اكفار المجسم و الجهوي باللزوم

اكفار المجسم و الجهوي باللزوم

ينبغي التنبيه أن بعض المنتسبين للدين يحاولون تحريف قاعدة”لازم المذهب ليس بمذهب” عن معناها الحقيقي لفتح باب الكفر على مصراعيه للناس. فتراهم يداهنون المشبهة و يزعمون أن أقوالهم لا تؤول إلى الكفر في كل الحالات.فعند هؤلاء المُحرفين من يقول مثلا :”لله يد حقيقية” ليس بكافر و يزعمون أن قوله ذلك لا يلزم منه نسبة العجز و الافتقار و الحدوث لله, ويظنون أن ذلك من الورع و سماحة الدين. و في الحقيقة هذا محض تحريف للشريعة لأن لازم المذهب البين مذهب بإجماع علماء أهل السنة والجماعة.

فمن نسب صفة النقص لله فإن كلامه يُفسر بلازمه كما قال الحافظ السيوطي في الإتقان و نص عبارته: “وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ : كُلُّ صِفَةٍ يَسْتَحِيلُ حَقِيقَتُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تُفَسَّرُ بِلَازِمِهَا”. انتهى

وعليه فإن نسبة الجهة و الجسمية لله في حق الله تفسر بلوازمها كالافتقار و الحدوث وكل ذلك مُؤداه كفر قائله.

ولعل أكثر من فصل في قاعدة اكفار المجسم باللزوم هم المالكية. فبينوا أن من قال عن الله أنه جسم, يلزم من كلامه أن الله محتاج و أنه حادث,و نصوا أيضا على أن من قال أن الله يتنقل و يتحول ويشغل حيّزا من فراغ أن كلامه يلزم منه أنه سبحانه و تعالى مفتقر إلى الأماكن وذلك يؤول أيضا إلى التجسيم وهو كفر.

كذلك الذي يثبت الجهة الحسية لله فأنه يلزم من كلامه نسبة التحيز والجسمية لله.

وفيما يلي نصوص المالكية في بيان ذلك:

قال الشيخ عبد الرحمان الجزيري في كتابه الفقه على المذاهب الأربعة الجزء 4 صحيفة 201 – 202 ما نصه: المالكية قالوا: إن ما يوجب الردة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: أن يقول كلمة كفر صريحة كقوله: إنه كفر بالله أو برسول الله أو بالقرآن أو يقول: إن الإله إثنان أو ثلاثة أو المسيح ابن الله أو عزير ابن الله.

الثاني: أن يقول لفظا يستلزم الكفر استلزاما ظاهرا, وذلك كأن ينكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة, كفرضية الصلاة, فإنه و إن لم يكن كفرا صريحا و لكنه يستلزم تكذيب القرآن أو تكذيب رسول الله أو يقول: إن الله جسم متحييز في مكان لأن ذلك يستلزم أن يكون الإله محتاجا للمكان و المحتاج حادث لا قديم, ومن ذلك ما إذا أحل حراما معلوما من الدين بالضرورة كشرب الخمر و الزنا و اللواط و أكل أموال الناس بالباطل و غير ذلك.

الثالث: أن يفعل أمرا يستلزم الكفر استلزاما بينا. انتهى

و قال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي المتوفى سنة 422 هـجري في شرحه على عقيدة مالك الصغير صحيفة 28 ما نصه: “ولا يجوز أن يثبت له كيفية لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشىء، ولا سألته الصحابة عنه، ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤول إلى التجسيم وإلى قِدم الأجسام وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام “.انتهـى

و قال مجدد المائة الثامنة الشيخ ابن عرفة التونسي في كتابه “الشامل في علم الكلام” في معرض رده على القاضي عياض ما نصه: ” تأمل ما تقدم من جعل “الإرشاد” (للجويني) القول بالجهة ملزوما للكفر, وقول الآمدي: مذهب أهل الحق من أهل الملل تنزيهه عن الجهة و المكان, مع نقل عياض في آخر كتاب الصلاة من “الإكمال” ما نصه: الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى “ءامنتم من في السماء” أولها من قال باثبات الجهة فوق له تعالى, من غير تحديد و لا تكييف من دهماء المحدثين و الفقهاء و بعض المتكلمين من الأشعريين و المشبهة بمعنى “على”. فعزا ما جعله الإمام ملزوما للكفر إلى من ذكر من الأشعرية و غيرهم, ما أدري على من اعتمد في نقله هذا. و قد اغتر بعض الجهلة ممن يرى يدا لنفسه مشاركة في العلوم في قوله بالجهة لله تعالى انتهى

