معنى نزول جبريل بكلام الله على أنبياءه
قال تعالى ” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ “- الشورى : 51-
فقوله تعالى: “الا وحيا”، الوحي هنا هو الكلام الذي يجده الانسان في نفسه، و هو كالوحي الذي وجدته ام موسى، قال تعالى: ” وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) ” (القصص – 7) و كرؤيا الأنبياء فهي وحي من الله.
وأما قوله تعالى: ” او من وراء حجاب”: فهو كالكلام الذي سمعه موسى عليه السلام، وكالكلام الذي سَمِعَه سيِّدُنا محمُّدٌ صلى الله عليه وسلم ليلةَ المعراجِ بعدَ أنْ وصلَ إلى المستوى الذي كانَ يسمعُ فيه صريفَ الأقلامِ.
والحجاب كان على سمع موسى وسمع سيدنا محمد، فرفعه الله عنهما، فسمعا كلام الله.
و لا يقال هو كلام خرج من الله عز وجل فسمعه سيدنا موسى أو سيدنا محمد من الله، تعالى الله عما يقول الظالمون، لأن صفة الكلام القائمة بذات الله لا توصف بالاتصال ولا بالانفصال.
وأما قوله: ” او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء” : فهو نزول جِبْرِيل على رسل الله، وتبليغه إياهم وحي الله عز وجل.
ولفهم حقيقة نزول جبريل عليه السلام بالوحي على رسل الله، لابد أولًا أن نعلم أن الله لما خلق القلم الأعلى، أمره أن يكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة بكل اللغات.
اللوحَ المحفوظَ مساحتُه مسيرةُ خمسمائةِ عام. القلمُ بقدرةِ اللهِ جرى، وذلك قبل أنْ تُخلَقَ الملائكة.
جرى القلم بما أمره الله به، فكتب الكتب المنزّلة على أنبيائه، ودوَّن أعمال العباد وأرزاقهم وآجالهم، وكل شىءٍ يصيرُ إلى نهايةِ الدنيا أما ما بعد الحياةِ الدنيا فاللوحُ المحفوظُ لا يحويهِ لأنّ الحياةَ الآخرةَ لا نهايةَ لها.
وقد بيّن علماء أهل السنّة أن جبريل عليه السلام إنما ينزل بالوحي بعد أن يُسمِعُه الله تعالى صوتًا مخلوقًا على هيئة نظم الكتاب الذي أوحي به، ثم يأمره الله تعالى بقراءة ما كُتب في اللوح المحفوظ من ذلك الكتاب، فيحفظه جبريل.
كل الكتب السماوية باللغات التي هي عليها مكتوبة في اللوح المحفوظ، فأخذ جبريل التوراة باللغة العبرية كما هي مكتوبة في اللوح المحفوظ ونزل بها على موسى عليه الصلاة والسلام وأخذ الإنجيل من اللوح المحفوظ باللغة السريانية ونزل به على عيسى عليه الصلاة والسلام، والزبور بالعبرية ونزل به على داود وهكذا صحف الأنبياء والقرآن باللغة العربية مكتوب في اللوح المحفوظ.
فجبريل يتلقف الكتاب الذي أمر بتبليغه وينزل به إلى النبي المرسل في زمانه، مبلغًا إياه الكلام اللفظي.
قال تعالى: ” وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ “.
وأما الله عز وجل فكلامه أزلي لا يشبه كلام المخلوقين، فلا يتلفّظ ولا ينطق ولا يتكلم بلغةٍ ولا حرفٍ ولا صوت، إنما هذا اللفظ المنزل شىءٌ كتبَه القلم الأعلى على اللوح المحفوظ بأمرٍ من الله، وجبريل عليه السلام أخذه من اللوح المحفوظ ونزل بها على الأنبياء كما أمره الله، ليس جبريل ألّفها من عند نفسه كما تفتري المجسمة على أهل السنة.
وصدق ابن السبكي في رسالة الجرح والتعديل، حيث قال: “إنّ المجسمة يستحلّون الكذب على خصومِهم”. انتهى
وأما المشبهة المجسمة أنفسهم، فهم يزعمون أن الله كلم جبريل بكلامه القائم بذاته، وأن جبريل سمع أفراد الكلام الحادث المتصف بقدم الجنس، وهذا ضلال ما بعده ضلال، لأنهم جعلوا القديم حادثا.
هذا القرآن الذي نقرأه ليس الله قرأه على جبريل كما يتوهم الحشوية، لكن جبريل سمع كلام الله الأزلي الأبدي، وأمره بذلك الكلام أن يأخذ القرآن الذي كتب على اللوح المحفوظ وأن ينزل به على محمدٍ، وجبريل قرأه بالحرف والصوت، على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
القرآن ليس من تأليف جبريل ولا من تأليف محمد، نقول كلام الله لا بمعنى أن الله قرأه بالحرف والصوت.
