
وجواب هذه الشُّبهة الوَهَّابيَّة يكون كالتَّالي:
أوَّلًا: مصادرُ التَّشريع في دِيننا الحنيف مَعروفةٌ ومُحدَّدةٌ، وليس منها قطعًا: تُروكاتُ حضرة النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، فكيف بِتُروكات السَّلف أو الأئمَّة الأربعة؟!.
وإذا كان يجوز على مَولانا رسول الله صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم أن يتركَ فِعلَ المباحات أو المندوبات؛ لكونها غيرَ واجبة، واكتفاءً منه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم باندراجها تحتَ أصول الشَّريعة وعُموم نُصوصها؛ فكيف يُستدلُّ بمجرَّد تَركه للفِعل على تَحريمه؟!.
قالَ الإمامُ أبو بكر الجصَّاص (ت: 370 هـ): ((وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي التَّرْكِ، كَقَوْلِنَا فِي الْفِعْلِ، فَمَتَى رَأَيْنَا النَّبِيَّ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – قَدْ تَرَكَ فِعْلَ شَيْءٍ وَلَمْ نَدْرِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَرَكَهُ، قُلْنَا: تَرَكَهُ عَلَى جِهَةِ الْإِبَاحَةِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْنَا، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَنَا: أَنَّهُ تَرَكَهُ عَلَى جِهَةِ التَّأَثُّمِ بِفِعْلِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا تَرْكُهُ حِينَئِذٍ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ دُونَنَا)) [الأُصول في الفُصول (3/228)، وزارة الأوقاف بالكويت].
وقال الإمامُ ابنُ بطَّال المالِكي (ت: 449 هـ): ((فِعْلُ الرَّسُولِ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ] إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ – وَكَذَا تَرْكُهُ – لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبٍ وَلَا تَحْرِيمٍ)) نقله الحافظُ ابنُ حجر العسقلاني في [فتح الباري (9/14)، المكتبة السَّلفيَّة].
وقال فَقيهُ الحنابِلةِ المُوَفَّقُ ابنُ قُدامَةَ المقدِسيُّ (ت: 620 هـ): ((تَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ قَدْ يَتْرُكُ الْمُبَاحَ كَمَا يَفْعَلُهُ)) [المُغني (1/195-196)، دار عالَم الكُتب].
وقال الإمامُ الشَّريف التِّلِمسانيُّ (ت: 771 هـ): ((كَمَا يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ، يُسْتَدَلُّ بِتَرْكِهِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ)) [مِفتاحُ الوُصول (ص: 93)، مكتبةُ الرَّشاد].
وقال الإمامُ ابنُ لُبٍّ الغرناطيُّ (ت: 782 هـ) في ردِّه على الإمام الشَّاطبي في مسألة الدُّعاء جماعةً: ((التَّرْكُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِحُكْمٍ فِي ذَلِكَ الْمَتْرُوكِ، إِلَّا جَوَازَ التَّرْكِ، وَانْتِفَاءَ الْحَرَجِ فِيهِ خَاصَّةً، وَأَمَّا تَحْرِيمٌ أَوْ لُصُوقُ كَرَاهِيَّةٍ فَلَا، وَلَا سِيَّمَا فِيمَا لَهُ أَصْلٌ جُمْلِيٌّ مُتَقَرَّرٌ مِنَ الشَّرْعِ)) [سَنَنُ المُهتدين للعلَّامة الموَّاق الغرناطي (ص: 223-224) ط. دار ابن حزم].
ثانيًا: إنَّ مُجرَّدَ عَدمِ نَقلِ عملِ المَولد عن السَّلف والأئمَّة الأربعة لا يستلزم أنَّه كان ممنوعًا عندهم؛ إذ إنَّ غايةَ ما فيه أنَّه عدَمُ دليلٍ، وليس هو في ذاته دَليلًا على التَّحريم، ولا يصلحُ لإثبات حُكمٍ شَرعيٍّ بالمنع، وإنَّما يكون التَّحريم أو الإنكار مُستقيمًا لو قام عليه نصٌّ ناهٍ، أو تَعارض مع قَواعد الشَّريعة الكلِّيَّة، أو تَعذَّر إدراجُه تَحت أَصلٍ مُعتَبرٍ من أصولها، أو صادمَ طريقة السَّلف ومَنهجهم العام في التَّعامل مع المستجدَّات؛ أمَّا والظَّاهر أنَّ عمل المَولد النَّبوي لَم يطرأ أصلًا على أَذهان السَّلف ولَم يخطُر بِبالهم، فلا يُعقل أن يُنسبَ إليهم حُكمٌ على أمرٍ لَم يُدركوه حتَّى ولَم يتَصَوَّروه أصلًا!، وقد قرَّروا أنَّ الحُكمَ على الشَّيء فَرعٌ عن تَصَوُّره.