ذكره ابن غازي العثماني المكناسي (ت 919 هجري) في ذيله على نكت و تنبيهات في تفسير القرآن المجيد لأبي العباس البسيلي التونسي صحيفة 108

فابن عرفة نقل كلام الإمام الجويني رحمه الله في لزوم الكفر لمن قال بالجهة في حق الله و أقره على ذلك لأنه احتج به على القاضي عياض .

و قال البرزلي في كتابه النوازل 6 / 197 ما نصه : و كنت قد سُئلت منذ ثلاثين سنة بالقيروان حين كنت مفتيا بها, وهي: في رجل أطلق القول بأن الله سبحانه و تعالى عما يقول الملحدون و الزائغون في السماء و ما الحكمة في هذا الاطلاق؟ و كيف إن كان يفسر ذلك بمعنى الظرفية و الحلول و الكون – تعالى ربنا عن ذلك- و استدل عليه بحديث السوداء و غيره من الظواهر التي وقع فيها بعض إيهام أهو كافر؟ و ربما فسر بغير ذلك, أعظم الله أجوركم, و السلام. انتهى

فكان من جملة جوابه: فمذهب جميع المتكلمين و فحول العلماء و أهل أصول الديانات على استحالة ذلك و نص على ذلك أبو المعالي في الارشاد و غيره من المتكلمين و الفقهاء, قالوا: فإن ذلك ملزوم للتجسيم و الحلول و التحييز و المماسة و المباينة و المحاذاة و هذه كلها حادثة, وما لا يُعرى عن الحوادث أو يفتقر إلى الحوادث فهو حادث, و الله سبحانه يستحيل عليه الحدوث. انتهى

و عليه فإن القائلينَ بالجهةِ إن سلّموا اللُزومَ وقالوا إن اللازمَ ليسَ بكفْرٍ لا يُعتدُّ بكلامِهم لأنه عند التحقيقِ كُفرٌ، وإن لم يُسلِّموا اللُزومَ فلا عِبرةَ بكلامِهِم بل يكَفّرونَ، لأن نفيَ الجهةِ عن اللهِ من القطعيَّاتِ ومنَ الأمورِ المُجمعِ عليها المعلومةِ من الدينِ بالضّرورةِ والتي يستقِل العقلُ السليمُ بإدراكِها. فكن يا طالب العلم لخطى الأكابر مقتفي و لا يغرنك تحريف المحرفين.

و قال الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتاب “مناهل العرفان ” عند قول الله تعالى “ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات” ما نصه: إن الوحي من الله للنبي تنزيلا وإنزالا ونزولا لبيان علو مرتبة الربوبية لا أن هناك نزولا حسيا من مكان مرتفع إلى مكان منخفض ومن الغريب أنهم يقولون في الرد على هذا إن علو الله على خلقه حقيقة أثبتها لنفسه في كتابه لا حاجة لتأويله بعلو مرتبة الربوبية وليت شعري إذا لم نؤوله بعلو مرتبة الربوبية فماذا نريد منه وهل بقي بعد ذلك شيء غير العلو الحسي الذي يستلزم الجهة والتحيز ولا يمكن نفي ذلك اللازم عنه متى أردنا العلو الحسي فإن نفي التحيز عن العلو الحسي غير معقول ولا معنى للاستلزام إلا هذا أما هم فينفون اللوازم ولا أدري كيف ننفي اللوازم مع فرضها لوازم هذا خلف ولكن القوم ليسوا أهل منطق والمتتبع لكلامهم يجد فيه العبارات الصريحة في إثبات الجهة لله تعالى وقد كفر العراقي وغيره مثبت الجهة لله تعالى وهو واضح لأن معتقد الجهة لا يمكنه إلا أن يعتقد التحيز والجسمية ولا يتأتى غير هذا فإن سمعت منهم سوى ذلك فهو قول متناقض وكلامهم لا معنى له. انتهى

