ: يَضْمَنُ لَكَ نَقْصَ الْقِيمَةِ، يَضْمَنُ لَكَ نَقْصَ قِيمَةِ سَيَّارَتِكَ بَعْدَ إِحْرَاقِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُحْرِقَ لَهُ سَيَّارَتَهُ، حَرَامٌ، وَلَوِ ابْتَدَأَ هُوَ الْإِضْرَارَ بِكَ، حَرَامٌ عَلَيْكَ أَنْ تُحْرِقَ لَهُ سَيَّارَتَهُ. مَا السَّبِيلُ إِلَى اسْتِرْجَاعِ حَقِّكَ؟ الضَّمَانُ. مَا مَعْنَى الضَّمَان؟ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْعَ يُلْزِمُهُ أَنْ يَدْفَعَ لَكَ قِيمَةَ الشَّيْءِ الَّذِي أَتْلَفَهُ، أَوْ نَقْصَ الْقِيمَةِ، إِنْ كَانَ هٰذَا الشَّيْءُ مُتَقَوَّمًا، كَسَيَّارَةٍ، أَوْ بَيْتٍ، أَوْ بُسْتَانٍ، أَوْ نَحْوِ ذٰلِكَ، هٰذِهِ الْعَقَارَات وَهٰذِهِ الْأَمْلَاك الْعَيْنِيَّة تُسَمَّى فِي حُكْمِ الشَّرْعِ مُتَقَوَّمَة، مَا يَعْنِي مُتَقَوَّمَة؟ أَيْ لَهَا قِيمَةٌ مَالِيَّةٌ. فَإِذَا كَانَ هٰذَا الَّذِي أَتْلَفَهُ مُتَقَوَّمًا، يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ لَكَ قِيمَتَهُ. وَإِنْ كَانَ هٰذَا الشَّيْءُ الَّذِي أَتْلَفَهُ لَكَ مِثْلِيًّا، يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ مِثْلَهُ. مِثْلُ ماذا؟ مِثْل: الْقَمْح، مِثْل: الْأَرُزّ، مِثْل: الذَّهَب، مِثْل: الْفِضَّةِ. هٰذِهِ أَشْيَاءٌ مِثْلِيَّةٌ، لِأَنَّ مَا يَحْصُرُهُ كَيْلٌ أَوْ وَزْنٌ، وَيَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ، فَيُسَمَّى مِثْلِيًّا. الْقَمْحُ يَحْصُرُهُ الْكَيْلُ، أَلَيْسَ يُبَاعُ كَيْلًا؟ الْأَرُزُّ يُبَاعُ بِالْكَيْلِ، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟ هٰكَذَا كَانَ الْحَالُ فِي الْمَاضِي. الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ يُبَاعَانِ وَزْنًا. فَمَا يَحْصُرُهُ كَيْلٌ أَوْ وَزْنٌ يُسَمَّى مِثْلِيًّا. فَإِذَا أَتْلَفَ لَكَ شَيْئًا مِثْلِيًّا يَلْزَمُهُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ يَضْمَنَ مِثْلَهُ. وَإِذَا أَتْلَفَ لَكَ شَيْئًا مُتَقَوَّمًا، كَسَيَّارَةٍ، كَبَيْتٍ، كَبُسْتَانٍ، مَثَلًا، أَتْلَفَهُ لَكَ، أَحْرَقَهُ لَكَ، هٰذِهِ الْأَشْيَاءُ مُتَقَوَّمَةٌ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ لَكَ قِيمَتَهُ، قِيمَةَ هٰذَا الَّذِي أَتْلَفَهُ. ولَا يَجُوزُ لَكَ، إِنْ أَحْرَقَ سَيَّارَتَكَ أَنْ تَذْهَبَ لِتُحْرِقَ سَيَّارَتَهُ، هٰذَا حَرَامٌ، لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ تَقُولُ: «الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ»، وَأَضْرِبُ مِثَالًا ثَانِيًا عَلَى هٰذَا الْقَيْدِ: لو أَنَّ أُنَاسًا أَكْرَهُوكَ، (هَدَّدُوكَ، وَضَعُوا السِّلَاحَ بِرَأْسِكَ)، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنَفِّذُوا الْقَتْلَ بِكَ، لَا يَمْنَعُهُمْ مَانِعٌ، كَيْ يَكُونَ هُنَاكَ فِي الْبِلَادِ فَوْضَى، وَضَعُوا السِّلَاحَ فِي رَأْسِكَ، وَهَدَّدُوكَ، قَالُوا لَكَ: إِنْ لَمْ تَقْتُلْ فُلَانًا، نَقْتُلْكَ. فَهُنَا الشَّرْعُ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ فُلَانًا، وَلَوْ قَتَلُوكَ.

