أبو إسماعيل الأنصاري الهروي المُتوفى سنة 481 هجري
هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي, كان أحد اعمدة التجسيم و حنبليا متعصبا يدعي التصوف وله طامات في العقائد. والهروي هذا عدو لدود للإمام أبي الحسن الأشعري ، قال الإمام تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى ج4 ص 273 ما نصه: “وكان يلعن شيخ السنة أبا الحسن الأشعري” انتهى
وقد كان يتجرأ على لعنه وهو جاهل به لا يعرفه. قال الذهبي في السير عند ترجمة أبي اسماعيل الهروي نقلا عن محمد بن طاهر أنه قال: سمعت خادمه أحمد بن أميرجه يقول : حضرت مع الشيخ للسلام على الوزير نظام الملك ، وكان أصحابنا كلفوه الخروج إليه ، وذلك بعد المحنة ورجوعه إلى وطنه من بلخ قال : فلما دخل عليه أكرمه وبجله ، وكان هناك أئمة من الفريقين ، فاتفقوا على أن يسألوه بين يدي الوزير ، فقال العلوي الدبوسي : يأذن الشيخ الإمام أن أسأل ؟ قال : سل . قال : لم تلعن أبا الحسن الأشعري ؟ فسكت الشيخ ، وأطرق الوزير ، فلما كان بعد ساعة ; قال الوزير : أجبه . فقال : لا أعرف أبا الحسن ، وإنما ألعن من لم يعتقد أن الله في السماء ، وأن القرآن في المصحف ، ويقول : إن النبي – صلى الله عليه وسلم – اليوم ليس بنبي “.
أبو اسماعيل الهروي: اعتقاده التشبيه و التجسيم
بالإضافة إلى ادعائه التصوف و اعتقاده الحلول و الاتحاد فقد زاد أبو اسماعيل الهروي في ضلاله و قال بالتجسيم و التشبيه في حق الله و تدين بالبواطيل والمنكرات حتى عده الإمام الكوثري في تعليقه على الأسماء و الصفات للبيهقي من شيوخ الحشوية حيث قال ما نصه: ” ﻣﺜﻞ ﳛﲕ ﺑﻦ ﻋﻤﺎﺭ ﺍﻟﺴﺠﺰﻱ ﻭ ﺗﻠﻤﻴﺬﻩ ﺃﰊ ﺇﲰﺎﻋﻴﻞ ﺍﳍﺮﻭﻱ ﻭ ﺃﰊ ﻋﻠﻲ ﺍﻷﻫﻮﺍﺭﻱ ﻭ ﻏﲑﻫﻢ ﻣﻦ ﺷﻴﻮﺥ ﺍﳊﺸﻮﻳﺔ”. انتهى
وقال الإمام تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى جزء 4 صحيفة 272 ما نصه:” وكان الأنصاري المشار إليه رجلاً كثير العبادة محدثًاً إلا أنه يتظاهر بالتجسيم والتشبيه وينال من أهل السنة”. انتهى
و قال: ” وكانت هراة بأبي اسماعيل الأنصاري قد غلب عليها التجسيم”. انتهى
وقال أيضا:”وإنما أعتقد أنه يعتقد التشبيه”. انتهى
و قال: “وكان أهل هراة في عصره فئتين فئة تعتقده وتبالغ فيه لما عنده من التقشف والتعبد وفئة تكفره لما يظهره من التشبيه”. انتهى
وقد حذر بعض العلماء من مصنفاته كالكوثري و التاج السبكي و الذهبي:
قال الإمام الكوثري: ” فدونك كتاب الإستقامة لخشيش بن أصرم، والكتب التي تسمى السنة لعبد الله وللخلال، ولأبي الشيخ، وللعسال، ولأبي بكر بن عاصم، وللطبراني، والجامع، والسنة والجماعة لحرب بن إسماعيل السيرجاني، والتوحيد لابن خزيمة، ولابن مندة، والصفات للحكم بن معبد الخزاعي، والنقض لعثمان بن سعيد الدارمي، والشريعة للآجري، والإبانة لأبي نصر السجزي، ولابن بطة، ونقض التأويلات لأبي يعلي القاضي، وذم الكلام والفاروق لصاحب منازل السائرين تجد فيها ما ينبذه الشرع والعقل في آن واحد”. انتهى
و قال الإمام تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: ” ومن مصنفاته التي فوقت نحوه سهام أهل الإسلام كتاب ذم الكلام وكتاب الفاروق في الصفات وكتاب الأربعين ، وهذه الكتب الثلاثة أبان فيها عن اعتقاد التشبيه وأفصح “. انتهى
و قال الذهبي في السير 18/ 509 ما نصه: “كدر كتابه الفاروق في الصفات بذكر أحاديث باطلة يجب بيانها وهتكها”. انتهى
و لا ريب أن هذه الأحاديث من جنس ما رواه أبو يعلى في إبطال التأويلات فقد كانا صديقين حميمين، لكن الهروي كان أقبح مذهبا وأخطر أقوالا.
وقال الذهبي ايضا: “وقد هدد بالقتل مرات ليقصر من مبالغته في إثبات الصفات” . انتهى وهذا دليل أنه بالغ في الاثبات إلى حد التشبيه.
