الفرقان في تصحيح ما حُرّفَ تفسيره من ءايات القرءان
المؤلف: الشيخ جميل حليم الحسيني الرفاعي الأشعري
القسم الأول
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الباعث على تأليف هذا الكتاب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وبعد،
قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} [سورة المائدة] . وقال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ *} [سورة آل عمران] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ *} [سورة البقرة] .
هذه الآيات الكريمات المباركات هي الباعث والمحرك لنا على كتابة هذه الرسالة، تحذيرًا من التفسيرات المخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأمة، كي لا نكون داخلين بعدم تحذيرنا، وسكوتنا من التفسيرات المُستَحدَثة المُحَرِّفة لكتاب الله ودينه تحت هذا الوعيد والتهديد الشديد الذي أشارت إليه هذه الآيات، وكي لا نكون من الشياطين الخُرس كما قال العالم الولي الصالح أبو علي الدقاق: «الساكت عن الحق شيطان أخرس». نقله عنه عبد الكريم القشيري في الرسالة القشيرية[(1)]، وقيامًا منا بالواجب الشرعي المؤكد علينا وحِفظًا لدين الله وتحذيرًا للأمة مما يضرُّها في دينها والله يقول الحق ويهدي للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، الظاهر فليس فوقه شىء، والباطن فليس دونه شىء، وأصلي وأسلم على من بعثه الله رحمة للعالمين. فنشر الله به الخيرات، وبدد الظلمات. وأصلي وأسلم على ءاله وأصحابه أفنان الدوحة النبوية أولي السابقة والأولية وسلم يا ربِ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الله تعالى حفظ كتابه العزيز (القرءان الكريم). من أي تحريف فقال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *}. فقد امتدت إيادي الإثم غير مرة في التاريخ للنيل من كتاب الله تعالى إلا أنهم بفضل الله تعالى أُنكسوا وأُركسوا ولما عجزوا عن نيل مرامهم عمدوا إلى تحريف التفسير فكان الخلاف مع أهل الأهواء على تأويله لا على تنزيله فكُتب في التفسير القناطير المقنطرة من المؤلفات الفاسدة التي تعج بالبضاعة الكاسدة وعليها انعقدت الشهرة بين الكثير من العامة والخاصة وهي ما كان يعرف (بالإسرائيليات). ولكن في العصور المتأخرة زاد البلاء وعمت اللأواء وراح يفسر القرءان من ليس في العبر ولا في النفير وراحوا يخضعون القرءان للنظريات المسماة بالعلمية وصاروا يخبطون خبط عشواء وكل ذلك من أجل أن يقولوا إن القرءان يوافق النظريات المعاصرة. والبعض من أجل أن يقال عنهم أنهم أتوا بشىء لم يأتِ به الأوائل ومنهم من أجل إخراج الدين عن جادة الحق والمسار الصحيح حتى إن البعض صرح أنه (كيف نأخذ بتفسير ابن عباس ومجاهد وابن سيرين لعصر الذَّرة والصعود إلى القمر والتطور العلمي). فخاضوا في لجج الأوهام بغير حجة ولا كتاب منير فتلاطمت أفهامهم وتضاربت أقوالهم إلا أنه خفى على هؤلاء وأمثالهم أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحججه كما قال سيدنا علي بن أبي طالب لكميل بن زياد.فهؤلاء وإن كانوا أخفياء لا نصيب لهم من الشهرة كما لأبواق السوء لكنهم قائمون على ثغر من ثغور الإسلام يجاهدون ويناضلون بالكلمة بالحكمة والموعظة الحسنة ومهما طال الليل فلا بد وإن الفجر ءات وإن أشد مراحل الظلام تلك الهُنَيهات التي قبيل الفجر ومن هنا فقد انتهض الشريف الشيخ جميل علي الحسيني تلميذ الإمام المحدث الشيخ عبد الله الهرري انتضل لنصرة دين الله تعالى بالمقال والفعال يطوف بالأرض بلسانه ويراعه وهو صاحب همة عالية في هذا المضمار وقدم لنا هذا السّفر الذي بين أيدينا ليكون نورًا للأمة وذخرًا له يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فأوفى بالغرض وجمع أباطيلهم وأضاليلهم ورد بحزم وجزم بالبراهين والبينات فجزاه الله خير الجزاء.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على أفضل المرسلين وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
ـ[1] الرسالة القشيرية (ص/120).
وكتب الشيخ أسامة محمد السيد
وعيد من قال في القرءان وتفسيره برأيه
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ *} [سورة الحج] ، وقال عز وجل {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *} [سورة الإسراء] .