لِمَاذَا لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ؟ أَوَّلًا: لِأَنَّكَ قَدَّمْتَ رُوحَكَ عَلَى رُوحِهِ، وَأَنْتَ مُسْلِمٌ وَهُوَ مُسْلِمٌ، سِيَّان مِنْ حَيْثُ الدِّيَانَةِ أَنْتُمَا سِيَّان، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ. تُرِيدُ أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِكَ الضَّرَرَ، فَأَلْحَقْتَ بِغَيْرِكَ الضَّرَرَ، قَتَلْتَهُ لِتُنْقِذَ نَفْسَكَ، وَلَوْ كُنْتَ مُكْرَهًا، لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ ذٰلِكَ، لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَلَوْ هَدَّدُوكَ بِالْقَتْلِ لِتُنْقِذَ نَفْسَكَ. مَاذَا تَفْعَلُ؟ إِنْ قَتَلُوكَ، تَمُوتُ شَهِيدًا، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ ذاكَ الْمُسْلِمَ لِتُنْقِذَ نَفْسَكَ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ. هٰذِهِ الْقَاعِدَةُ: الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ، أَوْ “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”، هٰذِهِ مَحْمِلُهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلشَّرْعِ. مَثَلًا: أَحْيَانًا الشَّرْعُ يَأْمُرُ الْحَاكِمَ أَنْ يُنْزِلَ الْعُقُوبَةَ بِالْقَاذِفِ. مَنْ هُوَ الْقَاذِفُ؟ الَّذِي اتَّهَمَ مُسْلِمًا بِالْفَاحِشَةِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ، يُعَاقِبُهُ الْخَلِيفَةُ بِجَلْدِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، لَوْ كَانَ يُوجَدُ خَلِيفَة، الْآنَ الْأَمْرُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَا يُوجَدُ خَلِيفَةٌ، لَوْ كَانَ يُوجَدُ خَلِيفَةٌ، لَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. لِمَاذَا؟ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ مُسْلِمًا بِالْفَاحِشَةِ بالزِّنا ولا يُوجدُ بَيِّنَةٌ تُثْبِتُ تُهَمَتَهُ لَهُ. طَيِّب، جَلْدُهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، أَلَيْسَ يُلْحِقُ ضَرَرًا بِهٰذَا الْقَاذِفِ؟ بَلَى، لَكِنَّ هٰذَا الضَّرَرُ إِلْحَاقُ هٰذَا النَّوْع مِنَ الضَّرَرِ، جَائِزٌ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ الْحَاكِمَ أَنْ يُقِيمَ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ. فَهُنَا لَا نَقُولُ: الضَّرَرُ يُزَالُ، كَيْفَ يَجْلِدُهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً؟ بَلْ يُقَالُ: هٰذَا تَنْفِيذٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهٰذَا الْإِنْسَانِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَعَدَّى حُكْمَ الشَّرْعِ، فَاتَّهَمَ إِنْسَانًا بِالْفَاحِشَةِ بِلَا بَيِّنَةٍ، فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ بِأَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. هٰذِهِ الْحُدُودُ أَحْبَابَنَا إِنَّمَا هِيَ زَوَاجِر، هَكَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ: زَوَاجِر، مَا مَعْنَى زَوَاجِر؟ مَعْنَاهُ: لِأَجْلِ مَنْعِهِ مِنْ تَكْرَارِ الْقَذْفِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلِأَجْلِ مَنْعِ غَيْرِهِ مِنَ الْقَذْفِ، فَيَكُونُ إِقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى هٰذَا الْإِنْسَانِ زَجْرًا لَهُ عَنْ أَنْ يُكَرِّرَ قَذْفَ النَّاسِ بِلَا بَيِّنَةٍ، وَزَجْرًا لِلنَّاسِ أَنْ يَقْذِفُوا غَيْرَهُمْ حِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَاكِمَ جَلَدَ هٰذَا الْقَاذِفَ. إِذًا الْحُدُودُ لَيْسَتْ لِمُجَرَّدِ إِنْزَالِ الضَّرَرِ، بَلْ هُنَاكَ مَنْفَعَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ، مَا هِيَ هٰذِهِ الْمَنْفَعَةُ؟ زَجْرُ النَّاسِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي هٰذِهِ الْمَعَاصِي الْعَظِيمَةِ، وَهٰذِهِ مَنْفَعَةٌ كَبِيرَةٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ.