لكن الذهبي رغم كل هذه الطامات و كعادته في مدح رؤوس التجسيم و الضلال قد وصفه بالامام الكبير و بأنه صَاحب أَحْوَال ومقامات واحتج به أيضا في اثبات عقيدة التجسيم فقال في كتابه العلو:”قَالَ الإِمَام الْكَبِير أَبُو إِسْمَاعِيل عبد الله بن مُحَمَّد بن مت الْأنْصَارِيّ الْهَرَوِيّ صَاحب كتاب ذمّ الْكَلَام وَأَهله وَكتاب منَازِل السائرين فِي التصوف فِي كتاب الصِّفَات لَهُ بَاب إِثْبَات إستواء الله على عَرْشه فَوق السَّمَاء السَّابِعَة بَائِنا من خلقه من الْكتاب وَالسّنة فساق حجَّة من الْآيَات والْحَدِيث” إِلَى أَن قَالَ:”وَفِي أَخْبَار شَتَّى أَن الله فِي السَّمَاء السَّابِعَة على الْعَرْش بِنَفسِهِ وَهُوَ ينظر كَيفَ تَعْمَلُونَ وَعلمه وَقدرته واستماعه وَنَظره وَرَحمته فِي كل مَكَان”. انتهى
ونقل الذهبي عنه في السير أنه قال:” ألعن من لم يعتقد أن الله في السماء”. انتهى
واحتج به أيضا ابن قيم الجوزية في اجتماع جيوشه حيث أنه استشهد بالبقر لتقرير عقيدة التجسيم واستدل لأجل ذلك بحديث مكذوب فقال ما نصه: ” ذكر شيخ الإسلام الهروي بإسناده عن عبد اللّه بن وهب قال: ” أكرموا البقر فإنها لم ترفع رأسها إلى السماء منذ عبد العجل حياء من اللّه عز وجل”. انتهى
وقد ذكر أبو اسماعيل الهروي أنه سأل شيخه يحيى بن عَمَّار عن الحافظ ابن حِبّان فحكى له أنه طرده من سِجِسْتان لأنه كان ينكر الحد لله. وهذه القصة نقلها الذهبي في السير و التاج السبكي في طبقات الشافعية 3/132 عند ترجمة ابن حبَّان – طبعة البابي – فقال: ” فاعلم أن أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الهَروي ، الذي تُسمِّيه المجسِّمةُ: شيخَ الإسلام ، قال: سألتُ يحيى بن عَمَّار عن ابن حِبّان ، قلتُ : رأيتَه ؟ قال : كيف لم أره ؟! ونحن أخرجناه من سِجِسْتان ، كان له علم كثير ، ولم يكن له كبيرُ دين ، قَدِم علينا ، فأنكر الحدَّ لله ! فأخرجناه مِن سجستان . انتهى
والهروي قد ذكر هذه القصة عن شيخه كالمقر له. ولأبي اسماعيل ضلالات أخرى في العقائد نبه عليها خاصة أتباعه من المجسمة، من ذلك ما قاله ابن أبي العز الحنفي في شرحه على الطحاوية صحيفة 313 – تحقيق: أحمد شاكر، طبعة ما يسمى وزارة الشؤون الإسلامية، سنة 1418 هـجري – حيث قال: “وقال صاحب منازل السائرين : الرجاء أضعف منازل المريد، وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد”. انتهى
وقال ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: “وهؤلاء العراقيون أعلم بأقوال أحمد من المنتسبين إلى السنة والحديث من أهل خراسان الذين كان ابن منده وأبو نصر وأبو إسماعيل الهروي وأمثالهم يسلكون حذوهم”. انتهى
وكلام ابن تيمية فيه ما فيه من غمز في عقيدة أبي اسماعيل الهروي و مرتبته في الحديث، ومع ذلك نجده يحتج به في بعض كتبه كالاستقامة وغيره، وهذا من جملة تناقضات هذا الحراني.
وقال ابن تيمية أيضا : “وأما من جعل حكمه مجرد القدر كما فعل صاحب ” منازل السائرين ” وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع”. انتهى
2- قوله بأن كلام الله حال في المصحف
من مخالفات أبي اسماعيل الهروي الاعتقادية قوله بحلول صفة الكلام في المصحف، فقد قال المجسم ابن تيمية في مجموع الفتاوى: “هل يقال : كلام الناس المكتوب حال في المصحف أو حال في قلوب حافظيه ونحو ذلك ؟ فمنهم طائفة نفت الحلول كالقاضي أبي يعلى وأمثاله وقالوا : ظهر كلام الله في ذلك ولا نقول : حل ; لأن حلول صفة الخالق في المخلوق أو حلول القديم في المحدث ممتنع . وطائفة أطلقت القول بأن كلام الله حال في المصحف كأبي إسماعيل الأنصاري الهروي – الملقب بشيخ الإسلام – وغيره وقالوا : ليس هذا هو الحلول المحذور الذي نفيناه . بل نطلق القول بأن الكلام في الصحيفة ولا يقال بأن الله في الصحيفة أو في صدر الإنسان كذلك نطلق القول بأن كلامه حال في ذلك دون حلول ذاته وطائفة ثالثة كأبي علي بن أبي موسى وغيره قالوا : لا نطلق الحلول نفيا ولا إثباتا لأن إثبات ذلك يوهم انتقال صفة الرب إلى المخلوقات ونفي ذلك يوهم نفي نزول القرآن إلى الخلق فنطلق ما أطلقته النصوص ونمسك عما في إطلاقه محذور لما في ذلك من الإجمال”. انتهى
فالصنف الأول الذين ذكرهم ابن تيمية نفوا لفظ الحلول لما يرون من صراحته ووضوحه ففروا إلى لفظ آخر وهو الظهور. والصنف الثالث خافوا من اللفظين معا فتوقفوا نفيا و اثباتا. أما الهروي فقد كان يقول بأن عين كلام الله القديم يحل في المصحف و يظهر فيه.
