الفارق بين من ينطق بلفظ “الجسم” وهو فاهم لمعناه و بين من ينطق به وهو جاهل بالمعنى أو يظن أن له معاني تليق بالله في لغة العرب
ليعلم أن هناك فارقا بين من ينطق بلفظ “الجسم” في حق الله وهو فاهم لمعناه و بين من ينطق به وهو لا يفهم المعنى أو يظن أن هذا اللفظ يرد في لسان العرب بمعنيين, أحدهما المعنى الكفري الفاسد و الآخر المعنى الذي يوافق العقيدة السليمة.
و عليه يأتي كلام بعض المشائخ في الحكم على المجسمة إجماليا بما يؤدي للإضطراب في فهم كلامهم. وكان الأولى بمن يقرأ كلامهم أن يحرص على تلقيه و فهمه من أهل العلم لا أن يتجاسر على هذا الأمر الخطير الذي يُؤدي إلى التناقض في القول تارة بتكفير معتقد الحجم أو الجهة في حق الله, و تارة بأنه لا يكفر بمجرد إطلاق هذا اللفظ على الله.
ووجه حل ذلك التناقض أن يقال: إن قائل هذا اللفظ إما أنه يعي و يفهم ما يقول, و إما أنه لا يعي و لا يفهم ما يقول.
على أنه تجدر الإشارة أن أغلب الناس اليوم ممن ينتسب للعربية يفهمون معنى الجسم و الجهة إجمالا.
ودليلنا على ذلك ما قرره العلماء:
– قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام ما نصه: “فصل فيمن نطق لفظا لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه: فإذا نطق الأعجمي بكلمة كفر أو أيمان أو طلاق أو إعتاق أو بيع أو شراء أو صلح أو إبراء لم يؤاخذ بشئ من ذلك, لأنه لم يلتزم مقتضاه و لم يقصد إليه, وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه المعاني بلفظ أعجمي لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ بشئ من ذلك لأنه لم يرده. انتهى
فما يُنسب للعز بن عبد السلام – إن صح عنه – من عد العامي معذورا بتصريحه بلفظ الجهة في حق الله, فمراده بذلك العامي الذي يجهل ما يتلفظ به, يظن أن معنى قوله ” الله في جهة فوق” أي “عالي القدر جدا”, لشدة جهله بمعاني الألفاظ في اللغة العربية.
وفي ذلك يقول الكوثري: نعم يعد ابن عبد السلام في قواعده الكبرى العامي معذورا في الكلمة الموهمة لكن ناقشه المقبلي في ذلك, وعلى كل حال لا يرضى هؤلاء – أي مشبهة عصره – أن يعدوا من العامة ليعذروا في كلماتهم الشاطحة, وقد ملأت مؤلفاتهم البقاع, فلا محيص في عدهم واعين لما نطقوا به, فتعيين إلزامهم بما يترتب على تلك التقولات في نظر أهل البرهان الصحيح. انتهى
– قال الشيخ أبو منصور البغدادي التميمي رحمه الله في كتابه أصول الدين صحيفة 363 في المسألة الرابعة عشر ما نصه: “وقد شاهدنا قوما من عوام الكرامية لا يعرفون من الجسم إلا اسمه, و لا يعرفون أن خواصهم يقولون بحدوث الحوادث في ذات البارئ تعالى, فهؤلاء – أي عوامهم- يحل نكاحهم و ذبائحهم و الصلاة عليهم. انتهى
-قال الجرجاني في شرحه على الإيجي 2/223 ما نصه: ثم إنه أشار إلى بطلان تعريفات منقولة عن بعض المتكلمين فقال: و ما هو كقول الصالحية من المعتزلة في تعريف الجسم: هو القائم بنفسه, و قول بعض الكرامية: هو الموجود, و قول هشام: هو الشئ . انتهى
– وقال ابن التلمساني في شرحه على معالم أصول الدين، ما نصه: “وقد صرحت طائفة تُعرف بـ «الكرامية» منسوبة إلى «محمد بن كرام السجستاني» بتسمية الرب – جل جلاله – جوهراً أو جسماً تعالى الله عن قولهم. وهؤلاء إن أرادوا أن الباري سبحانه ثبت له خواص الجواهر والأجسام فمُسْتَهْزَأٌ بهم وأوضح الأدلة في إبطال ذلك إن شاء الله تعالى، وإن أرادوا مجرد التسمية كما أطلقت «الفلاسفة» و«النصارى» على الرب تعالى جوهراً، فقد تحكَّموا بتسمية الله تعالى بما لم يرد به شرع ولا أنبأ به سمع، ومُطلَق الأسماء إنما هو من مجرد السمع، ولا يصح إثباتها قياساً.
وقد تأوَّل «محمد بن الهيصم» أحد أتباع «ابن كرام» مقالته، وأراد حلَّ ذلك على ما لا يمتنع في وصفه تعالى، فقال: «المراد بتسميته جوهراً أو جسماً أنه قائم بنفسه».