لفضيلة الشيخ طارق داهود حَفِظَهُ اللهُ تعالى

مِثَالٌ ثَالِثٌ: أَحْيَانًا قَدْ يَنْزِلُ بِٱلنَّاسِ مَجَاعَةٌ وَحَاجَةٌ إِلَى ٱلْقُوتِ، يَعْنِي ٱلْأَشْيَاء ٱلَّتِي يَقُومُ بِهَا ٱلْبَدَنُ، مِنْ نَحْوِ ٱلْقَمْحِ، مِنْ نَحْوِ ٱلْأَرُزِّ، مِنْ نَحْوِ ٱلْحِمَّصِ، مِنْ نَحْوِ ٱلْعَدَسِ، هَذِهِ ٱلْأَشْيَاءُ يَتَقَوَّتُ ٱلنَّاسُ بِهَا وَتَقْوَى أَبْدَانُهُمْ بِأَكْلِهَا، هَذَا ٱلْإِنْسَانُ كَانَ عِنْدَهُ أَقْوَاتٌ وَلَكِنَّهُ مَنَعَ بَيْعَهَا لِلنَّاسِ مَعَ أَنَّ ٱلنَّاسَ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا ٱلْقُوتِ بِحَيْثُ إِنَّهُم إنْ لَمْ يَتَقَوَّتوا لَحِقَهُمْ ضَرَرٌ بِأَبْدَانِهِمْ وَهَذَا ٱلَّذِي يَمْلِكُ هَذِهِ ٱلْأَقْوَاتِ ٱمْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا لِلنَّاسِ، لَوْ كَانَ هُنَاكَ حَاكِمٌ خَلِيفَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ يُلْزِمُهُ، يُوجِبُ عليْهِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ هَذِهِ ٱلْأَقْوَاتِ لِلْمُحْتَاجِينَ إِلَيْهَا بِسِعْرِ ٱلْمِثْلِ، يَعْنِي كَمْ يُسَاوِي ثَمَنُهَا عَادَةً فِي ٱلسُّوقِ يُلْزِمُهُ أَنْ يَبِيعَهَا مَعَ أَنَّهَا مِلْكٌ لَهُ بِسِعْرِ ٱلْمِثْلِ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبِعِ ٱلنَّاسَ هَذِهِ ٱلْأَقْوَات يَلْحَقُهُمْ ضَرَرٌ فِي أَبْدَانِهِمْ. إِنْ حَجَرَ بَيْعَهَا وَمَنَعَ بَيْعَهَا، ٱلْحَاكِمُ يُلْزِمُهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِسِعْرِ ٱلْمِثْلِ لِيَدْفَعَ ٱلضَّرَرَ عَنِ ٱلْمُسْلِمِينَ بِناءً عَلَى أَيَّةِ قَاعِدَةٍ؟ عَلَى قَاعِدَةِ: “ٱلضَّرَرُ يُزَالُ”. مِثَالٌ رَابِعٌ: لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا أَفْلَسَ, مَنْ هُوَ ٱلْمُفْلِسُ؟ هُوَ ٱلَّذِي زَادَتْ دُيُونُهُ ٱلْحَالَّةِ لَا المُؤَجَلَةِ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ الآنَ مِنْ مَالٍ، فالقَاضِي يَحْجُرُ عَلَى مَالِهِ، مَا مَعْنَى “يَحْجُرُ عَلَى مَالِهِ”؟ يَمْنَعُهُ مِنَ ٱلتَّصَرُّفِ فِي مالِهِ إِلَّا الشَّىءِ الذي لا بُدَّ مِنْهُ، كَٱلْمَطْعَمِ والقُوتِ ونحوِ ذَلك. يَمنعُهُ مِنَ التَّصرُّفِ بِمَالِهِ، لمَاذَا؟ لِأَنَّهُ أَفلَسَ، وقَعَ تحتَ عَجزٍ بِحيثُ ما عادَ يَستطيعُ أنْ يُسَدِّدَ هذهِ الدُّيونَ الحَالَّةِ، لمَاذَا يَحْجُرُ عليْهِ القَاضِي أوِ الحَاكِم فيَمنَعُهُ منَ التَّصرُّفِ في مالِهِ وقَدْ أفلَس؟ لأجلِ أنْ لا يُلحِقَ ضَرَرًا بالنَّاسِ الذِينَ لهم عليْهِ أموَالٌ، لأنَّ المُفلِسَ عَادَةً رُبَّما إذا لمْ يُحجَرْ عليْهِ يَزْدَادُ إِفْلَاسًا، فيَحجُرُ القَاضِي على مَالِهِ ويَمنَعُهُ مِنَ التَّصرُّفاتِ بِمَالِهِ كي لا يَلحَقَ أصحَابَ الحُقُوقِ الضَّرَر، بِنَاءً على أيَّةِ قَاعِدَة؟ “ٱلضَّرَرُ يُزَالُ”، أو لقَوْلِهِ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”.