و الصواب عند أهل الحق الأشاعرة بأن كلام الله الذي هو صفة ذاته لا يصح وصفه بالحلول ولا بالظهور في شيء ولا بالخلق أو الحدوث، فلا يوصف إلا بالقدم. وقد وافقهم على ذلك شيخ المجسمة ابن تيمية حيث قال في مجموع الفتاوى: “وإذا نفى الحلول وأراد به أن صفة الموصوف لا تفارقه وتنتقل إلى غيره فقد أصاب في هذا المعنى ; لكن عليه مع ذلك أن يؤمن أن القرآن العربي كلام الله تعالى وليس هو ولا شيء منه كلاما لغيره ولكن بلغته عنه رسله وإذا كان كلام المخلوق يبلغ عنه مع العلم بأنه كلامه حروفه ومعانيه ومع العلم بأن شيئا من صفاته لم تفارق ذاته فالعلم بمثل هذا في كلام الخالق أولى وأظهر والله أعلم”. انتهى
3- ذكر عداوته للإمام أبي الحسن الأشعري و بيان كذبه عليه
لقد كان أبو اسماعيل الهروي عدوا لدودا للإمام أبي الحسن الأشعري، فقد قال الإمام تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى جزء 4 صحيفة 273 ما نصه: “وكان يلعن شيخ السنة أبا الحسن الأشعري” انتهى
والعروب لم يعرف قط أبا الحسن الأشعري، فقد قال الذهبي في السير عند ترجمة أبي اسماعيل الهروي نقلا عن محمد بن طاهر أنه قال: “سمعت خادمه أحمد بن أميرجه يقول : حضرت مع الشيخ للسلام على الوزير نظام الملك ، وكان أصحابنا كلفوه الخروج إليه ، وذلك بعد المحنة ورجوعه إلى وطنه من بلخ قال : فلما دخل عليه أكرمه وبجله ، وكان هناك أئمة من الفريقين ، فاتفقوا على أن يسألوه بين يدي الوزير ، فقال العلوي الدبوسي : يأذن الشيخ الإمام أن أسأل ؟ قال : سل . قال : لم تلعن أبا الحسن الأشعري ؟ فسكت الشيخ ، وأطرق الوزير ، فلما كان بعد ساعة ; قال الوزير : أجبه . فقال : لا أعرف أبا الحسن ، وإنما ألعن من لم يعتقد أن الله في السماء ، وأن القرآن في المصحف ، ويقول : إن النبي – صلى الله عليه وسلم – اليوم ليس بنبي “. انتهى
4- ذمه للأشاعرة
لقد كان أبو اسماعيل الهروي يصرح بلعن أهل السنة الأشاعرة و قد شحن كتبه في وصفهم بعبارات الفُسَّاق والمُجَّان والتي خرج بها عن حدود الأدب. فقد قال التاج السبكي في طبقات الشافعية ما نصه:”وإنما أعتقد أنه يعتقد التشبيه وأنه ينال من الأشاعرة وأن ذلك بجهله بعلم الكلام وبعقيدة الأشعرية فقد رأيت أقواما أتوا من ذلك”. انتهى
و قال ابن أبي يعلى طبقات الحنابلة :” وَكَانَ شديدا عَلَى الأشعرية وَكَانَ بينه وبين عبد الرحمن بْن منده مكاتبة”. انتهى
وذكر شيخ المجسمة ابن تيمية في مجموع الفتاوى 8/230 أن الهروي كان يبالغ في ذم الأشعرية ونص عبارته: “… كأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ ذَمِّ الْكَلَامِ ، فَإِنَّهُ مِنْ الْمُبَالِغِينَ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ ؛ وَلَهُ كِتَابٌ فِي تَكْفِيرِ الْجَهْمِيَّة ؛ وَيُبَالِغُ فِي ذَمِّ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَقْرَبِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ إلَى السُّنَّةِ ؛ وَرُبَّمَا كَانَ يَلْعَنُهُمْ”. انتهى
وفي كلام ابن تيمية ما يدل على صحة قول التاج السبكي في الهروي و أنه كان يذم الأشاعرة لجهله بعقيدتهم.
و قد بلغ به الأمر إلى أن ترك أخذ العلم عن شيخه الحيري لكونه أشعريا كما ذكر ذلك الذهبي في السير: ” قال المؤتمن : كان يدخل على الأمراء والجبابرة ، فما يبالي ، ويرى الغريب من المحدثين ، فيبالغ في إكرامه ، قال لي مرة : هذا الشأن شأن من ليس له شأن سوى هذا الشأن – يعني طلب الحديث – وسمعته يقول : تركت الحيري لله . قال : وإنما تركه ، لأنه سمع منه شيئا يخالف السنة. قلت : كان يدري الكلام على رأي الأشعري ، وكان شيخ الإسلام أثريا قحا ، ينال من المتكلمة ، فلهذا أعرض عن الحيري ، والحيري : فثقة عالم ، أكثر عنه البيهقي والناس”. انتهى
و قال التاج السبكي: “وترك الرواية عن شيخه القاضي أبي بكر الحيري لكونه أشعريًا وكل هذا تعصب زائد برأنا الله من الأهواء”. انتهى
و أبو بكر الحيري قد أثنى عليه الحاكم ، وفخم أمره، و قال عنه الذهبي في السير: ” الإمام العالم المحدث ، مسند خراسان ، قاضي القضاة ، أبو بكر ، أحمد بن أبي علي الحسن بن الحافظ أبي عمرو أحمد بن محمد بن أحمد بن حفص بن مسلم بن يزيد ، الحرشي الحيري النيسابوري الشافعي ، وجده هو سبط أحمد بن عمرو الحرشي.” انتهى
وقال: ” وكان من أصح أقرانه سماعا ، وأوفرهم إتقانا ، وأتمهم ديانة واعتقادا . صنف في الأصول والحديث”. انتهى
وقد آل الأمر بهذا المجسم المتصوف إلى تكفير أهل السنة الأشاعرة و بوّب في كتابه “ذم الكلام” باباً قال فيه:” باب تكفير الأشعرية”. انتهى
و قال الإمام تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى جزء 4 صحيفة 272 ما نصه: “وقد بالغ في كتابه ذم الكلام حتى ذكر أن ذبائح الأشعرية لا تحل”. انتهى
ومع هذا الذي نقله الهروي المجسم من عدم حل ذبائح الأشعرية إلا أنه مدح أكبر أشعري في عصره وهو الوزير نظام الملك والعالم الأشعري الكبير باني المدارس النظامية الأشعرية التي تنسب إليه ، مدحه بقصيدة ذكرها علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي المتوفى سنة 467
هجري في دمية القصر وعصرة أهل العصر منها:
بجاهك أدرك المظلوم ثاره ويمنك شاد باني العدل داره
وقبلك هنئ الوزراء حتى نهضت بها فهنئت الوزارة
ومع شدة بغض الهروي للأشاعرة وتفسيقه لهم فقد جعله شيخ المجسمة ابن تيمية في زمرتهم حيث قال في مجموع الفتاوى: “المحبة الشركية البدعية هي التي أوقعت هؤلاء في أن آل أمرهم إلى أن لا يستحسنوا حسنة ولا يستقبحوا سيئة ؛ لظنهم أن الله لا يحب مأمورا ولا يبغض محظورا فصاروا في هذا من جنس من أنكر أن الله يحب شيئا ويبغض شيئا كما هو قول الجهمية نفاة الصفات وهؤلاء قد يكون أحدهم مثبتا لمحبة الله ورضاه وفي أصل اعتقاده إثبات الصفات لكن إذا جاء إلى القدر لم يثبت شيئا غير الإرادة الشاملة وهذا وقع فيه طوائف من مثبتة الصفات تكلموا في القدر بما يوافق رأي جهم والأشعرية فصاروا مناقضين لما أثبتوه من الصفات كحال صاحب ” منازل السائرين ” وغيره”. انتهى
5- ووصفه للأشاعرة بالمخانيث
كان أبو اسماعيل الهروي يقول بأن الأشعرية هم”مخانيث المعتزلة”. وهذه العبارة نقلها عنه ابن تيمية الحراني في ما يسمى بمجموع الفتاوى 8/227 مقرًا له بذلك. و نقلها من بعده أتباعه من المجسمة ورفعوها شعار في مناظراتهم ضد أهل السنة الأشاعرة المنافحين والذابين عن الدين. ولا ندري متى أصبح المجسمة أفراخ السامرة يرفعون شعارات من يطلقون عليهم صوفيين قبوريين؟
ولو صح عندهم أن الأشعرية مخانيث المعتزلة، وقد كذبوا في ذلك فقد صح عند غيرهم أن المجسمة مخانيث الكرامية، فقد جددوا أقوالهم وانتصروا لها ، وهم عبدة الشاب الامرد فهم المخانيث تبعا لمعبودهم.