القرءان الكريم كلام الله تعالى المُنزَل على خاتم أنبيائه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكان جبريل يعلّم النبي، صلى الله عليهما وسلم قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى *} [سورة النجم] ، وكان الصحابةُ يَرجِعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرهم لكتاب الله قال الله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ *} [سورة النحل] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [سورة البقرة] ، وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن قال في القرءان برأيه فليتبوَّأ مقعده من النار» . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «أيُّ سماءٍ تُظِلُّني وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن قلتُ في كتابِ الله ما لا أعلم». رواه الحافظ السيوطي في «تاريخ الخلفاء». وقال سيدنا علي رضي الله عنه: «ما أبردَها على كبدي أن أقولَ لا أدري حين لا أدري». رواه الحافظ أبو نُعيم الأصبهاني.
لذا اشترط العلماءُ على من يُفَسِّر كتاب الله عز وجل ويتصدَّى لهذا المقام الجليل أن يكون مُلِمًّا بأمور تُعينه على ذلك منها:
العلم بالإجماع: كي لا يخرق الإجماع في تفسيره.
العلم بأصول الدين: وهو علم التوحيد، ويُعرف به ما يجب لله تعالى، وما يستحيل عليه، وما يجوز في حقه، وما يجب للأنبياء وما يستحيل عليهم.
ويشترط العلم بآيات الأحكام وأحاديث الأحكام كي لا يخالفها.
العلم باللغة: قال مجاهد: «لا يحِلُّ لأحدٍ يؤمنُ بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله، إذا لم يكن عارفًا بلغات العرب». وقال الإمام مالك: «لا أوتَى برجلٍ غير عالم بلغة العرب يُفَسِّرُ كتابَ اللهِ إلا جعلتُه نكالا». رواه البيهقي عن مالك كما في الإتقان[(2)].
العلم بالنحو: من لم يعرف النحو قد يقع في أخطاء فاحشة.
العلم بالتصريف: فبه تعرف أبنية الكلمات، والصيغ، وألوان التصاريف.
العلم بالاشتقاق: لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف المعنى باختلافهما.
العلم بعلوم المعاني والبيان والبديع: وهو علم البلاغة المشهور.
العلم بالقراءات: فيها تعرف مخارج الحروف والأصوات وكيفية النطق بها. العلم بأصول الفقه: فيه تُعرف فيه وجوه الاستدلال، وطريقة استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة.
العلم الفقه: فيه تُعرف فيه الأحكام الشرعية (في العبادات والمعاملات ونحوها) في ذلك ومذاهب الفقهاء.
العلم بأسباب النزول: فيها يُعرف فيه المعنى المراد من الآية كما أنه يُزيل الإشكال عن بعضها، وبعلم القصص يُعلم ما هو من الإسرائيليات التي دُسَّت في التفسير وما ليس منه وماهو حق وما هو باطل.
العلم بالناسخ والمنسوخ: وهو مهم للمفسر وإلا وقع في خطأ كبير.
العلم بالحديث والسنن والآثار المبيّنة لتفصيل المجمَل، وتوضيح المبهم وتخصيص العام وتقييد المطلق، ونحو ذلك من وجوه بيان السنة للقرءان.
فمَن فسَّر القرآن بعيدًا عن هذه العلوم كان مُفَسّرًا بالرأي المنهي عنه، وكان مستحقًا للوعيدِ الوارد في حديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم «من قال في القرءان برأيه فقد ضل» ، وفي حديث «من قال في القرءان برأيه فأصاب فقد أخطأ» ، ومعنى «فأصاب» أي صادف كلامُه الواقع. ومعنى «فقد أخطأ» أي عصى الله معصية كبيرة فيكون فاسقًا مستحقًا لعذاب الله في جهنم لأنه تجرَّأ على كتاب الله بغير علم وهذا من جملة الفتوى بالرأي، وقد قال صلى الله عليه وسلم «من أفتى بغير علم لعنَته ملائكةُ السماءِ والأرض» رواهُ ابنُ عَسَاكِر.
إن الذي يتجرَّأ على تفسيرِ كتابِ اللهِ برأيه وجهله قد يقعُ في الكفرِ ويخرجُ من الإسلام فإن سَلِمَ من الكفرِ لا يَسلَمُ من الكبيرة ومن القسم الأول كالذي يُفسّرُ قول الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بأنه تعالى ضوء عَمَّ السمـوات والأرض أو أنه نورٌ منتشرٌ في الأرجاء وهذا تكذيب لقوله تعالى: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، ويَكفرُ أيضًا الذي يُفَسِّرُ قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} بالجلوس أو الاستقرار أو المحاذاة، بل معنى الآية الأولى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الله هادي المؤمنين لنور الإيمان، وستجدُه مفصَّلا موسَّعًا في محله. ومعنى الآية الأخرى {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} قهر العرش وكل العالم قال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأِنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *} ، وهذا أيضًا تجدُه مُبيَّنًا بيانًا شافيًا في محلِّه. فعِلمُ الدين وتفسيرُ القرءان لا يؤخَذان من الفضائيات والصُّحُفِ والإذاعات بل يؤخَذُان من أهلِ العِلم بالتَّلقِّي مُشافهةً كما قال الإمام الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه «الفقيه والمتفقه»[(3)]: «إنما يؤخَذُ العِلمُ من أفواهِ العلماء».
فالحذر الحذر من أدعياء العلم الذين استسهلوا الفتوى بغير علم واستسهلوا تفسير القرءان بآرائهم فهؤلاء هالِكون، ومن أخذ بآرائهم وتفسيراتهم الباطلة هو هالك أيضًا ولا عذر له، بدليل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد «إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعا من العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالا فاستُفتوا فأفتَوا بغير علم فضَلُّوا وأضَلُّوا» فليُلاحظ قوله صلى الله عليه وسلم «فضَلُّوا وأضَلُّوا» أي هم ومن تبعهم، ويؤكد هذا المعنى أيضًا ما رواه البخاري قال صلى الله عليه وسلم «أناسٌ من جِلدتنا يتكلمون بألسنتنا تعرف منهم وتُنكر دعاةٌ على أبواب جهنم من استجاب لهم قذفوه فيها» .
فالسلامة والنجاة بالوقوف عند حد الشرع الشريف وعدم التجرُّؤ عليه والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبَع، والشَّرع يعلو ولا يعلى عليه، وسلامة الدين لا يعدِلُها شىء.
ـ[2] الإتقان (2/474).
ـ[3] الفقيه والمتفقه (2/97).
سورة الفاتحة
قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}
قال الإمام الحافظ اللغوي تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي ما نصه: «العبادة أقصى غاية الخشوع والخضوع»، وذكر ذلك الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في شرح القاموس، وممّن فسّر العبادة بذلك أيضا الراغب الأصبهاني وهو لغويّ مشهور يُكثر النقل عنه صاحب شرح القاموس محمد مرتضى الزبيدي قال في تأليفه مفردات القرءان: «العبادة غاية التذلل».
قال الفخر الرازي في «التفسير الكبير»[(4)] ما نصه: «فاعلم أن العبادة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على سبيل التعظيم للآمر» اهـ.
ثم لو كان معنى العبادة مطلق الطاعة لمخلوق في أيّ شىء طاعة أو معصية لكان عمّال الحكام الجائرين كفّارا فهل يقول هؤلاء الذين يكفرون المتوسلين بالأنبياء والأولياء في هؤلاء العمال إنّهم مشركون، أليس هؤلاء أنفسهم يطيعون الحكّام في بعض المعاصي، فعلى مقتضى قولهم يكونون حكموا على أنفسهم بالكفر، وهؤلاء هم الوهابية أتباع محمد بن عبد الوهاب كفّروا أنفسهم وإن لم يشعروا. فهؤلاء الذين يكفّرون المستغيثين بالأولياء والأنبياء ليتعلموا معنى العبادة في لغة العرب قبل إطلاق ألسنتهم بالتكفير؛ وهذا معنى العبادة المرادة بقوله تعالى: {…لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} وبقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . وهذه هي العبادة المختصة لله تعالى التي من صرفها لغيره صار مشركا، وليس معناها مجرّد النداء أو الاستغاثة أو الاستعانة أو الخوف أو الرّجاء كما زعمت الوهابية أن مجرّد نداء شخص ميت أو غائب شرك وكذلك استعانته به إلا بالحيّ الحاضر، حتى لو قال قائل «يا محمد» صار عندهم كافرًا، وكذا لو قال قائل «يا رسول الله المدد» صار كافرًا عندهم، وهؤلاء جاهلون بمعنى العبادة في لغة العرب، قال الليث وهو إمام من أئمة اللغة متقدّم: «ويقال للمشركين هم عبدة الطاغوت – أي الشيطان – ويقال للمسلمين عباد الله يعبدون الله، وقال الله عزّ وجلّ {…اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي أطيعوا ربكم، وقوله الآية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} أي نطيع الطاعة التي يخضع معها» اهـ. وقال ابن الأثير: «والعبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع»، وفي المصباح المنير للفيومي أحد مشاهير اللغويين: «عبدت الله أعبده عبادة وهي الانقياد والخضوع»، وفي تاج العروس شرح القاموس للحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي: «والعِبادة بالكسر الطاعة».