الشَّيخ طارق داهود حَفِظَهُ اللهُ تعالى

قاعدةٌ فقهيةٌ: الضَّرَرُ يُزَال – لا ضَرَرَ ولا ضِرَار – ويَندَرِجُ تَحتَ هَذِهِ القَاعِدَةِ الضَّرَرُ لا يُزَالُ بِمِثلِهِ

لِمَاذَا شَرَعَ اللّٰهُ تَعَالَى لَنَا خِيَارَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ؟ لِأَجْلِ دَفْعِ الضَّرَرِ، أَلَيْسَ يَلْحَقُكَ ضَرَرٌ بِهٰذَا الْعَيْبِ الَّذِي فِي السَّيَّارَةِ مِنْ حِينِ شِرَائِكَ لَهَا؟ وَلَعَلَّكَ لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ بِهٰذَا الْعَيْبِ لَمَا شَرَيْتَهَا، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟ إذًا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْكَ، عَنْ هٰذَا الْمُشْتَرِي، الشَّرْعُ شَرَعَ لَنَا رَدَّ هٰذِهِ السَّيَّارَةِ أَوْ هٰذِهِ السِّلْعَةِ لِأَجْلِ الْعَيْبِ الَّذِي فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَيِّ قَاعِدَةٍ؟ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ: “الضَّرَرُ يُزَالُ”. أَوْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”.

لٰكِنْ يَنْدَرِجُ تَحْتَ هٰذِهِ الْقَاعِدَةِ قَيْدٌ، وَيَصِحُّ أَنْ نُسَمِّيَهُ قَاعِدَةً أُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: “الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ”، مَا مَعْنَى هٰذَا الْكَلَامِ؟ لَوْ أَنَّ زَيْدًا أَحْرَقَ لَكَ سَيَّارَتَكَ، ثُمَّ ذَهَبْتَ أَنْتَ فَأَحْرَقْتَ لَهُ سَيَّارَتَهُ انْتِقَامًا مِنْهُ، الشَّرْعُ لَا يُبِيحُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ ذٰلِكَ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ. أَنْتَ أَرَدْتَ أَنْ تَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْكَ، فَفَعَلْتَ مِثْلَ مَا أَضَرَّ بِكَ، أَحْرَقْتَ لَهُ سَيَّارَتَهُ، الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ. تَقُولُ لِي: طَيِّبْ، أنا كَيْفَ أُحْصِّلُ حَقِّي؟ أَحْرَقَ لِي سَيَّارَتِي! أَقُولُ لَكَ: يَضْمَنُ لَكَ نَقْصَ الْقِيمَةِ، يَضْمَنُ لَكَ نَقْصَ قِيمَةِ سَيَّارَتِكَ بَعْدَ إِحْرَاقِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُحْرِقَ لَهُ سَيَّارَتَهُ، حَرَامٌ، وَلَوِ ابْتَدَأَ هُوَ الْإِضْرَارَ بِكَ، حَرَامٌ عَلَيْكَ أَنْ تُحْرِقَ لَهُ سَيَّارَتَهُ.