ويكفي في الرد على هؤلاء ما قاله الإمام ابن السبكي في “طبقات الشافعية الكبرى” 6/ 144 ـ 145:”ويعجبني من كَلَام الشَّيْخ كَمَال الدّين بن الزملكاني فِي رده على ابْن تَيْمِية قَوْله:”إِن كَانَت الأشاعرة الَّذين فيهم القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني والأستاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفرايني وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ وهلم جرا إِلَى الإِمَام فَخر الدّين مخانيث فَلَيْسَ بعد الْأَنْبِيَاء وَالصَّحَابَة فَحل” انتهـــى
وقال الغزالي في إحياء علوم الدين في معرض رده عن شبه بعض المجسمة :” فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا فما أراك إلا
مخنثاً بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه مذبذباً بين هذا وذا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فكيف نزهت ذاته وصفاته تعالى عن الأجسام وصفاتها ونزهت كلامه عن معاني الحروف والأصوات وأخذت تتوقف في يده وقلمه ولوحه وخطه”. انتهى
ابن بطة العكبري المُتوفى سنة 387 هجري
هو عبيد الله بن محمد العكبري من أهل عكبر مولدا ووفاة. والده هو أبو بكر محمد بن محمد بن حمدان العكبري. ذكره الصفدي في الوافي بالوفايات ولم يتناوله بجرح أو تعديل.
يعود نسب ابن بطة إلى عتبة بن فرقد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. رحل إلى مكة و الثغور و البصرة و غيرها في طلب الحديث, ثم لزم بيته أربعين سنة, فصنف كتبه وهي تزيد على مائة, منها ” الشرح و الإبانة على أصول السنة و الديانة, ” و “التفرد و العزلة”.
1- كتاب الإبانة الكبرى
هذا الكتاب طبع بعضه و المجلد الأخير منه مفقود وهو يحتوي على طامات كثيرة, فزيادة عن التجسيم و التشبيه الذي فيه فإن هذا الكتاب فيه تجاوزات كثيرة منها:
1- الطعن في الإمام الأكبر أبي حنيفة: فقد أورد ابن بطة بعض النصوص في هذا الغرض و بعضها فيها رمي للإمام بالكفر. وقد ذكر الوهابي يوسف بن عبد الله بن يوسف الوابل في تحقيقه على كتاب الإبانة في باب الرد على الجهمية – المجلد الأول, طبعة دار الراية سنة 1415 هجري- صحيفة 173 ذلك وحاول تبرير كلامه بقوله: ” و لعل المؤلف قد تأثر بما كتبه بعض علماء السلف في الإمام أبي حنيفة و خاصة ما أورده عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه السنة’ فقد عقد عبد الله في كتابه هذا بابا بعنوان ” ما حفظت عن أبي و المشايخ في أبي حنيفة” انتهى
ثم قال الوابل في الصحيفة 184 بعد ذكره لبعض المقالات في الطعن في أبي حنيفة ما نصه:” وكل هذه الأقوال في سندها مقال و لا تصح عن السلف, و المعول عليه ما ذكره علماء الجرح و التعديل في الإمام أبي حنيفة, فقد أثنوا عليه و بينوا فضله و فقهه و اتباعه للكتاب و السنة”. انتهى
2- ايراده لبعض الأحاديث الضعيفة .قال يوسف الوابل في تحقيقه على كتاب الإبانة في باب الرد على الجهمية – المجلد الأول, طبعة دار الراية سنة 1415 هجري- صحيفة 178 في معرض كلامه عن مآخذاته على الكتاب: “ايراده لبعض الأحاديث الضعيفة ليستشهد بها على أن من قال القرآن مخلوق فهو كافر كما في ( 51- 238) وقد تكلمت على ذلك في التحقيق”. انتهى
3- ايراده لبعض المنامات التي لا يُحتج بها. قال الوابل في تحقيقه على كتاب الإبانة في باب الرد على الجهمية – المجلد الأول, صحيفة 178 في معرض كلامه عن مآخذاته على الكتاب:”ذكره لبعض المنامات لبيان سوء خاتمة من قال بخلق القرآن كما في الأرقام التالية 344-358- 359….و المنامات لا يحتج بها في العقيدة و لا في الشريعة”. انتهى
2- بيان الرؤى المنامية التي ذُكرت فيه
قال ابن الجوزي الحنبلي في المنتظم جزء 7 صحيفة 164: “أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي عن أبي محمد الحسن بن علي الجوهري قال: سمعت أخي عبد الله الحسين بن علي يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله قد اختلفت علينا المذاهب فبمن نقتدي؟ فقال لي عليك بأبي عبد الله ابن بطة. فلما أصبحت لبست ثيابي وأصعدت إلى عكبرا فدخلت إليه، فلما رآني تبسم وقال: صدق رسول الله. صدق رسول الله. صدق رسول الله. يقولها ثلاثاً” انتهى
و هذا ليس فيه حجة لاثبات حسن معتقد ابن بطة لأن الرؤى المنامية لا يُؤخذ منها حكم شرعي يُعمل به كما قال العلماء لجواز وقوع الخلل في سمع الرائي أو حصول التباس في فهم كلام الرسول صلى الله عليه و سلم. واعتقاد التجسيم كفر باتفاق أهل السنة و الجماعة فلا يرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
3- ما ذُكر عنه من استجابة الدعاء
ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد جزء 12 صحيفة 106 و ابن الجوزي في المنتظم أن ابن بطة كان مستجاب الدعاء ونص عبارة ابن الجوزي:” اخبرنا القزاز اخبرنا احمد بن على اخبرنا العتيقى قال كان ابن بطة شيخا صالحا مستجاب الدعوة ” انتهى
و هذا ليس لهم فيه حجة للمجسمة على صحة اعتقاده و حسن سريرته و جواب ذلك يُؤخذ من كلام شيخهم الحراني الذي قال في كتابه المسمى إقتضاء الصراط المستقيم: “وأما إجابة الدعاء فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدق التجائه وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له وقد يكون أمرا قضاه الله لا لأجل دعائه وقد يكون له أسباب أخرى وإن كانت فتنة في حق الداعي فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون وينصرون ويعافون”. انتهى
وقد ذكر شيخ الاسلام الأصولي الفقيه تقي الدين السبكي أن ابن بطة على تقدير صحة ما يُذكر عنه فلا يستحيل عنه الوقوع في الخطإ، فقال في شفاء السقام: “وحكى – أي الخطيب – مع ذلك أيضا: أنه كان شيخا صالحا مستجاب الدعوة، فالله تعالى يسلمنا من إثمه. وإنما أردنا أن نبين حاله ليعلم الناظر: أنه على تقدير صحة النقل عنه ليس ممن يبعد في كلامه الخطأ”. انتهى
4- ذكر من أثنى على علمه و فقهه و زهده و لم يوثقه.