وقال في الجزء 2 ص 209-211 ما نصه: ثم إن هؤلاء المتحمسين في السلف (أي سلف المشبهة) متناقضون لأنهم يثبتون تلك المتشابهات على حقائقها ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث كالجسمية والتجزؤ والحركة والانتقال لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقائقها ينفون هذه اللوازم مع أن القول بثبوت الملزومات ونفي لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلا عن طالب أو عالم فقولهم في مسألة الاستواء الآنفة إن الاستواء باق على حقيقته يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز وقولهم بعد ذلك ليس هذا الاستواء على ما نعرف يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز فكأنهم يقولون إنه مستو غير مستو ومستقر فوق العرش غير مستقر أو متحيز غير متحيز وجسم غير جسم أو أن الاستواء على العرش ليس هو الاستواء على العرش والاستقرار فوقه ليس هو الاستقرار فوقه إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت. انتهى

و قال الشيخ محمد عليش المالكي في كتاب منح الجليل (9/205-206) ما نصه: «وسواء كفر بقول صريح في الكفر، كقوله: أكفر بالله أو برسول الله أو بالقرآن أو الإله اثنان أو ثلاثة أو المسيح ابن الله أو العزيز ابن الله أو بلفظ يقتضيه أي يستلزم اللفظ الكفر استلزاما بينا، كجحد مشروعية شىء مجمع عليه معلوم من الدين ضرورة، فإنه يستلزم تكذيب القرآن أو الرسول، وكاعتقاد جسمية الله وتحيزه، فإنه يستلزم حدوثه واحتياجه لمحدث ونفي صفات الألوهية عنه جل جلاله وعظم شأنه»انتهـى

و قال الشيخ محمد الدسوقي في كتاب حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/301). (شارحا لكلام ابن عليش السابق) ما نصه: «قوله: (بصريح) أي بقول صريح في الكفر، قوله: (أو لفظ يقتضيه) أي يقتضي الكفر أي يدل عليه سواء كانت الدلالة التزامية كقوله: الله جسم متحيز، فإن تحيزه يستلزم حدوثه لافتقاره للحيز، والقول بذلك كفر أو تضمنية، كما إذا أتى بلفظ له معنى مركب من كفر وغيره، كقوله: زيد خداي، إذا استعمله في الإله المعبود بحق، ولأجل هذا التعميم عبر بيقتضيه دون يتضمنه لإيهامه أن المعتبر في اللفظ دلالة التضمن فقط.

قوله: (كقوله: الله جسم متحيز) أي وكقوله: العزير أو عيسى ابن الله.

قوله: (أو فعل يتضمنه) إسناد التضمن للفعل يدل على أن المراد هنا الالتزام لا حقيقة التضمن الذي هو دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له.

قوله: (ويستلزم الخ) أي وأما قولهم: لازم المذهب ليس بمذهب فمحمول على اللازم الخفي».انتهى

و قال الشيخ أحمد الصاوي في حاشيته على الشرح الصغير 4/432 ما نصه: قوله : ” أي يقتضي الكفر” : أي يدل عليه دلالة التزامية كقوله جسم متحيز أو كالأجسام.

وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي في كتاب “إستحالة المعية بالذات و ما يضاهيها من متشابه الصفات” صحيفة 97 ما نصه: و لم يقل أحد منهم ( أي السلف و الخلف) بحملها على ظاهرها من المعية بالذات إلا لما يلزم على القول بالمعية الذاتية من المحال المفرط إذ يلزم عليه محالين لزوما واضحا إن لم يكن صريحا, كل واحد منهما كفر بالإجماع: الأول هو أن المعية بالذات إذا فرضنا أن الله تعالى مع كل مخلوق من بشر و ملك و جن و حيوان في أي مكان كان و في أي زمان لزم اتصافه تعالى بصفات الحدوث المنفية عنه بالدلائل القطعية من الجهة و المكان و الزمان . انتهى

و قال في نفس الكتاب معقبا على عبارة ابن ميارة في التكميل:

هل لازم القول يعد قولا عليه كفر ذي هوى تجلى

قال: قيد بعض العلماء هذا الخلاف بما إذا كان اللزوم غير بين, قال: وأما إن كان اللزوم بيينا فهو كالقول بلا خلاف, والذي يظهر أن الجهة لازم عليها التجسيم لزوما بينا.

