حل ألفاظ العقيدة النسفية كاملة

#1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ
.

  قال الإِمَامُ عُمَرُ النَّسَفِىُّ الْمَوْلُودُ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَالْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ (قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ) أَىْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ (حَقَائِقُ الأَشْيَاءِ) أَىْ مَا نَعْتَقِدُهُ حَقَائِقَ الأَشْيَاءِ وَنُسَمِّيهِ بِالأَسْمَاءِ مِنَ الإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالسَّمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (ثَابِتَةٌ) أَىْ مَوْجُودَةٌ وَلَيْسَ تَخَيُّلًا كَمَا يَقُولُ السُّوفِسْطَائِيَّةُ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ وُجُودِ الأَشْيَاءِ لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَشْهَدُ بِذَلِكَ وَوَرَدَ فِى الشَّرْعِ إِثْبَاتُهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فَاللَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ وُجُودَهُ وَوُجُودَ غَيْرِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. وَمَعْنَى الشَّىْءِ الثَّابِتُ الْوُجُودِ أَىْ وُجُودُهُ ثَابِتٌ مُحَقَّقٌ لِذَلِكَ يُقَالُ اللَّهُ شَىْءٌ لا كَالأَشْيَاءِ أَىْ مَوْجُودٌ لا كَالْمَوْجُودَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّه﴾. وَقَوْلُهُ (وَالْعِلْمُ بِهَا مُتَحَقِّقٌ) أَىْ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ بِهَذِهِ الْحَقَائِقِ مِنْ تَصَوُّرِهَا بِالأَذْهَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِهَا بِالْجَنَانِ أَىِ الْقَلْبِ مُتَحَقِّقٌ حُصُولُهُ لَنَا ثَابِتٌ يَقِينًا، وَالْعِلْمُ هُوَ إِدْرَاكُ الشَّىْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُثْبِتُونَ حَقَائِقَ الأَشْيَاءِ وَلا يُنْكِرُونَهَا (خِلافًا لِلسُّوفِسْطَائِيَّةِ) فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا أَوْهَامٌ وَتَخَيُّلاتٌ.

     (وَأَسْبَابُ الْعِلْمِ لِلْخَلْقِ ثَلاثَةٌ) أَىْ أَنَّ الطُّرُقَ الَّتِى يَتَوَصَّلُ بِهَا الْمَخْلُوقُ إِلَى الْعِلْمِ الْيَقِينِىِّ الْقَطْعِىِّ ثَلاثَةٌ (الْحَوَاسُّ السَّلِيمَةُ) وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا الآلاتِ بِعَيْنِهَا إِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَا يُدْرَكُ بِهَذِهِ الْحَوَاسِّ عِنْدَ سَلامَتِهَا (وَالْخَبَرُ الصَّادِقُ) أَىِ الْخَبَرُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ الَّذِى لا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ (وَالْعَقْلُ) فَهُوَ أَيْضًا سَبَبٌ لِلْعِلْمِ، وَالْعَقْلُ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِى الإِنْسَانِ يُمَيِّزُ بِهَا بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ (فَالْحَوَاسُّ خَمْسٌ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ وَبِكُلِّ حَاسَّةٍ مِنْهَا يُوقَفُ عَلَى مَا وُضِعَتْ هِىَ لَهُ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْحَوَاسِّ لِإِدْرَاكِ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ كَالسَّمْعِ لِلأَصْوَاتِ وَالذَّوْقِ لِلطُّعُومِ وَالشَّمِّ لِلرَّوَائِحِ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ مَا يُدْرَكُ بِإِحْدَى هَذِهِ الْحَوَاسِّ لا يُدْرَكُ بِغَيْرِهَا لَكِنَّهُ لا يَمْتَنِعُ عَقْلًا لِأَنَّ هَذِهِ الْحَوَاسَّ أَسْبَابٌ لِإِدْرَاكِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ فَيَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ قُوَّةَ الرُّؤْيَةِ فِى الْقَلْبِ وَقُوَّةَ الشَّمِّ فِى الْعَيْنِ وَقُوَّةَ الذَّوْقِ فِى الْيَدِ. (وَ)أَمَّا (الْخَبَرُ الصَّادِقُ) فَهُوَ (عَلَى نَوْعَيْنِ أَحَدُهُمَا الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ وَهُوَ الْخَبَرُ الثَّابِتُ عَلَى أَلْسِنَةِ قَوْمٍ لا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ) أَىْ لا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً. وَلا بُدَّ لِلْمُتَوَاتِرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى الْحِسِّ كَالرُّؤْيَةِ وَالسَّمَاعِ كَرُؤْيَةِ نُبُوعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ النَّبِىِّ وَسَمَاعِ حَنِينِ الْجِذْعِ وَأَمَّا مَا يَسْتَنِدُ إِلَى الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ فَلا يُقَالُ لَهُ مُتَوَاتِرٌ (وَهُوَ) أَىِ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ (مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِىِّ) أَىْ يُوجِبُ الْعِلْمَ الَّذِى لا يَحْتَاجُ لِلتَّفَكُّرِ وَالِاسْتِدْلالِ (كَالْعِلْمِ بِالْمُلُوكِ الْخَالِيَةِ فِى الأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ) كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ هَارُونَ الرَّشِيدِ (وَالْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ) كَالْعِلْمِ بِوُجُودِ مَكَّةَ وَبَغْدَادَ (وَالثَّانِى خَبَرُ الرَّسُولِ) أَىِ الْمَسْمُوعُ مِنْ فَمِهِ (الْمُؤَيَّدِ بِالْمُعْجِزَةِ) وَهُوَ خَبَرٌ صَادِقٌ لِأَنَّ خَبَرَ مَنْ ثَبَتَتْ رِسَالَتُهُ بِالْمُعْجِزَاتِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا فَالْمُعْجِزَةُ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ نَبِىٌّ مَبْعُوثٌ مِنَ اللَّهِ (وَهُوَ) كَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِى يَسْتَنِدُ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ أَوِ السَّمْعِ فَإِنَّهُ (يُوجِبُ الْعِلْمَ) الْقَطْعِىَّ (الِاسْتِدْلالِىَّ) أَىِ الْحَاصِلَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلالِ أَىْ بِالنَّظَرِ فِى الدَّلِيلِ كَأَنْ يُقَالَ النَّبِىُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ أَتَى بِأَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ لا يَسْتَطِيعُ الْمُكَذِّبُونَ لَهُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ وَمَنْ أَتَى بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهُوَ صَادِقٌ قَطْعًا، (وَالْعِلْمُ الثَّابِتُ بِهِ) أَىِ الْعِلْمُ الَّذِى يُسْتَفَادُ مِنْ خَبَرِ الرَّسُولِ (يُضَاهِى) أَىْ يُشَابِهُ (الْعِلْمَ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ) كَالْمَحْسُوسَاتِ أَىْ مَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَالْقَضَايَا الْمُتَوَاتِرَةِ (فِى التَّيَقُّنِ وَالثَّبَاتِ) أَىْ فِى عَدَمِ احْتِمَالِ زَوَالِهِ بِتَشْكِيكِ مُشَكِّكٍ فِى حَقِّ مَنْ شَهِدَهُ وَأَمَّا فِى حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ خَبَرَ الرَّسُولِ بَلْ وَصَلَ إِلَيْهِ خَبَرُهُ بِوَاسِطَةٍ فَإِنَّمَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْعِلْمَ الْقَطْعِىَّ إِذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ بِالتَّوَاتُرِ.

     (وَأَمَّا الْعَقْلُ) فَإِنَّهُ يُدْرَكُ بِهِ الْمَحْسُوسَاتُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالسَّمَاعِ كَأَنْ يَنْظُرَ فِى السَّمَاءِ فَيُدْرِكَ وُجُودَهَا أَوْ يَسْمَعَ صَوْتَ شَيْخِهِ فَيُدْرِكَ أَنَّ شَيْخَهُ الْمُتَكَلِّمُ لِكَوْنِهِ عَرَفَ صَوْتَهُ وَمَيَّزَهُ مِنْ بَيْنِ الأَصْوَاتِ (فَهُوَ سَبَبٌ لِلْعِلْمِ) الْقَطْعِىِّ (أَيْضًا). وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِالْعَقْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونُ بَدِيهِيًّا أَوِ اسْتِدْلالِيًّا (وَمَا ثَبَتَ مِنْهُ) أَىْ بِالْعَقْلِ (بِالْبَدِيهَةِ) أَىْ عِنْدَ أَوَّلِ تَوَجُّهِ النَّظَرِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى التَّفَكُّرٍ (فَهُوَ) عِلْمٌ (ضَرُورِىٌّ) وَذَلِكَ (كَالْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ الشَّىْءِ أَعْظَمُ) أَىْ أَكْبَرُ (مِنْ جُزْئِهِ وَ)أَمَّا (مَا ثَبَتَ) بِالْعَقْلِ (بِالِاسْتِدْلالِ فَهُوَ اكْتِسَابِىٌّ) أَىْ يَحْصُلُ مِنَ الِاكْتِسَابِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الشَّخْصِ الأَسْبَابَ بِاخْتِيَارِهِ كَالِاسْتِدْلالِ بِوُجُودِ الْعَالَمِ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ لِأَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ وَكُلَّ حَادِثٍ مُحْتَاجٌ إِلَى مُحْدِثٍ أَحْدَثَهُ وَهُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

     (وَالإِلْهَامُ) أَىْ إِلْهَامُ الْوَلِىِّ وَهُوَ مَا يُلْقَى فِى قَلْبِهِ مِنْ طَرِيقِ الْفَيْضِ أَىْ مِنْ غَيْرِ اكْتِسَابٍ مِنْهُ وَلا اسْتِدْلالٍ (لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعْرِفَةِ بِصِحَّةِ الشَّىْءِ) أَىْ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ الْقَطْعِىِّ (عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ) فَلا يَكُونُ حُجَّةً فِى الشَّرْعِ.

     (وَالْعَالَمُ) وَهُوَ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ (بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ) مِنَ السَّمَــٰوَاتِ وَمَا فِيهَا وَالأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا (مُحْدَثٌ) أَىْ مَخْلُوقٌ وُجِدَ بَعْدَ عَدَمٍ (إِذْ هُوَ أَعْيَانٌ وَأَعْرَاضٌ) أَىْ أَحْجَامٌ وَصِفَاتُ الأَحْجَامِ (فَالأَعْيَانُ) كَالْفَرْدِ مِنَ أَفْرَادِ الْحَجَرِ وَالْفَرْدِ مِنْ أَفْرَادِ الشَّجَرِ (مَا لَهُ قِيَامٌ بِذَاتِهِ) أَىْ تَحَيُّزٌ بِنَفْسِهِ أَىْ لَيْسَ تَحَيُّزُهُ تَابِعًا لِتَحَيُّزِ غَيْرِهِ (وَهُوَ إِمَّا مُرَكَّبٌ) مِنْ جَوْهَرَيْنِ فَأَكْثَرَ (وَهُوَ الْجِسْمُ أَوْ غَيْرُ مُرَكَّبٍ كَالْجَوْهَرِ) الْفَرْدِ (وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِى لا يَتَجَزَّأُ) مِنْ تَنَاهِيهِ فِى الْقِلَّةِ. فَالأَجْسَامُ تَتَفَاوَتُ فِى كَمِّيَّتِهَا وَحَجْمِهَا بِسَبَبِ تَفَاوُتِ أَعْدَادِ الْجَوَاهِرِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْهَا (وَالْعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِذَاتِهِ) بَلْ بِغَيْرِهِ بِأَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ فِى التَّحَيُّزِ كَبَيَاضِ الْجِسْمِ الأَبْيَضِ وَحَرَكَةِ الْحَجْمِ وَسُكُونِهِ (وَيَحْدُثُ) الْعَرَضُ (فِى) الْجَوَاهِرِ الْمُرَكَّبَةِ وَهِىَ (الأَجْسَامُ وَالْجَوَاهِرِ) غَيْرِ الْمُرَكَّبَةِ (كَالأَلْوَانِ وَالأَكْوَانِ) أَىِ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ (وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ).

     (وَالْمُحْدِثُ لِلْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى) أَحْدَثَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ بِقُدْرَتِهِ الأَزَلِيَّةِ بِلا جَارِحَةٍ وَلا حَرَكَةٍ وَلا ءَالَةٍ وَلا مُبَاشَرَةٍ وَهُوَ (الْوَاحِدُ) الَّذِى لا شَرِيكَ لَهُ وَلا مَعْبُودَ بِحَقٍّ سِوَاهُ فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ﴾ فَلَوْ أَمْكَنَ إِلَـٰهَانِ لَأَمْكَنَ بَيْنَهُمَا تَمَانُعٌ بِأَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا حَرَكَةَ زَيْدٍ وَالآخَرُ سُكُونَهُ وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ لا يَحْصُلَ الأَمْرَانِ فَيَلْزَمُ عَجْزُهُمَا وَالْعَاجِزُ لا يَكُونُ إِلَـٰهًا وَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ الأَمْرَانِ فَيَجْتَمِعَ الضِّدَّانِ وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ يَحْصُلَ أَمْرٌ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُ عَجْزُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ أَمَارَةُ حُدُوثِهِ فَالتَّعَدُّدُ مُسْتَلْزِمٌ لِإِمْكَانِ التَّمَانُعِ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْمُحَالِ فَيَكُونُ مُحَالًا. وَهُوَ سُبْحَانَهُ (الْقَدِيمُ) الَّذِى لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ قَالَ تَعَالَى ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ أَىْ هُوَ وَحْدَهُ الأَوَّلُ الَّذِى لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ أَزَلِىٌّ وَلا أَزَلِىَّ سِوَاهُ وَأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ إِطْلاقِ الْقَدِيمِ عَلَى اللَّهِ ذَكَرَ ذَلِكَ الإِمَامُ مُحَمَّدٌ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ. وَقَدْ صَحَّ فِى حَدِيثِ أَبِى دَاوُدَ قَوْلُهُ ﷺ إِذَا أَرَادَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِذَا جَازَ إِطْلاقُ الْقَدِيمِ عَلَى سُلْطانِ اللَّهِ الَّذِى هُوَ صِفَتُهُ جَاَزَ إِطْلاقُهُ عَلَى الذَّاتِ (الْحَىُّ) بِلا رُوحٍ وَلا جَسَدٍ (الْقَادِرُ) عَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَلا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ قَالَ تَعَالَى ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾. فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ قَادِرًا لَكَانَ عَاجِزًا وَالْعَجْزُ نَقْصٌ وَالنَّقْصُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ (الْعَلِيمُ) بِكُلِّ شَىْءٍ فَهُوَ عَالِمٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَكَانَ جَاهِلًا وَالْجَهْلُ نَقْصٌ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ وَلا يَقْبَلُ عِلْمُهُ الزِّيَادَةَ وَلا النُّقْصَانَ لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ كَانَ عِلْمُهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ لَكَانَ مِثْلَ خَلْقِهِ (السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أَىْ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَهُوَ يَسْمَعُ كُلَّ الْمَسْمُوعَاتِ بِلا أُذُنٍ وَلا ءَالَةٍ أُخْرَى وَيَرَى كُلَّ الْمَرْئِيَّاتِ بِلا حَدَقَةٍ وَلا ءَالَةٍ أُخْرَى فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِالسَّمْعِ لَكَانَ مُتَّصِفًا بِالصَّمَمِ وَهُوَ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُحَالٌ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَصِيرًا رَائِيًا لَكَانَ أَعْمَى وَالْعَمَى أَىْ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ وَالنَّقْصُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلٌ (الشَّائِى الْمُرِيدُ) أَىْ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالْمَشِيئَةِ وَهِىَ الإِرَادَةُ وَمَعْنَى الْمَشِيئَةِ تَخْصِيصُ الْمُمْكِنِ الْعَقْلِىِّ أَىِ الْمَخْلُوقِ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ دُونَ بَعْضٍ.

     (لَيْسَ بِعَرَضٍ) لِأَنَّ اللَّهَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ أَىْ وُجُودُهُ لَيْسَ قَائِمًا بِغَيْرِهِ وَالْعَرَضُ لا يَقُومُ بِذَاتِهِ بَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى حَجْمٍ يَقُومُ بِهِ كَالْحَرَكَةِ فَإِنَّهَا لا تَقُومُ إِلَّا بِحَجْمٍ مُتَحَرِّكٍ أَىْ وُجُودُهَا يَتْبَعُ وُجُودَ الْحَجْمِ (وَلا جِسْمٍ) أَىْ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَالْجِسْمُ هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ أَجْزَاءٍ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ (وَلا جَوْهَرٍ) أَىْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِى لا يَتَجَزَّأُ مِنَ الْقِلَّةِ مَعَ تَحَيُّزِهِ. ولا يَجُوزُ إِطْلاقُ الْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ عَلَى اللَّهِ لِعَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِذَلِكَ وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ إِطْلاقُ لَفْظٍ غَيْرِ وَارِدٍ عَلَى اللَّهِ إِذَا كَانَ يُوهِمُ مَا لا يَلِيقُ بِذَاتِهِ تَعَالَى كَلَفْظِ السَّخِىِّ مَعَ كَوْنِهِ وَصْفًا فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ بِالرِّيشَةِ الْمُبْدِعَةِ أَوِ الْقُوَّةِ الْخَالِقَةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ سَيِّد قُطُب فَالرِّيشَةُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الأَعْيَانِ وَالْقُوَّةُ صِفَةٌ وَلَيْسَتْ لَفْظًا مِنْ أَلْفَاظِ الْوَصْفِ. وَقَوْلُهُ (وَلا مُصَوَّرٍ) أَىْ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَا صُورَةٍ وَشَكْلٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ قَالَ الإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِىُّ إِنَّ الَّذِى يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِى صُورَةٍ وَلا هَيْئَةٍ (أَىْ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَجْمِ وَالْمِقْدَارِ وَالشَّكْلِ وَالصُّورَةِ) فَإِنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِى الْكَيْفِيَّةَ (مَعْنَاهُ مَنْ كَانَ حَجْمًا مُرَكَّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ لا بُدَّ مِنَ اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الأَحْجَامِ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَنَحْوِهَا) وَهِىَ (أَىِ الْكَيْفِيَّةُ) عَنِ اللَّهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ (أَىْ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَصِفَاتُهُ لَيْسَتْ حَادِثَةً). وَقَوْلُهُ (وَلا مَحْدُودٍ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَا حَدٍّ وَنِهَايَةٍ أَىْ لَيْسَ شَيْئًا لَهُ كَمِيَّةٌ فَكُلُّ شَىْءٍ لَهُ كَمِيَّةٌ مِنَ الذَّرَّةِ إِلَى الْعَرْشِ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ أَوْجَدَهُ عَلَى هَذِهِ الْكَمِيَّةِ، الشَّمْسُ لَهَا كَمِيَّةٌ لَهَا حَدٌّ وَمِقْدَارٌ تَحْتَاجُ إِلَى مَنْ جَعَلَهَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ وَلا يَصِحُّ فِى الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ هِىَ أَوْجَدَتْ نَفْسَهَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِى هِىَ عَلَيْهِ، الْعَقْلُ لا يَقْبَلُ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّىْءَ لا يَخْلُقُ نَفْسَهُ وَلَمَّا كَانَتِ الشَّمْسُ مَعَ عُظْمِ نَفْعِهَا لا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ إِلَـٰهًا لِلْعَالَمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُهَا لا كَمِيَّةَ لَهُ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَـٰهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى الْحِلْيَةِ وَقَالَ الإِمَامُ الطَّحَاوِىُّ تَعَالَى (أَىِ اللَّهُ) عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَرْكَانِ وَالأَدَوَاتِ. فَلا يَجُوزُ نِسْبَةُ الْحَدِّ إِلَى اللَّهِ. عَجَبًا كَيْفَ يَعْتَقِدُ ابْنُ تَيْمِيَةَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ مُسْتَقِرٌّ فَوْقَ الْعَرْشِ بِقَدْرِ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ بِذَاتِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الأُولَى وَقَدْ ثَبَتَ فِى الْحَدِيثِ أَنَّ السَّمَــٰوَات السَّبْعَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ فِى أَرْضٍ فَلاةٍ أَىْ كَحَبَّةٍ صَغِيرَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَحْرَاءَ كَبِيرَةٍ فَعَلَى مُقْتَضَى كَلامِهِ أَنَّ اللَّهَ يَتَصَاغَرُ حَتَّى تَسَعَهُ السَّمَاءُ الأُولَى وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَلا مَعْدُودٍ) أَىْ أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ ذَا عَدَدٍ وَكَثْرَةٍ يَعْنِى أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْكَمِيَّةِ لِأَنَّ الْكَمِّيَّةَ تَقْتَضِى التَّرْكِيبَ كَالْمَقَادِيرِ أَوِ التَّعَدُّدَ كَالأَفْرَادِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ (وَلا مُتَبَعِّضٍ وَلا مُتَجَزِّئٍ) أَىْ لَيْسَ ذَا أَبْعَاضٍ وَلا أَجْزَاءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ﴾، وَجَعَلُوا أَىِ الْكُفَّارُ، لَهُ أَىْ لِلَّهِ، مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا أَىْ نَسَبُوا إِلَيْهِ الْجُزْئِيَّةَ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَىْ هَذَا الَّذِى يَنْسُبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى التَّجَزُّءَ وَالتَّبَعُّضَ كُفْرُهُ عَظِيمٌ وَكُفْرُهُ مُبِينٌ (وَلا مُتَرَكِّبٍ وَلا مُتَنَاهٍ) أَىْ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَرَكِّبًا مِنْ أَجْزَاءٍ لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ الِاحْتِيَاجَ وَأَنَّهُ لَيْسَ ذَا نِهَايَةٍ لِأَنَّ التَّنَاهِىَ مِنْ صِفَاتِ الْمَقَادِيرِ وَاللَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّنَاهِى قَالَ الإِمَامُ الطَّحَاوِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ تَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَرْكَانِ وَالأَدَوَاتِ، وَالْغَايَاتُ جَمْعُ غَايَةٍ وَالْغَايَةُ بِمَعْنَى النِّهَايَةِ.

     (وَلا يُوصَفُ) رَبُّنَا (بِالْمَاهِيَّةِ) وَهِىَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ مَا هُوَ أَىْ مِنْ أَىِّ جِنْسٍ هُوَ فَاللَّهُ تَعَالَى لا يُوصَفُ بِالْمَاهِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ جِنْسًا مِنَ الأَجْنَاسِ فَلا يُقَالُ مِنْ أَىِّ جِنْسٍ هُوَ. فِرْعَوْنُ الْكَافِرُ سَأَلَ سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُ ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ وَسُؤَالُهُ كَانَ عَنِ الْمَاهِيَّةِ فَأَجَابَهُ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ ءَاثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَــٰوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ وَخَالِقُ السَّمَــٰوَاتِ وَالأَرْضِ أَىْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ اللَّهَ فَانْظُرْ فِى مَخْلُوقَاتِهِ فَإِنَّكَ تَسْتَدِلُّ بِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالسَّمَــٰوَاتِ وَالأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الْخَالِقِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا (وَلا) يُوصَفُ (بِالْكَيْفِيَّةِ) وَهِىَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ فَمَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ فَشَبَّهَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ أَحْمَدُ بنُ سَلامَةَ وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِى الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ أَىْ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافٍ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ لِإِثْبَاتِهِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَهِىَ مَنْفِيَّةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ (وَلا يَتَمَكَّنُ فِى مَكَانٍ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّمَكُّنِ فِى مَكَانٍ وَالْمَكَانُ هُوَ مَا يَشْغَلُهُ الْحَجْمُ مِنَ الْفَرَاغِ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ فِى مَكَانٍ لَكَانَ حَجْمًا وَلَوْ كَانَ حَجْمًا لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى هَذَا الْحَجْمِ وَالْمُحْتَاجُ لا يَكُونُ إِلَـٰهًا وَلَوْ جَازَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ حَجْمٌ لَجَازَ أَنْ تُعْتَقَدَ الأُلُوهِيَّةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَجْمًا يَمْلَأُ فَرَاغًا بَلْ هُوَ خَالِقُ الأَمَاكِنِ وَالْجِهَاتِ وَكَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهَا بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ وَبَعْدَ أَنْ خَلَقَ الأَمَاكِنَ وَالْجِهَاتِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَمَّا كَانَ. وَيَكْفِى فِى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَكَانٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ وَأَبْعَادٌ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا أَىْ مَخْلُوقًا مُحْتَاجًا لِمَنْ حَدَّهُ بِهَذَا الطُّولِ وَبِهَذَا الْعَرْضِ وَبِهَذَا الْعُمْقِ. وَقَوْلُهُ (وَلا يَجْرِى عَلَيْهِ زَمَانٌ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ لِأَنَّ الزَّمَانَ حَادِثٌ فَالزَّمَانُ وُجِدَ بِوُجُودِ أَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ الْمَاءُ لِقَوْلِهِ ﷺ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ أَزَلِىٌّ وَلا أَزَلِىَّ سِوَاهُ (وَلا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ) أَىْ لا يُوجَدُ شَىْءٌ يُمَاثِلُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَلا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ قَالَ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُشْبِهُهُ شَىءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ لَفْظَ شَىْءٍ فِى سِيَاقِ النَّفْىِ وَالنَّكِرَةُ إِذَا جَاءَتْ فِى سِيَاقِ النَّفْىِ فَهِىَ لِلشُّمُولِ فَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ نَفْسِهِ مُشَابَهَةَ كُلِّ أَفْرَادِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَمْ يُقَيِّدْ نَفْىَ الشَّبَهِ عَنْهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ.

     (وَلا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ شَىْءٌ) أَىْ لا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ وَلا عَنْ قُدْرَتِهِ شَىْءٌ لِأَنَّ الْجَهْلَ أَوِ الْعَجْزَ نَقْصٌ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ وَالْمُرَادُ بِالشَّىْءِ هُنَا الْجَائِزُ الْعَقْلِىُّ لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ لا تَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ الْعَقْلِىِّ وَهُوَ ذَاتُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ لِأَنَّهُ لا يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَلا بِالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِىِّ لِأَنَّهُ لا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَعَدَمُ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ بِالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِىِّ وَالْوَاجِبِ الْعَقْلِىِّ لَيْسَ عَجْزًا فِى حَقِّ اللَّهِ. وَأَمَّا عِلْمُ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ الْعَقْلِىِّ وَالْجَائِزِ الْعَقْلِىِّ وَالْمُسْتَحِيلِ الْعَقْلِىِّ.

     (وَ)اللَّهُ تَعَالَى (لَهُ صِفَاتٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ) أَىْ ثَابِتَةٌ لَهُ لا تَنْفَكُّ عَنْهُ كَمَا يَنْفَكُّ الْغَيْرُ عَنِ الْغَيْرِ وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِنَا قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِذَاتِهِ أَوْ حَالَّةٌ فِى ذَاتِهِ أَوْ هِىَ بَعْضُ ذَاتِهِ بَلْ نَقُولُ صِفَاتُ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ فَقُدْرَتُهُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ يَتَأَتَّى بِهَا الإِيجَادُ وَالإِعْدَامُ وَإِرَادَتُهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ يُخَصِّصُ بِهَا الْمُمْكِنَاتِ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهَا دُونَ بَعْضٍ (وَهِىَ) أَىْ صِفَاتُ اللَّهِ (لا هُوَ وَلا غَيْرُهُ) أَىْ لَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ وَلا غَيْرَ الذَّاتِ فَلا يَلْزَمُ قِدَمُ الْغَيْرِ وَلا تَكَثُّرُ ذَوَاتٍ قُدَمَاءَ كَمَا تَدَّعِى الْمُعْتَزِلَةُ. الْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ لَوْ قُلْنَا اللَّهُ قَادِرٌ بِقُدْرَةٍ وَعَالِمٌ بِعِلْمٍ وَمُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ وَمُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ هُوَ صِفَةٌ لَهُ نَكُونُ أَثْبَتْنَا ءَالِهَةً كَثِيرَةً وَجَعَلْنَا الْعِلْمَ إِلَـٰهًا مَعَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسِ وَجَعَلْنَا الْقُدْرَةَ إِلَـٰهًا مَعَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسِ وَكَلامُهُمْ بَاطِلٌ (وَ)الصِّفَاتُ الَّتِى تَجِبُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (هِىَ) الْوُجُودُ وَالْوَحْدَانِيَّةُ وَالْقِدَمُ أَىِ الأَزَلِيَّةُ وَالْبَقَاءُ وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ أَىْ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَ(الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْحَيَاةُ وَالْقُوَّةُ) أَىِ الْقُدْرَةُ (وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالإِرَادَةُ وَ)هِىَ (الْمَشِيئَةُ) وَالْكَلامُ وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ أَىْ عَدَمُ مُشَابَهَتِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ.

     (وَالْفِعْلُ وَالتَّخْلِيقُ وَالتَّرْزِيقُ) وَالإِحْيَاءُ وَالإِمَاتَةُ تَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ التَّكْوِينِ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِصِفَةٍ أَزَلِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ هِىَ التَّكْوِينُ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِالرِّزْقِ سُمِّيَتْ تَرْزِيقًا وَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِحَيَاةِ مَخْلُوقٍ سُمِّيَتْ إِحْيَاءً وَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِمَوْتِهِ سُمِّيَتْ إِمَاتَةً فَالتَّرْزِيقُ تَكْوِينٌ مَخْصُوصٌ وَكَذَا الإِحْيَاءُ وَالإِمَاتَةُ. وَاخْتَلَفَ الأَشَاعِرَةُ وَالْمَاتُرِيدِيَّةُ فِى صِفَاتِ الأَفْعَالِ وَالِاخْتِلافُ بَيْنَهُمْ لَفْظِىٌّ فَقَالَ الْمَاتُرِيدِيَّةُ إِنَّهَا أَزَلِيَّةٌ فَهِىَ عِنْدَهُمْ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ أَىْ ثَابِتَةٌ لَهُ وَقَالَ الأَشَاعِرَةُ إِنَّهَا حَادِثَةٌ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقَاتِ الْقُدْرَةِ الأَزَلِيَّةِ أَىْ عَنْ ءَاثَارِهَا وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ صِفَاتٍ لِإِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْفَرِيقَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا تَقُومُ بِذَاتِهِ صِفَةٌ حَادِثَةٌ. وَالرَّاجِحُ أَنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ أَزَلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ حَادِثَةً وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ قُدَمَاءِ الأَشَاعِرَةِ قَالَ الْبُخَارِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِى كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَالْفِعْلُ صِفَتُهُ فِى الأَزَلِ وَالْمَفْعُولُ مَخْلُوقٌ وَالتَّخْلِيقُ صِفَتُهُ فِى الأَزَلِ وَالْمَخْلُوقُ مُكَوَّنٌ حَادِثٌ.

     (وَالْكَلامُ) صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَىْ ثَابِتَةٌ لَهُ لَيْسَتْ مُقْتَرِنَةً بِالزَّمَنِ (وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ هُوَ صِفَةٌ لَهُ أَزَلِيَّةٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ وَالأَصْوَاتِ) لَيْسَ حَادِثًا كَكَلامِ غَيْرِهِ بَلْ أَزَلِىٌّ بِأَزَلِيَّةِ الذَّاتِ لا يُشْبِهُ كَلامَ الْخَلْقِ لَيْسَ بِصَوْتٍ يَحْدُثُ مِنْ خُرُوجِ الْهَوَاءِ مِنَ الْجَوْفِ أَوِ اصْطِكَاكِ الأَجْرَامِ وَهِىَ مَخَارِجُ الْحُرُوفِ وَلا بِحَرْفٍ يَظْهَرُ بِإِطْبَاقِ شَفَةٍ أَوْ يَحْدُثُ بِسَبَبِ تَحْرِيكِ لِسَانٍ (وَهُوَ صِفَةٌ مُنَافِيَةٌ لِلسُّكُوتِ وَالآفَةِ) أَىِ الْعَاهَةِ فَلا يَطْرَأُ عَلَى كَلامِ اللَّهِ سُكُوتٌ أَوْ تَقَطُّعٌ (وَاللَّهُ) تَعَالَى (مُتَكَلِّمٌ بِهَا ءَامِرٌ نَاهٍ مُخْبِرٌ) وَاعِدٌ مُتَوَعِّدٌ فَلَيْسَ الْكَلامُ الأَزَلِىُّ صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً بَلْ صِفَةً وَاحِدَةً تَكُونُ خَبَرًا وَأَمْرًا وَنَهْيًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا (وَالْقُرْءَانُ) بِمَعْنَى الصِّفَةِ الأَزَلِيَّةِ هُوَ (كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ) لِاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِالذَّاتِ الأَزَلِىِّ وَاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْحُرُوفِ قَدِيمَةً كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَسِّمَةُ الْحَنَابِلَةِ كَابْنِ تَيْمِيَةَ (وَهُوَ مَكْتُوبٌ فِى مَصَاحِفِنَا) أَىْ بِالْحُرُوفِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ (مَحْفُوظٌ فِى قُلُوبِنَا) أَىْ بِالأَلْفَاظِ الْمُتَخَيَّلَةِ (مَقْرُوءٌ بِأَلْسِنَتِنَا) أَىْ بِالْحُرُوفِ الْمَلْفُوظَةِ الْمَسْمُوعَةِ (مَسْمُوعٌ بِآذَانِنَا غَيْرُ حَالٍّ فِيهَا) أَىْ أَنَّ الْكَلامَ الذَّاتِىَّ لَيْسَ حَالًّا فِى الْمَصَاحِفِ وَلا فِى الْقُلُوبِ وَالأَلْسِنَةِ وَلا هُوَ الْمَسْمُوعُ بِآذَانِنَا إِنَّمَا الْمَكْتُوبُ بِأَشْكَالِ الْحُرُوفِ وَالْمَحْفُوظُ بِالْقُلُوبِ وَالْمَقْرُوءُ بِالأَلْسُنِ وَالْمَسْمُوعُ بِالآذَانِ هُوَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ وَلَيْسَ عَيْنَ كَلامِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ.