كثيرا ما يثني العلماء على شخص لتبحره في علم من العلوم أو لكثرة اطلاعه أو لما اشتهر به من حسن السلوك و زهد في الدنيا لكنهم لا يوثقونه في الرواية و الحديث لضعفه في هذا الفن، وهذا حال ابن بطة العكبري فقد ترجمه بعض العلماء و مدحوه لوفرة علمه:
– قال أبو سعد السمعاني: “كان إماما فاضلا عالما بالحديث وفقهه، أكثر من الحديث وسمع جماعة من أهل العراق، وكان من فقهاء الحنابلة، صنف التصانيف الحسنة المفيدة”. انتهى
– قال أبو فتحٍ القواس: “ذكرت لأبي سعد الإسماعيلي ابن بطة وعلمه وزهده، فقال: شوقتني إليه. فخرج مع أولاده وأهله ،فلما رجع جئت لأسلم عليه فقال لي: أول ما رآني الرجل الذي ذكرت لي رأيته فوق الوصف”. انتهى
– قال الحافظ أبو مسعود أحمد البجلي: “أحببت الحنبلية مُذ رأيت أبا عبد الله بن بطة”. انتهى
– قال عبد الواحد بن علي العكبري: “لم أر في شيوخ الحديث ولا في غيرهم أحسن هيئة من ابن بطة رحمه الله”. انتهى
– قال ابن كثير في البداية والنهاية: “وأثنى عليه غير واحد من الأئمة وكان ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر “. انتهى
– كما ذكره أبو محمد الحسن بن علي الجوهري في رؤياه المنامية ولم يصرح بتوثيقه في رواية الحديث.
– كما أثنى عليه تلميذه أبو علي الحسن بن شهاب بن الحسن العكبري بقصيدة رثائه تفرد بذكرها ابن أبي يعلى و ساقها بلا سند منها قوله:
هيهات ليس إلى السلو سبيل … فليكتفنك تفجع وعويل
موت ابْن بطة ثلمة لا يرتجى … لمسدها شكل له وعديل
وابن شهاب لم يوثق ابن بطة في الرواية لأنه كان قد وقف على ادعاءه سماع كتاب السنن لرَجَاء بن مُرَجَّا. وقد ذكر السمعاني أن ابن شهاب كان قد سمع الحديث على كبر في السن.
– تلميذه أحمد بن محمد العتيقي: كان يصفه بالشيخ الصالح وباستجابة الدعاء ولم يوثقه أيضا في رواية الحديث.
– الحافظ أبو الفرج بن الجوزي، حيث ذَبَّ عنه ذَبّاً قويًا في ترجمته في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم و لم يوثقه في الرواية. ومما قاله عنه: “اخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز اخبرنا احمد بن على بن ثابت قال حدثنى القاضى ابو حامد احمد بن محمد الدلوى قال لما رجع ابو عبد الله ابن بطة من الرحلة لازم بيته اربعين سنة فلم ير منها فى سوق ولا روئى مفطرا الا فى يومى الاضحى والفطر وكان امارا بالمعروف ولم يبلغه خبر منكر الا غيره او كما قال”. انتهى
5- ذكر من اعتمده في الرواية
أكثر الذين اعتمدوا على ابن بطة في الرواية هم مجسمة الحنابلة لأنه موافق لهم في معتقدهم الباطل ومنهم: القاضي أبو يعلى الفراء الحنبلي و أبي الحسين بن أبي يعلى الذي ترجم له في طبقاته ونقل عنه روايات كثيرة من طريق جده أبي القاسم علي البندار بن أحمد بن البسري وهو آخر من روى عن ابن بطة بالإجازة. كما اعتمده أبو الحسن علي بن نصر بن عبيد الله بن الزاغوني الذي رد عليه تلميذه ابن الجوزي في كتاب دفع شبه التشبيه. و احتج بروايته أيضا المجسم الحنبلي أبو القاسم بن الفراء و محمد بن أبي القاسم الدشتي صاحب كتاب الحد و شيخ المجسمة ابن تيمية و تلميذه ابن قيم الجوزية و المجسم ابن أبي العز الحنفي.
6- بيان تعصب ابن الجوزي على الخطيب البغدادي دفاعا على ابن بطة
لقد انتصر ابن الجوزي الحنبلي لابن بطة لما بلغه عنه أنه كان حنبليا زاهدا صاحب علم وافر، و أنه آمر بالمعروف ناه عن المنكر، فحاول دفع كل التهم التي الصقت به. ولو وقف رحمه الله على مقالات ابن بطة في التجسيم لهجره و حذر منه كما فعل مع القاضي أبي يعلى و ابن الزغواني و غيرهما.
ثم إن الخطأ في ترجمة شخص طعنا أو انتصارا له أهون بكثير من الخطإ في باب الصفات، و الحمد لله الذي وفق هذا الحنبلي الفاضل للمعتقد الحق وجنبه روثة التجسيم التي التصقت بأغلب الحنابلة.
وقد تصدى ابن الجوزي في المنتظم للخطيب البغدادي ورد عليه كل ما قاله في ابن بطة ظنا منه أنه كان ينتصر للأشاعرة ضد الحنابلة.
قال عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني في التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل: ” ذكر الخطيب في تاريخه ابن بطة وحكى أشياء انتقدت عليه في الرواية فتعقبه ابن الجوزي في المنتظم وأنحى باللائمة على الخطيب”. انتهى
وقال ابن الجوزي في المنتظم: “وقد تعصب له الخطيب بعد ان نقل عن مشائخه الاكابر مدحه فغمزه بأشياء”. انتهى
وقد أفرد ابن الجوزي كتاباً في الدفاع عن ابن بطة ضد اتهامات الخطيب سماه: ” الانتصار لشيخ السنة أبي عبد الله محمد بن بطة الحنبلي عما ذكره الخطيب البغدادي من التطفيف كعادته في حق الحنبلية بل و الحنفية ” ذكره محمد بن سليمان الروداني في صلة الخلف بموصول السلف وقال: “تأليف أبي الفرج بن الجوزي به إلى الجلال السيوطي عن أحمد بن ابراهيم بن نصر الله الحنبلي عن الزين أبي بكر بن الحسين المراغي عن محمد بن محمد الميدومي عن النجيب عبد اللطيف الحراني عن ابن الجوزي”. انتهى
ولعل الروداني نقل اسم الكتاب مباشرة من المخطوط الذي كتب عليه اسم ابن بطة محرفا لأن الصواب عبيد الله بن محمد وليس أبا عبد الله محمد بن بطة.
وقد صنف ابن الجوزي كتابين آخرين في الرد على الخطيب, الأول سماه السهم المصيب في بيان تعصب الخطيب ذكره الصفدي في الوافي بالوفيات و الثاني درء اللوم والضيم في صوم يوم الغيم ذكره يوسف ابن عبد الهادي في جمع الجيوش حيث قال: ” وقد كان الخطيب كثير العصبية على أصحابنا؛ حتى أنه تكلم في نفس الإمام أحمد، ورد عليه في عدة مسائل، وشنع على جماعة من أصحابه، وجرح جماعة من أصحابه، وقد أنصف فيه ابن الجوزي في كتابه “السهم المصيب في تعصب الخطيب” وفي كتابه “درء اللوم والضيم”، وغير ذلك بما فيه كفاية”.انتهـى
وليعلم أن كلام الخطيب و نقده للعلماء مردود إذا كان نقلا من غير دليل أو برهان كما فعل في ترجمة أبي حنيفة فرد عليه لأجل ذلك الشيخ محمد زاهد الكوثري في “تأنيب الخطيب لما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب”، وهو مقبول إذا كان بحجة و بينة كحال ابن بطة الذي ثبت وهمه في رواية الأحاديث و ادعاء سماع ما لم يسمع عند أهل هذا الفن كالحافظ المحدث تقي الدين السبكي، حيث قال في شفاء السقام: “وقد ذكر الخطيب، ابن بطة في تأريخ بغداد وحكى كلام المحدثين فيه من جهة دعوى سماع ما لم يسمع، وقول أبي القاسم الأزهري فيه: إنه ضعيف، ضعيف، ضعيف، ليس بحجة وذكر عنه، عن البغوي، عن مصعب، عن مالك، عن الزهري، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” وقال: إنه باطل من حديث مالك ومن حديث مصعب عنه، ومن حديث البغوي عن مصعب، وهو موضوع بهذا الإسناد، والحمل فيه على ابن بطة، هكذا قال في التاريخ”. انتهى
و ابن الجوزي نفسه قد أثنى على الخطيب و على علمه حيث قال في المنتظم عند أول ترجمته: “وقد حج في تلك السنة أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّد بْن سلامة القضاعي ، فسمع منه – أي الخطيب -، وقرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد المروزية في خمسة أيام، ورجع إلى بغداد، فقرب من أبي القاسم ابن المسلمة الوزير، و كان قد أظهر بعض اليهود كتابا وادعى أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة، وأن خط علي بن أبي طالب فيه، فعرضه رئيس الرؤساء ابن المسلمة على أبي بكر الخطيب، فقال هذا مزور. قيل: من أين لك؟ قَالَ: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخيبر كانت في سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ وكان قد مات يوم الخندق. فاستحسن ذلك منه”. انتهى
وقال:” وكان حريصا على علم الحديث، وكان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه، وكان حسن القراءة، فصيح اللهجة، وعارفا بالأدب، يقول الشعر الحسن.”انتهى
كما أثنى على مصنفاته فقال : “ثم عاد إلى بغداد في سنة اثنتين وستين، وأقام بها سنة ثم توفي، فروى «تاريخ بغداد» و «سنن أبي داود» وغير ذلك، وانتهى إليه علم الحديث ، وصنف فأجاد، فله ستة وخمسون مصنفا بعيدة المثل منها : “تاريخ بغداد» ، «وشرف أصحاب الحديث» ، و «كتاب الجامع لأخلاق الراويّ وآداب السامع» ، و «الكفاية في معرفة أصول علم الرواية» ، و «كتاب المتفق والمفترق» ، و «كتاب السابق واللاحق» ، و «تلخيص المتشابه في الرسم» ، و «كتاب باقي التلخيص» ، و «كتاب الفصل والوصل» ، والمكمل في بيان المهمل» ، و «الفقه والمتفقه» ، و «كتاب غنية المقتبس في تمييز الملتبس» ، و «كتاب الأسماء المبهمة والأنباء المحكمة» ، و «كتاب الموضح أوهام الجمع والتفريق» ، و «كتاب المؤتنف بكلمة المختلف