مسألة التَّرك – المولد النبوي الشريف 2

وجواب هذه الدَّعوى الوَهَّابيَّة الفارغة؛ أن يُقال لَهم:

– أوَّلًا: هل فعل حضرة النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جَميع المستحبَّات والمُباحات؟ فإن قُلتم: لا؛ فقد نَقضتُّم دعواكم مِن أصلها. وإن قُلتم: نَعم؛ قيل لكم:

1- لَم يُنقل أنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ختمَ القرآن في صلاة التَّراويح، ولا أنَّه التزمَ هيئةً مخصوصةً في الختمة كما تَفعلون اليوم – كَمًّا وكَيفًا -، ولا أنَّه خصَّها بليلة 29؛ فما بالكم خالفتموه والتزمتم ما لم يلتزمه؟!

2- ولَم يُنقل أنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وضعَ نِظامًا مُحدَّدًا لتِلاوة أجزاء القُرآن في كلِّ ركعة أو ليلةٍ حتَّى يلتئم الأمر عندَ الختمة في ليلة 29؛ فما بالكم أَلزمتُم أنفُسَكم بما لَم يلتزمه؟!

3- ولا شكَّ أنَّه لَم يُنقل عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم التَّسميع لصلاةِ التَّراويح؛ وهو قولكم = “صلاةُ القِيامِ يَرحَمكُم الله”، ومثله لصلاة الجنازة = “الصَّلاةُ على الأَموات يَرحَمكُم الله”، “الصَّلاةُ على الأَمواتِ والطِّفل يَرحَمكُم الله” كما يُفعل اليوم في الحَرَمَين الشَّريفَين؛ فما بالكم تلتزمون بهذا المُحدثات؟!

4- ولم يُنقل أنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم جَمع المصلِّين في المسجد لصلاة التَّهجُّد جماعةً بعد التَّراويح في العَشر الأواخر على الهيئة المبتدَعة الَّتي أَحدثتموها؛ فما بالكم فَعلتم ما لم يفعله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟!

5- ولَم يُنقل أنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يلتزمُ الدُّعاء لأحدٍ بِعَينه في جميع خُطبه وقُنوته، ومع ذلك التزمتُم الدُّعاء لملوكِكم في كلِّ مُناسبة بلا تَخلُّف؛ فما بالكم ابتدعتموه واستَحسنتموه؟!

فجميع هذه المُحدثات تتعلَّق بالعِبادة، ولَم يَرد بها تَوقيف من الشَّارع الحكيم، ولا جاء بها دليل خاصٌّّ – على مُقتضى فهمِكم -، ومع ذلك فهي قائمة فِي الحَرَمَين الشَّريفَين تحتَ الرِّعاية السَّامية لدولة البترودولار الوَهَّابيَّة؛ فكان الأَوْلى – بحسب منطقكم – أن تُدرجوها في عِداد “بِدع الضَّلالة”، وتُردِّدوا مقولتكم المشهورة: “لَو كان خيرًا لسَبَقنا إليه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم”؛ صح؟!

لكنَّ الواقع يَشهد بأنَّكم لا تَجرُؤون على ذلك؛ لأنَّ هذه المُحدثات قد حازت مِن قبلُ مُباركة أسلافكم الوَهَّابيَّة الأوائل، كالسَّفَّاح محمَّد بن عبد الوهَّاب، وأحفاده: “آل الشَّيخ”، ومَن تَبِعهم؛ فالقَول ببدعيَّتها يلزم منه تَبديع أسلافكم هؤلاء لا مَحالة. وهذا ما صرَّح به مَشايخكم، كابنِ باز وابنِ عُثَيمين، عند كلامهم على مسألة الدُّعاء في ختم التَّراويح، ونحوِها.

فلمَّا تعلَّق الأمر بأسلافكم ساغ عندكم العمل بازدواجيَّة المعايير؛ بل وتجرَّأتم على تَوزيع صكوك الأعذار لبَعضكم البعض بحجَّة أنَّ أسلافكم الوَهَّابيَّة لَم يذمُّوا تلك المُحدثات – مع ما فيها من مُخالفة صريحة لأصولكم المزعومة -، فامتنعتم عن تَسليط سيف البِدعة فيما بينكم، بَينما أسرفتم أضعاف أوزان بُطونكم المنتفخة ذَهبًا في مُحاربة عمل المولد النَّبَوي، والتَّوسُّل، وتعظيم حضرة النَّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بتسويده، والجهر بالصَّلاة والسَّلام عليه بعد الأذان؛ بل وأقمتم الدُّنيا ولم تقعدوها في سبيل إثبات دُخول والدَيه الكريمين النَّار.

ولا أدري ما نوع هذه “الفُوبيا” المتخفيَّة مِن وراء هذا الفهم “الزِّئبقي” لمسألة البِدعة عند هؤلاء الخوارج؟! وما هو السِّر الكائن مِن وراء هذه “الجَماديَّة” و”الجُموديَّة” إذا تعلَّق الأمر بتَوقيره وتعظيمه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم؟!.

فأيّ منطقٍ هذا الَّذي يجعلكم تُشهرون سيف التَّبديع والتَّفسيق على مُخالفيكم في مسائل فَرعيَّة اجتهاديَّة – كعمل المولد النَّبوي الَّذي خالفكم فيه جَمعٌ مِن كبار أيمَّة الإسلام -، ثمَّ إذا تعلَّق الأمر بِخلافاتكم الدَّاخليَّة خَلعتُم ذلك السَّيف، وارتديتم عباءة “الدِّبلوماسيَّة”، وتظاهرتم بروح التَّسامح وتَوسيع دائرة الخلاف المذهبي؟!.

وهل هذا غير النِّفاق العلمي؟!.

– ثانياً: أوَّل منِ احتفى بمولده الشَّريف هو صاحب المَولد نفسُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فقد صحَّ عنه كما في صحيح مُسلم أنَّه لَمَّا سُئل عن سبب صيامه يَوم الإثنين قال: “فيه وُلِدتُّ، وفِيه أُنزِلَ عَلَيَّ”. فخصَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يوم ولادته من كلِّ أسبوع بعبادة مشروعة وهي الصِّيام، شُكرًا لله تعالى على منَّته العُظمى ببعثته رحمةً للعالمَين.

– ثالثاً: إنَّ مسألة مُخالفة العَجم قد حرَّرها الأئمّةُ المحقِّقون وضبطوها بضوابط كما لا يخفى، وبيَّنوا أنَّها ليست أصلًا مُستقِلًّا من أُصول التَّشريع، ولَا مَصدراً من مصادر الاستِدلال؛ إذ المُعتبر عند أهل العلم إنَّما هو الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقِياس، أمَّا مُجرَّد الموافقة أو المخالفة لفِرقة منَ الفِرق فليس مَناطًا للتَّحليل والتَّحريم كما يَعرفه صغار الطَّلبة.