فإن قال هؤلاء وأمثالهم أليس ورد في تفسير قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} أنّ عبادتهم لهم طاعتهم في ما حرّموا وحللوا من تلقاء أنفسهم.
فالجواب أنَّ ذلك داخل تحت هذا التعريف الانقياد والتذلل فإنهم انقادوا وتذلّلوا لهم في ذلك لأنهم كانوا يعتقدون أنَّهم يستحقون أن يطاعوا في ذلك حقيقة، وليس الذي حصل منهم مجرد أنهم أطاعوهم فإن المسلم قد يطيع من له عليه رئاسة في المعصية لكنه لا يطيعه على الوجه الذي أطاعته النصارى لأحبارهم ورهبانهم فلا يكونون عابدين لرؤسائهم كأولئك وكذلك مجرّد الطاعة لمخلوق في المعصية ليس عبادة له وإشراكا بالله؛ وإنما الطاعة التي يكفّر فاعلها هي الطاعة مع غاية التذلل والتعظيم وهذا مراد من قال من اللغويين «العبادة الطاعة» فكأنهم قالوا الطاعة المخصوصة.
ومعنى الآية أنهم كما عبدوا المسيح بقولهم «هو الله أو هو ابنه» وهو بريء من ذلك، كذلك القرءان أخبرنا بأنهم اتخذوا أحبارهم أي علماءهم ورهبانهم أي الذين اتخذوا صوامع بعيدة عن الناس أربابا من دون الله أي عبدوهم من دون الله لأنهم اعتقدوا أنّه لهم حقّ التحليل والتحريم لأنَّ الذي يقول لشخص «اعترف عندي بذنوبك أنا أغفرها لك» فقد ادعى الألوهية لنفسه لأن ذلك لا يكون إلا لله، والله تعالى يقول {…وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} معناه لا أحد يستطيع أن يغفر الذنوب لمن عصى إلا الله لأن دعوى الربوبية لها وجوه من جملتها أن يعتقد الإنسان أنّ للعبد حقّ التحليل والتحريم أو مغفرة الذنوب أو الإيجاد لبعض الأشياء قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} ، قال سيدنا علي رضي الله عنه في هذه الآية: إنها تعني أصحاب الصوامع النصارى الذين يظنون أنهم يحسنون العمل وهم ليس لهم في الآخرة إلا النار لكونهم عبدوا غير الله، أي تذللوا لغير الله غاية التذلل.
فلا مُتَمسَّك في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} للوهابية الذين فسروا العبادة بالخوف والرجاء والطاعة والمحبة لأنهم بذلك يُكفّرون كل البشر كما في كتابهم المسمى «فتح المجيد شرح كتاب التوحيد»[(5)] المتن لمحمد بن عبد الوهاب والشرح لحفيده المدعو عبد الرحمـن ابن حسن آل الشيخ وبموافقة ابن باز، وهذا دين جديد لم يقل به مسلم قط.
وهذا الوهابي المصري محمد حسّان يقول في كتابه المسمى «حقيقة التوحيد»[(6)] مستشهدا بكلام المتطرف الملحد سيد قطب من كتابه المسمى «في ظلال القرءان»[(7)] عن الآية {…فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} بعد قول محمد حسان أن الأنداد هم الشركاء ما نصه: «فقد تكون الأنداد في صورة أخرى خفيّة. قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة وفي الخوف من غير الله في أي صورة».
وبهذا يكون الوهابي محمد حسّان قد كفَّر سيدنا موسى وسيدنا هارون عليهما السلام لأن محمد حسّان يقول بأن الأنداد الذي هو الشرك قد يكون في الخوف من غير الله في أي صورة، والله تعالى يقول حكاية عن سيدنا موسى عليه السلام {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} وقال تعالى: {…خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} وقال تعالى: {…فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ *} وقال تعالى حكاية عن هارون وموسى {…لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى *} ، وهذا الخوف هو الخوف الطبيعي، فكيف يقول الخوف من غير الله في أي صورة يكون من الشرك نعوذ بالله! وقد قال تعالى عن موسى عليه السلام {…وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا *} .
هذا الوهابي كفّر الصحابة أيضًا، فقد قال الله تعالى فيهم في سورة الأنفال {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *} .