فالقرآن، مكتوب في اللوح المحفوظ، كما في قوله تعالى : “بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ” – البروج: 21–22- وقوله تعالى: “وإنه في أُمِّ الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم” -الزخرف: 4-
وهذا يدل على أن نصّ القرآن مكتوبٌ في اللوح المحفوظ بكتابة مخصوصة، وبحروفٍ ورسمٍ موقوفٍ.
ومن هذا المنطلق، فصل بعض العلماء في ذلك
- وقالوا أن الله تعالى أمر جبريل عليه السلام بالاطلاع على اللوح المحفوظ، فتلقف منه القرآن.
- ثم خلق الله في جبريل علماً خاصًّا جعله يدرك أن القرآن الكريم هو اللفظ الدالّ على المعنى الأزليّ القائم بذات الله تعالى، أي هو العبارة المؤدية للمعنى القديم
- .ثم خلق الله لجبريل صوتا مقطعا بنظم القرآن. فسمع جبريل ذلك النظم بأمر الله تعالى، وحفظه كما هو دون زيادة أو نقصان.
قال الله تعالى: “الرَّحْمَٰنُ ﴿1﴾ عَلَّمَ الْقرآن ﴿2﴾ “
أي أن الله علم القرآن لجبريل ليُعلّمه لمحمدٍ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فجبريل لم يسمع القرآن بأن كلمه الله به مباشرة، ولا أن الله تعالى نطق بالبسملة أولاً ثم بالحروف تدرّجًا حتى ختم قوله: ﴿من الجنة والناس﴾، لأن الكلام النفسي ليس على نحو كلام المخلوقين، فهذه الحروف تحصل بالأدوات لأن كل حرف منها يحتاج مخرجا، والله منزه عن ذلك.
وذكر مكي بن أبي طالب في الهداية أنه رُوي عن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ” إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوحِيَ بِالأَمْرِ تَكَلَّمَ بِالْوَحْيِ، أَخَذَتِ السَّمَاوَاتُ مِنْهُ رَجْفَةً أَوْ قَالَ رِعْدَةً شَدِيدَةً خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، فَإِذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ صَعِقُوا وَخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا. فَيَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ جِبْرِيلُ. فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ. ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيلُ عَلَى الْمَلائِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بِسَمَاءِ سَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلائِكَتُهَا مَاذَا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيلُ فَيَقُولُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ قَالَ فَيَقُولُونَ كُلُّهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيلُ فَيَنْتَهِي جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ “. انتهى
العلامة المقرىء، أَبُو مُحَمَّدٍ، مَكِّيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ حَمُّوشِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ مُختَارٍ، القَيْسِيُّ القَيْرَوَانِيُّ، ثُمَّ القُرْطُبِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ.
الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره، وأحكامه، وجمل من فنون علومه
فقوله: “فَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ مِنْ وَحْيِهِ بِمَا أَرَادَ” لا يراد به أن الله كلم جبريل بكلامه الذاتي لأن الإرادة لا تتعلق بصفة الله كما توهم ذلك المشبهة، بل تتعلق بالكلام الحادث الذي خلقه الله عز وجل لجبريل.
وهذا الأثر أورد بعض العلماء في تفسير الاية :” وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۚ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا الْحَقَّ ۖ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ”.
بعد ذلك نزل جبريل عليه السلام بالقرآن – أي اللفظ المنزل- جملةً واحدة إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، وذلك بأمر الله تعالى، في ليلة القدر من شهر رمضان، كما في قوله تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة مباركة” -الدخان: 3-، وقوله: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن” – البقرة: 185-، وقوله: “إنا أنزلناه في ليلة القدر” -القدر: 1-.
وقد فسّر الإمام البيهقي هذا النزول في كتابه الأسماء والصفات بقوله: “وقوله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر يريد به – والله أعلم – إنا أسمعناه الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع، فيكون الملك منتقلاً به من علوّ إلى سفل.”. انتهى
ويُفهم من كلام البيهقي أن الإنزال هنا يشير إلى انتقال اللفظ القرآني إلى جبريل عليه السلام، ثم انتقاله به إلى العالم السفليّ، تمهيدًا لنزوله متفرّقًا على النبيّ محمد ﷺ بعد البعثة.
ولا يصح القول أن جبريل نزل بكلام الله الأزلي إلى بيت العزة.
وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ” أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر ، ثم أنزل بعد ذلك بعشرين سنة ثم قرأ : ” وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا” ، “وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (106 الكهف)” ، وروى النسائي في سننه والحاكم في مستدركه وابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق حسان بن حريث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة
من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم”. صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا “، وهذا لفظ النسائي.
ولفظ ابن أبي شيبة: ( دفِعَ إِلَى جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ جُمْلَةً، فَرُفِعَ في بَيْتِ الْعِزَّةِ ).
