قَالَ الحافِظ البَيْهَقِي (ت: 458 هـ) فِي شرحِ اسم اللهِ “الْمُصَوِّرُ” كما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ [الحَشر: 24]: ((قَالَ الْخَطَّابِيُّ: “الْمُصَوِّرُ” الَّذِي أَنْشَأَ خَلْقَهُ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِيَتَعَارَفُوا بِهَا، وَمَعْنَى التَّصْوِيرِ: التَّخْطِيطُ وَالتَّشْكِيلُ، وَخَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْإِنْسَانَ فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ ثَلَاثَ خِلَقٍ: جَعَلَهُ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ جَعَلَهُ صُورَةً؛ وَهُوَ التَّشْكِيلُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ ذَا صُورَةٍ وَهَيْئَةٍ يُعْرَفُ بِهَا، وَيَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ بِسِمَتِهَا؛ ﴿فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ﴾ [المؤمِنُون: 14])) [الأسماءُ والصِّفات (1/217)، ط. دار التَّقوى] وتَجد قول الإمام الخطَّابي (ت: 388 هـ) هذا في كتابه [شأن الدُّعاء (ص: 51)، دار الثَّقافة العربيَّة: دمشق].
وَقَالَ أيضاً: ((الصُّورَةُ: هِيَ التَّرْكِيبُ، وَالْمُصَوَّرُ: الْمُرَكَّبُ، وَالْمُصَوِّرُ هُوَ: الْمُرَكِّبُ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ * ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ * فِيٓ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ﴾ [الانْفِطَار: 6 إلى 8]. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَارِي تَعَالَى مُصَوَّراً، وَلَا أَنْ تَكُونَ لَهُ صُورَةٌ؛ لِأَنَّ الصُّورَةَ مُخْتَلِفَةٌ، وَالْهَيْئَاتِ مُتَضَادَّةٌ، وَلَا يَجُوزُ اتِّصَافُهُ بِجَمِيعِهَا؛ لِتَضَادِّهَا، وَلَا يَجُوزُ اخْتِصَاصُهُ بِبَعْضِهَا إِلَّا بِمُخَصِّصٍ؛ لِجَوَازِ جَمِيعِهَا عَلَى مَنْ جَازَ عَلَيْهِ بَعْضُهَا، فَإِذَا اخْتَصَّ بِبَعْضِهَا اقْتَضَى مُخَصِّصًا خَصَّصَهُ بِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا، وَهُوَ مُحَالٌ، فَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ مُصَوَّرًا، وَهُوَ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ)) [الأسماءُ والصِّفات (2/40)، ط. دار التَّقوى].
وَقَالَ أَيْضًا نَقْلًا عَنِ الْإِمَامِ الْخَطَّابِي: ((إِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ نَعْلَمَ: أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِي صُورَةٍ وَلَا هَيْئَةٍ؛ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِي الْكَيْفِيَّةَ، وَهِيَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ)) [الأسماءُ والصِّفات (2/56)، ط. دار التَّقوى].
وَقال الإمامُ أَبُو الثَّناء اللَّامِشِيُّ الحنَفِيُّ: ((الجِسْمُ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا عَلَى شَكْلٍ مِنَ الأَشْكَالِ، وَوُجُودُهُ عَلَى جَمِيعِ الأَشْكَالِ لَا يُتَصَّوَّرُ أَنْ يَكُونَ؛ إِذِ الفَرْدُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُطَوَّلًا وَمُدَوَّراً وَمُثَلَّثاً وَمُرَبَّعاً. وَوُجُودُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَشْكَالِ مَعَ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ إِيَّاهُ فِي صِفَاتِ المَدْحِ وَالذَّمِّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ الحَدَثِ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِسْماً لَوَقَعَتِ المُشَابَهَةُ وَالمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الأَجْسَامِ فِي الجِسْمِيَّةِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٌ﴾ [الشُّورى: 11]. [التَّمهيدُ لقواعِد التَّوحيد (ص: 56)، ط. دار الغَرب الإسلامي].
وَقال الإمام الفخر الرَّازيُّ: ((قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ [الحَشر: 24].