مَا السَّبِيلُ إِلَى اسْتِرْجَاعِ حَقِّكَ؟ الضَّمَانُ. مَا مَعْنَى الضَّمَان؟ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْعَ يُلْزِمُهُ أَنْ يَدْفَعَ لَكَ قِيمَةَ الشَّيْءِ الَّذِي أَتْلَفَهُ، أَوْ نَقْصَ الْقِيمَةِ، إِنْ كَانَ هٰذَا الشَّيْءُ مُتَقَوَّمًا، كَسَيَّارَةٍ، أَوْ بَيْتٍ، أَوْ بُسْتَانٍ، أَوْ نَحْوِ ذٰلِكَ، هٰذِهِ الْعَقَارَات وَهٰذِهِ الْأَمْلَاك الْعَيْنِيَّة تُسَمَّى فِي حُكْمِ الشَّرْعِ مُتَقَوَّمَة، مَا يَعْنِي مُتَقَوَّمَة؟ أَيْ لَهَا قِيمَةٌ مَالِيَّةٌ.

فَإِذَا كَانَ هٰذَا الَّذِي أَتْلَفَهُ مُتَقَوَّمًا، يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ لَكَ قِيمَتَهُ. وَإِنْ كَانَ هٰذَا الشَّيْءُ الَّذِي أَتْلَفَهُ لَكَ مِثْلِيًّا، يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ مِثْلَهُ. مِثْلُ ماذا؟ مِثْل: الْقَمْح، مِثْل: الْأَرُزّ، مِثْل: الذَّهَب، مِثْل: الْفِضَّةِ. هٰذِهِ أَشْيَاءٌ مِثْلِيَّةٌ، لِأَنَّ مَا يَحْصُرُهُ كَيْلٌ أَوْ وَزْنٌ، وَيَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ، فَيُسَمَّى مِثْلِيًّا.

 الْقَمْحُ يَحْصُرُهُ الْكَيْلُ، أَلَيْسَ يُبَاعُ كَيْلًا؟ الْأَرُزُّ يُبَاعُ بِالْكَيْلِ، أَلَيْسَ كَذٰلِكَ؟ هٰكَذَا كَانَ الْحَالُ فِي الْمَاضِي. الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ يُبَاعَانِ وَزْنًا. فَمَا يَحْصُرُهُ كَيْلٌ أَوْ وَزْنٌ يُسَمَّى مِثْلِيًّا. فَإِذَا أَتْلَفَ لَكَ شَيْئًا مِثْلِيًّا يَلْزَمُهُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ يَضْمَنَ مِثْلَهُ.

وَإِذَا أَتْلَفَ لَكَ شَيْئًا مُتَقَوَّمًا، كَسَيَّارَةٍ، كَبَيْتٍ، كَبُسْتَانٍ، مَثَلًا، أَتْلَفَهُ لَكَ، أَحْرَقَهُ لَكَ، هٰذِهِ الْأَشْيَاءُ مُتَقَوَّمَةٌ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ لَكَ قِيمَتَهُ، قِيمَةَ هٰذَا الَّذِي أَتْلَفَهُ. ولَا يَجُوزُ لَكَ، إِنْ أَحْرَقَ سَيَّارَتَكَ أَنْ تَذْهَبَ لِتُحْرِقَ سَيَّارَتَهُ، هٰذَا حَرَامٌ، لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ تَقُولُ: «الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ»،

وَأَضْرِبُ مِثَالًا ثَانِيًا عَلَى هٰذَا الْقَيْدِ: لو أَنَّ أُنَاسًا أَكْرَهُوكَ، (هَدَّدُوكَ، وَضَعُوا السِّلَاحَ بِرَأْسِكَ)، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنَفِّذُوا الْقَتْلَ بِكَ، لَا يَمْنَعُهُمْ مَانِعٌ، كَيْ يَكُونَ هُنَاكَ فِي الْبِلَادِ فَوْضَى، وَضَعُوا السِّلَاحَ فِي رَأْسِكَ، وَهَدَّدُوكَ، قَالُوا لَكَ: إِنْ لَمْ تَقْتُلْ فُلَانًا، نَقْتُلْكَ. فَهُنَا الشَّرْعُ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ فُلَانًا، وَلَوْ قَتَلُوكَ.