*******
حسان بن حُرَيْث أَبُو السوار الْعَدوي وَقيل أَبُو مَحْذُورَة من بني عدي بن عبد منَاف بن أد بن طانجة الْبَصْرِيّ
روى عَن عمرَان بن حُصَيْن فِي الْإِيمَان
روى عَنهُ قَتَادَة. 101 هـ (719م), رجال صحيح مسلم – لأحمد بن علي بن محمد بن إبراهيم، أبو بكر ابن مَنْجُويَه.
********
سعيد بن جُبَير بن هِشَام الْوَالِبِي مَوْلَاهُم أَبُو مُحَمَّد يوقال أَبُو عبد الله الْكُوفِي أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام روى عَن بن عمر وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَأبي سعيد وَطَائِفَة وَعنهُ الْأَعْمَش وَسَلَمَة بن كهيل وخلائق وَكَانَ يخْتم الْقُرْآن فِي كل لَيْلَتَيْنِ وَكَانَ بن عَبَّاس إِذا أَتَاهُ أهل الْكُوفَة يستفتونه يَقُول أَلَيْسَ فِيكُم سعيد بن جُبَير قَتله الْحجَّاج شَهِيدا فِي شعْبَان سنة خمس وَتِسْعين وَهُوَ بن سبع وَخمسين وَقيل تسع وَأَرْبَعين قَالَ مَيْمُون بن مهْرَان وَلَقَد مَاتَ وَمَا على ظهر الأَرْض أحد إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاج إِلَى علمه
Al-Suyūṭī (d. 1505 CE) – Isʿāf al-mubaṭṭaʾ fī-rijāl al-Muwaṭṭaʾ – السيوطي – إسعاف المبطأ في رجال الموطأ
بين 20 هـ (640م) و 120 هـ (737م)
*******
68 هـ (687م) تاريخ الوفاة:
عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ أَبُو الْعَبَّاسِ، أُمُّهُ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنِ بْنِ بَجِيَّةَ بْنِ الْهَزْمِ بْنِ رُوبِيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْهِلَالِيُّ، كَانَ يُسَمَّى الْحَبْرَ وَالْبَحْرَ لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ، وَحِدَّةِ فَهْمِهِ، وَحَبْرُ الْأُمَّةِ وَفَقِيهُهَا، وَلِسَانُ الْعَشِيرَةِ وَمِنْطِيقُهَا، مُحَنَّكٌ بِرِيقِ النُّبُوَّةِ، وَمَدْعُوٌّ لَهُ بِلِسَانِ الرِّسَالَةِ، فَقِهَ فِي الدِّينِ، وَعَلِمَ التَّأْوِيلَ، تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، سَمِعَ نَجْوَى جِبْرِيلَ لِلرَّسُولِ وَعَايَنَهُ، كَانَ مَوْلِدُهُ عَامَ الشِّعْبِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَقُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَتِينٌ، وَكَانُوا يَخْتِنُونَ لِلْبِلُوغِ، وَتُوُفِّيَ بِالطَّائِفِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَسَمَّاهُ رَبَّانِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَجَاءَ طَيْرٌ أَبْيَضُ فَدَخَلَ فِي أَكْفَانِهِ، وَسَمِعَ هَاتِفًا يَهْتِفُ مِنْ قَبْرِهِ {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. . .} [الفجر: 28] الْآيَةَ، كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُدْنِيهِ وَيَسْأَلُهُ، وَيُدْخِلُهُ مَعَ مَشْيَخَةِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَكَانَ لَهُ الْجَوَّابُ الْحَاضِرُ، وَالْوَجْهُ النَّاضِرُ، صَبِيحُ الْوَجْهِ، لَهُ وَفْرَةٌ مَخْضُوبَةٌ بِالْحِنَّاءِ، أَبْيَضُ طَوِيلٌ مُشْرَبٌ صُفْرَةً، جَسِيمٌ وَسِيمٌ، عِلْمُهُ غَزِيرٌ، وَخَبَرُهُ كَثِيرٌ، يَصْدُرُ الْجَاهِلُ عَنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ يَفِيضَانِ، وَالْجَائِعِ عَنْ خُبْزِهِ وَمَائِدَتِهِ شَبْعَانُ
أبو نعيم الأصبهاني – معرفة الصحابة
******
ولما نزل جبريل بالقرآن إلى السماء الدنيا أملى اللفظ المنزل على السفرة فكتبوه في صحف وفق الرسم الموجود في اللوح المحفوظ. وكانت تلك الصحف في محل من تلك السماء يسمى بيت العزة.