قال الإمام المفسر محمد بن مسعود البغوي في شرحه لهذه الآية في كتابه تفسير البغوي ما نصه: «قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} يقول: واذكروا يا معشر المهاجرين إذ أنتم قليل في العدد مستضعفون في أرض مكة في ابتداء الإسلام {…تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} يذهب بكم الناس يعني كفار مكة. وقال عكرمة: كفار العرب. وقال وهب فارس والروم، {…فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} إلى المدينة {…فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} أي قواكم يوم بدر بالأنصار. وقال الكلبي: قواكم يوم بدر بالملائكة {…وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني الغنائم أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم».
وأما قوله {…وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} فليس فيها ما زعمته الوهابية من تكفير المستغيثين والمتوسلين بالأنبياء والأولياء والصالحين، وكما زعم محمد راتب النابلسي الدمشقي فقد اعتبر مطلق الاستعانة عبادة وهذا عين عقيدة الوهابية في كتابه المسمى «تأملات في الإسلام»[(8)] فقد قال فيه: «ورب العالمين هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به» اهـ، وقال فيه أيضًا ما نصه[(9)]: «أي لا نعبد أحدًا غيرك ولا نستعين بكائن سواك» اهـ. فالمسلم لا يعتقد في الأنبياء والأولياء أنهم هم يخلقون له النفع بل اعتقاده أن الله هو يخلق له النفع عند توسله أو استغاثته أو استعانته بالأنبياء والأولياء لأن عقيدة المسلمين أن الضار والنافع على الحقيقة هو الله، والمسلم لا يطلب من نبي أو ولي ما لا يقدران عليه، وهذه الاستعانة في قوله تعالى: {…وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} هي الاستعانة الخاصة أي أننا نطلب منه سبحانه أن يخلق فينا العون والقدرة على فعل الأشياء. وهذا لا نطلبه من غيره سبحانه، ولا يدخل تحت هذا المعنى الاستغاثة والتوسل والاستعانة بالأولياء ولا ما يطلبه العباد بعضهم من بعض كقول الإنسان لإنسان آخر «أعني في إمساك فرسي هذه» أو «على حمل متاعي على الدابة»، وليس معناها أن المسلم إذا استعان بنبي أو ولي حي أو ميت يكون كافرًا وإلا لو كانت هذه الاستعانة أو هذه الاستغاثة شركًا كما زعمت الوهابية لما بقي، على قولهم، مسلم على وجه الأرض. ومما يرد كلامهم ما رواه الترمذي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» . فهل تزعم الوهابية أن الرسول صلى الله عليه وسلم حث الناس على أن يعبد بعضهم بعضًا بهذه الاستعانة؟! حاشا وكلا، وماذا تقول الوهابية في قول الله تعالى إخبارًا عن عبده الصالح ذي القرنين في قصة بناء السد بيننا وبين يأجوج ومأجوج {قَالُوا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا *قَالَ مَا مَكَّنْنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا *} [سورة الكهف] فهل تزعم الوهابية أن ذا القرنين عبد الناس الذين طلب منهم الإعانة؟!
ومن عجائب الوهابية أنهم يُكفّرون المسلمين سلفًا وخلفًا شرقًا وغربًا إذا توسلوا بالأنبياء والأولياء واستعانوا بهم مع الاعتقاد الصحيح أن الضار والنافع على الحقيقة هو الله، ولا يُكفّرون إمامهم وشيخهم ابن تيمية الحراني حيث قال في كتابه «مجموع الفتاوى»[(10)]: «إنه سبحانه يفعل ذلك بجنوده (وأعوانه) من الملائكة» فهل ستكفّره الوهابية لأنه قال «الملائكة أعوان الله» وحاشى لله وتنزه الله، أم يخافون الفضيحة وانقطاع المال؟
فَلْيُنْظَرْ كيف كفَّروا المسلمين لأنهم استغاثوا بالأنبياء والأولياء من غير أن يعتقدوا في قلوبهم ومن غير أن يقولوا بألسنتهم «إنهم أعوان الله»، فيكفرون المستغيثين بالأنبياء والأولياء، ولا يكفّرون إمامهم مع تصريحه بنسبة الأعوان إلى الله فيا لفضيحتهم.
ـ[4] التفسير الكبير (1/19).
ـ[5] فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص/179).
ـ[6] انظر كتابه المسمى حقيقة التوحيد (ص/33 – 34).
ـ[7] في ظلال القرءان (1/42).
ـ[8] تأملات في الإسلام (24).
ـ[9] تأملات في الإسلام (30).
ـ[10] مجموع الفتاوى (5/507).
