فائدة مهمة عظيمة النفع تتعلق بعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
قال الحافظ الحجة القدوة الفقيه الشيخ عبد الله الهرري الحبشي رحمه الله رحمة واسعة ورضي الله عنه، في كتابه «الدليل القويم على الصراط المستقيم» ما نصه[(185)]: «عصمة الأنبياء:
تجب للأنبياء العصمة من الكفر والكبائر وصغائر الخسة والدناءة كسرقة لقمة. ويجوز عليه ما سوى ذلك من الصغائر.
وهذا قول أكثر العلماء كما نقله غير واحد وعليه الإمام أبو الحسن الأشعري، وخالفه بعض الأشاعرة في وقوع الصغائر التي لا خسة فيها منهم فقال تاج الدين السبكي في قصيدته النونية:
والأشعري إمامنا لكننا
في ذا نخالفه بكل لسان
أقول: يا ليته وافقه إذ هو الموافق للنصوص.
فإن قيل إننا مأمورون بالاقتداء بهم فلو كانوا يعصون للزم الاقتداء بهم في المعصية ولا يعقل ذلك.
فالجواب أنهم ينبهون فورًا فلا يُقَرُّون عليها بل يتوبون قبل أن يقتدي بهم أحد فزال المحذور.
فمن الغلو القبيح قول بعض المنحرفين من المتصوفة أن ءادم كان منهيًا عن الأكل من الشجرة ظاهرًا مأمورًا باطنـًا. وقال بعض هؤلاء في إخوة يوسف مثل ذلك وذلك تكذيب للنص.
أما في حق ءادم فقد قال تعالى: {…وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى *} [سورة طه] أخبرنا الله بأنه نُهِيَ ولم يخبرنا بأنه أُمِرَ بالأكل من الشجرة وكيف يجتمع الأمر بشئ والنهي عنه في حق شخص واحد في وقت واحد ثم أخبرنا بأنه تاب عليه بقوله {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ… *} [سورة البقرة] وأما إخوة يوسف الذين كادوه فلم يخبرنا الله تعالى إلا بجرائمهم وأخبرنا أن يوسف قال لهم: {…لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ… *} [سورة يوسف] فكيف يعقل أن يكونوا مأمورين باطنًا.
وكانت معصية الأكل صغيرة وليست كبيرة كما تدعي النصارى. فقد قالوا إن المسيح جاء ليخلص البشر من تبعتها وأعظِمْ بذلك افتراء. وكانت الكلمات التي تلقاها ءادم ما ذكر الله بقوله {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [سورة الأعراف] .
قاعدة في عصمة الأنبياء: قال الشيخ التلمساني في «شرح لمع الأدلة» ما نصه[(186)]: «لا يجوز عليهم الكبيرة ألبتة ويجوز تعمد الصغيرة بشرط عدم الإصرار، ولا يجوز منهم صغيرة تدل على خساسة النفس ودناءة الهمة كتطفيف حبة وسرقة باقة بقل» اهـ، ثم قال[(187)]: «وأما عصمتهم عن الكبائر والإصرار على الصغائر وعن كل صغيرة تؤذن بقلة الاكتراث بالدين فمستند إلى الإجماع القاطع، فإن السلف رضي الله عنهم لم يزالوا يحتجون بالنبي بأفعاله وأقواله ومتبادرون إلى التأسي به، وجميع الظواهر التي اعتمد عليها الحشوية قابلة التأويل». «وأما يونس فقيل: إنما كرّمه الله بالنبوة والرسالة بعد أن نبذ بالعراء قال الله عزّ وجل {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ *} [سورة القلم] ، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين في قصة الفداء في أسارى بدر والإذن للمنافقين في التخلف عن غزوة تبوك وعبوس الوجه لابن أم مكتوم فكلّ ذلك ترك للأولى) اهـ.
