وأما الجوهر والعرض في اصطلاح علماء التوحيد فنقول في تفسيرهما: إن الجوهر ما له تحيُّزٌ وقيامٌ بذاته. والعَرَض ما لا يقوم بذاته كاللون والحركة والسكون والاجتماع والافتراق والاتصال والانفصال. وأما الجسم فهو ما له طول وعرض وعمق. فالجوهر أعم من الجسم.
تكميل الذات إذا أطلق على الله فالمراد به الحقيقة لا الجوهرُ أو الجسمُ كما إذا أطلق على غير الله فيجوز أن يقال ذات الله لغة وشرعًا، فقد أخرج البيهقي عن ابن عباس بإسناد جيّد أنه قال: «تفكروا في كل شىء ولا تفكروا في ذات الله» [(102)]. فإذا تقرر هذا فتفهموا يرحمكم الله بتوفيقه ما يأتي من البرهان العقلي على حدوث العالَم وهو ما سوى الله وتقريره أن يقال: إن الجسم لا يخلو من الحركة والسكون وهما حادثان لأنه بحدوث أحدهما ينعدم الآخر فما لا يخلو من الحادث حادث فالأجسام حادثة.
وفي هذا البرهان ثلاث قضايا.
الأولى أن الأجسام لا تخلو من الحركة أو السكون وذلك ظاهر مدرك بالبديهة فلا تحتاج إلى تأمل فإن من عَقِلَ [(103)] جسمًا لا ساكنًا ولا متحركًا كان عن نهج العقل ناكبًا وللواقع مكابرًا.
الثانية قولنا إنهما حادثان يدل على ذلك تعاقبهما وذلك مشاهدٌ في جميع الأجسام. وما لم يشاهد، فما من ساكن إلا والعقل قاض بجواز حركته وما من متحرك إلا والعقل قاض بجواز سكونه فالطارئ منهما حادث بطريانه والسابق حادث لعدمه لأنه لو ثبت قِدمُه لاستحال عدمه.الثالثة قولنا ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لأنه لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أولَ لها [(104)] وما لا أول له من الحوادث لا تنتهي النوبةُ إلى وجود الحادث الحاضر في الحال وانقضاء ما لا نهاية له محال لأنك إذا لاحظت الحادث الحاضر ثم انتقلت إلى ما قبله وهَلُمَّ جَرًّا على الترتيب لم تُفْضِ إلى نهاية ودخول ما لا نهاية له من الحوادث في الوجود محالٌ وإن لم يمكن عدم إفضائك إلى نهاية لكان لتلك الحوادث أوّل وهو خلاف المفروض.
وعندنا دليل عقلي بعبارة أخرى فنقول لو كان أفراد العالم التي دخلت في الوجود لا نهاية لها لكان لا يخلو عددها عن أن يكون زوجًا وفردًا معًا أو لا زوجًا ولا فردًا ومحال أن يكون زوجًا وفردًا جميعًا ولا زوجًا ولا فردًا فإن في ذلك جمعًا بين النفي والإثبات وهما ضدان إذ في إثبات أحدهما نفي الآخر وفي نفي أحدهما إثبات الآخر، ومحال أن يكون زوجًا فقط لأن الزوج يكون فردًا بزيادة واحد فكيف يُعوِزُ ما لا نهاية له واحد، ومحال أن يكون فردًا فقط لأن الفرد يكون زوجًا بزيادة واحد عليه فكيف يُعوِزُ واحدٌ ما لا نهاية له فحصل من هذا أن العالم لا يخلو من الحوادث فهو إذًا حادث وإلا لزم استحالة وجود الحادث الحاضر لأنه لازم وجود حوادث لا أول لها لكن الحادث الحاضر ثابت فانتفى ملزومه وهو وجود حوادث لا أول لها فلانتفاء وجود حوادث لا أول لها انتفى ملزومه وهو كون ما لا يخلو من الحوادث قديمًا فثبت نقيضه وهو ما لا يخلو من الحوادث حادث فتبيّن وجوب انتهاء الحوادث التي دخلت في الوجود إلى أول.وبهذا الدليل يبطل قول بعض الملحدين بتسلسل الوالدية والولدية في جانب الماضي إلى غير نهاية، ويقال في البذر والزرع ونحو ذلك مثل ذلك، ويقال في إبطال قولهم ما من نطفة إلا من إنسان ولا من إنسان إلا من نطفة وهكذا إلى غير بداية وقولهم ما من زرع إلا من بذر ولا من بذر إلا من زرع وهكذا إلى غير بداية في جانب الماضي [(105)] يلزم منه ذلك المحال وما أدى إلى المحال محال وبهذا الدليل العقلي يُنقض قولهم أي الفلاسفة بوجود جواهر عقلية سَموها عقولاً ونفوسًا ملكية زعموا أنها أزلية.
ـ[102] الدليل الصادق (1/ 75 – 86).
ـ[103] قول ابن عباس رضي الله عنهما «تفكروا في كل شىء ولا تفكروا في ذات الله عز وجل» رواه البيهقي وغيره موقوفًا «الأسماء والصفات ص420، العظمة ص29»، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/ 383): «موقوف وسنده جيد» اهـ.قلت: الحديث له شواهد مرفوعة من حديث ابن عمر وأبي ذر وأبي هريرة وعبد الله بن سلام قال الحافظ السخاوي (المقاصد الحسنة ص/191) والعجلوني (كشف الخفا 1/ 372) «وأسانيدها ضعيفة لكن اجتماعها يكتسب قوة والمعنى صحيح» اهـ وذكر بعضهم أن الحديث بمجموعه حسن مع كون طرقه ضعيفة. ومما يؤيد جواز استعمال هذا اللفظ ما رواه البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة منهم خبيب الأنصاري وأنهم لما أرادوا أن يقتلوه قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما
على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يُبارك على أوصال شلو ممزع
قتله ابن الحارث فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم يوم أصيبوا. رواه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب «ما يُذكر في الذات والنعوت وأسامي الله عز وجل وقال خبيب: وذلك في ذات الإله فذكرَ الذاتَ باسمه تعالى».
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 382) «قوله (فذكر الذات باسمه تعالى) أي ذكر الذات متلبسًا باسم الله أو ذكر حقيقة الله بلفظ الذات قاله الكرماني، قلت: وظاهر لفظه أن مراده أضاف لفظ الذات إلى اسم الله تعالى وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره فكان جائزًا» اهـ. ويؤيده أيضًا الحديث المتفق عليه (صحيح البخاري: كتاب الأنبياء: باب= = قوله تعالى { … وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً *}، صحيح مسلم: كتاب الفضائل: باب فضائل إبراهيم الخليل) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لم يكذب إبراهيم قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وواحدة في شأن سارة إنك أختي» اهـ، والله أعلم.
ـ[104] يجوز في القاف الوجهان الضم والكسر.
ـ[105] وقد تقدم بسط المسئلة.