     (وَالتَّكْوِينُ) وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْخَلْقِ وَالتَّخْلِيقِ وَالإِحْدَاثِ وَهُوَ (صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَزَلِيَّةٌ وَهُوَ تَكْوِينُهُ لِلْعَالَمِ وَلِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ لِوَقْتِ وُجُودِهِ) وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الأَشَاعِرَةِ (وَهُوَ) أَىِ التَّكْوِينُ (غَيْرُ الْمُكَوَّنِ عِنْدَنَا) أَىْ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَمَّا عِنْدَ أَغْلَبِ الأَشَاعِرَةِ فَالتَّكْوِينُ هُوَ الْمُكَوَّنُ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَثَرِ الْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ وَلَيْسَ صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتِ اللَّهِ.

     (وَالإِرَادَةُ) بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ (صِفَةٌ لِلَّهِ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى) أَىْ ثَابِتَةٌ لَهُ يُخَصِّصُ بِهَا الْمُمْكِنَ بِبَعْضِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ. وَالإِرَادَةُ شَامِلَةٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ الْخَيْرِ مِنْهَا وَالشَّرِّ فَكُلُّ مَا دَخَلَ فِى الْوُجُودِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَعَ وَحَصَلَ وَلَوْلا تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى لِلطَّاعَاتِ بِالْوُجُودِ مَا وُجِدَتْ وَكَذَلِكَ الْكُفْرِيَّاتُ وَالْمَعَاصِى لَوْلا تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا بِالْوُجُودِ مَا وُجِدَتْ. وَلا يُقَاسُ الْخَالِقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَفِعْلُ الْعَبْدِ لِلشَّرِّ قَبِيحٌ مِنَ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مَنْهِىٌ عَنْ فِعْلِهِ أَمَّا خَلْقُ اللَّهِ لِلشَّرِّ فَلَيْسَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ إِرَادَةُ اللَّهِ لِوُجُودِ الْقَبِيحِ لَيْسَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا الْقَبِيحُ فِعْلُهُ وَإِرَادَتُهُ مِنَ الْعِبَادِ.

     (وَرُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى جَائِزَةٌ فِى الْعَقْلِ وَاجِبَةٌ بِالنَّقْلِ) أَىْ أَنَّ رُؤْيَةَ الْعِبَادِ لِرَبِّهِمْ فِى الآخِرَةِ ثَابِتَةٌ نَقْلًا وَجَائِزَةٌ عَقْلًا قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ مُحَمَّدٌ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَالْبَارِئُ تَعَالَى مَوْجُودٌ فَصَحَّ أَنْ يُرَى (وَقَدْ وَرَدَ الدَّلِيلُ السَّمْعِىُّ بِإِيجَابِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ تَعَالَى فِى دَارِ الآخِرَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ أَىْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَرَوْنَ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ، لا يَرَوْنَهُ حَجْمًا لَطِيفًا كَالنُّورِ وَلا حَجْمًا كَثِيفًا كَالإِنْسَانِ وَلا يَرَوْنَهُ مُسْتَقِرًّا حَالًّا فِى الْجَنَّةِ وَلا خَارِجَهَا، رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ فِى الآخِرَةِ لَيْسَ اجْتِمَاعًا بِاللَّهِ كَاجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ بِإِمَامِهِمْ فِى الْمَسْجِدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ السُّكْنَى فِى مَكَانٍ (فَيُرَى لا فِى مَكَانٍ وَلا عَلَى جِهَةٍ وَمُقَابَلَةٍ) مِنَ الرَّائِى (أَوِ اتِّصَالِ شُعَاعٍ) مِنَ الْعَيْنِ بِالْمَرْئِى (أَوْ ثُبُوتِ مَسَافَةٍ بَيْنَ الرَّائِى وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى) فَلا يَرَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا عَنْ يَمِينِهِمْ وَلا عَنْ يَسَارِهِمْ وَلا فِى جِهَةِ فَوْقٍ وَلا فِى جِهَةِ تَحْتٍ وَلا فِى جِهَةِ أَمَامٍ وَلا فِى جِهَةٍ خَلْفٍ.

     (وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنَ الْكُفْرِ وَالإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ) أَىْ مُبْرِزُهَا مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ أَىْ وَعَمَلَكُمْ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ صَانِعُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ أَىْ إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ عَامِلٍ وَعَمَلِهِ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَيْهَقِىُّ فِى شُعَبِ الإِيمَانِ (وَهِىَ) أَىْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ (كُلُّهَا بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ) حَاصِلَةٌ أَىْ بِتَخْصِيصِ اللَّهِ لَهَا بِالْوُجُودِ (وَحُكْمِهِ) أَىْ حَاصِلَةٌ بِحُكْمِ اللَّهِ وَأَرَادَ بِالْحُكْمِ الإِرَادَةَ التَّكْوِينِيَّةَ أَىْ إِرَادَةَ اللَّهِ وُجُودَ الأَشْيَاءِ فَتُوجَدَ بِتَكْوِينِ اللَّهِ (وَقَضِيَّتِهِ) أَىْ قَضَائِهِ وَالْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ (وَتَقْدِيرِهِ) أَىْ بِإِيجَادِ اللَّهِ لَهَا عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ الأَزَلِىِّ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ.

     (وَلِلْعِبَادِ أَفْعَالٌ اخْتِيَارِيَّةٌ يُثَابُونَ بِهَا) أَىْ أَنَّ الْعِبَادَ يُثَابُونَ عَلَى مَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْحَسَنَاتِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ إِثَابَتُهُمْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ هُوَ خَلَقَهَا فِيهِمْ وَهُوَ الَّذِى أَقْدَرَهُمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَيْهَا فَلِلَّهِ الْفَضْلُ عَلَيْهِمْ لِإِقْدَارِهِمْ عَلَى عَمَلِ الْحَسَنَاتِ وَإِجْزَالِ الثَّوَابِ لَهُمْ عَلَيْهَا (وَ)أَمَّا الْمَعَاصِى الَّتِى يَفْعَلُونَهَا بِاخْتِيَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ (يُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا) وَلا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ ظُلْمًا لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَالِكُ الْحَقِيقِىُّ لِكُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ يَفْعَلُ فِى مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ فَلا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الظُّلْمُ لِأَنَّ الظُّلْمَ يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ لَهُ ءَامِرٌ وَنَاهٍ كَالْعِبَادِ إِذِ الظُّلْمُ هُوَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ وَنَهْىِ مَنْ لَهُ الأَمْرُ وَالنَّهْىُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ءَامِرٌ وَلا نَاهٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾. وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ قِسْمَانِ حَسَنٌ وَقَبِيحٌ (وَالْحَسَنُ مِنْهَا بِرِضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى) أَىْ بِمَحَبَّتِهِ (وَالْقَبِيحُ مِنْهَا) وَهُوَ مَا كَانَ مَعْصِيَةً أَوْ مَكْرُوهًا (لَيْسَ بِرِضَائِهِ تَعَالَى) وَكُلٌّ مِنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ يَحْصُلُ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ. وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَسْبٌ لِلْعِبَادِ وَالْكَسْبُ الَّذِى هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَعَلَيْهِ يُثَابُ أَوْ يُؤَاخَذُ فِى الآخِرَةِ هُوَ تَوْجِيهُ الْعَبْدِ قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ نَحْوَ الْعَمَلِ أَىْ يَصْرِفُ إِلَيْهِ قُدْرَتَهُ فَيَخْلُقُهُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَالْعَبْدُ كَاسِبٌ لِعَمَلِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى خَالِقٌ لِعَمَلِ هَذَا الْعَبْدِ الَّذِى هُوَ كَسْبٌ لَهُ.

     (وَالِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ وَهِىَ حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ الَّتِى يَكُونُ بِهَا الْفِعْلُ وَيَقَعُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى سَلامَةِ الأَسْبَابِ وَالآلاتِ وَالْجَوَارِحِ) وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ يُوصَفُ بِهَا الْعَبْدُ وَتَكُونُ مُقْتَرِنَةً بِالْفِعْلِ وَهِىَ صِفَةٌ يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قَصْدِ الْعَبْدِ اكْتِسَابَ الْفِعْلِ بَعْدَ سَلامَةِ أَسْبَابِ الْفِعْلِ وَءَالاتِهِ كَاللِّسَانِ وَالْيَدِ فَيَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى فِى الْعَبْدِ الْقُدْرَةَ عَلَى فِعْلِهِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا وَتَكُونُ هَذِهِ الْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ مُقْتَرِنَةً بِفِعْلِ الْعَبْدِ لا سَابِقَةً عَلَيْهِ وَلا مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ أَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ الَّتِى هِىَ سَلامَةُ الأَسْبَابِ وَالآلاتِ فَهِىَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْفِعْلِ (وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ تَعْتَمِدُ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةَ) أَىْ يُكَلَّفُ بِالْفِعْلِ مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِاسْتِطَاعَةِ فِعْلِهِ.

     (وَلا يُكَلَّفُ الْعَبْدُ بِمَا لَيْسَ فِى وُسْعِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَأْمُرُ الْعَبْدَ إِلَّا بِمَا فِى وُسْعِهِ فَالأَمْرُ بِالْفِعْلِ لا بُدَّ لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ أَىْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِى اسْتِطَاعَةِ الْعَبْدِ كَالْقِيَامِ فِى صَلاةِ الْفَرْضِ لِلْقَادِرِ.

     (وَمَا يُوجَدُ مِنَ الأَلَمِ فِى الْمَضْرُوبِ عَقِيبَ ضَرْبِ إِنْسَانٍ وَالِانْكِسَارِ فِى الزُّجَاجِ عَقِيبَ كَسْرِ إِنْسَانٍ وَمَا أَشْبَهَهُ كُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقُ اللَّهِ تَعَالَى) أَىْ أَنَّ الأَلَمَ الَّذِى يَحْصُلُ فِى الْمَضْرُوبِ عَقِيبَ ضَرْبِ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لا بِخَلْقِ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ الِانْكِسَارُ فِى الزُّجَاجِ عَقِيبَ كَسْرِ إِنْسَانٍ فَإِنَّمَا يَقَعُ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى أَىْ بِإِحْدَاثِ اللَّهِ لَهُ مِنَ الْعَدَمِ (لا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِى تَخْلِيقِهِ).