وقال التلمساني ما نصه[(188)]: «اعلم أنه لما ثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وعصمته في ما يبلغه عن الله تعالى وجب التصديق بكل ما أخبر من أمور الغيب جملة وتفصيلا، فإن كان مما يُعلم تفصيله وجب اعتقاده، فإن لم يُعلم تفصيله وجب أن يؤمن به جملة ويرد تأويله إلى الله تعالى ورسوله ولمن اختصه الله عزّ وجل بالاطلاع على ذلك» اهـ.
ـ[185] الدليل القويم على الصراط المستقيم (الطبعة الثانية طبع دار المشاريع 1430 هـ ص336 إلى 349).
ـ[186] شرح لمع الأدلة (ص197، مخطوط).
ـ[187] شرح لمع الأدلة (ص/198).
ـ[188] شرح لمع الأدلة (ص/201).
بيان ما يجب عقلاً للأنبياء
يجب للأنبياء الصدق ويستحيل عليهم الكذب، وتجب لهم الفطانة ويستحيل عليهم البلادة والغباوة، وتجب لهم الأمانة فلا يجوز عليهم ارتكاب الخيانة بقول وحال وفعل كبيرة قبل النبوة ولا بعدها، أو بفعل صغيرة خسة فإذا استنصحهم شخص لا يكذبون عليه فيوهمونه خلاف الحقيقة، وإذا وضع عندهم شخص شيئا لا يضيعونه أو ينكرونه.
وتجب لهم الفطانة أي الذكاء فكلهم أذكياء فطناء أصحاب عقول كاملة قوية الفهم فيستحيل عليهم البلادة والغباوة لأنهم بعثوا لبيان الحق فلا يليق بهم أن يكونوا قاصرين عن إقامة الحجة على من جانب الحق وعاداه قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ… *} [سورة الأنعام] ولأنهم لو كانوا أغبياء لنفر الناس منهم لغباوتهم والله حكيم لا يفعل ذلك.
ومما يجب للأنبياء الصيانة فيستحيل عليهم الرذالة كاختلاس النّظر إلى الأجنبية بشهوة وكسرقة حبّة عنب، وكذلك يستحيل عليهم السفاهة كالذي يقول ألفاظا شنيعة، وكذلك يستحيل عليهم الجُبنُ فالأنبياء هم أشجعُ خلقِ الله وقد قال بعض الصحابة في ما رواه النسائي في السنن الكبرى كتاب السير باب مباشرة الإمام الحرب بنفسه «كنا إذا حَمِيَ الوطيس واحمرت الحُدُق أي في المعركة اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أقرب إلى العدو منه».
وكذلك يستحيل عليهم كل مرض منفّر. فمن نسبَ إليهم الكذب أو الخيانة أو الرذالة أو السفاهة أو الجبن أو نحوَ ذلك فقد كفر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت وإن نبيَّكم أحسنُهُم وجهًا وأحسنُهُم صوتًا» رواه الترمذي[(189)]. فالأنبياء كلهم كانوا ذوي حُسن وجمال فلا يجوز عليهم المرضُ الذي ينفّرُ الناسَ منهم، ولا يسلط الله تعالى عليهم هذه الأمراض، أما المرض المؤلم الشديد حتى لو كان يحصل منه الإغماءُ أي الغَشْيُ فيجوزُ عليهم.
تنبيه: أيّوب عليه السلام ابتلاه الله بلاءً شديدًا بمرض غير منفر استمر ثمانية عشر عامًا وفقد ماله وأهله ثم عافاه الله وأغناه ورزقه الكثير من الأولاد، لكن بعض الجهّال يفترون عليه ويقولون إن الدّود أكل جسمه فكان الدّودُ يتساقط ثم يأخذ الدّودة ويعيدها إلى مكانها من جسمه ويقول «يا مخلوقة ربّي كُلي من رزقك الذي رزقك»، نعوذ بالله هذا ضلال مبين لا يليق نسبته إلى نبي من أنبياء الله ولا له إسناد صحيح.