جاء في تفسير علي بن سهل النيسابوري: ” قال جماعة من العلماء نزل القرآن جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له : بيت العزّة، فحفظه جبريل، وغُشي على أهل السموات من هيبة كلام الله ، فمرَّ بهم جبريل، وقد أفاقوا، فقالوا: ماذا قال ربُّكم؟ قالوا: الحق – يعني القرآن ـ وهو معنى قوله : “حَتَّى إِذَا فُزِعَ عَن قُلُوبِهِمْ ” -سبأ: :23- فأتى به جبريل إلى بيت العزة، فأملاه على السَّفَرةِ الكتبة يعني الملائكة – وهو معنى قوله تعالى : “بِأَيدِى سَفَرَةٍ كِرَام بَرَرَة ” -عبس: 15 – 16-
وذهب إلى هذا المعنى من إملاء جبريل القرآن على السفرة، علم الدين السخاوي في جَمَالِ القُرَّاءِ وكمال الاقراء، في معرض حديثه عن حكمة إنزاله جملة فقال: ” وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل عليه السلام بإملائه على السفرة الكرام البررة -عليهم السلام- وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له”. انتهى
السَّخَاوِيُّ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الصَّمَدِ
الشَّيْخُ، الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، شَيْخُ القُرَّاءِ وَالأُدَبَاءِ، عَلَمُ الدِّيْنِ، أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بنِ عَطَّاسِ الهَمْدَانِيُّ، المِصْرِيُّ، السَّخَاوِيُّ، الشَّافِعِيُّ، نَزِيْلُ دِمَشْقَ.
شَرَحَ (الشَّاطبيَةَ) فِي مُجَلَّدَيْنِ، وَ (الرَّائِيَةَ) فِي مُجَلَّدٍ، وَلَهُ كِتَابُ (جَمَالِ القُرَّاءِ) ، وَكِتَابُ (مُنِيْر الدّيَاجِي فِي الآدَابِ) ، وَبلغَ فِي التَّفْسِيْرِ إِلَى الكَهفِ، وَذَلِكَ فِي أَرْبَعِ مُجَلَّدَاتٍ، وَشَرَحَ (المُفَصّلَ) فِي أَرْبَعِ مُجَلَّدَاتٍ، وَلَهُ النّظمُ وَالنَّثْرُ.وَكَانَ يَترخّصُ فِي إِقْرَاءِ اثْنَيْنِ فَأَكْثَر كُلّ وَاحِدٍ فِي سُوْرَةٍ، وَفِي هَذَا خِلاَفُ السُّنَّةِ، لأَنَّنَا أُمرنَا بِالإِنصَاتِ إِلَى قَارِئٍ لِنَفْهَمَ وَنعقلَ وَنَتَدَبَّرَ.
وَقَدْ وَفَدَ علَى السُّلْطَان صَلاَحِ الدِّيْنِ بِظَاهِرِ عَكَّا فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِيْنَ زَمَنَ المحَاصرَةِ، فَامْتَدَحَهُ بِقَصيدَةٍ طَوِيْلَةٍ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ امْتَدَحَ أَيْضاً الرَّشِيْدَ الفَارِقِيَّ، وَبَيْنَ المَمْدُوحَيْنِ فِي المَوْتِ أَزْيَدُ مِنْ مائَةِ عَامٍ.
قَالَ الإِمَامُ أَبُو شَامَةَ : وَفِي ثَانِي عشرَ جُمَادَى الآخِرَةِ، سَنَةَ ثَلاَثٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَسِتِّ مائَةٍ، تُوُفِّيَ شَيْخُنَا عَلَمُ الدِّيْنِ علاَمَةُ زَمَانِهِ وَشَيْخُ أَوَانِهِ بِمَنْزِلِهِ بِالتُّرْبَةِ الصَّالِحيَّةِ، وَكَانَ عَلَى جِنَازَتِهِ هَيبَةٌ وَجَلاَلَةٌ وَإِخبَاتٌ، وَمِنْهُ اسْتَفَدْتُ عُلُوْماً جَمَّةً كَالقِرَاءات، وَالتَّفْسِيْرِ، وَفُنُوْنِ العَرَبِيَّة. قُلْتُ: كَانَ يُقْرِئُ بِالتُّرْبَةِ، وَلَهُ حَلْقَةٌ بِالجَامِعِ.
ومن ثَمّ، تتابع نزول جبريل بالقرآن على النبيّ محمد ﷺ منجَّمًا على فتراتٍ متعددة، وفي مناسباتٍ مختلفة، وفقًا لحكمة الله عز وجل.
وقد كان جبريل عليه السلام يُعلّم القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وسلم كما أسمعه له الله عز وجل، وكان يعلّمه أيضا رسم بعض الكلمات، مع كون النبيّ أميا، لأن رسم القرآن توقيفي، لا أنّ الصحابة تصرفوا في كتابته فكتبوا مثلا ” ابراهيم” و ” ابراهم” و “رحمة”، و”رحمت”…. وهذا الرسم موجود في اللوح المحفوظ وفي صحف الكرام البررة.
قال الله تعالى: “عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى” وهو جبريل عليه السلام.
