قاعدة في الحكم على المخالفين من كلام ابن دقيق العيد
تنزيه الله تعالى عن الحوادث متعلق بأصل الإيمان، وهو مما تواترت النصوص النقلية على بيانه فمن لم يعتقد أن الله تعالى ليس كمثله شيء فهو مشبه لا يعرف الإيمان ومن لم يعرف الإيمان لا يكون مؤمنا ولذلك فقد اتفق العلماء على كفر المشبه قولا واحدا.
وأما مخالفة الإجماع في حكم مسئلة فقهية فهذا مما لا نحكم فيه على المخالف بالكفر؛ إلا إذا بلغ ذلك الحكم المذكور حد التواتر فإنه يكفر في هذه الحال لمخالفته المتواتر لا لمجرد مخالفته الإجماع.
ولهذا قال تقي الدين ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702هـجري في شرح العمدة: “المسائل الإجماعية تارةً يُصحبها التواتر بالنقل عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلا، وتارة لا يُصحبها التواتر. فالقسم الأول: يُكفَّر جاحده لمخالفته التواتر لا لمخالفته الإجماع. والقسم الثاني: لا يُكفّر به” انتهى.
قال الكشميري في اكفار الملحدين بعد نقل كلام ابن دقيق العيد: ” قال شيخنا في “شرح الترمذي”: الصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما يعلم وجوبه من الدين بالضرورة، كالصلاة الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر، ومنه القول بحديث العالم. وقد حكى عياض رحمة الله وغيره الإجماع على تكفير من يقول بقدم العالم.”. انتهى
وأما من خالف في أصل الإيمان بالله تعالى كالقول بقدم العالم أو حدوث الحوادث في ذات الله أو القائلين بالجسمية والتشبيه؛ فهذا لا يُعذر فيه المخالف لكونه مخالفا لما تواتر في القرآن الكريم وفي عقائد المسلمين. ولذلك قال ابن دقيق العيد رحمه الله متابعا كلامه المذكور آنفا: ” وقد وقع في هذا المكان مَن يدَّعي التحقيق في المعقولات، ويميل إلى الفلسفة، فنقل أن المخالفة في حدوث العالم من قبيل مخالفة الإجماع، وأخذ من قول من قال: إنه لا يُكفّر بمخالفة الإجماع أن لا يُكفَّر هذا المخالف في هذه المسألة! وهذا كلام ساقطٌ بصيرةً إما عن عمى في البصيرة أو تعامٍ، لأن حدوث العالم من قَبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشريعة فيُكفَّر المخالف بسبب مخالفة النقل المتواتر لا بسبب مخالفة الإجماع”. انتهى.
ونقله عنه الخطيب الشربيني في مغني المحتاج.
فابن دقيق العيد يقسم المسائل الإجماعية إلى قسمين:
– مسائل إجماعية تتعلق بأصل الإيمان ثابتة بالنقل المتواتر عن النبي ﷺ، كتنزيه الله عن المماثلة. فما تعلق بأصل الإيمان لا بد وأنه متواتر في القرآن الكريم وعقائد المسلمين، و من أنكر ذلك فهو كافر، لأن مخالفته هنا ليست مجرد مخالفة إجماع، بل مخالفة للنقل المتواتر عن صاحب الشرع. أي: هو مكذّب للشرع نفسه.
– مسائل إجماعية لا تتعلق بأصل الإيمان، و لم يصحبها نقل متواتر، فمن خالفها لا يُكفّر، لأنه لم يتعمد مخالفة النقل المتواتر عن النبي. أما إذا بلغت حد التواتر يُحكم على المخالف فيها بالكفر أيضا
فالكفر عند ابن دقيق العيد لا يكون بمجرّد مخالفة الإجماع، بل بمخالفة النقل المتواتر المقطوع به عن الرسول ﷺ.
وليعلم أن تنزيه الله عن الجسمية من المتواتر نقلاً عن الشرع، والقرآن مليء بالنصوص القطعية الدالة على أن الله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ» «وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ»
وجميع هذه النصوص متواترة لفظًا ومعنىً، ونُقلت بالتواتر جيلاً بعد جيل في الأمة، وهي من أصول التوحيد والتنزيه التي علمها جميع المسلمين بالضرورة.
فمن قال إن الله جسم أو له حد أو جثة أو جوارح أو له يد حقيقية كيد المخلوق، فقد جحد ما تواتر عن الرسول من نفي المماثلة، ووقع في مخالفة السمع القطعي طريقًا ودلالةً، فهو مكذب للشرع، كافر به، لا لمجرد مخالفته الإجماع، بل لأنه كذّب النقل المتواتر.
وقد أكد ابن دقيق العيد على هذا المعنى بقوله أيضا في شرح العمدة في الأحكام: “والحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بانكار متواتر من الشريعة فإنه حينئذ يكون مكذبا للشرع، وليس مخالفة القواطع مأخذا للتكفير، وإنما مأخذه مخالفة القواعد السمعية القطعية طريقا ودلالة”. انتهى
فوضح أن مراده بمخالفة القواطع، أي مخالفة الاجماعات التي لم يصحبها تواتر فهذه لا يكفر بها، وكذلك مخالفة القواطع النظرية لا يُعد كفرا في الغالب، لأن مخالفة القواطع النظرية لا تعني بالضرورة تكذيب الشرع كانكار المعتزلة زيادة أصل الصفة على الذات.
وابن دقيق العيد هو مجدد القرن السابع الهجري.
قال عنه الإمام ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ما نصه: “كَانَ مُبَارِزاً لِأَهْلِ البِدَعِ مِنَ الحَشْوِيَّةِ وَالأَصْوَاتِيَّةِ وَالقَائِلِينَ بِالجِهَةِ، وَسَائِرِ الطَّوَائِفِ مِنَ المُبْتَدِعَةِ، مُنْكِراً عَلَيْهِمْ بِيَدِهِ وَلِسَانِهِ وَلَفْظِهِ وَجَنَانِهِ، وَيُغْرِي وَيُؤَلِّبُ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَدَعُ لَهُمْ رَأْساً قَائِمَةً إِلَّا اقْتَطَفَهَا، وَلَا شَجَرَةً يُخْشَى شَرُّهَا إِلَّا اقْتَلَعَهَا”. انتهى.
****
قال أشرف علي التهانوي في تذييل شرح العقائد في أهواء أهل المفاسد, بعد أن ذكر معتقدات الفرق الباطلة، ما نصه: الفرقة الناجية المستثناة الذين قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم : هم ما أنا عليه وأصحابي، وهم الأشاعرة والسلف من المحدّثين وأهل السنّة والجماعة . ومذهبهم خال عن بدع هؤلاء , وقد أجمعوا على حدوث العالم خلافاً لبعض الغلاة القائلين بقدمه”.
قال الشيخ محمد أنور شاه بن معظم شاه الكشميري الهندي ثم الديوبندي (المتوفى سنة 1353هـ) في أماليه: فيض الباري على صحيح البخاري (ج1/ 252):
أما محمد بن عبد الوهاب النَّجْدِي فإنه كان رجلًا بليدًا قليلَ العلمِ، فكان يتسارع إلى الحكم بالكفر ولا ينبغي أن يقتحم في هذا الوادي إلا من يكون متيقِّظًا متقِنًا عارفًا بوجوه الكفر وأسبابِهِ.اهـ