وأمّا نبي الله موسى عليه السلام الذي تأثّر لسانه بالجمرة التي تناولها ووضعها في فمه حين كان طفلا أمام فرعون لحكمة فلم تترك الجمرة في لسانه أن يكون كلامه غير مفهم للنّاس بل كان كلامه مفهمًا لا يبدل حرفًا بحرف بل يتكلم على الصواب لكن كان فيه عقدة خفيفة أي بطء من أثر تلك الجمرة ثم دعا الله تعالى لما نزل عليه الوحي قال {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي *} [سورة طه] ، فأذهبها الله عنه.
الحاصل أنّ أنبياء الله كلّهم أصحاب خلقةٍ سويّةٍ لم يكن فيهم ذو عاهةٍ في خلقته ولم يكن فيهم أعرج ولا كسيح ولا أعمى إنّما يعقوب من شدّة بكائه على يوسف ابيضت عيناه من شدّة الحزن فعمي ثم ردّ الله تعالى عليه بصره لما أرسل يوسف بقميصه من مصر إلى مدين وهي البلدة التي فيها أبوه فشمّ يعقوب ريح يوسف في هذا القميص فارتدّ بصيرا فهو لم يكن أعمى من أصل الخلقة إذ النبيُّ أوّل ما ينزل عليه الوحي لا بدّ أن يكون بصيرا ثم بعد ذلك يجوز أن يعمى لمدةٍ كما حصل لنبي الله يعقوب عليه السلام.
وأمّا الذي يقول إن ءادم عليه السلام كان متوحشا قصير القامة شبيها بالقرد فهو كافر، وكذلك من قال إنه كان يمشي في الأرض عريانا كالبهائم لأن في ذلك تكذيبا للقرءان قال تعالى في سورة التين {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ *وَطُورِ سِينِينَ *وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ *لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *} [سورة التين] ، أي في أحسن صورة، فقول بعض الملحدين في العصور الأخيرة إن أوّل البشر كان على صورة القرد تكذيب للآية المذكورة وللحديث الصحيح «كان ءادم ستين ذراعا طولا في سبعة أذرع عرضًا» رواه أحمد في مسنده.
تنبيه: لا يجوز أن يقال إنّ فعل اللواط مشتق من اسم نبيّ الله لوط، وقد ذكر الفقيه المحدث الأصولي بدر الدين الزركشي في كتاب «تشنيف المسامع» ما نصه[(190)]: «إن الأفعال مشتقة من المصادر على الصحيح، والأفعال أصل للصّفات المشتقة منها فتكون المصادر أصلاً لها أيضا».اهـ
وقال أبو منصور الجواليقي اللغوي في كتابه المعرب[(191)]: «وكل أسماء الأنبياء أعجمية إلا أربعة ءادم وصالح وشعيب ومحمد» اهـ، وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أربعة من الأنبياء من العرب هود وصالح وشعيب ومحمد» وكيف يمضي هذا الزمن الطويل من ءادم إلى لوط من غير أن تكون اللغة العربية هي أول لغة تكلم بها ءادم وعلّمها أبناءه كلغات غيرها فيها فعل اللواط بل كان أولاد ءادم ومن بعدهم يعرفون كلمة لاط بتصاريفها كما كانوا يعرفون كلمة الزنى وتصاريفها، وقائل هذا كالذي يقول إن البشر ما كانوا يعرفون كلمة الزنى وتصاريفها حتى مضى على البشر زمان طويل، وكيف يكون هود وصالح اللذان هما مبعوثان إلى العرب لغتهما ولغة من أرسلا إليه خالية عن هذه الكلمة فلا يغترّ بنقل هذه المقالة الشنيعة في كتاب «لسان العرب»[(192)] و«شرح القاموس المسمى تاج العروس»[(193)] عن الليث فإن الزجاج كما في تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرءان قد زيفها.