ثُمَّ ما المانع من أن يُقال: إنَّ بعض السَّلف لو اطَّلع على هذا العمل لعَدَّه من قَبيل المباحات أو المندوبات الَّتي لا يَجب التزامها ولَا يُؤثَمُ تاركها؟.
بل قد يُتصوَّر أنَّ بعضَهم باشَره في خَلَواته تبَرُّكًا وتَقَرُّبًا إلى الله بشُكر نِعمة بَعثة سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، غير أنَّه آثر كتمان ذلك على عادَة القَوم في سِترِ أعمال البِّرِّ بينَهم وبَين رَبِّهم، وإخفائِها عن أَعيُن النَّاس.
ومِثل هذا الاحتمال الأخير قرَّره ابنُ القَيِّم في ردِّه على منِ استدَلَّ بتَركِ السَّلف في مسألة إِهداء ثَواب القِراءة للأموات؛ حيث قال: ((ثُمَّ يُقالُ لِهَذا القائِلِ: لَو كُلِّفْتَ أَنْ تَنْقُلَ عَنْ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُ قالَ: “اللَّهُمَّ ثَوابُ هَذَا الصَّوْمِ لِفُلَانٍ” لَعَجَزْتَ؛ فَإِنَّ القَوْمَ كانوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلى كِتْمانِ أَعْمالِ البِرِّ، فَلَمْ يَكُونُوا لِيُشْهِدوا عَلَى اللَّهِ بِإِيصَالِ ثَوابِها إِلَى أَمْواتِهِم.
فَإِنْ قيلَ: فَرَسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّم أَرْشَدَهُم إِلى الصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَالحَجِّ دُونَ القِراءَةِ. قيلَ: هُوَ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّم لَمْ يَبْتَدِئْهُم بِذلِكَ، بَلْ خَرَجَ ذلِكَ مَخْرَجَ الجَوابِ لَهُم، فَهذا سَأَلَهُ عَنِ الحَجِّ عَنْ مَيِّتِهِ فَأَذِنَ لَهُ، وَهَذَا سَأَلَهُ عَنِ الصِّيَامِ فَأَذِنَ لَهُ، وَهذا سَأَلَهُ عَنِ الصَّدَقَةِ فَأَذِنَ لَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُم مِمَّا سِوَى ذلِكَ…
والقائِلُ: إِنَّ أَحَدًا مِنَ السَّلَفِ لَمْ يَفْعَلْ ذلِكَ، قَائِلٌ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ؛ فَإِنَّ هذِهِ شَهادَةٌ عَلى نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ. فَمَا يُدْرِيهِ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَا يُشْهِدونَ مَن حَضَرَهُم عَلَيْهِ، بَلْ يَكْفِي اطِّلَاعُ عَلَّامِ الغُيُوبِ عَلى نِيَّاتِهِم وَمَقاصِدِهِم)) [كتاب الرُّوح (2/417-418)، دار عطاءات العلم – دار ابن حزم].
فتأمَّل قوله: ((وَلَمْ يَمْنَعْهُم مِمَّا سِوَى ذلِكَ))؛ مع أنَّه هو نفسُه مِن القائلين بحُجِّيَّة التَّرك عندَ وُجود المُقتضي وانتفاء المانع. وهذا يُظهِر بوُضوح أنَّ الاستِدلال بمجرَّد التَّرك استِدلالٌ غيرُ مُسلَّم حتَّى عندَ بعضِ مَن قرَّروا أَصلًا جعله دليلًا على التَّحريم.
وعليه؛ فإنَّ مَن يَدَّعي أنَّ أحدًا من السَّلف لَم يَعمل المَولد، فإنَّما أطلقَ دعوى على نَفي ما لا سبيل إلى الإحاطة به. وما يُدريه أنَّ بعضَ السَّلف ربَّما قد فَعلوه ولَم يُشهِدوا عليه أحدًا، واكتفوا باطِّلاع علَّام الغُيوب على نِيَّاتِهم ومَقاصدِهم؟ وبهذا يُردُّ على هؤلاء الشُّذَّاذ؛ بمنطق شَيخِهم ابنِ القيِّم نفسِه.
ثالِثًا: روى البُخاريُّ في صحيحه (6357): أنَّ الصَّحابة رضوان الله عليهم سألوا سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، قدْ عَلِمْنَا كيفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكيفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قالَ: فَقُولوا: “اللَّهُمَّ صَلِّ علَى مُحَمَّدٍ، وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما صَلَّيْتَ علَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ علَى مُحَمَّدٍ، وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كما بَارَكْتَ علَى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ”.
فأنتَ ترى أنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حين علَّمهم صيغة الصَّلاة عليه، خصَّها بذكره وذِكر آله فقط، ولَم يذكر الصَّحابة الكرام، مع وُجود الدَّاعي وانتفاء المانع كما لا يخفى.