     (وَالْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ) وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْقَاتِلَ قَطَعَ عَلَى الْمَقْتُولِ أَجَلَهُ وَأَنَّهُ قُتِلَ فَلَمْ يَسْتَوْفِ أَجَلَهُ الَّذِى كَتَبَ اللَّهُ لَهُ وَهُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ. وَالأَجَلُ عِبَارَةٌ عَنْ وَقْتٍ يَخْلُقُ اللَّهُ فِيهِ الْمَوْتَ فَاللَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ ءَاجَالَ الْخَلائِقِ مِنَ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَغَيْرِهِمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾. (وَالْمَوْتُ قَائِمٌ بِالْمَيِّتِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى لا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ تَخْلِيقًا وَلا اكْتِسَابًا) أَىْ أَنَّ الْمَوْتَ لا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلْعَبْدِ وَلا أَنَّهُ مُكْتَسَبٌ لَهُ وَهَذَا لا يَنْفِى أَنَّهُ مُكْتَسِبٌ أَسْبَابَهُ بِالْجُرْحِ وَالطَّعْنِ وَالإِحْرَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْخَنْقِ (وَالأَجَلُ وَاحِدٌ) وَلَيْسَ اثْنَيْنِ وَلا ءَاجَالًا مُتَعَدِّدَةً.

وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/Q1VHdF1Q_BU?si=-ZYOoEtkJpmqPI5T

لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/nasafiyyah_1

الْمَوْقِعُ الرَّسْمِيُّ لِلشَّيْخِ جِيل صَادِق: https://shaykhgillessadek.com

#2

قال الإِمَامُ عُمَرُ النَّسَفِىُّ (وَالْحَرَامُ رِزْقٌ) أَىْ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَلالِ بَلْ يَشْمَلُ الْحَلالَ وَالْحَرَامَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ الْعَاقِبَةُ فَإِنَّ الرِّزْقَ الْحَلالَ لَيْسَ فِيهِ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَأَمَّا الْحَرَامُ فَإِنَّهُ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ أَىْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهِ. وَالرِّزْقُ مَا يَنْفَعُ حِسًّا وَلَوْ كَانَ مُحَرَّمًا (وَكُلٌّ يَسْتَوْفِى رِزْقَ نَفْسِهِ) أَىْ يَأْخُذُهُ كَامِلًا (حَلالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا) كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِىِّ إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ (مَعْنَاهُ رُوحُ الطُّهْرِ وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ) نَفَثَ فِى رُوعِى (أَىْ فِى قَلْبِى) إِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِىَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِى الطَّلَبِ، أَىِ اطْلُبُوا الرِّزْقَ مِنْ طَرِيقٍ حَلالٍ (وَلا يُتَصَوَّرُ أَنْ لا يَأْكُلَ إِنْسَانٌ رِزْقَهُ أَوْ يَأْكُلَ غَيْرُهُ رِزْقَهُ) لِقَوْلِهِ ﷺ لَوْ أَنَّ ابْنَ ءَادَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى الْحِلْيَةِ. فَمَا كُتِبَ لِلْعَبْدِ مِنْ رِزْقٍ وَأَجَلٍ لا بُدَّ أَنْ يَسْتَكْمِلَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ.

     (وَاللَّهُ تَعَالَى يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) أَىْ يَخْلُقُ الضَّلالَةَ فِى قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ (وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ) أَىْ يَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِى قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَلا أَحَدَ يَخْلُقُ الْهِدَايَةَ وَلا الضَّلالَةَ فِى الْقَلْبِ إِلَّا اللَّهُ. وَيَصِحُّ إِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى الأَنْبِيَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَدُلُّونَ النَّاسَ عَلَى طَرِيقِ الْهُدَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أَىْ إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ تُبَيِّنُ وَتَدُلُّ النَّاسَ عَلَى طَرِيقَ الْهُدَى وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّكَ تَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِى قُلُوبِهِمْ.

     وَقَوْلُهُ (وَمَا هُوَ الأَصْلَحُ لِلْعَبْدِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى) فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُمْ قَالُوا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا هُوَ الأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ وَكَلامُهُمْ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الأَمْرُ هَكَذَا لَمَا خَلَقَ اللَّهُ الْكَافِرَ الْفَقِيرَ الْمُعَذَّبَ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَمَا كَانَ لَهُ مِنَّةٌ عَلَى الْعِبَادِ وَاسْتِحْقَاقُ شُكْرٍ فِى الْهِدَايَةِ وَإِفَاضَةِ أَنْوَاعِ الْخَيْرَاتِ لِكَوْنِهَا أَدَاءٌ لِلْوَاجِبِ.

     (وَعَذَابُ الْقَبْرِ لِلْكَافِرِينَ) كَعَرْضِ النَّارِ عَلَى الْكَافِرِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً أَوَّلَ النَّهَارِ وَمَرَّةً ءَاخِرَ النَّهَارِ يَتَعَذَّبُ بِنَظَرِهِ وَرُؤْيَتِهِ لِمَقْعَدِهِ الَّذِى يَقْعُدُهُ فِى الآخِرَةِ وَضَرْبِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لَهُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ (وَلِبَعْضِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ) كَالِانْزِعَاجِ مِنْ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَوَحْشَتِهِ (وَتَنْعِيمُ أَهْلِ الطَّاعَةِ فِى الْقَبْرِ) كَتَوْسِيعِ قُبُورِهِمْ سَبْعِينَ ذِرَاعًا طُولًا فِى سَبْعِينَ ذِرَاعًا عَرْضًا وَعَرْضِ مَقْعَدِهِمْ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَيْهِمْ غُدُوًّا وَعَشِيًّا (وَسُؤَالُ) الْمَلَكَيْنِ (مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ) كُلُّ ذَلِكَ (ثَابِتٌ بِالدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ) أَىْ بِالنَّقْلِ لا بِالْعَقْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ. أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ مِنَ الْكُفَّارِ أَىِ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الإِسْلامِ الَّتِى جَاءَ بِهَا الأَنْبِيَاءُ فَلا يُعَذَّبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ وَاحْتَجَّ الأَشَاعِرَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقَالُوا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ نَبِىٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ ثُمَّ مَاتَ لا يُعَذَّبُ لَوْ عَاشَ يَعْبُدُ الْوَثَنَ وَنُقِلَ عَنْ أَبِى حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْجَهْلِ بِخَالِقِهِ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الإِسْلامِ لِأَنَّ الْعَقْلَ وَحْدَهُ يَكْفِيهِ مِمَّا يَرَاهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَــٰوَاتِ وَالأَرْضِ وَخَلْقِ نَفْسِهِ، لَيْسَ لَهُ عُذْرٌ إِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ. وَإِنَّمَا قَالَ لِبَعْضِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ قِسْمَانِ قِسْمٌ مِنْهُمْ مُعَاقَبُونَ وَقِسْمٌ مَغْفُورٌ لَهُمْ.

     (وَالْبَعْثُ حَقٌّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ وَالْبَعْثُ هُوَ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ إِحْيَائِهِمْ أَىْ بَعْدَ إِعَادَةِ الْجَسَدِ الَّذِى أَكَلَهُ التُّرَابُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَجْسَادِ الَّتِى يَأْكُلُهَا التُّرَابُ فَيُعَادُ تَرْكِيبُ الْجَسَدِ عَلَى عَظْمٍ صَغِيرٍ قَدْرَ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ يُسَمَّى عَجْبَ الذَّنَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ (وَالْوَزْنُ حَقٌّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ وَالَّذِى يُوزَنُ هُوَ الْكُتُبُ وَقِيلَ الأَعْمَالُ وَالَّذِى يَتَوَلَّى وَزْنَهَا الْمَلَكَانِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ (وَالْكِتَابُ حَقٌّ) أَىْ كِتَابُ الأَعْمَالِ وَهُوَ الَّذِى كَتَبَهُ الْمَلَكَانِ رَقِيبٌ وَعَتِيدٌ فِى الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾. وَالْمُؤْمِنُ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَالْكَافِرُ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ قَالَ تَعَالَى ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾ (وَالسُّؤَالُ حَقٌّ) أَىْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ وَلِقَوْلِهِ ﷺ إِنَّ اللَّهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَسِتْرَهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَىْ رَبِّ حَتَّى قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِى نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى عَلَيْهِمْ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْكُفَّارُ لِأَنَّ الْكُفْرَ هُوَ أَعْلَى الظُّلْمِ وَمَا سِوَاهُ بِالنِّسْبَةِ لَهُ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِظُلْمٍ (وَالْحَوْضُ حَقٌّ) وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ بَعْدَ عُبُورِ الصِّرَاطِ وَقَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ وَيَصُبُّ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَوْضِى مَسِيرَةُ شَهْرٍ مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ (أَىْ أَكْوَابُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ) مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لا يَظْمَأُ أَبَدًا (وَالصِّرَاطُ حَقٌّ) وَهُوَ جِسْرٌ عَرِيضٌ يُمَدُّ فَوْقَ جَهَنَّمَ فَيَرِدُهُ النَّاسُ جَمِيعًا فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْجُو وَمِنْهُمْ مَنْ يَقَعُ فِيهَا أَمَّا مَا وَرَدَ أَنَّهُ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ هَوْلِهِ وَخَطَرِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ظَاهِرَهُ (وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ) أَىْ وُجُودُهُمَا ثَابِتٌ (وَهُمَا مَخْلُوقَتَانِ الآنَ مَوْجُودَتَانِ) وَ(بَاقِيَتَانِ لا تَفْنَيَانِ وَلا يَفْنَى أَهْلُهُمَا) وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ وَخَالَفَ فِى ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فَقَالَ إِنَّ النَّار تَفْنَى لا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ وَتَبِعَهُ فِى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْفَاسِدَةِ الْوَهَّابِيَّةُ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِى كِتَابِهِمُ الْمُسَمَّى الْقَوْلَ الْمُخْتَارَ لِفَنَاءِ النَّارِ فَكَذَّبُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ وَقَوْلَهُ تَعَالَى ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ فَلَوْ كَانَتِ النَّارُ تَفْنَى وَالْكُفَّارُ يَخْرُجُونَ مِنْهَا فَأَيْنَ يَذْهَبُونَ بِزَعْمِهِمْ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ إِذْ لا يُوجَدُ فِى الآخِرَةِ إِلَّا مَنْزِلَتَانِ إِمَّا جَنَّةٌ وَإِمَّا نَارٌ.