اللواط لفظ عربي هو مصدر لاط ولوط اسم أعجمي فكيف يدّعي مدّع أنه مشتق من اللواط، وكذلك عكسه وهو القول بأن اللواط مأخوذ من لوط، فلفظ اللواط كان قبل قوم لوط لأن اللغة العربية لغة قديمة حتى قال بعض العلماء كما في تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرءان: «إن أول لغة تكلم بها ءادم هي العربية ويشهد لذلك ما ورد في الصحيح ( أن ءادم عطس فقال الحمد لله) ، وإنما قوم لوط هم أول من فعل تلك الفعلة الشنيعة، أما اللفظ فقد كان موضوعا بين المتكلمين باللغة العربية قبل لوط كقوم عاد، وليس في قول الله تعالى إخبارا عن قول لوط لقومه {…أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ *} [سورة الأعراف] ، أن لفظ اللواط لم يكن قبل ذلك وإنما معناه أنَّ فعل تلك الفاحشة لم يسبقهم بها قبلهم غيرهم، فوضع الكلمة يتقدّم على العمل به. ولا يقاس المشتق على المعرب فالمعرب لا يسمى مشتقًا فهو شيءٌ والاشتقاق شيءٌ ءاخر فالمعرب نقل لغة أعجمية إلى العربية كأسماء الأعيان نقل عدد منها استعملتها العرب وفرق بعيد بين هذا وبين الاشتقاق.
ثم إن الله تعالى صان الأنبياء من المنفّرات ككون أساميهم من الأسماء القبيحة الشنيعة وأخلاقهم من الأخلاق القبيحة، فمن نسب إليهم اسما شنيعا بشعا فقد انتقصهم، وقد صحّ أن الرسول قال «ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت» رواه الترمذي فإذا كان الأنبياء هكذا يتعيّن أن تكون أساميهم حسنة، فكيف استساغ بعض اللغويين القول إنّ لوطا مأخوذ من اللواط بل هذه المقالة باطلة شنيعة لغة وشرعا، فليحذر من تقليد هؤلاء. وكيف خفي على من قال تلك المقالة أن الأفعال وأسماء الأفعال وأسماء الفاعلين والصفة المشبّهة وأفعل التفضيل كل ذلك مشتق من المصدر، قال أبو القاسم في «ملحة الإعراب»[(194)]: [الرجز]
والمصدر الأصل وأي أصلِ
ومنه يا صاح اشتقاق الفعل
فكيف استجازوا أن يكون اسم هذا النبي الكريم مشتقا من اللواط، أو أن يكون اللواط مشتقا منه. الله تعالى عصم الأنبياء من أن تكون أسماؤهم خبيثة أو مشتقة من خبيث أو يشتق منها خبيث، ولا يخفى على المتأمل أن قول هؤلاء لا ينطبق على أنواع الاشتقاق الثلاثة التي بينّها العلماء في محلها.
وما نقله الأزهري في تهذيب اللغة[(195)] عن الليث من أن الناس اشتقّوا من اسم لوط فعلا لمن فعل اللواط لا يتفق مع ما قاله الأزهري أيضا من أن ما سوى الأسماء الأربعة من أسماء الأنبياء أعجمية، فلا اعتماد عليه. هذا وقول الليث إن الناس اشتقّوا من اسم لوط فعلا لمن فعل اللواط ليس صريحا في أن هذا اشتقاق صحيح لغة فلعل مراده أن هذه نسبة غير معتبرة وإنّما بعض الكفار فعلوا ذلك ولا يريد بذلك تصحيح اشتقاق ذلك الفعل من اسم لوط عليه السلام.
وأما قول الناس لمن يفعل تلك الفعلة لوطيٌّ فإنّما هو نسبة إلى قوم لوط وليس إلى لوط نفسه، عملا بالقاعدة العربية في النّسبة من أنّهم إذا نسبوا شيئا إلى اللفظ المركّب من مضاف ومضاف إليه يذكرون لفظ المضاف إليه فيقولون في عبد القيس فلان قيسي ولا يفهمون منه إلا القبيلة، وكذلك قول لوطيّ، على أن هذه ليست من العبارات المستحسنة أمّا اللفظ الصحيح أريد اللفظ عند النسبة أن يقال فلان اللواطي أو فلان اللائط.
والحاصل أن ما ذكر من اشتقاق لاط ونحوه من اسم لوط ليس في شىء من الاشتقاق المصطلح عليه عند اللغويين لأن الاشتقاق المصطلح عليه عندهم شرطه أن يكون المشتق والمشتق منه من لغة العرب لقولهم في تعريفه: «ردّ لفظ ءاخر لمناسبة بينهما مع تقسيمهم أنواعه الثلاثة إلى أمثلة من اللغة العربية حيث مثّلوا للاشتقاق الأصغر بحلب وحلب وللأوسط؛ جذب وجبذ وللأكبر بثلب وثلم وما أشبه ذلك، ولوط عليه السلام هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام وهما ليسا عربيين بالاتفّاق انتهى.
ويجب للأنبياء أيضًا التبليغ فلا يجوز عليهم أن يكتموا ما أمروا بتبليغه لأن ذلك ينافي منصب النبوة. وقد دلَّ على ذلك قولُهُ تعالى في سورة الحج {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} .
فمعنى تمنى في هذه الآية تلا وقرأ، ومعنى ألقى الشيطان في أمنيّته أي يزيد الشيطان على ما قالوه ما لم يقولوه ليوهموا غيرهم أن الأنبياء قالوا ذلك الكلام الفاسد، وليس معناه أن الشيطان يتكلم على لسان النبي فقد قال الفخر الرازيّ في التفسير الكبير[(196)]: «من جوَّز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر».اهـ أي يكفر من قال إن الشيطان أجرى كلاما على لسان النبي صلى الله عليه وسلم هو مدح الأوثان الثلاثة اللات والعزى ومناة بهذه العبارة «تلك الغرانيق وإنَّ شفاعتهن لترتجى» إذ يستحيل أن يمكّن الله الشيطان من أن يجري على لسان نبيه مدح الأوثان.
وإيضاح هذا القضية أن الرسول كان يقرأ ذات يوم سورة النجم فلمّا بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى *} انتهز الشيطان وقفة رسول الله وسكتته فأسمع الشيطان المشركين الذين كانوا بقرب النبي موهما لهم أنه صوت النبي هذه الجملة «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» ففرح المشركون وقالوا ما ذكر محمد ءالهتنا قبل اليوم بخير فجاء جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحال فحزن الرسول فأنزل الله هذه الآية تسلية له «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله ءاياته» فأنزل الآية المذكورة ءانفا لتكذيبهم معنى قوله تعالى: {…فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} يكشف الله ويبين أنه ليس من كلام الأنبياء، وذلك ابتلاء من الله وامتحان ليتميز من يتّبع ما يقوله الشيطان ومن لا يتبع فيهلك هذا ويسعد هذا.
وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري في صحيحه: «كان النبيّ يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة» أنّ من سوى نبيّنا محمد لم يجب عليه أن يبلّغ من هم من سوى قومه إنّما المعنى أن الأنبياء غير نبينا أرسلوا إلى أقوامهم أي أن النص لهم كان أن يبلّغوا قومهم ليس معناه أنهم لا يبلّغون سوى قومهم لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل من استطاع من أفراد المكلفين وذلك في حق الأنبياء أوكد.
وليعلم أن كل الأنبياء فصحاء فليس فيهم من يكون في لسانه عقدة وحبسة ويعجل في كلامه فلا يطاوعه لسانه، ولا تأتاء في الأنبياء ولا ألثغ ولا أرت. وأمّا الألثغ فهو الذي يُصيّر السين ثاء وأما الأرت فهو الذي لا يفصح الكلام ولا يبينه. وأنّه يستحيل عليهم سبق اللسان في الشّرعيات والعاديّات لأنه لو جاز عليهم لارتفعت الثقة في صحة ما يقولونه ولقال قائل عندما يبلغه كلام عن النبي «ما يدرينا أنه يكون قاله على وجه سبق اللسان»، فلا يحصل من النبي أن يصدر منه كلام غير الذي أراد قوله، أو أن يصدر منه كلام ما أراد قوله بالمرّة كما يحصل لمن يتكلم وهو نائم.
أمّا النسيان الجائز عليهم فهو كالسّلام من ركعتين كما حصل مع الرسول صلى الله عليه وسلم مما ورد من أنّه قيل لرسول الله أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت قال «كل ذلك لم يكن» ثم سأل أصحابه «أصدق ذو اليدين» – وهو السائل – فقالوا نعم فقام فأتى بالرّكعتين. رواه مسلم في صحيحه.
وممّا يستحيل على الأنبياء أيضًا الجنون، وأمّا الإغماء فيجوز عليهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغمى عليه من شدّة الألم في مرض وفاته ثمّ يصبُّ عليه الماء فيفيق.
ومما يستحيل عليهم تأثير السحر في عقولهم فلا يجوز أن يعتقد أن الرسول أثّر السحر في عقله وإن قاله من قاله. وأما تأثير السحر في جسد النبي فقد قال بعض العلماء إنه جائز فقد ورد أن يهوديا عمل السحر لرسول الله فتألم الرسول من أثر ذلك.
وكذلك يستحيل على الأنبياء الجبن أما الخوف الطبيعي فلا يستحيل عليهم بل هو موجود فيهم وذلك مثل النفور من الحية فإن طبيعة الإنسان تقتضي النفور من الحية وما أشبه ذلك مثل التخوف من التكالب عليهم حتى يقتلوهم فإن ذلك جائز عليهم.
ولا يختار الله تعالى لهذا المنصب إلا من هو سالم من الرذالة والخيانة والسفاهة والغباوة والبلادة فمن كانت له سوابق من هذا القبيل لا يصلح للنبوة ولو تخلى منها بعد، فلا تجوز النبوة لإخوة يوسف الذين فعلوا تلك الأفاعيل. وليس المراد بقوله تعالى: {…وَالأَسْبَاطِ} إخوة يوسف هؤلاء بل المراد ذريتهم أو ما يشمل أخاهم بنيامين وذريتهم.
وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ… *} [سورة يوسف] فقد قيل فيه نحو خمس تأويلات وأحسنُ ما قيل في ذلك أن يقال قوله تعالى: {…وَهَمَّ بِهَا} مربوط بما بعده أي بقوله (لولا أن رأى برهان ربه) فيكون على هذا التفسير ما همَّ يوسف بالمرة لأنه رأى البرهان، أما لو لم ير البرهان لهم، والبرهان هو العصمة أي أنه أُلهِمَ أن الأنبياء معصومون عن مثل هذا الشىء وأنه سيؤتى النبوة فلم يهمّ. هذا أحسنُ ما قيل في تفسير هذه الآية. وقال بعض علماء المغاربة معنى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} أي همت بأن تدفعه ليزني بها وهمَّ يوسف بدفعها ليخلص منها.
والخلاصة أن الأنبياء لا يقعون في الزنى ولا يهمّون به.
ـ[189] الشمائل (ص/261).
ـ[190] تشنيف المسامع (1/420).
ـ[191] المعرب (ص/13).
ـ[192] لسان العرب (7/396).
ـ[193] شرح القاموس المسمى تاج العروس (5/218).
ـ[194] ملحة الإعراب (ص/38).
ـ[195] تهذيب اللغة (14/25).
ـ[196] التفسير الكبير (23/51).