لِمَاذَا لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ؟ أَوَّلًا: لِأَنَّكَ قَدَّمْتَ رُوحَكَ عَلَى رُوحِهِ، وَأَنْتَ مُسْلِمٌ وَهُوَ مُسْلِمٌ، سِيَّان مِنْ حَيْثُ الدِّيَانَةِ أَنْتُمَا سِيَّان، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ. تُرِيدُ أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِكَ الضَّرَرَ، فَأَلْحَقْتَ بِغَيْرِكَ الضَّرَرَ، قَتَلْتَهُ لِتُنْقِذَ نَفْسَكَ، وَلَوْ كُنْتَ مُكْرَهًا، لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَفْعَلَ ذٰلِكَ، لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَلَوْ هَدَّدُوكَ بِالْقَتْلِ لِتُنْقِذَ نَفْسَكَ. مَاذَا تَفْعَلُ؟ إِنْ قَتَلُوكَ، تَمُوتُ شَهِيدًا، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَقْتُلَ ذاكَ الْمُسْلِمَ لِتُنْقِذَ نَفْسَكَ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ.

 هٰذِهِ الْقَاعِدَةُ: الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ، أَوْ “لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ”، هٰذِهِ مَحْمِلُهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ لَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلشَّرْعِ. مَثَلًا: أَحْيَانًا الشَّرْعُ يَأْمُرُ الْحَاكِمَ أَنْ يُنْزِلَ الْعُقُوبَةَ بِالْقَاذِفِ. مَنْ هُوَ الْقَاذِفُ؟ الَّذِي اتَّهَمَ مُسْلِمًا بِالْفَاحِشَةِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ، يُعَاقِبُهُ الْخَلِيفَةُ بِجَلْدِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، لَوْ كَانَ يُوجَدُ خَلِيفَة، الْآنَ الْأَمْرُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَا يُوجَدُ خَلِيفَةٌ، لَوْ كَانَ يُوجَدُ خَلِيفَةٌ، لَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. لِمَاذَا؟ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ مُسْلِمًا بِالْفَاحِشَةِ بالزِّنا ولا يُوجدُ بَيِّنَةٌ تُثْبِتُ تُهَمَتَهُ لَهُ. طَيِّب، جَلْدُهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، أَلَيْسَ يُلْحِقُ ضَرَرًا بِهٰذَا الْقَاذِفِ؟ بَلَى، لَكِنَّ هٰذَا الضَّرَرُ إِلْحَاقُ هٰذَا النَّوْع مِنَ الضَّرَرِ، جَائِزٌ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ الْحَاكِمَ أَنْ يُقِيمَ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْقَاذِفِ.

فَهُنَا لَا نَقُولُ: الضَّرَرُ يُزَالُ، كَيْفَ يَجْلِدُهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً؟ بَلْ يُقَالُ: هٰذَا تَنْفِيذٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ بِهٰذَا الْإِنْسَانِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَعَدَّى حُكْمَ الشَّرْعِ، فَاتَّهَمَ إِنْسَانًا بِالْفَاحِشَةِ بِلَا بَيِّنَةٍ، فَيَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ بِأَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.

هٰذِهِ الْحُدُودُ أَحْبَابَنَا إِنَّمَا هِيَ زَوَاجِر، هَكَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ: زَوَاجِر، مَا مَعْنَى زَوَاجِر؟ مَعْنَاهُ: لِأَجْلِ مَنْعِهِ مِنْ تَكْرَارِ الْقَذْفِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلِأَجْلِ مَنْعِ غَيْرِهِ مِنَ الْقَذْفِ، فَيَكُونُ إِقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى هٰذَا الْإِنْسَانِ زَجْرًا لَهُ عَنْ أَنْ يُكَرِّرَ قَذْفَ النَّاسِ بِلَا بَيِّنَةٍ، وَزَجْرًا لِلنَّاسِ أَنْ يَقْذِفُوا غَيْرَهُمْ حِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحَاكِمَ جَلَدَ هٰذَا الْقَاذِفَ. إِذًا الْحُدُودُ لَيْسَتْ لِمُجَرَّدِ إِنْزَالِ الضَّرَرِ، بَلْ هُنَاكَ مَنْفَعَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ، مَا هِيَ هٰذِهِ الْمَنْفَعَةُ؟ زَجْرُ النَّاسِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي هٰذِهِ الْمَعَاصِي الْعَظِيمَةِ، وَهٰذِهِ مَنْفَعَةٌ كَبِيرَةٌ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ.