حكم منكر صفة القدرة لله عز وجل

حكم منكر صفة القدرة لله عز وجل

1- يان الفرق بين منكر الصفات الواجبة لله والصفات الخبرية قبل قيام الحجة

نقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي أن يونس بن عبد الأعلى روى عن الشافعي أنه قال: ” لله أسماء وصفات لا يَسَع أحدًا ردّها ومَن خالف بعد ثبوت الحجّة عليه فقد كفر. وأمّا قبل قيام الحجّة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرَّوِيّة والفكر.”

ومثله ذكره أبو طاهر السلفي في المشيخة البغدادية .

ومراد الشافعي بكلامه هذا أن صفات الله قسمان:

أ- قسم يدرك ثبوته لله بالعقل كالصفات الواجبة له عز وجل، وهي : القدرة والإرادة والسمع والبصر والعلم والكلام والحياة والوجود والقِدَم والوحدانية والمخالفة للحوادث والقيام بالنفس والبقاء.

ب- والقسم الثاني ما لا يدرك بالعقل والرَّوِيّة والفكر، وذلك كصفة اليد والوجه والعين، والاستواء… فهذه تدرك بالسماع، لا بالعقل.

فالقسم الأول يكفّر جاحده، مهما بلغ الجهل بصاحبه.

والقسم الثاني لا يكفّر جاحده قبل العلم بالحجّة لأنه يتعلق بالسمع بدليل قوله «لا يدرك بالعقل والرَّوِيّة والفكر».

وليس مراد الشافعي بقوله «يعذر بالجهل» ما كان من تلك الصفات الواجبة، فإنه يدرك ثبوته لله بالعقل والسمع، فمَن جهل شيئًا منها فنفى فلا عذر له فإنها شرط للألوهية.

فإذا عرف هذا علِمَ فساد قول بعض المدّعين للعلم أن الشافعي نفى الكفر عمّن جهل صفات الله على وجه يشمل الجهل بقدرة الله على كل شىء والعلم بكل شىء وسائر الصفات الواجبة لله، فإن هذا تخليط وجهل فظيع؛ فلا يلتفت لمن قال عمن جحد قدرة الله على كل شىء وعلمه بكل شىء أنه لا يكفّر بل يكون معذورًا إن كان جاهلاً.

فنصّ الشافعي يردّ ما يزعمه هؤلاء، و كلام الشافعي يبيّن أن مراده الأسماء والصفات التي لا يستدلّ على ثبوتها لله إلا بالنقل، لا بالعقل، فإن العقل لو لم يرد نص بذلك يدرك ثبوت القدرة الشاملة لله والعلم الشامل والإرادة الشاملة ووجوب السمع والبصر له على ما يليق به، وهكذا بقية الصفات الواجبة له عز وجل.

أما الوجه واليد والعين ونحوها مما ورد في النص إطلاقه على الله على أنها صفات لا جوارح فإن ذلك لا يدرك بالعقل.

ولنضرب لذلك مثلاً: شخص سمع إضافة اليد والعين إلى الله تعالى فأنكر لأنه لم يسمع بأن النص ورد بذلك فإنه لا يُكفّر بل يُعلّم أن هذا مما ورد به النص، فإن أنكر بعد علمه بورود النص في ذلك كفر.

2_ معنى حديث الرجلالذي أسرف على نفسه

ما رواه البخاريّ من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان رجُلٌ يُسْرِفُ على نفسِهِ فلمّا حضرَهُ الموتُ قال لِبَنيهِ إذا أنا مِتُّ فأحرِقوني ثم اطحنوني ثم ذُرُّوني فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذّبني عذابًا ما عذّبهُ أحدًا. فلما مات فُعلَ به ذلك فأمر اللهُ الأرض فقال اجْمَعي ما فيك منه ففعَلتْ فإذا هو قائمٌ فقال ما حَمَلَكَ على ما صنعتَ قال يا ربّ خَشيتُكَ فغفر له ». انتهى

فهذا الأثر فسّره علماء أهل السنة بما يوافق أصول الدين وقطعياته، ومنعوا حمله على الشّكّ في قدرة الله، لأن الذي ينكر قدرة الله على كل شئ مثله مثل الذي يُنكر علم الله بكل شئ

– قال ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر ما نصه: “نعم من اعتقد أن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها فهو كافر” انتهـى

فالشك في قدرة الله على كل شئ كفر، مخرج من الدين باتفاق السلف والخلف.

– قال الطحاوي في مشكل الآثار ما نصه: «قوله لبنيه: «فوالله لا يقدر علي رب العالمين» ليس من نفي المقدور عليه في حال من الأحوال، ولو كان ذلك كذلك لكان كافرًا ولما جاز أن يغفر له ولا أن يدخله جنته لأن الله تعالى لا يغفر لمن يشرك به”. انتهى

– قال المازري في المعلم بفوائد مسلم: ” لا يصح حمل هذا الحديث على أنه أراد بقوله: «قدَر عليَّ» من القدرة؛ لأنه من شكَّ في كون الباري سبحانه قادرًا عليه فهو كافر غير عارف به، وقد ذكر في آخر الحديث أن الله قال له: «ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتُك يا رب، أو مخافتُك» فغفر له بذلك، والكافر لا يخشى الله، ولا يغفر الله له”. انتهى

– قال النووي في شرح مسلم: «اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فقالت طائفة: لا يصحّ حمل هذا على أنه أراد نفي قدرة الله، فإنّ الشاكّ في قدرة الله تعالى كافر، وقد قال في ءاخر الحديث إنه إنما فعل هذا من خشية الله تعالى والكافر لا يخشى الله تعالى ولا يُغفر له. انتهى

– قال ابن حجر في فتح الباري: ” قال ابن قتيبة قد يغلط في بعض الصفات قوم من المسلمين فلا يكفرون بذلك وردَّه ابنُ الجوزيّ وقال جحدُ صفة القدرة كُفرٌ اتفاقًا” انتهـى

وقال الحافظ بعد ذكر تأويل العلماء للحديث:” وأبعد الأقوال قول من قال إنه كان في شرعهم جواز المغفرة للكافر”. انتهى.

وهذا يدل أن الشكَّ في قدرة الله كفرٌ إن كان من الجاهل أو من غيره فلو كان الجهل في ذلك عذرًا يمنع الكفر عن صاحبه لكان الجهل في سائر أمور الدين عذرًا يُسقط عن صاحبه العقوبةَ في الآخرة ومعنى ذلك أن الجهلَ خيرٌ من العلم.

ومن البيّن والواضح أن قدرة الله على كل شيء هي مسألة من أظهر عقائد الإيمان لأنها من خصائص الألوهية كعلمه بكل شيء.

فلا عذر لمن أنكر أصل صفة القدرة أو شك في شمولها وإحاطتها بكل شىء.

والصواب أن الحديثُ مُؤَوَّلٌ على وجوه كما ذكر علماء أهل السنة:

-الوجه الأول: بمعنى التضييق، فالرجلُ لم يكن شاكًّا في قدرة الله على كل شيء إنما قصدُهُ أنه إنْ عذَّبَهُ اللهُ في قبرهِ فسيضيّق عليه، ويعذبه عذابَا شديدا. فقد كان الرجل مسلمًا وكان نبّاشَ قُبورٍ يأخذُ الأكفانَ ويبيعُها لذلك خاف عند موته.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: ” وإنما قيل إن معنى قوله لئن قدر الله عليّ أي ضيّقَ وهي كقوله تعالى في سورة الطلاق: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيهِ رِزْقُهُ﴾أي ضُيّقَ”. انتهى

وهذا التأويل رده ابن العربي المالكي في القبس بشرح الموطأ وقال: “فمن الناس من قال: إن معنى: «لئن قدر الله عليَّ»، لئن ضيَّق الله عليَّ.، وهذا تأويل بعيد لوجهين:

أحدهما: أنه لو خاف التضييق ما ذرأ نصفه في البَرِّ ونصفه في البحر، ولَلَقَى الله كذلك.

الثاني: أن في بعض طرق الصحيح: «ذروا نصفي في البَرِّ، ونصفي في البحر لعلي أضل الله»، وهذا تصريح بنفي العلم الخفي عن البارئ، وتقصير القدرة عن جمع المفترق”. انتهى

وما قاله ابن عربي مردود من وجهين، أحدهما أن الرجل خاف تضييق الله عليه في قبره لذلك طلب أن يذرأ نصف في البر ونصفه في البحر، ظن أن ذلك ينجيه من عذاب القبر. الثاني وأما قوله: «لعلّي أضلّ الله» فمعناه لعلي أفوته، ومن الجائز أنه قال ذلك عن سبق لسان لا أنه كان ينكر القدرة.

ثم إن ابن العربي فسر الحديث بأن الرجل كان من أهل الفترة فقال: ” والصحيح عند في تأويل هذا الحديث أن الرجل كان مؤمنا بشرع من قبله في زمن الفترة وعند تغير الملل ودروسها”. انتهى

وأهل الفترة لم يُرسل لهم رسول وبالتالي فهم غير معذبين في الآخرة.

-الوجه الثاني: قدَّرَ بتشديد الدال، أي لو قدّر الله عليه العذاب لعذبه عذابا شديدا . قال المازري في المعلم: ” فإذا ثبت أنه لا يصح حمل الحديث على هذا المعنى، فيحمل على أحد وجهين: إما أن يكون المراد به «لئن قدَر عليَّ» بمعنى: قدَّر عليَّ العذاب، يقال: قدَر وقدَّر بمعنى واحد.

أو يكون أراد «قدر عليَّ» بمعنى: ضيَّق عليَّ، قال الله تعالى: “فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ” – الفجر: 16- ، وهكذا القول في قوله تعالى: “فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ” الأنبياء”. انتهى

و قال أبو الحجاج مجاهد بن جبر المتوفى سنة 100 هـجري عند تفسير قوله تعالى: “فظن أن لن نقدر عليه”، أي فظن أن لن نعاقبه بذنبه. نقله الطبري في جامع البيان عن تأويل آي القرآن و ابن أبي حاتم الرازي في تفسيره والبيهقي في الأسماء والصفات.

– الوجه الثالث: الرجل من شدة فزعه، سبق لسانه، فقال ذلك من غير قصد.

قال الحافظ ابن حجر: ” ولعل هذا الرجل قال ذلك من شدة جزعه وخوفه كما غلط ذلك الآخر فقال: أنت عبدي وأنا ربك”. انتهى

ثم قال: “وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول ولم يقله قاصدًا لحقيقة معناه بل في حالة كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه”. انتهى

وقال النووي في شرح مسلم: ” وقالت طائفة: اللفظ على ظاهره ولكن قاله هذا الرجل وهو غير ضابط لكلامه ولا قاصد لحقيقة معناه ومعتقد لها بل قاله في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف وشدة الجزع، بحيث ذهب تيقّظه وتدبر ما يقوله، فصار في معنى الغافل والنّاسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته: أنت عبدي وأنا ربّك فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو». انتهى

فهذا الرجل سبق لسانه، لما قال: “فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذّبني عذابًا ما عذّبهُ أحدًا”، وأما ما وصى به أبناءه من حرقه و طحنه فهذا ليس سبق لسان منه بدليل أن الله سأله عما حمله على ذلك.

3- ذكر من نُقل عنه اثبات الإيمان لمنكر القدرة

من فسر حديث الرجل الذي أسرف عن نفسه، على معنى انكار القدرة، مع اثبات الإيمان له فقد جانب الصواب وكذّب الدين، وهذا منقول عن:

أ- ابن قتيبة: وكلامه احتج به الحدادي المدعو شمس الدين العايدي في مقال له بعنوان ” تكفير الجاهل والمقلِّد في العقيدة”، فقال: وهذا نص من إمام آخر من أئمة السلف على عذر الجاهل في أصول الدين”. انتهى

نعوذ بالله من سوء الحال.

ب- ابنُ حزم: استدل ابن حزم على عدم كفر منكر القدرة، بقيام الحجة عليه، وكلامه باطل، وإلا فابن حزم ليس في عِداد الأئمة المجتهدين من أهل السنة حتى يحتج بكلامه في هذه المسألة.

ج- أبو العباس أحمد بن تيمية. قال في مجموع الفتاوى : فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُرَى، بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك» انتهـى

وقال: “فهذه عائشة أم المؤمنين سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شىء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شىء كإنكار قدرته على كل شىء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب” انتهـى

وهذا اتهام صريح من ابن تيمية للسيدة عائشة أنها تجهل بعض الصفات الواجبة لله والعياذ بالله، مع أن العبارة فسرها الإمام النووي في شرحه على مسلم على أنها تقرير من عائشة بسعة علم الله عز وجل ، وجعل كلمة (نعم) في الحديث مِن قول عائشة ، فقال: «قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ ، نَعَمْ ” هَكَذَا هُوَ فِي الْأُصُولِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ وَكَأَنَّهَا لَـمَّا قَالَتْ:«مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ» صَدَّقَتْ نَفْسَهَا فَقَالَتْ : نَعَمْ”. انتهى

والعجب من ابن تيمية، كيف يكفر من ينكر العلو الحسي بزعمه، ويكفر خصومه الأشعرية بدعوى أنهم لا يثبتون الصفات، و ينبزهم بأنهم جهمية، وفي المقابل يعتذر لمن أنكر قدرة الله على كل شئ بدعوى جهل صفة من صفاته، وهذا لاضطراب قواعده في اصول الدين.

د- ابن قيم الجوزية. قال في مدارج السالكين: وأما جحد ذلك جهلاً أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه ، فلا يكفر صاحبه به كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح ، ومع هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً. انتهى

هـ – ابن عبد البر المالكي: وهذا مما دُسّ عليه في كتابيه التمهيد والاستذكار.

راجع الرابط التالي:

https://www.facebook.com/share/p/1SztYDvzZZ/

كتاب التمهيد والاستذكار لابن عبد البر المالكي

1- ذكر بعض نسخ كتاب التمهيد

كتاب التمهيد و كتاب الاستذكار لابن عبد البر المالكي لم تصلنا منهما ولا نسخة مكتملة واحدة، ولا توجد مكتبة واحدة في العالم تحتوي على نسخة كاملة من الكتابين.

قال الشيخ عبد القادر بن إسماعيل الإبراهيمي في كتابه ” توفيق اللطيف المنان في بيان أن الشاك في الله ليس من أهل الإيمان” أن ذلك سهل على أعداء الدين دسّ ما يريدونه في مثل هذه المصنفات النادرة.

وكتاب التمهيد جرى عليه التحريف والدس في غير ما موضع منه، حتى صار ابن عبد البر متهما بالتجسيم وغير ذلك من البدع كالاعتذار لمنكر الصفات الواجبة لله عز وجل.

وبحسب الشيخ الإبراهيمي فإن أول نسخة طبعت من كتاب التمهيد هي الطبعة المغربية التي طبعت سنة 1387 هـجري الموافق لسنة 1967 ميلادي.

وقد جاء في مقدمة الجزء الأول من هذه الطبعة قولهم : ” وقد مضى على تأليفه ما يقرب من ألف عام ، ورغم كثرة المتحدثين عنه والمقتبسين منه في كتب الفقه ، لا سيما فقهاء المالكية ، فإنه لا تكاد توجد منه نسخة كاملة في أية مكتبة حسبما نعلم ، وإنما هي أجزاء متفرقة هنا وهناك . وعندما صح العزم على إخراج الكتاب طبقاً لتعليمات جلالة الملك أيده الله، استوردت الوزارة مصوراً على أشرطة لتسعة أجزاء من نسخة موجودة بمكتبة إستانبول بتركيا ينقصها جزءان ، وهي نسخة مكتوبة بخط مغربي واضح”. انتهى

وهذه النسخة التركية ليست كلها بنفس الخط ونفس نوع الورق ، ولا يوجد اسم الكاتب ولا تاريخ النسخ إلا في آخر جزء منها.

وجاء أيضا في مقدمة التمهيد المحققة الجزء الأول : ” أما تصحيح الأخطاء التي نعثر عليها في المخطوطات فذاك ما كان محط العناية الكاملة ، ومبعث المصاعب الجمة ، فليس بين أيدينا مراجع عدا نسختين قد تتفقان في وجود تحريف أو تصحيف أو نقص ، وليس ثمة من كتب على التمهيد شرحاً أو تعليقاً ، فهو لا يزال سراً من أسرار المخطوطات النادرة الوجود ، وكثيراً ما قضينا من جراء ذلك الأيام والأسابيع في البحث عن مصادر لتحقيق جملة أو إصلاح خطأ ، وعندما يضيق بنا مجال البحث نعتمد في الأخير على الفهم ، ونتحرى جهد المستطاع ، مستلهمين توفيق الله وهديه سبحانه”. انتهى

وقد ذكر الشيخ الإبراهيمي أجزاء أخرى من كتاب التمهيد منها:

– النسخة الخطية للكتاني، وهي مودعة بالخزانة العامة بالرباط، وقد كتبت بخط مشرقي واضح، وبها تحريف ونقص في عدة مواضع وقد انفردت بزيادات مهمة.

– نسخة مكتبة مِلَّتْ بإستانبول Millet

تحت رقم فيض الله أفندي 295.

– نسخة منقولة من نسخة دار الحديث الأشرفية بدمشق وهي نسخة ابن حمزة الشريف الحسيني.

2- ذكر بعض النصوص المحرفة في كتاب التمهيد:

ذكر الشيخ عبد القادر بن إسماعيل الإبراهيمي في كتابه ” توفيق اللطيف المنان في بيان أن الشاك في الله ليس من أهل الإيمان” بعض النصوص المدسوسة على ابن عبد البر، نذكر منها:

أ- النص الأول

ما ورد في التمهيد، وهو قوله: “إن هذا الرجل قد شك في قدرة الله تعالى على جمعه بعد تحريقه وطحنه وتفرق أجزائه، كما شك في إحيائه وبعثه بعد ذلك، لكنه كان جاهلا، ومن جهل صفة من صفات الله تعالى وآمن بسائر صفاته وعرفها لم يكن بجهله بعض صفات الله كافرا، قالوا: إنما الكافر من عاند الحق لا من جهله، وهذا قول المتقدمين من العلماء ومن سلك سبيلهم من المتأخرين”. انتهى

فهذا النص باطل المعنى وباطل النسبة إلى ابن عبد البر .

أما بطلان معناه فلا يخفى على أي موحد، أن من جهل صفة من الصفات الواجبة لله عز وجل فليس بموحد ، ولم يحدد النص ما هي بعض الصفات التي إن جهلها المرء لا يعد كافراً، ولا يستطيع المحرفون الإجابة على هذا السؤال إلا بالتخبط ، وأما تعليل الكلام أن الكافر إنما هو من عاند الحق لا من جهله، فهو شرط باطل، لأنه لا يشترط من المكلف أن تصله تفاصيل دعوة الاسلام حتى يقبلها، ولا يردها.

وبالرجوع إلى النسخة المنقولة من نسخة دار الحديث الأشرفية بدمشق نجد أن تعليق ابن عبد البر مطابق لما ورد في نسخة الكتاني حيث قال : “وأما قوله (لئن قدر الله علي) فقد اختلف العلماء في معناه فقال منهم قائلون : هذا رجل جهل بعض صفات الله وهي القدرة ، فلم يعلم أن الله على كل شيء قدير ؛ قالوا : ومن جهل صفة من صفات الله وآمن بسائر صفاته وعرفها لم يكن بجهله بعض صفات الله كافراً ؛ قالوا : وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله ؛ قال أبو عمر رحمه الله : هذا قول يدفعه جماعة من أهل النظر وفيه ضروب من الاعتراضات والعلل ليس هذا موضع ذكرها “. انتهى

وهذا دليل أن ابن عبد البر لا يرتضي هذا الحكم بخلاف ما هو مذكور في الكتاب المطبوع.