وعليه؛ فلو التزَمنا بعقليَّة هؤلاء الشُّذَّاذ القائلين ببِدعيَّة جميع ما لم يُعهد في العصر النَّبوي مع قِيام المُقتضي وانتِفاء المانع؛ للَزمَهم أن يعدُّوا الصَّلاة على الصَّحابة عندَ الصَّلاة عليه وعلى آله: بدعةً مُحرَّمةً؛ لأنَّه لو كان خيرًا لبيَّنه النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لأمَّته.
ولكنَّ الواقع أنَّ أهل السُّنَّة درجوا على إلحاق الصَّحابة بآل النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في خِتام الصَّلوات والدَّعوات، لِمَا لَهم مِن فَضلٍ وحقٍّ ومَكانةٍ، وأنَّ هذا مِن باب الدُّعاء لهم.
والمُفارقة أنَّ هذه اللَّجنة الدَّائمة للإفتاء “الوَهَّابيَّة” تَلتزم دائمًا في خِتام فتاواها صيغة: ((وصلَّى الله على نَبيِّنا مُحمَّد وآله وصَحبه وسلَّم))، فزادوا على الوارد الصَّحب الكرام؛ وفي هذا مُناقضة صريحة لقاعدَتهم الشَّاذَّة في التَّرك.
قال الشَّيخُ عليُّ باعَلَويُّ الحُسَيني الحَضرمي في الرَّدِّ عليهم وعلى أمثالهم منَ المتنطِّعة: ((يُلْحِقُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ يُصَلُّونَهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: الصَّلَاةَ عَلَى الصَّحَابَةِ – رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم -، وَلَمْ تَجِئْ رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ بِالصَّلَاةِ عَلَى الصَّحَابَةِ.
فَعَلَى أَصْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ أَنَّ مُخَالَفَةَ فِعْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ هَذَا الإِلْحَاقُ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَى الصَّحَابَةِ فِي حَدِيثِ التَّعْلِيمِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ لِلْآلِ.
وَأَمَّا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ يَكُونُ قَوْلُهَا زِيَادَةً عَلَى الْمَشْرُوعِ، لَا يُرَادُ بِهَا إِلَّا الدُّعَاءُ لَهُمْ، فَيَحْصُلْ بِهِ الدُّعَاءُ لَهُمْ)) [تَحقيقُ البِدعة (ص: 252)، ط. دار الضِّياء: الكويت].
وهذا إلزام لا مَخرج لهؤلاء المتنطِّعة منه.
وكذلك قُل في مسألة التزام التَّصلية عليه كتابةً عند ذكر اسمه الشَّريف صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.
رابعًا: من المعلوم حتَّى عندَ صغار الطَّلبة أنَّ الأحكام الشَّرعيَّة التَّكليفيَّة تدور بين: الواجب، والمندوب، والمُباح، والمكروه، والمحرَّم
وعليه؛ فالحكم على المولد النَّبوي بأنَّه: بِدعةٌ مُحرَّمةٌ، ومُحاولة تَبرير هذا الحكم بِكون السَّلف والأئمَّة الأربعة لَم يفعلوه، لا يستقيم إلَّا على أصلٍ فاسد؛ وهو أنَّ كلَّ ما تَرَكه السَّلفُ والأئمَّةُ الأربعةُ فيَجب تَركه، وأنَّ فِعله: بِدعةٌ مُحرَّمةٌ. وهذا لازمٌ باطلٌ، إذ يقتضي أن يكون مُجرَّد تَرك السَّلف والأئمَّة الأربعة للفِعل: دَليلًا على حُرمته، وفِعلهم له: دَليلًا على وُجوبه لأنَّه السُّنَّة ومُخالفَته: بدعةٌ مُحرَّمةٌ، فيلزم من هذا الحكم على كلِّ ما هو في دائرة “جائز التَّرك” – كالمُباح – بِحُكم ما هو في دائرة “واجب التَّرك” = المُحرَّم؛ فينحصر الدِّين في: واجبٍ ومُحرَّمٍ فقط، ويَدخُل المندوب والمُباح والمكروه في دائرة المحرَّم!.
وإنَّما قُلنا إذا كان التَّرك – الَّذي لا لفظ له – يَدُلُّ عندَ المُخالفين على الحُرمة فيكون الفِعل حينئذٍ يدلُّ على الوُجوب؛ لأنَّ السُّنَّة – كما يظهر مِن كلامهم هنا -: واجبة الاتِّباع، ومُخالفتها: بِدعةٌ مُحرَّمةٌ.