     (وَ)الْمَعْصِيَةُ (الْكَبِيرَةُ لا تُخْرِجُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ مِنَ الإِيمَانِ) وَهِىَ كُلُّ ذَنْبٍ أُطْلِقَ عَلَيْهِ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ أَوْ عَظِيمٌ أَوْ أُخْبِرَ فِيهِ بِشِدَّةِ الْعِقَابِ أَوْ عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَشُدِّدَ عَلَيْهِ النَّكِيرُ وَكَذَا كُلُّ ذَنْبٍ وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ أَوِ الْحَدِيثِ أَنَّ فَاعِلَهُ مَلْعُونٌ أَوْ شُبِّهَ فَاعِلُهُ بِالْكَافِرِ (وَلا تُدْخِلُهُ) الْكَبِيرَةُ (فِى الْكُفْرِ) أَىْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لا يَخْرُجُ بِذَنْبِهِ مِنَ الإِيمَانِ مَا لَمْ يَقَعْ فِى الْكُفْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ فَسَمَّى اللَّهُ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ مُؤْمِنِينَ مَعَ كَوْنِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ قِتَالَ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ وَرَدَ فِيهِ زَجْرٌ شَدِيدٌ إِلَى دَرَجَةِ تَشْبِيهِهِ بِالْكُفْرِ كَمَا فِى الْحَدِيثِ الَّذِى رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ أَىْ يُشْبِهَ الْكُفْرَ لِعُظْمِ ذَنْبِهِ (وَاللَّهُ تَعَالَى لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) أَىْ لِمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ وَصَلَ إِلَى حَالَةِ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ بِرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ وَمَلائِكَةِ الْعَذَابِ أَوْ إِدْرَاكِ الْغَرَقِ بِحَيْثُ أَيْقَنَ بِالْهَلاكِ كَفِرْعَوْنَ الَّذِى لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ تَوْبَتَهُ حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ وَعَلِمَ أَنَّهُ هَالِكٌ لا مَحَالَةَ (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ) أَىْ مَا دُونَ الْكُفْرِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ يَغْفِرُهَا اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَجَنِّبِينَ لِلْكُفْرِ بِنَوْعَيْهِ الإِشْرَاكِ بِاللَّهِ الَّذِى هُوَ عِبَادَةُ غَيْرِهِ وَالْكُفْرِ الَّذِى لَيْسَ فِيهِ إِشْرَاكٌ كَسَبِّ اللَّهِ أَوْ نَبِىٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ اللَّهَ لَيَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ قَالُوا وَمَا وُقُوعُ الْحِجَابِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنْ تَمُوتَ النَّفْسُ وَهِىَ مُشْرِكَةٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ (وَيَجُوزُ الْعِقَابُ عَلَى) الْمَعْصِيَةِ (الصَّغِيرَةِ) الَّتِى لَمْ يَجْتَنِبْ فَاعِلُهَا الْكَبَائِرَ أَمَّا الَّذِى اجْتَنَبَ فَاعِلُهَا الْكَبَائِرَ فَلا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أَىِ الصَّغَائِرَ (وَ)يَجُوزُ (الْعَفْوُ عَنِ) الْمَعْصِيَةِ (الْكَبِيرَةِ) بِلا تَوْبَةٍ (إِذَا لَمْ تَكُنْ عَنِ اسْتِحْلالٍ وَ)أَمَّا (الِاسْتِحْلالُ) أَىِ اسْتِحْلالُ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا فَهُوَ (كُفْرٌ).

     (وَالشَّفَاعَةُ ثَابِتَةٌ لِلرُّسُلِ وَالأَخْيَارِ فِى حَقِّ أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالْمُسْتَفِيضِ مِنَ الأَخْبَارِ) أَىْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ فِى الآخِرَةِ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ كَحَدِيثِ التِّرْمِذِىِّ شَفَاعَتِى لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِى، مَعْنَاهُ الَّذِى يَحْتَاجُ لِلشَّفَاعَةِ هُمْ أَهْلُ الْكَبَائِرِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَمَعْنَى الشَّفَاعَةِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْقَاذَ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ أُمَّتِهِ مِنَ النَّارِ بِإِخْرَاجِ قِسْمٍ مِنْهُمْ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ دَخَلُوهَا وَبِعَدَمِ دُخُولِهَا لِبَعْضٍ ءَاخَرِينَ (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لا يَخْلُدُونَ فِى النَّارِ وَإِنْ مَاتُوا مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ) أَىْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ إِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لا يَخْلُدُ فِى النَّارِ إِنْ دَخَلَهَا لِقَوْلِهِ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ حِبَّانَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ لا يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرُ شَاكٍّ فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنَّةِ وَقَوْلِهِ ﷺ مَنْ كَانَ ءَاخِرُ كَلامِهِ لا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ دَخَلَ الْجَنَّةَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ وَإِنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.

     (وَالإِيمَانُ) فِى الشَّرْعِ (هُوَ التَّصْدِيقُ) بِالْقَلْبِ (بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِىُّ مِنْ عِنْدَ اللَّهِ وَالإِقْرَارُ بِهِ) بِاللِّسَانِ أَىْ أَنَّ الإِيمَانَ يَشْمَلُ كِلا الأَمْرَيْنِ فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا انْتَفَى التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ انْتَفَى الإِيمَانُ. وَالْكَافِرُ إِذَا صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ لا يَدْخُلُ فِى الإِسْلامِ إِلَّا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ النَّطْقِ فَيَكْفِيهِ حِينَئِذٍ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ (فَأَمَّا الأَعْمَالُ فَهِىَ تَتَزَايَدُ فِى نَفْسِهَا وَالإِيمَانُ) مِنْ حَيْثُ الأَصْلُ (لا يَزِيدُ وَلا يَنْقُصُ) لِأَنَّهُ إِنْ نَقَصَ صَارَ صَاحِبُهُ كَافِرًا أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَإِنَّهُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ (وَالإِيمَانُ وَالإِسْلامُ) شَىْءٌ (وَاحِدٌ) لا يَكُونُ إِيمَانٌ بِلا إِسْلامٍ وَلا إِسْلامٌ بِلا إِيمَانٍ (فَإِذَا وُجِدَ مِنَ الْعَبْدِ التَّصْدِيقُ وَالإِقْرَارُ صَحَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا) لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى الإِيمَانِ الَّذِى هُوَ التَّصْدِيقُ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ مَا يُنَافِيهِ (وَلا يَنْبَغِى أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) لِأَنَّهُ يُوهِمُ الشَّكَّ فَإِنْ كَانَ شَاكًّا فَهُوَ كَافِرٌ (وَالسَّعِيدُ قَدْ يَشْقَى) عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَتْبَاعِ أَبِى حَنِيفَةَ وَمُرَادُهُمْ أَنَّ الشَّخْصَ قَدْ تَكُونُ حَالَتُهُ حَسَنَةً ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِالْكُفْرِ (وَالشَّقِىُّ) عِنْدَهُمْ (قَدْ يَسْعَدُ) أَىْ أَنَّ الشَّقِىَّ الَّذِى هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْكُفْرِ قَدْ يَتَحَوَّلُ حَالُهُ إِلَى الإِيمَانِ بَعْدَ الْكُفْرِ فَيَمُوتُ عَلَى الإِيمَانِ (وَالتَّغَيُّرُ يَكُونُ عَلَى السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ دُونَ الإِسْعَادِ وَالإِشْقَاءِ وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى) أَىْ أَنَّ التَّغَيُّرَ يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الْعَبْدِ وَلَيْسَ إِلَى صِفَاتِ اللَّهِ الإِسْعَادِ وَالإِشْقَاءِ أَىْ إِسْعَادِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ وَإِشْقَائِهِ لَهُ (وَلا تَغَيُّرَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلا عَلَى صِفَاتِهِ) لِأَنَّ التَّغَيُّرَ هُوَ أَقْوَى عَلامَاتِ الْحُدُوثِ أَىْ فِى كَوْنِ الشَّىْءِ مَخْلُوقًا فَلا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَلا عَلَى صِفَاتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.

     (وَفِى إِرْسَالِ الرُّسُلِ) أَىِ الأَنْبِيَاءِ (حِكْمَةٌ) أَىْ مَصْلَحَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِلْعِبَادِ لِحَاجَتِهِمْ لِذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ لَهُمْ رُسُلًا فَعَذَّبَ مَنْ شَاءَ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا (وَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى رُسُلًا مِنَ الْبَشَرِ إِلَى الْبَشَرِ مُبَشِّرِينَ) مَنِ اتَّبَعَهُمْ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ (وَمُنْذِرِينَ) مَنْ تَرَكَ اتِّبَاعَهُمْ بِالْعَذَابِ الأَلِيمِ (وَمُبَيِّنِينَ لِلنَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَّاحِدَةً﴾ أَىْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى الإِسْلامِ فَاخْتَلَفُوا ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ (وَأَيَّدَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ النَّاقِضَاتِ) أَىِ الْخَارِقَاتِ (لِلْعَادَاتِ) وَلَوْلا التَّأْيِيدُ بِالْمُعْجِزَةِ لَمَا بَانَ الصَّادِقُ فِى دَعْوَى الرِّسَالَةِ عَنِ الْكَاذِبِ. وَالْمُعْجِزَةُ أَمْرٌ يَظْهَرُ بِخِلافِ الْعَادَةِ عَلَى يَدِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ عِنْدَ تَحَدِّى الْمُنْكِرِينَ عَلَى وَجْهٍ يُعْجِزُهُمْ عَنِ الإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (وَأَوَّلُ الأَنْبِيَاءِ ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ وَيَشْهَدُ لِنُبُوَّتِهِ حَدِيثُ التِّرْمِذِىِّ ءَادَمُ فَمَنْ سِوَاهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ لِوَائِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَأُمِّ وَجَعَلَهُ نَبِيًّا رَسُولًا وَأَرْسَلَهُ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ وَزَوْجَتِهِ حَوَّاءَ لِيُعَلِّمَهُمْ تَنْزِيهَ اللَّهِ وَيَأْمُرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَعَدَمِ الإِشْرَاكِ بِهِ شَيْئًا فَكَانَ ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ يُعَلِّمُ ذُرِّيَّتَهُ الْوُضُوءَ وَالصَّلاةَ وَحُرْمَةَ أَكْلِ الدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالذَّبِيحَةِ الَّتِى رُفِعَ عَلَيْهَا غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ (وَءَاخِرُهُمْ) أَىْ ءَاخِرُ الأَنْبِيَاءِ (مُحَمَّدٌ ﷺ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَبَيْنَ ءَادَمَ وَمُحَمَّدٍ جَمٌّ غَفِيرٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ (وَقَدْ رُوِىَ بَيَانُ عَدَدِهِمْ فِى بَعْضِ الأَحَادِيثِ) مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِى ذَرٍّ أَنَّهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا.

     (وَكُلُّهُمْ كَانُوا مُخْبِرِينَ مُبَلِّغِينَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى صَادِقِينَ نَاصِحِينَ) أَىْ أَنَّهُمْ بَلَّغُوا مَا أُمِرُوا بِتَبْلِغِيهِ وَلَمْ يَكْتُمُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا جَاءُوا بِهِ وَأَنَّهُمْ نَاصِحُونَ فَلا يَكْذِبُونَ وَلا يَخُونُونَ فَالأَنْبِيَاءُ مَعْصُمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ الَّتِى تَدُلُّ عَلَى خَسَاسَةِ النَّفْسِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا (وَأَفْضَلُ الأَنْبِيَاءِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ) لِقَوْلِهِ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ ءَادَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا فَخْرُ، أَىْ لا أَقُولُ ذَلِكَ افْتِخَارًا إِنَّمَا تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَفِى ذَلِكَ جَوَازُ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ.