ب- النص الثاني:

ما ورد في التمهيد، وهو قوله: “وأما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدره، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان، ألا ترى أن عمر بن الخطاب، وعمران بن حصين، وجماعة من الصحابة سألوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن القدر، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، أو يكونوا في حين سؤالهم عنه غير مؤمنين”. انتهى

والمسألة التي سأل الصحابة عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي التي ذكرها عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أعُلِمَ أهلُ الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: ففيمَ يعمل العاملون؟ قال: ” كلٌّ ميسَّر لِما خلق له”. انتهى

فسؤال الصحابة لم يكن متعلقا بعلم الله الأزلي لأهل الجنة وأهل النار بل عن فائدة العمل، فهذا هو الذي جهلوه بعض الصحابة ، وإنما السؤال الأول كان تمهيداً للسؤال الثاني، فبدأ السؤال الثاني بحرف الفاء عقب السؤال الأول ، يدل على أن السؤال الأول كان تمهيداً للسؤال الثاني.

وبالتالي فالصحابة لم يكونوا يجهلون القدر بل كانوا يجهلون مسألة متعلقة به ، ولذلك قال ابن عبد البر في التمهيد : “فعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جهلوا من ذلك”.

وعليه فما ورد في النسخة المطبوعة أن الرجل الذي أوصى أولاده أن يحرقوا جسده بعد الموت لو كان جاهلاً بصفة من صفات الله في علمه وقدره أن ذلك لا يخرجه من الإيمان ، وقياس ذلك بسؤال الصحابة عن القدر فهو مشكل ومضطرب ، فالصحابة لم يجهلوا علم الله عز وجل ، لكن هذه الجملة تشير إلى أن السؤال الأول للصحابة كان جهلاً أيضاً لأنه سؤال متعلق بعلم الله عز وجل ، و قد تبين أن السؤال الأول لم يكن بسبب الجهل وإنما كان تمهيداً للسؤال الثاني ، لكن بالرجوع إلى الأصل المخطوط وهي نسخة ابن حمزة الشريف الحسيني المنقولة من نسخة دار الحديث الأشرفية بدمشق المنقولة من نسخة المؤلف ينكشف هذا الاضطراب، فقد جاء فيها قول الإمام ابن عبد البر كما يلي : ” وأما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في عمله وقدره فليس ذلك بمخرجه من الإيمان ألا ترى أن عمر بن الخطاب وعمران بن حصين وجماعة من الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القدر ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين أو يكونوا في حين سؤالهم عنه غير مؤمنين .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مضر بن محمد قال حدثنا شيبان بن فروخ قال حدثنا عبد الوارث عن يزيد الرشك قال حدثنا مطرف عن عمران بن حصين قال : ( قلت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ؟ ) ، وذكر الحديث .

وروى الليث عن أبي قبيل عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو بن العاص فذكر حديثا في القدر فيه : ” فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” فلأي شيء نعمل إن كان الأمر قد فرغ منه ” . فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم العلماء الفضلاء سألوا عن القدر سؤال متعلم جاهل لا سؤال معيب معاند فعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جهلوا من ذلك ، ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه ، ولو كان لا يسعهم جهله وقتاً من الأوقات لعلمهم ذلك مع الشهادة بالإيمان ، وأخذ ذلك عليهم في حين إسلامهم ، ولجعله عموداً سادساً للإسلام فتدبر واستعن بالله ! فهذا الذي حضرني على ما فهمته من الأصول ووعيته وقد أديت اجتهادي في تأويل حديث هذا الباب كله ولم آل وما أبرئ نفسي وفوق كل ذي علم عليم وبالله التوفيق ) “. انتهى

فبحسب ما ورد في النص السابق فجهل الرجل المذكور كان متعلقا بأثر صفة الله في عمله: أي فيما إذا كان سيبعثه على حال سيئةأم لا ، وفي قدره: أي إذا كان سيُقدِّر الله عليه العذاب بعد أن فعل بنفسه ما فعل ، أم لا. وهذا ليس بمخرجه من الإيمان.