قلت ( أي الشنقيطي): ولعل هذا هو مستند من حكى الإجماع على كفر القائل بالجهة في حقه تعالى.

وقال ابن عاشور في كتابه أصول النظام الاجتماعي في الاسلام صحيفة 48 ما نصه: “وأما الخطا في صفات الله تعالى فهو ما يعرض للعقائد الدينية التي صحت أصولها . وأهلها و إن كانوا آمنوا بوجود الله وتقديسه هم خلطوا ذلك باثبات صفات لله تنافي قدسيته , كما قال الله تعالى ” وما قدروا الله حق قدره ” فهم يأخذون من الاشراك بنصيب, إذ ليس الاشراك إلا خطأ في أعظم صفة لله وهي الوحدانية, ويأخذون من التعطيل بنصيب لأن اثبات صفات لا تليق بالله تعالى يستلزم نفي أضدادها التي هي كمالات, و إن اثبات إله متصف بغير صفات الإله بمنزلة نفي ذلك الموصوف. انتهى.

و أما من الشافعية فقد نص غير واحد على ذلك: فقد جاء في السيف الصقيل في الرد على ابن الزفيل أن الإمام محمد بن إبراهيم الحموي قال ما نصه: “من قال إن الله متكلم بحرف وصوت فقد قال قولاً يلزم منه أن الله جسم ومن قال إنه جسم فقد قال بحدوثه، ومن قال بحدوثه فقد كفر، والكافر لا تصح ولايته ولا تقبل شهادته” .انتهـى

و محمد بن إبراهيم الحموي يُعرف بابن الجاموس الشافعي توفي سنة 615 هجري.

وقال الإمام السبكي رحمه الله: ومن أطلق القعود وقال انه لم يرد صفات الاجسام قال شئ لم تشهد به اللغة فيكون باطلا وهو كالمقر بالتجسيم المنكر له. انتهى

فانظر كيف ألزم الإمام السبكي من قال بالقعود في حق الله وجعله مذهبا له، ولم يعذره بقوله لم يرد صفات الاجسام. كذلك نحن نلزم الوهابية بمقالاتهم التجسمية ونجعله مذهبا لهم ولو قالوا بلا كيف ولا تمثيل ولا تشبيه.

وقال الإمام ابن دقيق العيد ما نصه: وقد اختلف الناس في التكفير وسببه حتى صنف فيه مفردا و الذي يرجع إليه النظر في هذا: أن مآل المذهب: هل هو مذهب أو لا؟ فمن أكفر المبتدعة قال: إن مآل المذهب مذهب فيقول: المجسمة كفار لأنه عبدوا جسما وهو غير الله تعالى فهم عابدون لغير الله ومن عبد غير الله كفر. انتهى

وقال الزركشي في تشنيف المسامع: “لقوله تعالى (وزاده بسطة في العلم والجسم) فدل على ان الجسم قد يزيد على جسم اخر وذلك لاجل التاليف والاجتماع وكثرة الاجزاء وذلك مستحيلة في حق الباري فكذلك لازمه ولا عبرة بخلاف المبتدعة من الكرامية ويلزم المجسمة القول بقدم العالم لان الجهة والتحيز والمكان من جملة العالم. قال الائمة لا تستطيع المجسمة ابدا اثبات حدوث العالم لان الاجسام متماثلة فلا يتصور ان يكون فيها قديم ومحدث ونقل صاحب الخصال من الحنابلة عن احمد بن حنبل انه قال: من قال جسم لا كالاجسام كفر ونقل عن الاشعرية انه يفسق وهذا النقل عن الاشعرية ليس بصحيح . انتهى