و قال تعالى: ” إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ” – التكوير: 19 – 21 –
وعلى هذا المعنى قال الإمام الباقلاني(مات في يوم الخميس رابع عشر رجب من سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.): “والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر، هو قول جبريل عليه السلام، يدل على ذلك قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ الأيات: – الحاقة 38 – 43-، وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ … الآيات: – التكوير: 15 – 29- انتهى
وأما الحشوية فصاروا يشنعون على الباقلاني يزعمون أنه قال أن القرآن هو كلام جبريل وليس كلام الله. مع أن الباقلاني قال بعد ذلك: “هذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن”
ثم قال بعد ذلك: “فحاصل هذا الكلام أن الصفة القديمة كالعلم والكلام ونحو ذلك من صفات الذات، لا يجوز أن تفارق الموصوف، لأن الصفة إذا فارقت الموصوف اتصف بضدها، والله تعالى متنزه عن الصفة وضدها، فافهم ذلك، فجاء من ذلك أن جبريل عليه السلام علم كلام الله وفهمه، وعلمه الله النظم العربي الذي هو قراءته، وعلم هو القراءة”. انتهى
فيتبيّن مما تقدم أن القرآن الكريم ليس من تأليف جبريل عليه السلام، ولا من إنشاء النبيّ محمد ﷺ، وإنما هو كلام الله تعالى المنزل، الذي تَلقَّاه جبريل من ربّه، ثم بلّغه إلى رسوله على النحو الذي أُمِر به. فمن زعم أن القرآن مِن نظمِ وتأليف وترتيبِ جبريل مثلا أو أنّ جبريل يتكلّف ويتصرّف ويغيّر ويُنقِص ويزيد وهو الذي رتّب القرآن من عند نفسِه لا يكون مسلما من أصله.
*************************
العلامة المقرىء، أَبُو مُحَمَّدٍ، مَكِّيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ حَمُّوشِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ مُختَارٍ، القَيْسِيُّ القَيْرَوَانِيُّ، ثُمَّ القُرْطُبِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ.
وُلِدَ بِالقَيْرَوَان سَنَة خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ.
وَأخذ عَنِ: ابْنِ أَبِي زَيْدٍ، وَأَبِي الحَسَنِ القَابسِي.
وَتلاَ بِمِصْرَ عَلَى أَبِي عَدِيِّ ابْنِ الإِمَام، وَأَبِي الطَّيِّبِ بنِ غَلْبُوْنَ، وَوَلَدِه طَاهِر.
وَسَمِعَ: مِنْ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيٍّ الأُدْفُوي، وَأَحْمَدَ بنِ فِرَاس المَكِّيّ، وَعِدَّة.
وَكَانَ مِنْ أَوْعِيَةِ العِلْمِ مَعَ الدّينِ وَالسَّكِينَةِ وَالفَهُمِ، ارْتَحَلَ مَرَّتين، الأُوْلَى فِي سَنَةِ سِتٍّ وسبعين.
وَقَالَ صَاحِبُه أَبُو عُمَرَ أَحْمَدُ بنُ مَهْدِيّ المقرىء: أَخْبَرَنِي مَكِّيّ أَنَّهُ سَافرَ إِلَى مِصْرَ وَلَهُ ثلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَاشتغلَ، ثُمَّ رحلَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِيْنَ، وَأَنَّهُ جَاور ثَلاَثَةَ أَعْوَام، وَدَخَلَ الأَنْدَلُسَ فِي سَنَةِ ثَلاَثٍ وَتِسْعِيْنَ، وَأَقرأَ بِجَامعِ قُرْطُبَة، وَعظم اسْمه، وَبَعُدَ صِيْتُه.
قَالَ ابْنُ بَشْكُوَالٍ: قَلَّده أَبُو الْحزم جَهْوَر خطَابَةَ قُرْطُبَة بَعْد يُوْنُس بن عَبْدِ اللهِ، وَقَدْ نَاب عَنْ يُوْنُس.
قَالَ: وَلَهُ ثَمَانُوْنَ مُصَنَّفاً، وَكَانَ خيرًا متدينًا، مشهورًا بإجابة الدعوة، دعا على رَجُلٍ كَانَ يُؤذِيهِ، وَيسخر بِهِ إِذَا خطبَ، فَزَمِنَ الرَّجُلُ. تُوُفِّيَ فِي المُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلاَثِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ.
قُلْتُ: تَلاَ عَلَيْهِ خلقٌ مِنْهُم: عَبْدُ اللهِ بنُ سَهْلٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُطَرِّف، وَرَوَى عَنْهُ بِالإِجَازَةِ أَبُو مُحَمَّدٍ بنُ عتَّاب.
وَفِيْهَا مَاتَ أَبُو مُحَمَّدٍ السَّكَنُ بنُ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ جُمَيْعٍ الغَسَّانِيّ بِصَيْدَا عَنْ بِضْعٍ وَثَمَانِيْنَ سنة. يروي عن جده “الموطأ”.
وفيها مَاتَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يَزْدَة المِلَنْجِي المقرىء، وعلي بن محمد بن علي الأسواري.