والمؤتلف» ، و «كتاب لهج الصواب في أن التسمية من فاتحة الكتاب» ، و «كتاب الجهر بالبسملة» ، و «كتاب رافع الارتياب في المقلوب من الأسماء والألقاب» ، و «كتاب القنوت» ، و «كتاب التبيين لأسماء المدلسين» ، و «كتاب تمييز المزيد في متصل الأسانيد» ، و «كتاب من وافق كنيته اسم أبيه» ، و «كتاب من حدّث فنسي» ، و «كتاب رواية الآباء عن الأبناء» ، و «كتاب الرحلة» ، و «كتاب الرواة عن مالك» ، و «كتاب الاحتجاج عن الشافعي فيما أسند إليه والرد على الطاعنين بجهلهم عليه» ، و «كتاب التفصيل لمبهم المراسيل» ، و «كتاب اقتفاء العلم بالعمل» ، و «كتاب تقييد العلم» ، و «كتاب القول في علم النجوم» ، و «كتاب روايات الصحابة عن التابعين» ، و «كتاب صلاة التسبيح» ، و «كتاب مسند نعيم بن حماد» ، و «كتاب النهي عن صوم يوم الشك» و «كتاب الإجازة للمعدوم والمجهول» ، و «كتاب روايات السنة من التابعين» ، و «كتاب البخلاء”. فهذا الذي ظهر لنا من مصنفاته”. انتهى
ثم قال: “ومن نظر فيها عرف قدر الرجل وما هيئ له مما لم يتهيأ لمن كان أحفظ منه كالدارقطني وغيره”. انتهى
فهذا اعتراف صريح من ابن الجوزي أن كتب الخطيب كتاريخ بغداد و الجهر و غيره من أجل التصانيف و دليل على علو كعبه في العلوم الحديثية و أنه كان يُقارن بالدارقطني كما ذكر ذلك فقيه عصره أبو إسحاق الشيرازي المتوفى سنة 476 هـجري حيث قال:” أبو بكر الخطيب يُشبَّه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه”. انتهى
فعلم بذلك أن قول ابن الجوزي في المنتظم: “وكان في الخطيب شيئان أحدهما: الجري على عادة عوام المحدثين في الجرح والتعديل، فإنهم يجرحون بما ليس يجرح، وذلك لقلة فهمهم، والثاني: التعصب على مذهب أحمد وأصحابه، وقد ذكر في كتاب «الجهر» أحاديث نعلم أنها لا تصح، وفي كتاب «القنوت» أيضا، وذكر في مسألة صوم يوم الغيم حديثا يدرى أنه موضوع فاحتج به، ولم يذكر عليه شيئا، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَوَى حَدِيثًا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الكاذبين. وقد كشفت عن جميع ذلك في كتاب التحقيق في أحاديث التعليق”. انتهى
هو من باب التعصب للحنابلة و القدح في الأشاعرة، و أن الصواب ما قاله السمعاني المتوفى سنة 562هـجري عن الخطيب في مختصر ذيل تاريخ بغداد: ” الخطيب في درجة القدماء من الحفّاظ والأئمّة الكبار كيحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، وأحمد بن أبي خيثمة ، وطبقتهم ، وكان علاّمة العصر ، اكتسى به هذا الشأن غضارة وبهجةً ونضارة، وكان مهيبا وقوراً، نبيلاً خطيراً، ثقة صدوقاً، متحريا، حجة فيما يصنفه ويقوله وينقله ويجمعه، حسن النقل والخط، كثير الشكل والضبط، قارئاً للحديث فصيحاً وكان في درجة الكمال والرَّتبة العليا خلقا وخُلقا وهيئة ومنظراً، انتهى إليه معرفةُ علم الحديث وحفظه وختم به الحفاظ”. انتهى
و قال العلامة علي بن هبة الله العجلي المعروف بابن ماكولا المتوفى سنة 475 هـجري : “كان آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة واتقانا، وحفظا وضبطا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفننا في علله وأسانيده، وخبره برواته وناقليه، وعلماً بصحيحه وغريبه، وفرده ومنكره، وسقيمه ومطروحه، ولم يكن للبغداديين بعد أبي الحسن علي بن عمر الدار قطني من يجري مجراه ولا قام بعده بهذا الشأن سواه”. انتهى
وأما قول ابن الجوزي في المنتظم : “وتعصبه على ابن المذهب ولأهل البدع مألوف منه، وقد بان لمن قبلنا. فأنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، عن أبيه قَالَ: سمعت إسماعيل بن أبي الفضل القومسي وكان من أهل المعرفة بالحديث يقول: ثلاثة من الحفاظ لا أحبهم لشدة تعصبهم وقلة إنصافهم: الحاكم أبو عبد الله، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر الخطيب”. انتهى
فهو خبر مكذوب عن إسماعيل بن أبي الفضل القومسي، نقله ابن الجوزي من طريق أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي الذي قال عنه ابن النجار: “وكان تاجرا لا يفهم شيئا من العلم ، وكان شيخا صالحا ، حمل جميع كتب والده وكانت كلها بخطه إلى الحافظ أبي العلاء العطار ، ووقفها ، وسلمها إليه”. انتهى
وقال الذهبي في السير: ” قال أبو عبد الله الدبيثي : “توفي في ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة بهمذان . ثم قال : وما كان يعرف شيئا”. انتهى
وقول ابن الجوزي: “وتعصبه على ابن المذهب ولأهل البدع مألوف منه” يريد به أهل السنة الأشاعرة بدليل قوله بعد ذلك: “والآخران – أي الخطيب و أبو نعيم- كانا يتعصبان للمتكلمين والأشاعرة”. انتهى
وبدليل قوله أيضا: ” وانفق الخطيب يبهرج اذا شاء بعصبية باردة فانه اذا ذكر المتكلمين من المبتدعة عظم القوم وذكر لهم ما يقارب الاستحالة فانه ذكر عن ابن اللبان انه قال حفظت القرآن ولي خمس سنين “. انتهى