وحتى من خالف في مسألة ترك تكفير المجسم و الجهوي من الشافعية كسليمان البجيرمي فقد أتى بكلام خالف به مذهبه, فقال في شرحه على الخطيب: وذكر حج (أي ابن حجر الهيتمي)في الكتاب المذكور (الأعلام) أن القائلين بالجهة لا يكفرون على الصحيح . قال : نعم إن اعتقدوا لازم قولهم من الحدوث أو غيره كفروا إجماعا. ا هـ فليحفظ. انتهى

وهذا اعتراف منه أن القائل بالجهة في حق الله قد يعتقد لازم قوله من الحدوث فيكفر بالاجماع. و بهذا يبطل قولهم أن لازم المذهب ليس مذهبا في كل الأحوال.

أما من الحنفية فقد قال الشيخ العلامة كمال الدين البياضي في شرح كلام الإمام أبي حنيفة ما نصه: “وكل ما هو مختص بالجهة والحيز فإنه محتاج محدث بالضرورة، فهو قول بالنقص الصريح في حقه تعالى (كذا من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض) لاستلزامه القول باختصاصه تعالى بالجهة والحيز والنقص الصريح في شأنه سيما في القول بالكون في الأرض ونفي العلو عنه تعالى بل نفي ذات الإله المنزه عن التحيز ومشابهة الأشياء”. انتهى

وقال الملا علي القاري في مرقاة المفاتيح ما نصه: “قال النووي في شرح مسلم في هذا الحديث (حديث النزول) وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها، مذهبان مشهوران فمذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين الإيمان بحقيقتها على ما يليق به تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ولا نتكلم في تأويلها مع اعتقادنا تنزيه الله سبحانه عن سائر سمات الحدوث، والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف وهو محكي عن مالك والأوزاعي إنما يتأول على ما يليق بها بحسب بواطنها، فعليه الخبر مؤول بتأويلين أي المذكورين وبكلامه وبكلام الشيخ الرباني أبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم من أئمتنا وغيرهم، يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر كالمجيء والصورة والشخص والرجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك مما يفهمه ظاهرها لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان، تستلزم أشياء يحكم بكفرها بالإجماع، فاضطر ذلك جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ.”

فهذا نص من الملا علي القاري ينقل فيه الاجماع على كفر القائلين بلوازم الجسمية.

وأما ما يُنسب للعز ابن عبد السلام أنه قال في قواعده 1/202 : “فإن قيل : يلزم من الاختلاف في كونه سبحانه ” وتعالى ” في جهة كونه حادثا قلنا : لازم المذهب ليس بمذهب ” فهو باطل مردود وقد تعقبه عليه العديد من أكابر العلماء كالإمام البلقيني.

قال الرملي في حاشيته 1/ 219 ما نصه: وقال ابن عبد السلام في القواعد : إنه الأصح (أي ترك تكفير الجهوي) بناء على أن لازم المذهب ليس بمذهب (الرملي) وكتب أيضا. قال البلقيني الصحيح , أو الصواب خلاف ما قال. انتهى

و الإِمَامُ الحافِظُ الفَقِيهُ شيْخُ الإِسْلامِ سِرَاجُ الدِّينِ البُلْقِينِيُّ الشافِعِيُّ رحمه الله كان من أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي وهو أعلى مرتبة من العز بن عبد السلام وأَقْوَى مِنَ النَّوَوِيِّ وَمِنْ كَثِيرِينَ مِنَ الشافعيةِ مِمَّنْ قَبْلَهُ ومِمَّنْ جاءَ بَعْدَهُ. كان أَشْهَرَ عُلَمَاءِ الشافعيَّة في القَرْنِ الثامنِ الهِجرِيِّ وهو شيخُ الحافظِ بنِ حجرٍ العَسْقَلانِيِّ في الفقهِ. علماءُ أَهْلِ السنةِ لَقَّبُوهُ سِرَاجُ الدِّينِ البُلْقِينِيُّ لأنه كان مِنْ فَطَاحِلِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ.