سير أعلام النبلاء – شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي.
الكلام اللفظي و الكلام النفسي
الكلام قسمان اما لفظي او نفسي.
أ- الكلام اللفظي هو المركب من حروف وكلمات.
ولما كان الكلام اللفظي يقتضي اللغات، و يقتضي أيضا التركيب والتعاقب والترتيب، علم أنه وُضع للمخلوق لا للخالق.
ب- الكلام النفسي هو القائم بالنفس. ونفس الشىء ذاته
والدليل عليه ٱيات منها:
– قوله تعالى: “ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا اللّه بما نقول حسبهم جهنم”.
و قوله تعالى : أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ .
– قوله تعالى: “وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ” -الأعراف: 205-
قال الفخر الرازي في تفسيره: “قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِحُصُولِ الذِّكْرِ النَّفْسَانِيِّ وَلَا مَعْنَى لِكَلَامِ النَّفْسِ إِلَّا ذَلِكَ.” انتهى
ويدل على الكلام النفسي أيضاً قول عمر رضي الله عنه: “زورت في نفسي كلاماً”. انتهى
و الكلام النفسي إما أن يكون كلاما نفسيا بشريا حادثا، وهو عبارات مرتبة منظمة.
وإما كلاما نفسيا إلهيا قديما، وهو ليس بعبارات مرتبة .
وليعلم أن أهل السنة أطلقوا مصطلح الكلام النفسي القديم للتفريق بينه وبين الكلام الحادث سواء اللفظي منه أو النفسي البشري.
و معنى الكلام النفسي القديم، هو الكلام القائم بذاته تعالى، فلا ينفصل منه، وهو ليس حرفا ولا صوتا.
وهذا الكلام النفسي القديم ليس كلاما يحدثه الله في ذاته، ولا يقال أيضا أنه حدث في نفس الله. فهو لا يشبه الكلام النفسي البشري الذي يختلج في نفس الشخص.
وليعلم ان الكلام النفسي القديم يصح سماعه كما هو مذهب الأشعري والغزالي، بناءا على أن مدار صحة السماع هو وجود المسموع وإن لم يكن صوتا.
و الكلام النفسي القديم كان معروفا بين الصحابة، لكن المصطلح لم يظهر في زمانهم، وهذا كغيره من المصطلحات الحديثية والفقهية، التي ظهرت لاحقا، وهذا لعدم الحاجة إليه في زمانهم، ولعدم ظهور المشبهة بين أظهرهم ممن ينسبون الحرف والصوت لله عز وجل.
وأول من أشار إلي الكلام النفسي وعبر عنه هو الإمام أبو حنيفة النعمان المتوفى سنة 150 هـجري في كتابه الفقه الأكبر، حيث قال : «ويتكلم لا ككلامنا ويسمع لا كسمعنا ونحن نتكلم بالآلات والحروف والله تعالى يتكلم بلا آلة ولا حروف والحروف مخلوقة وكلام الله تعالى غير مخلوق». انتهى
و اول من اظهر مصطلح الكلام النفسي هو الشيخ عبد الله بن سعيد بن كلاب رضي الله عنه المتوفى سنة 241 هجري، و عن تلامذته اخذ ابو الحسن الاشعري، كما ذكر ذلك الذهبي في السير.
وأما غيره من علماء أهل السنة فاصطلحوا على مصطلحات مشابهة تفيد نفس المعنى:
– قال البخاري المتوفى سنة 256 هجري في خلق أفعال العباد: “وقراءة القرآن من جملة الصلاة، فالصلاة طاعة الله، والأمر بالصلاة قرآن، وهو مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على اللسان، والقراءة والحفظ والكتابة مخلوق، وما قرئ وحفظ وكتب ليس بمخلوق، ومن الدليل عليه أن الناس يكتبون الله ويحفظونه ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه، والخالق الله بصفته، ويقال له: أترى القرآن في المصاحف؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن من صفات الله ما يرى في الدنيا، وهذا رد لقول الله عز وجل: ( لا تدركه الأبصار ) في الدنيا ( وهو يدرك الأبصار ) وإن قال يرى كتابة القرآن فقد رجع إلى الخلق، ويقال له: هل تدرك الأبصار إلا اللون؟ فإن قال: لا، قيل له: وهل يكون اللون إلا في الجسم؟ فإن قال: نعم، فقد زعم أن القرآن جسم يرى”. انتهى
وقال الطبري المتوفى سنة 310 هجري في التبصير: ” لأن الكلام لا يجوز أن يكون كلاماً إلا لمتكلم، لأنه ليس بجسمٍ فيقوم بذاته قيام الأجسام بأنفسها”. انتهى
وعليه فلا عبرة بمن أنكر الكلام النفسي، سواء الكلام النفسي البشري، أو الكلام النفسي القديم، لا سيما مجسمة العصر، ممن يقومون بالتعبير بأزرار الحاسوب عن مدلولات كلامهم النفسي، وما يقوم بقلوبهم من المعاني.