فإن كان ابن الجوزي قد وصف الأشاعرة بالبدعة فإن هؤلاء الذين ينتسبون لمذهبه قد وصفوه هو بالبدعة و تبرؤوا منه، فقد قال ابن رجب في ” ذيل طبقات الحنابلة ” في معرض ذكر كلام الناس فيه: “ومنها وهو الذي من أجله نقم جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم من المقادسة والعلثيين، من ميله إلى التأويل في بعض كلامه، واشتد نكرهم عليه في ذلك، ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف، وهو إن كان مطلعاً على الأحاديث والآثار في هذا الباب، فلم يكن خبيراً بحل شبهة المتكلمين وبيان فسادها، وكان معظماً لأبي الوفاء ابن عقيل، يتابعه في أكثر ما يجد في كلامه، وإن كان قد رد عليه في بعض المسائل، وكان ابن عقيل بارعاً في الكلام، ولم يكن تام الخبرة بالحديث والآثار، فلهذا يضطرب في هذا الباب، وتتلون فيه آراؤه، وأبو الفرج تابعُ له في هذا التلون”. انتهى
كما أورد ابن رجب أيضا رسالة إسحاق العلثي المتوفى سنة 634 هـجري التي بعثها لابن الجوزي، قال فيها : “واعلم أنه قد كثر النكيُر عليك من العلماء والفضلاء ، والأخيار في الآفاق بمقالتك الفاسدة في الصفات”. انتهى
وقال: “فكيف يجوز أن تتبع المتكلمين في آرائهم، وتخوض مع الخائضين فيما خاضوا فيه، ثم تنكر عليهم ؟ هذا من العجب العجيب”. انتهى
وقال: “ولقد سوّدتَ وجوهنا بمقالتك الفاسدة ، وانفرادك بنفسك ، كأنك جبَّار من الجبابرة ، ولا كرامة لك ولا نُعْمى ، ولا نُمكنك من الجهر بمخالفة السنة ، ولو اُستقبل من الرأي ما استدبر: لم يُحك عنك كلام في السهل ، ولا في الجبل ، ولكن قدَّر الله ، وما شاء فعل”. انتهى
وقال الذهبي في السير 21 / 381 ما نصه : “وكتب إلي أبو بكر بن طرخان : أخبرنا الامام موفق الدين، قال: ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون، كان يصنف في الفقه، ويدرس، وكان حافظا للحديث، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة، ولا طريقته فيها، وكانت العامة يعظمونه، وكانت تنفلت منه في بعض الاوقات كلمات تنكر عليه في السنة، فيستفتي عليه فيها، ويضيق صدره من أجلها “. انتهـى
والصواب في هذا أن الحق مع أهل التنزيه و التوحيد من أشعرية و ماتوريدية و من وافقهم من فضلاء الحنابلة في الاعتقاد كابن الجوزي و غيره، و إن كان هو قد قدح فيهم بسبب الفتن و الخلافات الطويلة التي حصلت بين المنتسبين للحنابلة و الأشعرية و إلا فهو موافق لهم في باب الصفات يقول بمقالاتهم و لله المنة و الحمد.
و ابن اللبان الذي وصفه ابن الجوزي بالبدعة هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأصبهاني الأشعري المتوفى سنة 446 هـجري، من متقدمي الأشاعرة الذين فضلهم ابن تيمية على ابن الجوزي و شيخه ابن عقيل حيث قال في شرح العقيدة الأصفهانية: “وما في كتب الأشعري مما يوجد مخالفاً للإمام أحمد وغيره من الأئمة، فيوجد في كلام كثير من المنتسبين إلى أحمد كأبي الوفاء ابن عقيل وأبي الفرج ابن الجوزي وصدقة بن الحسين وأمثالهم ما هو أبعد عن قول أحمد والأئمة من قول الأشعري وأئمة أصحابه”. انتهى
وابن اللبان هو تلميذ الإمام الباقلاني وقد أخذ عنه بعض شيوخ الحنابلة كأبي يعلي بن الفراء ، وأبي مُحَمَّد التميمي علم الأصول خفية, فقد نقل الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري ما نصه: ” وسمعت بِبَغْدَادَ من يحكي : أن أبا يعلي بن الفراء ، وأبا مُحَمَّد التميمي شيخي الحنَابلة ، كان يقرآن على أَبِي مُحَمَّد بن اللبان الأصولي في داره ، وكل واحد منهما يخفي ذلك عن صاحبه ، فاجتمعا يوما في دهليزه ، فقال أحدهما لصاحبه : ما جاء بك ؟ فقال : الذي جاء بك . فقال : اكتم عَلَيَّ ، وأكتم عليك . واتفقا على أن لا يعودا إليه بعد ذلك ، خوفا أن يطلع عوامهم على حالهما في القراءة عليه “. انتهى
وأما قول ابن الجوزي عن الخطيب: “وكان أبو بكر الخطيب قديما على مذهب أحمد بن حنبل، فمال عليه أصحابنا لما رأوا من ميله إلى المبتدعة وآذوه، فانتقل إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه وتعصب في تصانيفه عليهم فرمز إلى ذمهم، وصرح بقدر ما أمكنه، فقال في ترجمة أحمد بن حنبل سيد المحدثين، وفي ترجمة الشافعي: تاج الفقهاء، فلم يذكر أحمد بالفقه”. انتهى
فالذين مالوا على الخطيب هم في الحقيقة ليسوا بأصحاب ابن الجوزي بل هم مجسمة الحنابلة الذين حارب هو معتقدهم في كتابه دفع شبه التشبيه. وهؤلاء لفرط غلوهم قاموا باذاية الخطيب البغدادي كما حكى ذلك ياقوت الحموي في ترجمته في كتاب معجم الأدباء، حيث قال: “سمع ببغداد شيوخ وقته، وبالبصرة، وبالدينور، وبالكوفة، ورحل إلى نيسابور في سنة خمس عشرة وأربعمائة حاجاً، فسمع بها، ثم قدمها بعد فتنة البساسيري، لاضطراب الأحوال ببغداد، فآذاه الحنابلة بجامع المنصور، سنة إحدى وخمسين، فسكنها مدة، وحدث بها بعامة كتبه ومصنفاته، إلى صفر سنة سبع وخمسين”. انتهى
فلا غرابة أن يرميه هؤلاء المجسمة بالبدعة لمخالفته عقيدتهم، وقد كان الخطيب رحمه الله يُترجم لهم ويذكر كلام أهل الجرح و التعديل فيهم بدون زيادة و لا تعصب.
