ٱلْبَيِّنَةُ عَلَى ٱلْمُدَّعِي، وَٱلْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، هَذَا حَدِيثٌ، لَكِنَّهُ قَاعِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ. هَذَا ٱلْفَنُّ – ٱلْقَوَاعِدُ ٱلْفِقْهِيَّةُ – لَهُ أَصْلٌ مِنْ نُصُوصٍ شَرْعِيَّةٍ، يَعْنِي ٱلنَّبِيُّ عَلَيْهِ ٱلصَّلَاةُ وَٱلسَّلَامُ، بِمَا أَنَّهُ أُوتِيَ جَوَامِعَ ٱلْكَلِمِ، كَانَ يُعَبِّرُ بِعِبَارَاتٍ قَلِيلَةِ ٱلْأَلْفَاظِ، لَكِنَّهَا قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ ٱلشَّرْعِ، يَدْخُلُ تَحْتَهَا مِئَاتِ ٱلْمَسَائِلِ. تَحْتَ هَذِهِ ٱلْقَاعِدَةِ يَنْدَرِجُ مِئَاتِ ٱلْمَسَائِلِ، مَثَلًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ ٱلصَّلَاةُ وَٱلسَّلَامُ: “ٱلْخَرَاجُ بِٱلضَّمَانِ”، كَلِمَتَانِ، لَكِنْ هَاتَانِ ٱلْكَلِمَتَانِ قَاعِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي أَبْوَابٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ أَبْوَابِ ٱلْفِقْهِ. مَثَلًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ ٱلصَّلَاةُ وَٱلسَّلَامُ: “ٱلْبَيِّنَةُ عَلَى ٱلْمُدَّعِي، وَٱلْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ”، هَذَا حَدِيثٌ، لَكِنَّهُ قَاعِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مِئَاتِ ٱلْمَسَائِلِ فِي أَبْوَابٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ أَبْوَابِ ٱلْفِقْهِ. يُوجَدُ فِي عِلْمِ القَوَاعِدِ الفِقْهِيَّةٍ خَمْسُ قَوَاعِدَ تُسَمَّى ٱلْقَوَاعِدَ ٱلْكُبْرَى، كُلُّ قَاعِدَةٍ مِنْ هَذِهِ ٱلْقَوَاعِدِ يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مِئَاتِ ٱلْمَسَائِلِ، مَثَلًا، حَدِيثُ: “إِنَّمَا ٱلْأَعْمَالُ بِٱلنِّيَّاتِ”، هَذَا ٱلْحَدِيثُ أَخَذَ ٱلْعُلَمَاءُ مِنْهُ قَاعِدَةً فِقْهِيَّةً، وَهِيَ: ٱلْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا. مَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: ٱلْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا؟ مَعْنَاهُ: (لِأَضْرِب لَكُمْ مِثَالًا): ٱلْإِنْسَانُ قَدْ يَغْتَسِلُ، يُعَمِّمُ جَمِيعَ بَدَنِهِ شَعْرًا وَبَشَرًا بِٱلْمَاءِ، لِأَجْلِ رَفْعِ ٱلْحَدَثِ ٱلْأَكْبَرِ، لِأَجْلِ رَفْعِ حَدَثِ ٱلْجَنَابَةِ، وَقَدْ يَغْتَسِلُ لِأَجْلِ غُسْلِ ٱلْجُمُعَةِ، هو مَا عَلَيْهِ حَدَثٌ أَكْبَرُ، لَكِنَّهُ ٱغْتَسَلَ لِحُضُورِ ٱلْجُمُعَةِ، وَرُبَّمَا يَغْتَسِلُ لِأَجْلِ ٱلتَّنَظُّفِ مِنَ ٱلرَّوَائِحِ ٱلْكَرِيهَةِ، الْغُسْلُ وَاحِدٌ، هَذَا يُسَمَّى غُسْلًا، وَهَذَا يُسَمَّى غُسْلًا، وَهَذَا يُسَمَّى غُسْلًا. لَكِنَّ ٱلْغُسْلَ ٱلْأَوَّلَ، ٱلَّذِي هُوَ لِرَفْعِ حَدَثِ ٱلْجَنَابَةِ، غُسْلٌ فَرْضٌ وَاجِبٌ، وَأَمَّا ٱلْغُسْلُ ٱلثَّانِي، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْغُسْلُ لِلْجُمُعَةِ لِحُضُورِ صَلَاةِ وَخُطْبَةِ ٱلْجُمُعَةِ، فَهٰذَا غُسْلٌ مَسْنُونٌ، سُنَّةٌ لَيْسَ فَرْضًا. وَٱلْغُسْلُ لِأَجْلِ ٱلتَّنَظُّفِ، لِمُجَرَّدِ ٱلتَّنَظُّفِ، فَهٰذَا غُسْلٌ مُبَاحٌ. إِذًا: أَوَّلُ غُسْلٍ: فَرْضٌ. ثَانِي غُسْلٍ: سُنَّةٌ. ثَالِثُ غُسْلٍ: مُبَاحٌ. وَثَلَاثَتُهُمْ، أَلَيْسَ أَجْرَى ٱلْمَاءَ عَلَى بَدَنِهِ شَعْرًا وَبَشَرًا؟ مَا ٱلَّذِي فَرَقَ بَيْنَ هذا ٱلْغُسْلِ وهذا ٱلْغُسْلِ وهذا ٱلْغُسْلِ؟ “ٱلنِّيَّةُ”. لِأَنَّ ٱلْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا، بِمَا نَوَيْتَ. إِنْ نَوَيْتَ “رفعَ الحدثِ الأكبرِ” يَحْصُلُ لك. وإِنْ نَوَيْتَ “غُسْلَ الجُمُعَةِ” فَيَحْصُلُ لَكَ الغُسْلُ المَسنُونُ. وإِنْ نَوَيْتَ “غُسلَ النَّظافةِ” فهو مُباحٌ. ما الذِي فَرَقَ بَينَهَا؟ النِّيَّةُ، لمَاذَا؟ لِأَنَّ ٱلْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا، بِمَا تَقْصِدُهُ وتَنوي. مِثَالٌ آخَر: إِنْسَانٌ دَخَلَ ٱلْمَسْجِدَ، فَنَوَى ٱلِاعْتِكَافَ فِيهِ، أَلَيْسَ يَكُونُ لَهُ ثَوَابٌ؟ مَا دَامَ نَوَى ٱلِاعْتِكَافَ طَلَبًا لِرِضَا اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَكُونُ لَهُ ثَوَابٌ، هَذَا ٱلِاعْتِكَافُ فِي حَقِّهِ سُنَّةٌ. إِنْسَانٌ آخَرُ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي هَذَا ٱلْمَسْجِدِ، قَالَ: “للهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا ٱلْمَسْجِدِ يَوْمًا وَلَيْلَةً”، فَدَخَلَ ٱلْمَسْجِدَ وَاعْتَكَفَ فِيهِ. مَا حُكْمُ ٱعْتِكَافِهِ فِي هَذَا ٱلْمَسْجِدِ ٱلْآنَ؟ فَرْضٌ، لِأَنَّهُ بِنَذْرِهِ أَوْجَبَ هَذا ٱلِاعْتِكَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَٱلِاعْتِكَافُ فِي حَقِّهِ فَرْضًا وَاجِبًا. أَمَّا ٱلْأَوَّلُ: ٱلِاعْتِكَافُ فِي حَقِّهِ سُنَّةٌ. إِنْسَانٌ ثَالِثٌ جَاءَ مِنْ عَمَلِهِ تَعِبًا، لَمْ يَذْهَبْ إِلَى بَيْتِهِ، أَتَى ٱلْمَسْجِدَ لِيَسْتَرِيحَ فِيهِ، مَا خَطَرَ لَهُ ٱلِاعْتِكَافُ بِٱلْمَرَّةِ وَلَمْ يَنَوِهِ أَلْبَتَّةَ، إِنَّمَا دَخَلَ ٱلْمَسْجِدَ فَقَطْ لِيَرْتَاحَ مِنْ تَعَبِهِ، هَلْ يَكُونُ لَهُ ثَوَابُ ٱلِاعْتِكَافِ؟ لَا، لِأَنَّهُ مَا نَوَى ٱلِاعْتِكَافَ.
فَالْأَوَّلُ فَعَلَ مَسْنُونًا، وَالثَّانِي (الذِي نَذَرَ) فَعَلَ فَرْضًا وَاجِبًا، وَالثَّالِثُ فَعَلَ شَيْئًا مُبَاحًا. مَا الَّذِي فَرَقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَعْمَال؟ النِّيَّةُ الَّتِي فِي قَلْبِهِ، لِأَنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا. الْإِنْسَانُ رُبَّمَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ: مُحْتَمِلٌ أَنْ يَنْوِيَ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ قَضَاءَ الصُّبْحِ، وَمُحْتَمِلٌ أَنْ يَكونَ نَوى في صَلاتِهِ لِرَكعَتَيْنِ، نَافِلَةً مُقَيَّدَةً، مُقَيَّدَةٌ بِوَقتٍ، أو مُقَيَّدَةٌ بِسَبَبٍ، وَمُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ صَلَّى رَكعَتَيْنِ يُرِيدُ نَافِلَةً مُطْلَقَةً، ليْسَ لهَا سَبَبٌ. صُورَةُ الرَّكْعَتَيْنِ في الأحوَالِ الثَلَاثَةِ وَاحِدَةٌ، لَكِنْ مَا الَّذِي فَرَقَ هَذهِ عن هَذهِ عن هَذهِ؟ القَصْدُ (النِّيَّةُ)، لِذَلِكَ الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: “الْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا”.
الشَّيخ طارق داهود حَفِظَهُ اللهُ تعالى