ولو كان الأخطل حيا بيينا لقال:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما .:. جعل الزر على الفؤاد دليلا
والناظر في أغلب اعتراضات المجسمة على مسألة الكلام النفسي يلاحظ أن عوامهم وعلماءهم لم يحيطوا فهما بها حتى أن التاج السبكي قد ذكر في طبقات الشافعية عند ترجمته للحافظ فخرُ الدين بن عساكر ما نصه: ” وكان بينه وبين الحنابلة ما يكون غالبا بين رَعاعِ الحنابلة والأشاعرة فيُذكر أنه كان لا يمرُّ بالمكان الذي يكون فيه الحنابلةُ خشية أن يأثموا بالوقيعة فيه وأنه ربما مر بالشيخ الموفّق بن قدامة فسلم فلم يرُد الموفَّق السلام، فقيل له فقال: إنه يقول بالكلام النَّفسي وأنا أردُّ عليه في نفسي. فإن صحَّت هذه الحكايةُ فهي مع ما ثبت عندنا من ورَعِ الشيخ موفَّق الدين ودينه وعلمه غريبة فإن ذلك لا يكفيه جوابُ سلامٍ وإن كان ذلك منه لأنه يرى أن الشيخ فخر الدين لا يستحقُّ جوابَ السّلام فلا كيد لمن يرى هذا الرأي ولا كرامة ولا تظُنُّ ذلك بالشيخ الموفَّق ولعل هذه الحكاية من تخليقات متأخِّري الحشوية”. انتهى
وهذه القصة إن ثبتت عن الموفق ابن قدامة فهي من جملة الأدلة التي تثبت أن بعض كبار المجسمة يظنون أن الكلام النفسي القديم هو ما يحدث من كلام في ذات الله و العياذ بالله. وعلى تقدير صحة القصة أيضا فما قاله ابن قدامة يعتبر من جملة مغالطاته لأن سماع الكلام النفسي يكون بخرق العادة، فيكون طلب ابن قدامة من ابن عساكر و الأشاعرة عامة سماع كلامه النفسي من قبيل خرق العادة، إلا إذا كان ابن قدامة يعتبر الأشاعرة عامة أولياء تجري على أيديهم الكرامات بسماع كلام الناس النفسي لذلك طالبهم بذلك، وإلا كان طلبه من قبيل العبث لا غير.
ويكفي أن أبا شامة شيخ الإمام النووي قال عنه “كلامه في العقائد على الطريقة المشهورة عن أهل مذهبه ، فسبحان من لم يوضح له الأمر فيها على جلالته في العلم ومعرفته بمعاني الأخبار “. انتهى
وأعجب من ذلك أيضا قول ابن القيم، أن شيخه ابن تيمية ردّ مسألة الكلام النفسيَّ من تسعين وجها.
فحتى لو ردّه بزعْمِه من تسعمائة وجه أو تسعة آلاف وجه أو ما شاء من الأعداد، فإنما يَرُدّ على نفسهِ، ويشهدُ عليها بسوء الفهمِ للكتاب والسنَّةِ. وهذا معنى قول الإمام السبكي: ” إن علمَ ابن تيمية أكبر من عقله”، و قول زروق: “إن ابن تيمية ملموزٌ بنقص العقل”.
ملاحظة: مرادُ علماء أهل السُّنة بقولهم كلامُ الله معنًى قديمٌ قائم بذاته العلي أي الصفة التي تقوم بالذات وتتصف بها الذات ، كما قالوا: صفات المعاني ، أي الصفات التي هي معاني ، وليس مرادهم بالمعنى هنا المعنى الذي يقابل اللفظ ، أي المعنى الذي يُفهَم من اللفظ ويدل عليه اللفظ ويرتسم في ذهن الشخص لأن هذا لا يقوم بالذات العلي لأن ما قام بذهن المخلوق ليس بعينه هو القائم بالذات العلي ، بل الألفاظ وما قام بذهن المخلوق من معانيها يدلان على الكلام النفسي القائم بالذات العلي لأن صفته القائمة به لا تتصل بالمخلوق بأي وجه من الوجوه.
التفصيل بين الكلام النفسي القديم واللفظ المنزل الحادث عند الأشعرية
ليعلم أولا أن أكثر المجسمة والمشبهة والحشوية ما فهموا مصطلح “الكلام النفسي القديم” الذي يقول به أهل السنة الأشاعرة، يظنون أن معنى قولهم ” الكلام النفسي” أن الله ما تكلم، وان الكلام النفسي هو فقط ما أحدثه الله من كلام في ذاته والعياذ بالله. لذلك وجب البيان والتوضيح.
راجع الرابط التالي:
https://www.facebook.com/share/p/StMmn9iWeXr5hjtC/
فكلام الله النفسي عند أهل السنة الأشاعرة، غير مخلوق، وهو دال على جميع معلومات الله.