فإِن جعلوا السُّنَّة مُرادفةً للواجب والمَندوب، صار الدِّين ثَلاثة أقسامٍ: واجبٌ، ومندوبٌ، ومُحرَّم، ويدخلُ في المُحرَّم: المَكروه والمُباح!.
وإن جعلوا السُّنَّة مُرادفةً للمشروع، كان الدِّين هو: الواجب والمندوب والمُباح الَّذي فَعلَه السَّلف والأئمَّة الأربعة، ويدخُل في المُحرَّم: المَكروه والمُباح الَّذي لم يفعله السَّلف ولا الأئمَّة الأربعة رضوان الله عليهم!.
وهذا كلّهُ خلطٌ مشينٌ للدِّين، ومُناقضة صريحة لِمَا قرَّره أئمَّة الإسلام – قديمًا وحديثًا – مِن أنَّ الدِّين يقوم على الأحكام التَّكليفيَّة الخمسة المعروفة.
يُنظر ردّ الشَّيخ علي باعَلَوي الحُسَيني الحَضرمي على ابنِ القيِّم في مسألة التَّرك [تحقيق البِدعة (ص: 159)، ط. دار الضِّياء].
ولقد ترك السَّلف والأئمَّة الأربعة – مع تحقُّق المُقتضي وانتفاء المانع – كثيرًا من الأمور الَّتي استَحدثَها الخلفُ مِن بعدهم واستَحسنوها، كتَنظيم شُؤون المساجد، ووَضع المجلَّات والنَّشرات، وتَرتيب الدَّوريَّات وحِلَق العِلم، ونَحو ذلك منَ الوَسائل والوَسائط، ومع ذلك لَم يقُل عاقلٌ إنَّ الأمَّةَ قد غرقت بذلك في البِدَع المحرَّمة.
خامساً: دعوى أنَّ السَّلفَ والأئمَّةَ الأربعة إنَّما تَركوا عملَ المولد النَّبوي لكونه: بدعةً مُحرَّمةً:
مُفرَّعةٌ على زَعم أنَّهم خاضوا في مسألةِ المَولد، وأقرُّوا هذا الحُكم.
والواقع أنَّه لَم يَقع منهم خَوضٌ في هذه المسألةِ أصلًا، ولَا تقريرٌ للحُكم فيها.
ومِن ثَمَّ، فالقولُ بأنَّهم أنكروه: افتراءٌ مَحضٌ؛ إذ لَم يُعرف عنهم تعرُّضٌ له ابتداءً حتَّى يُنكروه.
وعليه؛ فصاحبُ هذه الدَّعوى ليس إلَّا مُلبِّسًا مُفتريًا، يَنسبُ إلى السَّلف والأئمَّة الأربعة ما لم يقولوه. ولله درُّ الإمام الشَّافعي إذ قال: “لَا يُنسبُ لِساكتٍ قَولٌ”، وهي قاعدة مُحكمة عند أهلِ العلم. فكان الأَوْلى بالمُخالف – قبل أن يملأ سمع النَّاس ضجيجًا ويُرغي ويُزبِد – أن يُعمل نَظرَه في تَخريج المسألة ورَدِّها إلى أُصول السَّلف ومناهج الأئمَّة الأربعة، بَدلَ أن ينُطَّ هذا النَّط الأهوَج فَوق قَواعد البَحث المنهجيِّ ومَسالك العِلم الرَّصين.
ولنا أن نَقلب عليه وعلى المفتونين ببهرجه مَنطقهم هذا فنقول: وكذلك شأن “التَّقسيم الثُّلاثي للتَّوحيد” الَّذي ابتدعَه شيخُكم ابنُ تَيميَّة مِن كَيسه، وكان مِن آثاره تَكفيرُ عُموم أُمَّة التَّوحيد المرحومة – سلفاً وخلفاً -؛ لَم يَقل به أحدٌ منَ السَّلف ولا الأئمَّة الأربعة؛ فهو – على منطقكم -: بِدعةٌ مُحرَّمةٌ، ولو كانَ خَيراً لَسَبقوكُم إليه.
سادساً: قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: “عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ” رَوَاهُ أَبُو دَاوُودَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
والمقصودُ بالتَّمسُّك بسُنَّته صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم في هذا الحديث: اتِّباعُ طريقتِه القَويمة ومنهجِه المستقيم. ولهذا قرَن بها قَوله: “وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ”، أي: طريقتُهم المثلى ومسلكُهم السَّديد – رَضي الله عنهم – في الأخذ بسنَّته الشَّريفة عند مُعالجة النَّوازل والمستجدَّات. وليس المرادُ منَ الأمر باتِّباع سُنَّتهم أن يكون لَهم حقُّ التَّشريع من عند أَنفسهم – حاشاهم -؛ إذ هُم مُخاطبون – كغيرهم – بقَوله صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم في الحديث الثَّابت في الصَّحيحَين: “مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ”.
