مقولة المُجسَّمة الله جِسمٌ لا كالأجسامِ

(مقولة المُجسَّمة: “الله جِسمٌ لا كالأجسامِ!”)
الجِسمُ في اصطلاح المُتكلِّمين: هو المُمتَدُّ في الأبعادِ، أو كلُّ ما له حَجمٌ، أو الطَّويلُ العَريضُ العَميقُ، أو المُتَحَيِّزُ المَحدودُ.
فإذا أُطلِق على الله تعالى وَصف “الجِسم”، فلا يخلو القائل مِن حالَين:
­- الأولى: أن يُريد بقولِه “جِسم” مُجرَّد إثبات الوُجود أو القِيام بالنَّفس، من غَير إرادةٍ لِمعاني الجِسميَّة أصلًا؛ فهذا وإن لَم يقع في صريح التَّجسيم، فقد أتى بلفظٍ قَبيحٍ لا يليق بجلال الله تعالى، وأخطأ في التَّسميَة

­- الثَّانية: أن يُريد بلفظِ “الجِسم” معناه الحقيقي وهو: التَّحَيُّز والامتِداد في الأبعادِ، وكونه آخذًا قَدْرًا منَ الفَراغِ، مُتَناهِيًا بحدودٍ ونِهاياتٍ، ذا حَجمٍ، بحيثُ تَصحّ الإشارة الحِسِّيَّة إلى جَوانبه ونَواحيه؛ فيُقال هذا أعلاه وهذا أسفله، وهذا يَمينه وهذا شِماله؛ فهذا قد جعلَ ربَّه جِسمًا كسائرِ الأجسامِ، ولا مَندوحة له من صريح التَّجسيم.
فمن قال: “الله جِسمٌ لا كالأجسامِ” وأراد به هذه المعاني؛ فقد جَمع بَين النَّقيضَين، إذ إثباتُ الجِسميَّة من حيث حقيقتها بقوله: “الله جِسمٌ” هو عَين ما نَفاه في قوله: “لا كالأجسامِ”، وهذا تناقضٌ بَيِّن يَفضح قائله، وسَفسَطةٌ مكشوفة العَوار.
ولا ينفعه أن يقول: إنَّما قصدتُ إثبات الحَجم والكمِّيَّة دون الخوض في الكَيفِيَّة الحِسِّيَّة؛ لأنَّ الجِسمَ لا يكون جِسمًا إلَّا إذا تَحقَّقت ماهيَّته من الامتِداد والحَجمِيَّة في الخارج، سواء أكان له شَكلٌ مخصوص أم لا؛ فمُحاولة الهروب من صريح التَّجسيم بدعوى نَفي المُماثَلة في الشَّكل أو الهَيئة أو الصُّورة الخارجيَّة بَينَ الخالق والمخلوق، لَا يُجدي نفعاً؛ إذ الاشتِراك قد ثَبت في حقيقة الجِسميَّة، وإن تَمايَزت الصُّوَر والهَيئات.
وعلى هذا، فكلُّ مَن قال: “الله جِسمٌ لا كالأجسامِ” وأراد به إثبات التَّحَيُّز والحَجم ونَحو ذلك؛ فقد جعل ربَّه جِسمًا كسائِر الأجسام من حيث حقيقة الجِسم، ولا معنى بعد ذلك لنَفي المُشابَهة في العَوارض بقوله: “لا كالأجسامِ”؛ إذِ العبرة بإثبات الاشتِراك في أصلِ الجِسميَّة.
قال الإمامُ التَّاج السُّبكي في نُونِيَّته [طبقات الشَّافعيَّة الكُبرى (3/380)، هجر]:
كَذَبَ ابْنُ فَاعِلَةٍ يَقُولُ لِجَهْلِهِ *** اللهُ جِسْمٌ لَيْسَ كالْجُسْمَانِ
لَوْ كَانَ جِسْمًا كَانَ كَالْأَجْسَامِ يَا *** مَجْنُونُ فَاصْغَ وَعَدِّ عَنْ بُهْتَانِ
فمن هنا يتبيَّن لك – يا عبد الله – حقيقة مذهب التَّيميَّة وأدعياء السَّلفيَّة المجسِّمة؛ فإنَّهم في التَّحقيق يقولون: إنَّ الله تعالى جِسمٌ كالأجسامِ في حقيقة الجِسميَّة، فلا ينفعهم بعد ذلك تَحاشيهم إطلاق لفظ “الجِسم” أو تَستُّرهم بتَفويض شَكل وهَيئة ربِّهم بعد أن أَوغلوا في إثبات المعاني المحظورة؛ إذ العِبرة بالمعاني لا المباني.
فلا تغترَّ بعد هذا بمَن يُحاوِل أن يُسوِّي بَين هذا المذهب الخبيث وبَين مذهب مَن أطلقَ لَفظَ “الجِسمِ” مع إحالة معناه؛ فقد مَيَّز أئمَّة الإسلام بَين الفَريقَين: فالأوَّل – وهو مَن أثبتَ المعنى ولوازِمه – عُدَّ مِنَ المُشَبِّهة المُجسِّمة حقيقةً، إذ جعلوا رَبَّهم جِسمًا كسائِر الأجسام. وأمَّا الثَّاني – وهو مَن أطلق الاسمَ وأحال المعنى.

لله تعالى صدقة جارية و صدقة عن روح المرحوم بإذن الله فتحي المهذبي