وأما القرٱن الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو دال على بعض معلومات الله، كما أن التوراة المنزل على موسى دال على بعض معلومات الله، وكذلك الانجيل المنزل على عيسى فهو دال أيضا على بعض معلومات الله.
وبهذا الاعتبار فكلام الله النفسي غير مساوي لمدلول القرٱن المنزل على سيدنا محمد.
القرٱن المنزل على سيدنا محمد المبتدأ بسورة الفاتحة والمختتم بسورة الناس هو بعض مدلولات كلام الله النفسي الذي لا ينتهي.
قال تعالى: ” قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا” – الكهف: 109-
وقال تعالى: “ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله” -لقمان: 27-
• فلما يقول الأشاعرة ان “القرٱن كلام الله غير مخلوق”، مرادهم بذلك ان القرٱن من حيث هو مدلول كلام الله النفسي غير المخلوق.
وبما أنه دال أيضا على بعض معلومات الله، فهو من هذه الحيثية غير مخلوق. وهذا معنى ما نقله ابن هانئ في مسائله عن الإمام أحمد أنه قال: “القرآن عِلمٌ من علم الله، فمن زعم أن علم الله مخلوق فهو كافر”. انتهى
وجاء أيضا في كتاب السنة المنسوب لعبد الله بن الإمام أحمد: “من قال القُرْآنُ مخلوقٌ فهو عندنا كافِرٌ؛ لأنَّ القُرْآنَ مِن عِلمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ”. انتهى
وهذا مجمل المعنى المنقول عن السلف، فقد قال اللَّالَكائيُّ: ” قالوا كُلُّهم: القُرْآنُ كَلامُ اللهِ غَيرُ مَخلوقٍ، ومن قال: مخلوقٌ، فهو كافِرٌ. فهؤلاء خَمسُمائةٍ وخَمسونَ نَفسًا أو أكثَرُ من التابعينَ وأتباعِ التَّابعين والأئمَّةِ المَرْضِيِّين سوى الصَّحابةِ الخَيِّرينَ على اختلافِ الأعصارِ ومُضِيِّ السِّنينَ والأعوامِ”. انتهى
فكلام الله النفسي هو قديم قائم بذات الله، غير مخلوق ولا يتبعض ولا يتجزأ، و لا يقال كلام الله منه خرج.
• ولما يقول الأشعرية أن القرٱن بمعنى اللفظ المنزل مخلوق، فهذا ليس فيه انكار صفة الكلام القائمة بذات الله.
اللفظ المنزل المرتب والمنظوم، والمكتوب بلغة العرب، هذا قطعا محدث مخلوق.
قال اللهُ سُبحانَه: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ” – الزخرف –
وهو ليس من تأليف ملك ولا بشر.
قال تعالى: “وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ”. انتهى
ولما كان الكلام القديم لا يوصف بحدوث نزوله إلينا علم أن قوله تعالى: “ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث”، يراد به اللفظ المنزل قطعا.
نقل الهروي في الفاروق بسنده إلى حرب الكرماني: سألت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يعني ابن راهويه عن قوله تعالى :{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} قال: قديم من رب العزة محدث إلى الأرض.
ثم ان الله تعالى جعل القرٱن معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. والله لا يجعل معجزة صفة من صفاته.
فالله عز وجل لا يتحدى الناس بأن يوجدوا قدرة مثل قدرته، لكن يتحداهم بما هو من الممكنات التي تدخل تحت قدراتهم. فبعجز المشركين على الاتيان بما يدخل تحت قدراتهم، يقيم الله عليهم الحجة.
ومما تقدم يُفهم أن القرٱن يطلق ويراد به:
-كلام الله الازلي، لأنه دال عليه، و لذلك يقال عنه غير مخلوق.
– اللفظ المنزل وهو حادث مخلوق.
ولأجل هذا التفصيل منع الكثير من السلف اطلاق عبارة القرٱن مخلوق، لأنها توهم أن صفة الكلام مخلوقة، وقد منع الإمام أحمد القول بخلق القرٱن زمن المحنة ومال إلى تأويل الٱثار التي توهم خلق القرٱن
قال الحافظ الذهبي في ” سير أعلام النبلاء ” ما نصه: ” قال أبو الحسن عبد الملك الميموني: قال رجل لأبي عبد الله – أحمد بن حنبل : ذهبت إلى خلف البزار أعظه، بلغني أنه حدث بحديث عن الأحوص عن عبد الله – بن مسعود – قال: ” ما خلق الله شيئا أعظم من آية الكرسي… ” وذكر الحديث، فقال أبو عبد الله – أحمد بن حنبل -: ما كان ينبغي أن يحدث بهذا في هذه الأيام – يريد زمن المحنة – والمتن: ” ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي ” وقد قال أحمد بن حنبل لما أوردوا عليه هذا يوم المحنة: إن الخلق واقع ههنا على السماء والأرض وهذه الأشياء، لا على القرآن”. انتهى