الْخَالِقُ في اللُّغةِ: هُوَ الْمُقَدِّرُ، وَلَوْ كانَ تَعَالَى جِسْماً لَكَانَ مُتَنَاهِياً، وَلَوْ كَانَ مُتَنَاهِياً لَكَانَ مَخْصُوصاً بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَلَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ خَالِقاً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَعَالَى هُوَ الْمُقَدِّرُ لِجَمِيعِ الْمُقَدَّرَاتِ بِمَقَادِيرِهَا الْمَخْصُوصَةِ، فَإِذَا كَانَ مُقَدَّراً فِي ذَاِتهِ بِمِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ لَزِمَ كَوْنُهُ مُقَدِّراً لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَأَيْضاً: لَوْ كَانَ جِسْماً لَكَانَ مُتَنَاهِياً، وَكُلُّ مُتَنَاهٍ فَإِنَّهُ يُحِيطُ بِهِ حَدٌّ أَوْ حُدُودٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُشَكَّلٌ، وَكُلُّ مُشَكَّلٍ فَلَهُ صُورَةٌ، فَلَوْ كَانَ جِسْماً لَكَانَ لَهُ صُورَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ مُصَوِّراً، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ مُصَوِّراً لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ)) [أَساسُ التَّقديس (ص: 66)، دارُ نُور الصَّباح].
وقال أيضاً: ((قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُ﴾ [الحَديد: 3]: وَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ ظَاهِراً وَبَاطِناً، وَلَوْ كَانَ جِسْماً لَكَانَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ بَاطِنِهِ، فَلَمْ يَكُنْ الشَّيءُ الوَاحِدُ مَوْصُوفاً بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ وَبِأَنَّهُ بَاطِنٌ؛ لِأنَّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ جِسْماً يَكُونُ الظَّاهِرُ مِنْهُ سَطْحُهُ، وَالْبَاطِنُ مِنْهُ عُمْقُهُ، فَلَمْ يَكُنْ الشَّيْءُ الوَاحِدُ ظَاهِراً بَاطِناً.
وَأَيْضاً فَالْمُفَسِّرُونَ قَالُوا: إِنَّهُ ظَاهِرٌ بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ، بَاطِنٌ بِحَسَبِ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْخَيَالُ، وَلَوْ كَانَ جِسْماً لَمَا أَمْكَنَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ الْحِسُّ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْخَيَالُ)) [أَساسُ التَّقديس (ص: 66-67)، دارُ نُور الصَّباح].
وقال أيضاً: ((قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِۦ عِلۡمًا﴾ [طه: 110]، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعامِ: 103]: وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْمِقْدَارِ وَالشَّكْلِ وَالصُّورَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْإِدْرَاكُ وَالْعِلْمُ مُحِيطَيْنِ بِهِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ جِسْمًا لَكِنَّهُ جِسْمٌ كَبِيرٌ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُحِيطُ بِهِ الْإِدْرَاكُ وَالْعِلْمُ؟ قُلْنَا: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ عُلُومَ الْخَلْقِ وَأَبْصَارَهُمْ لَا تُحِيطُ بِالسَّمَاوَاتِ وَلَا بِالْجِبَالِ وَلَا بِالْبِحَارِ وَلَا بِالْمَفَاوِزِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَجْسَامٌ كَبِيرَةٌ، وَالْأَبْصَارُ لَا تُحِيطُ بِأَطْرَافِهَا، وَالْعُلُومُ لَا تَصِلُ إِلَى تَمَامِ أَجْزَائِهَا، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي تَخْصِيصِ ذَاتِ اللهِ بِهَذَا الْوَصْفِ فَائِدَةٌ)) [أساسُ التَّقديس (ص: 67)، دارُ نُور الصَّباح].
وقال: ((أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الْإِخْلَاصِ: 1] مِنَ الْمُحْكَمَاتِ لَا مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَلَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَكَانِ لَكَانَ الْجَانِبُ الَّذِي مِنْهُ يَلِي مَا عَلَى يَمِينِهِ غَيْرَ الْجَانِبِ الَّذِي مِنْهُ يَلِي مَا عَلَى يَسَارِهِ؛ فَيَكُونُ مُرَكَّبًا مُنْقَسِمًا فَلَا يَكُونُ أَحَدًا فِي الْحَقِيقَةِ، فَيَبْطُلُ قَوْلُهُ: ﴿قُلۡ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1])) [التَّفسيرُ الكبير (22/6)، ط. المطبعة البَهيَّة المصريَّة].
وبالله التَّوفيق.

فكرتان اثنتان على ”نَفيُ الجِسميَّة في حقِّه جلَّ وعزَّ – اسم اللهِ الْمُصَوِّرُ“
التعليقات مغلقة.