     (وَالْمَلائِكَةُ عِبَادُ اللَّهِ تَعَالَى الْعَامِلُونَ بِأَمْرِهِ) كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِى الْقُرْءَانِ ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (وَلا يُوصَفُونَ بِذُكُورَةٍ وَلا أُنُوثَةٍ) أَىْ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلا إِنَاثًا لا يَأْكُلُونَ وَلا يَشْرَبُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَنَامُونَ وَلا يَتْعَبُونَ وَلا يَتَنَاكَحُونَ وَلا يَتَوَالَدُونَ وَهُمْ مُسْلِمُونَ مُكَلَّفُونَ بِالإِيمَانِ وَيُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا.

     (وَلِلَّهِ تَعَالَى كُتُبٌ أَنْزَلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَبَيَّنَ فِيهَا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ) أَىْ يَجِبُ الإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ كُتُبًا سَمَاوِيَّةً أَشْهَرُهَا الْقُرْءَانُ وَالتَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ. وَالزَّبُورُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحْكَامٌ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْثَالٌ يَتَّعِظْ بِهَا النَّاسُ وَمَوَاعِظُ مِنْ تَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ وَرَقَائِقُ أَىْ أَشْيَاءُ تُرَقِّقُ الْقُلُوبَ فَكَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَرْجِعُ إِلَى التَّوْرَاةِ فِى الأَحْكَامِ وَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى كَانُوا عَلَى شَرْعِ التَّوْرَاةِ.

     (وَالْمِعْرَاجُ لِرَسُولِ اللَّهِ فِى الْيَقَظَةِ بِشَخْصِهِ إِلَى السَّمَاءِ) أَىْ عُرُوجُ الرَّسُولِ ﷺ إِلَى السَّمَــٰوَاتِ السَّبْعِ (ثُمَّ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْعُلَى حَقٌّ) أَىْ ثَابِتٌ بِنَصِّ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَمَّا رُؤْيَةُ النَّبِىِّ فِى لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ لِرَبِّهِ فَالْجُمْهُورُ يُثْبِتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ رَءَاهُ بِعَيْنَىْ رَأْسِهِ ﷺ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَءَاهُ بِفُؤَادِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَأَمَّا الإِسْرَاءُ فَهُوَ ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ قَالَ تَعَالَى ﴿سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.  

     (وَكَرَامَاتُ الأَوْلِيَاءِ حَقٌّ) وَالْوَلِىُّ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُسْتَقِيمُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالِاسْتِقَامَةُ هِىَ لُزُومُ طَاعَةِ اللَّهِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالإِكْثَارِ مِنْ نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ وَالْكَرَامةُ الَّتِى تَظْهَرُ عَلَى يَدِ الْوَلِىِّ هِىَ لِلدِّلالَةِ عَلَى صِدْقِ اتِّبَاعِ صَاحِبِهَا لِلنَّبِىِّ اتِّبَاعًا تَامًّا (فَيُظْهِرُ) اللَّهُ (الْكَرَامَةَ عَلَى طَرِيقِ نَقْضِ) أَىْ خَرْقِ (الْعَادَةِ لِلْوَلِىِّ مِنْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فِى الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ) كَإِتْيَانِ ءَاصِفَ بنِ بَرْخِيَا صَاحِبِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِعَرْشِ بِلْقِيسَ قَبْلَ ارْتِدَادِ طَرْفِهِ مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ (وَظُهُورِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ عِنْدَ الْحَاجَةِ) كَمَا حَصَلَ لِمَرْيَمَ (وَالْمَشْىِ عَلَى الْمَاءِ) كَمَا حَصَلَ لِلصَّحَابِىِّ الْجَلِيلِ الْعَلاءِ بنِ الْحَضْرَمِىِّ (وَالطَّيَرَانِ فِى الْهَوَاءِ وَكَلامِ الْجَمَادِ) كَتَسْبِيحِ السُّبْحَةِ فِى يَدِ أَبِى مُسْلِمٍ الْخَوْلانِىِّ (وَ)كَلامِ (الْعَجْمَاءِ) أَىِ الْبَهِيمَةِ كَتَكْلِيمِ الْكَلْبِ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ (وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَشْيَاءِ وَيَكُونُ ذَلِكَ) أَىْ ظُهُورُ الْكَرَامَةِ (مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ الَّذِى ظَهَرَتْ هَذِهِ الْكَرَامَةُ لِوَاحِدٍ مِنْ أُمَّتِهِ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِهَا أَنَّهُ وَلِىٌّ وَلَنْ يَكُونَ وَلِيًّا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُحِقًّا فِى دِيَانَتِهِ) أَىْ إِلَّا إِذَا ءَامَنَ بِرَسُولِ زَمَانِهِ وَالْتَزَمَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَانْتَهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ (وَدِيَانَتُهُ الإِقْرَارُ) بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ (بِرِسَالَةِ رَسُولِهِ) مَعَ الطَّاعَةِ لَهُ فِى أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.

     (وَأَفْضَلُ الْبَشَرِ بَعْدَ نَبِيِّنَا) وَالأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ (أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عُمَرُ الْفَارُوقُ ثُمَّ عُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ ثُمَّ عَلِىٌّ الْمُرْتَضَى) أَىْ أَفْضَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا هَؤُلاءِ الأَرْبَعَةُ وَأَفْضَلِيَّةُ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ مَوْضِعُ إِجْمَاعٍ أَمَّا التَّفْضِيلُ بَيْنَ عَلِىٍّ وَعُثْمَانَ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الأَئِمَّةُ فَمِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ بِأَفْضَلِيَّةِ عُثْمَانَ وَهُمُ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ (وَخِلافَتُهُمْ ثَابِتَةٌ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَيْضًا) أَىْ أَنَّ الْخِلافَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ لِأَبِى بَكْرٍ ثُمَّ لِعُمَرَ ثُمَّ لِعُثْمَانَ ثُمَّ لِعَلِىٍّ (وَ)مُدَّةُ (الْخِلافَةِ) الرَّاشِدَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (ثَلاثُونَ سَنَةً) تَنْتَهِى بِانْتِهَاءِ خِلافَةِ الْحَسَنِ بنِ عَلِىٍّ (ثُمَّ بَعْدَهَا مُلْكٌ وَإِمَارَةٌ) كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ الْخِلافَةُ بَعْدِى ثَلاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا وَفِى بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ أَبِى دَاوُدَ وَغَيْرِهِ مُلْكًا عَضُوضًا أَىْ ظَالِمًا. وَهَذَا لا يَنْفِى تَوَلِّى بَعْضِ الْحُكَّامِ الأَتْقِيَاءِ الْعَادِلِينَ لَكِنَّهُمْ يَكُونُونَ قِلَّةً بِالنِّسْبَةِ لِلظَّلَمَةِ.

     (وَالْمُسْلِمُونَ لا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إِمَامٍ) أَىْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَنْصِيبُ إِمَامٍ أَىْ خَلِيفَةٍ إِنْ قَدَرُوا (لِيَقُومَ بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِمْ وَإِقَامَةِ حُدُودِهِمْ وَسَدِّ ثُغُورِهِمْ) أَىِ الْمَوَاضِعِ الضَّعِيفَةِ الَّتِى يُخَافُ هُجُومُ الْعَدُّوِ مِنْهَا (وَتَجْهِيزِ جُيُوشِهِمْ وَأَخْذِ صَدَقَاتِهِمْ) أَىْ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا (وَقَهْرِ الْمُتَغَلِّبَةِ) أَىِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَتِهِ وَتَمَرَّدُوا عَلَيْهِ (وَالْمُتَلَصِّصَةِ) أَىِ اللُّصُوصِ الَّذِينَ لَجَؤُوا إِلَى السِّلاحِ (وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ) عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِإِخَافَتِهِمْ أَوْ أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ قَتْلِهِمْ (وَإِقَامَةِ الْجُمُعِ وَالأَعْيَادِ) أَىْ إِقَامَةِ صَلاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ (وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْعِبَادِ) بِتَعْيِينِ قُضَاةٍ يَحْكُمُونَ بَيْنَهُمْ (وَقَبُولِ الشَّهَادَاتِ الْقَائِمَةِ عَلَى الْحُقُوقِ وَتَزْوِيجِ الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ الَّذِينَ لا أَوْلِيَاءَ لَهُمْ وَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ) وَهِىَ مَا أُخِذَ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ مِنْ كُفَّارٍ أَصْلِيِّينَ حَرْبِيِّينَ بِقِتَالٍ (وَنَحْوِ ذَلِكَ).

     (ثُمَّ يَنْبَغِى أَنْ يَكُونَ الإِمَامُ ظَاهِرًا لا مُخْتَفِيًا) حَتَّى يُرْجَعَ إِلَيْهِ فَيَقُومَ بِالْمَصَالِحِ فَلا يَنْبَغِى أَنْ يَكُونَ مُخْتَفِيًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِى الْمَقْصُودَ مِنَ الإِمَامَةِ (وَلا) يَنْبَغِى أَنْ يَكُونَ (مُنْتَظَرًا) أَىْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مُنْتَظَرًا أَىْ مُخْتَفِيًا عَنِ النَّاسِ يُنْتَظَرُ خُرُوجُهُ عِنْدَ تَغَيُّرِ حَالِ الزَّمَانِ (وَ)يَجِبُ أَنْ (يَكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ وَلا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِمْ) مَا دَامَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِلإِمَامَةِ لِحَدِيثِ الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْش رَوَاهُ النَّسَائِىُّ وَالْبَيْهَقِىُّ. أَمَّا إِذَا فُقِدَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الإِمَامَةَ غَيْرُهُ (وَلا يَخْتَصُّ) الإِمَامُ (بِبَنِى هَاشِمٍ وَأَوْلادِ عَلَىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَلا يُشْتَرَطُ فِى الإِمَامِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا) أَىْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ لِلأَنْبِيَاءِ (وَلا) يُشْتَرَطُ (أَنْ يَكُونَ) الْخَلِيفَةُ (أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ) وَلا أَتْقَاهُمْ وَلا أَعْلَمَهُمْ (وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوِلايَةِ الْمُطْلَقَةِ الْكَامِلَةِ) وَالْمُرَادُ بِالْوِلايَةِ هُنَا التَّصَرُّفُ فِى أُمُورِ النَّاسِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ مُسْلِمًا حُرًّا عَدْلًا ذَكَرًا عَاقِلًا بَالِغًا (سَائِسًا) أَىْ أَنْ يَكُونَ مُقْتَدِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ فِى أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ بِقُوَّةِ رَأْيِهِ وَمَعُونَةِ بَأْسِهِ وَشَوْكَتِهِ (قَادِرًا عَلَى تَنْفِيذِ الأَحْكَامِ) أَىْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ (وَحِفْظِ حُدُودِ دَارِ الإِسْلامِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ وَلا يَنْعَزِلُ الإِمَامُ بِالْفِسْقِ وَالْجَوْرِ) أَىْ لا يَنْعَزِلُ الإِمَامُ إِذَا فَسَقَ أَوْ ظَلَمَ لِأَنَّ النَّبِىَّ ﷺ قَالَ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَأَغْلَبُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْلَمُوا مِنْ خَوَارِمِ الْعَدَالَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ أَقَرُّوهُمْ عَلَى وِلايَتِهِمْ.

