مناقشة الفخر الرازي لتقريرات الفلاسفة حول إشكالية التغير وتجدد فعل الله
قال الفخر الرازي في المطالب العالية: ” الحجة الرابعة : قال بعضهم : لو حدث صفة في ذات اللّٰه تعالى ، لزم وقوع التغير وذلك محال بالاتفاق ، فوجب أن يكون حدوث تلك الصفة في ذات اللّٰه تعالى محالا . ولقائل أن يقول : إن عنيتم بهذا التغير حدوث صفة في ذات الله تعالى ، بعد عدمها ، فهذا يفيد إلزام الشيء على نفسه ، وذلك لا يفيد ، وإن عنيتم به وقوع التبدل في نفس تلك الذات المخصوصة ، فمعلوم أن هذا غير لازم . فيثبت أن هذا الكلام ضعيف”. انتهى
وقد نقل الرازي هذا التقرير عن بعض الفلاسفة، وكان من جملة اعتراضهم قولهم : “إن عنيتم بهذا التغير حدوث صفة في ذات الله تعالى ، بعد عدمها ، فهذا يفيد إلزام الشيء على نفسه ، وذلك لا يفيد”
معناه إن كان المقصود بالتغير هو تجدد صفة بعد أن لم تكن، فهذا عين محل الخلاف، ولا يجوز اتخاذه مقدمة في الدليل.” ويشبّه هذا النوع من الجدل بمن يقول: “إن تجدد الصفة يوجب التغير، والتغير يوجب حدوث الصفة، ومن ثم فهي حادثة”، فيدور في حلقة مغلقة من الافتراض والاستنتاج.
فهذا الإلزام إنما هو مصادرة على المطلوب، أي افتراض لما هو موضع النزاع وبناء البرهان عليه، وهو خلل منطقي في تركيب الحجة. وهذا النوع من الجدل لا يُلزم الخصم بشيء، وهذا التباس في الحجج.
ومن أجوبة أهل الحق على هذه الشبهة قولهم: ان حدوث الصفة يستلزم توارد حالين على الشيء كالحركة والسكون بالنسبة للجسم. فهو من حيث ذاته لا يترجَّح اتصافه بأحدهما دون الآخر، فإن اتصف بأحدهما احتاج إلى مُرجِّح رجَّح حركته على سكونه أو العكس، فاحتياجه يستلزم حدوث ذاته.
معناه: لمَّا جاز على الجسم صفة حادثة ومقابلها، افتقر إلى مُخصِّص خصَّه بصفة على صفة أُخرى قائمتين بذاته، فلزم بهذا الافتقار أن يكون الجسم حادثًا.
ومن جملة اعتراضات هؤلاء الفلاسفة أيضا قولهم: “إن عنيتم به وقوع التبدل في نفس تلك الذات المخصوصة ، فمعلوم أن هذا غير لازم”. انتهى
معناه بزعمهم ان وقوع التبدل في ذات الله تعالى، غير لازم لمن قال بتجدد فعل الله تعالى، مثل: الخلق والرزق والإحياء والإماتة، لأن تجدد الفعل لا يستلزم التبدل في ذات الفاعل، بل قد يكون التغير واقعًا في الفعل.
فيثبت بذلك أن القول بأن تجدد الفعل يوجب التغير، والتغير يوجب النقص، والنقص محال على الله – كلام ضعيف لأنه إما: يعود على نفسه ويدّعي ما هو محل النزاع وهو حدوث الصفة، أو يفترض أن تجدد الأفعال يستلزم تغير الذات، وهذا باطل”.
غير أن هذا النفي الفلسفي للتغير لا يخلو من اضطراب في التصور، وذلك أن زعمهم أن التغير إذا كان من غير نقص ولا زيادة في الكمال، فليس بصفة نقص” – هو قول باطل، لأن حقيقة التغير تستلزم بالضرورة الانتقال من حال إلى حال، سواء كان هذا الانتقال في الذات أو في الصفات.
أما إذا لم يكن هناك نقص ولا زيادة، ولا تبدل من حال إلى حال، فلا يُسمى ذلك تغيرًا أصلًا، بل هو مجرد تعلّق للصفة بالمفعول، لا تغير في ذات الفاعل ولا في فعله الأزلي ولا في أصل صفته. مثاله تعلق القدرة بالمقدورات المتغيرة، أو العلم بالمعلومات المتجددة، أو الإرادة بالأفعال المختلفة، فإن كل ذلك لا يقتضي تغيرًا في الذات ولا في كمالها. وقد نبّه القرآن على هذا المعنى في قوله تعالى:
“كل يوم هو في شأن” – الرحمن: 29-
أي أن تعلق صفات الله بأحوال الخلق يتجدد، كما فسره النبي ﷺ بأنه يعطي هذا ويمنع ذاك، ويحيي هذا ويميت ذاك، دون أن يكون ذلك دالًا على حدوث أو تغير في ذاته تعالى.
وبذلك يتبيّن أن الشبهة مبنية على تسوية باطلة بين تجدد فعل الله عز وجل وتجدد تعلق صفاته، وهذا من أعظم الخلط في مباحث الصفات.
ففعل الله تعالى قديم أزلي، والمفعولات هي الحادثة، ولا يلزم من حدوثها حدوث في الذات أو تبدل في الصفات. والمذهب الحق أن الصفات الإلهية لا تتغير، ولكن تتجدد متعلقاتها دون أن يلزم من ذلك نقص أو حدوث في الذات الإلهي.
ملاحظة: من محاولات ابن تيمية الفاشلة في نقض دليل الحدوث ، قوله في درء التعارض: ” وهذا- أي نفي قدم نوع العالم – قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم: يقرون بالصانع المحدِث ، من غير تجدد سبب حادث، ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع، وقال لهم الناس: هذا ينقض الأصل الذي أثبتم به الصانع، وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، فإذا كانت الأوقات متماثلة، والفاعل على حال واحدة، لم يتجدد فيه شيء أزلاً وأبداً، ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه، كان ذلك ترجيحاً بلا مرجح ” انتهى
وهذا من جملة ضلالته في هذا الباب، ونسبته لخصومه الأشعرية ما لا يقولونه ولا يلتزمون به من أصله، والا فكيف عرف هذا الحراني أن فعل الله متعلق بالزمان، وهذا جهل بكلام الأشعرية ومصادرة على المطلوب، والا فالأشعرية يقولون أن الله تعالى لا يختص بزمان ولا مكان لذلك لا تقبل ذاته التجدد والحدوث من أصله، وكذلك فعل الله هو أزلي لا يتعلق بالزمان، إنما المفعول فقط يختص بالزمان والمكان. وعليه فان مشيئة الله أزلية لا تتغير، وهي الصفة التي تتعلق بالمخلوق،يخصص الله بها الممكنات بصفات دون أخرى وبوقت دون آخر دون دون أن تتجدد له صفاته.