وأما الاستدلال على هذا بسؤال الصحابة وقياس الأمرين ببعضهما البعض ، فهو باطل وهو جزما من جملة التحريف والدس.

بل ان التحريف قد طال أيضا كتاب الاستذكار لابن عبد البر، أيضا كما نبه لذلك الشيخ الابراهيمي، ونص الاستذكار هو قوله:” وأما قوله ( لئن قدر الله علي ) فقد اختلف العلماء في ذلك فقال بعضهم هذا رجل جهل بعض صفات الله تعالى وهي القدرة ، قالوا : ومن جهل صفة من صفات الله ( عز وجل ) وآمن به وعلم سائر صفاته أو أكثر صفاته لم يكن بجهله بعضها كافراً وإنما الكافر من عاند الحق لا من جهله ، والشواهد على هذا من القرآن كثيرة قد ذكرناها في باب عبد الله بن دينار من التمهيد .”. انتهى

فانظر إلى هذا الاضطراب في قوله “وعلم سائر صفاته أو أكثرها ” كأن قائل ذلك يبيع ويشتري في أصول الدين، والعياذ بالله.

هذا وقد ثبت أن أبا عمر ابن عبد البر لا يؤيد هذا القول ، بل يعارضه ، وهذا الاعتراض ثابت في نسخة الكتاني ، وفي نسخة ابن حمزة الشريف الحسيني التي نقلها من نسخة دار الحديث الأشرفية بدمشق ، والتي نقلت من نسخة المؤلف .

فالظاهر أن صاحب الدس وضع تفصيل ما دسه في كتاب الاستذكار.

وليعلم أنه لم يختلف أحد من علماء الإسلام في تكفير من جهل صفة العلم ، وذلك أمر مجمع عليه ، ولقد أفتى بذلك من علماء الصحابة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث أخرج مسلم في كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان والإسلام ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ : كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلاَءِ فِي الْقَدَرِ فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلاً الْمَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلاَمَ إِلَىَّ فَقُلْتُ : أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُون َ الْعِلْمَ ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لاَ قَدَرَ وَأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ . قَالَ : “فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ “. انتهى

ومن المهم هنا الإشارة أن نسخة ابن حمزة الشريف الحسيني من التمهيد المنقولة من نسخة دار الحديث الأشرفية بدمشق والمنقولة من نسخة المؤلف فيها فقرات بأكملها غير موجودة في المطبوع ، بل بعض تلك الفقرة، من الواضح أنها دخيلة على الكتاب لاختلاف الموضوع فيما قبلها وفيما بعدها ، فقد دست في مكان غير ملائم لا يمت إلى الموضوع بصلة.

فقد قام المحرف عند كلام ابن عبد البر وتحذيره من تكفير مرتكب الكبيرة، بإضافة نص يتعلق بترك الاكفار بالجهل وأنه لا يكفر إلا المعاند فقط حسب زعمه ، وبعد النص المدسوس تأتي أدلة في الرد على من كفر بالكبيرة ، مما يوضح أكثر أن النص مدسوس فعلاً .

وهذا النص المدسوس موجود في نسخة مكتبة خزانة القرويين بفاس تحت رقم 177 ، وهذه النسخة كتبت بخط اثنين ، فالخط الأول أثخن وأصغر من الخط الثاني ، و النص المدسوس بخط الكاتب الثاني، كما ذكر الشيخ الابراهيمي.

3- ذكر التجسيم في كتب ابن عبد البر

راجع الرابط التالي:

https://www.facebook.com/share/17NAP7dxET/