     (وَتَجُوزُ الصَّلاةُ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ) أَىْ تَصِحُّ الْقُدْوَةُ فِى الصَّلاةِ بِالْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ لَكِنَّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفَاسِقِ مَكْرُوهٌ أَمَّا الْبِدْعِىُّ الَّذِى وَصَلَ إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ كَالْقَدَرِىِّ فَلا تَصِحُّ الصَّلاةُ خَلْفَهُ (وَيُصَلَّى عَلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ) أَىْ إِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ الْفَاسِقُ تَجِبُ الصَّلاةُ عَلَيْهِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ التَّقِىِّ (وَيُكَفُّ عَنْ ذِكْرِ الصَّحَابَةِ إِلَّا بِخَيْرٍ) أَىْ لا يُتَكَلَّمُ فِيهِمْ مِنْ حَيْثُ الإِجْمَالُ إِلَّا بِخَيْرٍ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ بِغَيْرِ الْخَيْرِ فَقَدْ ضَلَّ. وَلَيْسَ مُرَادُ الْمُؤَلِّفِ أَنَّهُ يَحْرُمُ ذِكْرُ أَحَدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّحَابَةِ بِغَيْرِ الْخَيْرِ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ لِلْخَطِيبِ الَّذِى قَالَ فِى خُطْبَتِهِ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَد وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ فِى مُعَاوِيَةَ لا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ.

     (وَنَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ لِلْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ الَّذِينَ بَشَرَّهُمُ النَّبِىُّ ﷺ بِالْجَنَّةِ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَبُو بَكْرٍ فِى الْجَنَّةِ عُمَرُ فِى الْجَنَّةِ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ فِى الْجَنَّةِ عَلِىُّ بنُ أَبِى طَالِبٍ فِى الْجَنَّةِ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فِى الْجَنَّةِ الزُّبَيْرُ بنُ الْعَوَّامِ فِى الْجَنَّةِ سَعْدُ بنُ أَبِى وَقَّاصٍ فِى الْجَنَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الْجَرَّاحِ فِى الْجَنَّةِ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ عَوْفٍ فِى الْجَنَّةِ وَسَعِيدُ بنُ زَيْدٍ فِى الْجَنَّةِ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَأَبُو دَاوُدَ (وَنَرَى) جَوَازَ (الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِى السَّفَرِ وَالْحَضَرِ) فَإِنَّ حَدِيثَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُتَوَاتِرٌ فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ الْبِصْرِىِّ أَنَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ ﷺ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ (وَلا نُحَرِّمُ نَبِيذَ التَّمْرِ) أَىِ التَّمْرَ الَّذِى نُقِعَ فِى الْمَاءِ إِلَى أَنْ تَنْحَلَّ حَلاوَتُهُ فِى الْمَاءِ لِيُشْرَبَ فَإِنَّهُ حَلالٌ (وَلا يَبْلُغُ وَلِىٌّ دَرَجَةَ الأَنْبِيَاءِ أَصْلًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أَىْ أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ قَالَ الْقُرْطُبِىُّ فَالنَّبِىُّ أَفْضَلُ مِنَ الْوَلِىِّ وَهُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا وَالصَّائِرُ إِلَى خِلافِهِ كَافِرٌ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ، وَفِى ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ الأَئِمَّةِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ الْوَلِىُّ الْوِلايَةَ بِاتِّبَاعِهِ لِلنَّبِىِّ وَاقْتِدَائِهِ بِهِ (وَلا يَصِلُ الْعَبْدُ) الْمُكَلَّفُ (إِلَى حَيْثُ يَسْقُطُ عَنْهُ الأَمْرُ وَالنَّهْىُ) أَىْ لا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ مَهْمَا أَكْثَرَ مِنَ الطَّاعَاتِ وَجَاهَدَ نَفْسَهُ وَخَالَفَ هَوَاهُ وَانْقَطَعَ لِلْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ التَّكْلِيفُ عِنْدَ زَوَالِ عَقْلِهِ.

     (وَالنُّصُوصُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُحْمَلُ عَلَى ظَوَاهِرِهَا) أَىْ أَنَّ النُّصُوصَ الْقُرْءَانِيَّةَ وَالْحَدِيثِيَّةَ تُحْمَلُ عَلَى الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَقْلِىٌّ أَوْ سَمْعِىٌّ عَلَى وُجُوبِ الْعُدُولِ عَنْ ذَلِكَ فَعِنْدَئِذٍ تُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا لَوْ خَالَفَ حَدِيثُ الآحَادِ حَدِيثًا مُتَوَاتِرًا وَقَبِلَ التَّأْوِيلَ فَإِنَّهُ يُؤَوَّلُ وَيُعْمَلُ بِهِ وَإِلَّا فَيُقْطَعُ بِأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ أَمَّا التَّأْوِيلُ لِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِىٍّ فَهُوَ عَبَثٌ مَرْدُودٌ (وَالْعُدُولُ عَنْهَا) أَىِ الْعُدُولُ عَنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ (إِلَى مَعَانٍ يَدَّعِيهَا أَهْلُ الْبَاطِنِ إِلْحَادٌ) وَكُفْرٌ (وَرَدُّ النُّصُوصِ كُفْرٌ) أَىْ أَنَّ رَدَّ النَّصِّ الْقُرْءَانِىِّ أَوِ الْحَدِيثِىِّ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ كَلامُ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ كَلامُ رَسُولِ اللَّهِ كُفْرٌ (وَاسْتِحْلالُ الْمَعْصِيَةِ كُفْرٌ وَالِاسْتِهَانَةُ بِهَا كُفْرٌ) أَىْ أَنَّ الَّذِى يَجْعَلُ الْمَعْصِيَةَ حَلالًا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا أَوْ يَسْتَهِينُ بِهَا أَىْ يَعْتَبِرُهَا لا بَأْسَ بِهَا فَهُوَ كَافِرٌ (وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالشَّرِيعَةِ) أَوْ بِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا (كُفْرٌ وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى) أَىِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ لِأَحَدٍ ذَنْبًا (كُفْرٌ وَ)كَذَا (الأَمْنُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى) أَىِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ لا يُعَاقِبُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذَنْبٍ كَمَا تَقُولُ الْمُرْجِئَةُ فَإِنَّهُ (كُفْرٌ وَتَصْدِيقُ الْكَاهِنِ بِمَا يُخْبِرُهُ عَنِ الْغَيْبِ كُفْرٌ) فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْكَاهِنَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ أَوْ شَيْئًا مِنَ الْغَيْبِ كَفَرَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ فَلا يَجُوزُ الإِخْبَارُ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ اعْتِمَادًا عَلَى خَبَرِ الْجِنِّ أَوْ عَلَى النُّجُومِ أَوِ اعْتِمَادًا عَلَى النَّظَرِ فِى الْكَفِّ أَوِ فِنْجَانِ الْبُنِّ أَوِ اعْتِمَادًا عَلَى الأَبْرَاجِ (وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَىْءٍ) لِأَنَّ الشَّىْءَ هُوَ الثَّابِتُ الْوُجُودِ لِذَلِكَ يُقَالُ اللَّهُ شَىْءٌ لا كَالأَشْيَاءِ بِمَعْنَى الْوَصْفِ بِالْوُجُودِ لا بِمَعْنَى الِاسْمِ.

     (وَفِى دُعَاءِ الأَحْيَاءِ لِلأَمْوَاتِ وَصَدَقَتِهِمْ عَنْهُمْ نَفْعٌ لَهُمْ) أَىْ أَنَّ الأَمْوَاتَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَنْتَفِعُونَ بِدُعَاءِ الأَحْيَاءِ وَصَدَقَتِهِمْ لَهُمْ (وَاللَّهُ تَعَالَى يُجِيبُ الدَّعَوَاتِ وَيَقْضِى الْحَاجَاتِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ فَمَنْ كَانَ دُعَاؤُهُ بِغَيْرِ إِثْمٍ وَلا مَانِعٍ شَرْعِىٍّ لا بُدَّ أَنْ يَنَالَ مَطْلَبَهُ بِدُعَائِهِ أَوْ يُصْرَفَ عَنْهُ السُّوءُ أَوْ يُدَخَّرَ لَهُ فِى الآخِرَةِ فَكُلُّ ذَلِكَ اسْتِجَابَةٌ (وَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِىُّ ﷺ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ) الْكُبْرَى أَىْ عَلامَاتِ الْقِيَامَةِ (مِنْ خُرُوجِ الدَّجَّالِ) الَّذِى شَاهَدَهُ تَمِيمٌ الدَّارِىُّ مَحْبُوسًا فِى جَزِيرَةٍ وَتَحَدَّثَ مَعَهُ (وَ)خُرُوجِ (دَابَّةِ الأَرْضِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَنُزُولِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ السَّمَاءِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا فَهُوَ حَقٌّ) يَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ. وَمِنْ أَشْرَاطِهَا دُخَانٌ يَنْتَشِرُ فِى الأَرْضِ يَكَادُ الْكَافِرُونَ يَمُوتُونَ مِنْ شِدَّةِ هَذَا الدُّخَانِ وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تَسُوقُ النَّاسَ إِلَى الْمَغْرِبِ وَثَلاثَةُ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ  

     (وَالْمُجْتَهِدُ قَدْ يُخْطِئُ وَقَدْ يُصِيبُ) فَإِنِ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنِ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ كَمَا وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ الَّذِى رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. وَمِنْ شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ الإِسْلامُ وَالْعَدَالَةُ وَحِفْظُ ءَايَاتِ الأَحْكَامِ وَأَحَادِيثِ الأَحْكَامِ وَمَعْرِفَةُ الْعَرَبِيَّةِ الأَصْلِيَّةِ وَمَعْرِفَةُ إِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ وَاخْتِلافِهِمْ مَعَ قُوَّةِ الْقَرِيحَةِ. (وَرُسُلُ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ رُسُلِ الْمَلائِكَةِ وَرُسُلُ الْمَلائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الْبَشَرِ وَعَامَّةُ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الْمَلائِكَةِ) أَىْ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ هُمْ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى الإِطْلاقِ ثُمَّ يَلِيهِمْ خَوَاصُّ الْمَلائِكَةِ ثُمَّ أَوْلِيَاءُ الْبَشَرِ ثُمَّ عَامَّةُ الْمَلائِكَةِ أَىْ مِنْ غَيْرِ خَوَاصِّهِمْ ثُمَّ عَامَّةُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ).

وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/xxWEAGxFYqc?si=iuduVxzlGcZ0RCoI

لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ:     https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/nasafiyyah_2 

 الْمَوْقِعُ الرَّسْمِيُّ لِلشَّيْخِ جِيل صَادِق: https://shaykhgillessadek.com