قال «الشهرتستاني»: «وهذا تلبيس منه، وإلا فمذهب أستاذهم لا يصح حمله على ذلك، مع اعتقاده أن الباري سبحانه جَلٌّ للحوادث، قابلٌ للأصوات، وأنه مستوٍ على العرش استقرارَ شخصٍ مخصوصٍ فوق مكانٍ مخصوصٍ تعالى الله عن قولهم».
فليس يُجدي من هذه المخازي توريَات «ابن الهيصم»، فلا يُراد بالجسمية القيام بالنفس، ولا بالجهة والفوقية علوّ، ولا بالاستواء استيلاء. وإنما هو مذهب لا يقبل الإصلاح، وكيف يستقيم الظل والعود أعوج، وأيّ مذهبٍ لصاحب المقالة أفحش؟”. انتهى
فلفظ الجسم و الجهة صريح في إفادته معنى تشبيه الله بخلقه، وقائل هذه الألفاظ داخل تحت حكم المكذب للنصوص القطعية من القرآن و السنة, بالإضافة لإنكار الحكم العقلي القاطع على تنزيه الله عن مشابهة الخلق و من ذلك تنزيهه سبحانه عن الجسمية و المكان و الجهة، فيكون منكرا لضروري من ضروريات الدين و قطعياته فلا يكون معدودا من أهل القبلة.
فلم يبق إلا النظر في فهم هذا القائل لهذا اللفظ, فإما أنه يفهم المعنى الفاسد حين تكلم به، و إما أنه لا يفهم ما يقول.
لذلك إذا وجدنا كلاما لبعض الشيوخ في ترك اكفار المجسمة فهو على التفصيل الذي ذكرناه و ليس على اطلاقه.
فالبجيرمي مثلا اضطربت أقواله في الحكم على المجسمة، لكنه أشار لما قدمناه آنفا في حاشيته على الخطيب فقال: “وفي المسايرة وشرحها: ومن سماه جسما وقال لا كالأجسام يعني في نفي لوازم الجسمية كبعض الكرامية , فإنهم قالوا : هو جسم بمعنى موجود . وآخرون منهم قالوا : هو جسم بمعنى قائم بنفسه، خطأ لكن خطؤه في إطلاق الاسم لا في المعنى” انتهى
وعليه فبعض من يطلق على الله لفظ جسم يظن أن معناه موجود أو قائم بالنفس أي مستغن عن غيره أو هو كمعنى شئ، أي متحقق الوجود، وهو و إن كان وهما من مطلقه على الله, لكنه إن لم يصرح بوصف الله بصفات الجسم و كان صادق الدعوى فيما يدعيه من ظنه ما تقدم بيانه في فهمه لمعنى الجسم, فهو كالأعجمي الذي لا يفهم ما يقول.
وإنما قلنا: ” إن لم يصرح بوصف الله بصفات الجسم و كان صادق الدعوى فيما يدعيه من ظنه” لأن بعض المجسمة يعتقدون المعنى الفاسد ويدعون اطلاق الجسم على بعض المعاني اللائقة بالله للخلاص من الزامات خصومهم.
ومن جملة الأدلة أن بعض أصناف المجسمة يتلاعبون بتعريف الجسم ما ذكره الباحث صهيب السقار في كتابه التجسيم في الفكر الاسلامي، حيث قال: “وربما عدل بعض المغرضين في تعريف الجسم إلى ما يخلصهم مما ألزمهم به المتكلمون كما سبق عن بعض المجسمة أنهم قالوا الجسم هو القائم بنفسه. وقد أقاموا بذلك شبهة عظيمة الفتنة بنوها على الاشتراك في لفظ القائم بالنفس، فإنه عند أهل السنة المنزهين للباري سبحانه عن الجسم ولوازمه يطلق على الباري سبحانه ويراد به المستغني في قيامه عن محل أو حيز يقوم به وعن فاعلٍ يكون قيامه به، فالمراد به حقيقة هو إثبات الغنى المطلق في مقابلة الاحتياج اللازم لأجسام العالم وأعراضه”. انتهى
وقال أيضا: ” وقال بعض الكرامية الجسم هو الموجود. وقال هشام هو الشيء.
وقد أشار المتكلمون إلى بطلان هذه التعريفات “. انتهى
فمنشأ الخلاف في مسألة تكفير المجسم متعلق بفهمه لكلمة جسم وإطلاقها على الله، لا أنه يوجد خلاف في تكفير من أطلق على الله الجسمية وهو عارف بمعناها، فهذا الكلام لا عبرة به، ولو قاله
بعض المنتسبين للأشعرية، فهذا الصنف لا يوثق بنتاج نظرهم، وطريقتهم في تقرير المسائل فيها اشكالية.
قال الإِمَامُ صَفِيُّ الدِّيْنِ الهِنْدِيُّ المتوفى سنة 715 هـجري في كِتَابه نِهَايَة الوُصُوْلِ مَا نَصُّهُ: فَإِنَّ الأُمَّةَ مِنَ السَّلَفِ قَبْلَ ظُهُوْرِ الْمُخَالِفِ مُجْمِعَةٌ عَلَى ذَمِّ مَنْ كَفَرَ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَتَوْبِيْخِهِ كَالفَلَاسِفَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ. انتهـى