. قال عنه الزبيدي في تاج العروس عند شرحه لكلمة “بلقن” ما نصه: منها علامة الدنيا صاحبنا سراج الدين أبو حفص عمر بن رسلان (أي البلقيني)

وقال الإمام محمد زاهد الكوثري في مقالاته صحيفة 267 ما نصه: ” وإن العز بن عبد السلام يعذر –في قواعده- من بدرت منه كلمة موهمة لكنه يريد بذلك العامي الذي تخفى عليه مدلولات الألفاظ (أي لا يفهم معناها) ، وتعلو على مداركه دقائق علم أصول الدين، ويتهيب الولوج في هذه المضايق، لا من ألّف وقام يدعو الناس إلى عقيدة التجسيم بهذه الصراحة، فيجب إلزامه مقتضى كلامه بدون توقف,بل يقول القرطبي المفسر في التذكار إن المجسم عابد صنم. و المقبلي يرد على ابن عبد السلام رأيه و يقول إنه رأي منه لا دليل عليه و ليس أحد يعذر فيما يوجب الكفر”. انتهى

هذا وقد تعقب النووي و ابن أبي جمرة المالكي كلام العز بن عبد السلام و قيداه و ظبطا كلامه على وفق قواعد الشرع. قال الإمام إبراهيم اللقاني:فائدة: قال عز الدين ابن عبد السلام: معتقد الجهة لا يكفر. وقيده النووي بكونه من العامة، وابن أبي جمرة بعسر فهمهم نفيها، والله أعلم. انتهى

ومعنى قول اللقاني:”قيده” أي ما تركه على اطلاقه. و مراد النووي بالعامي هنا الذي لا يفهم المعنى من الكلمة التي تلفظ بها . فالنووي رحمه الله لما علم من مراد العز بن عبد السلام تركه تكفير من أطلق لفظ الجهة في حق الله وهو غير فاهم لمعناها قيد كلامه بكونه من العامة. وهذا ما أشار إليه الإمام الكوثري أيضا. فعند الإمام النووي: غير العامي ممن له إحاطة بمعاني الألفاظ إذا أطلق كلمة الجهة الحسية في حق الله يكفر لأن الجهة تفيد المكان و الحيز.

أما ابن أبي جمرة المالكي فقد قيد كلام العز بن عبد السلام بعسر فهم العامي نفي معاني العبارات الموهمة للجهة كقوله “الله فوق العرش” أو “على العرش” أو “ربي فوق” وقصده فوقية قهر و استعلاء و أنه عالي القدر جدا. وبالتالي يعسر عليه فهم نفي ما ظاهره يوهم الجهة عن الله لأنه جازم بأن ما قاله موافق لظواهر النصوص وأن ما يعتقده هو نفي التشبيه و التحيز و الجهة عن الله, لذلك عبر الإمام ابن أبي جمرة عن هذا القيد بقوله ” بعسر فهمهم نفيها”.

هذا هو معنى كلام االلقاني وإلا فلا معنى لقوله: “قيده”.

وهذا هو اللبس الذي وقع فيه بعض الناس فتاهوا في هذه المسألة فلم يعرفوا الفارق بين من ينطق بلفظ “الجسم” أو “جهة فوق” وهو فاهم لمعناها و بين من ينطق بها وهو لا يفهم المعنى أو يظن أن هذين اللفظين تردان في لسان العرب بمعنيين, أحدهما المعنى الكفري الفاسد و الآخر المعنى الذي يوافق العقيدة السليمة. فصاروا يطلقون القول بإيمان كل من نسب الجهة الحسية لله .

فهؤلاء الذين تلقفوا كلام العز بن عبد السلام و جردوه من قيوده فقد ضلوا وأضلوا غيرهم و حكموا باسلام من نسب الجهة الحسية لله ولم يفرقوا بين العامي الذي لا يفهم ما يتلفظ به و بين رؤوس المجسمة الذين ينسبون عن اختيار الجهة لله. فلا وافق كلامهم كلام العلماء المجتهدين و لا مراد العز بن عبد السلام.