القَوَاعِدُ الفِقهيَّةُ الخَمسُ (7)
القَاعِدَةُ الثَّالثَةُ مِنْ القَوَاعِدِ الفِقهيَّةِ: “العَادَةُ مُحَكَّمَة”
القَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ القَواعِدِ الخَمسِ الكُبرَى الفِقْهِيَّةِ هِيَ: “العَادَةُ مُحَكَّمَةٌ”. أوَّلًا يَنبَغِي أَنْ نَعرِفَ ما مَعْنَى العادَةِ، العادَةُ هِيَ الحالَةُ المُستَمِرَّةُ عَلى مِنهَاجٍ مَقبُولٍ بَينَ النَّاسِ، لا يُنكِرُهُ اجتِمَاعُ النَّاسِ ولا طِبَاعُهُم، بَلِ النَّاسُ مُتَّفِقُونَ مُجتَمِعُونَ عَلى حُسنِ هذِهِ الحَالَةِ، فَهذِهِ تُسَمَّى عَادَةً.
إِذًا، العَادَةُ هِيَ أَمرٌ مُستَمِرٌّ بَينَ النَّاسِ عَلى طَريقَةٍ ومِنهَاجٍ واحِدٍ، بِحَيثُ لا تُنكِرُهُ طِبَاعُهُم. والعَادَةُ والعُرْفُ كَثِيرًا ما يُطلَقَانِ بِمَعْنًى واحِدٍ، لكِن العَادَةُ تُستَعمَلُ للفَردِ ولِلجَماعَةِ، وأَمَّا العُرْفُ فَيُستَعمَلُ لِلجَماعَةِ ولا يُستَعمَلُ عَادَةً لِلفَردِ. فَيُقالُ مَثَلًا: عَادَةُ فُلانٍ، عادَةُ زَيدٍ الكَرَمُ، أَي حَالتُهُ المُستَمِرَّةُ عَلى مِنهَاجٍ واحِدٍ حَسَنٍ مَقبولٍ هُوَ الكَرَمُ.
ويُقالُ: عادَةُ أَهلِ أَبِي سَمرَاءَ الضِّيَافَةُ وحُسنُ العِشرَةِ. تَكَلَّمْنَا عَن مُجتَمَعٍ كَبِيرٍ، فَوَصَفنَا عادَتَهُم، يَعني حالَتَهُم المُستَمِرَّةَ عَلى مِنهَاجٍ قَوِيمٍ تَقبَلُهُ طِبَاعُ النَّاسِ، هِيَ الضِّيَافَةُ وحُسنُ العِشرَةِ. وتُستَعمَلُ كَلِمَةُ العُرْفِ فَقَطْ في صِفَةِ البَلَدِ، أَو صِفَةِ عَشِيرَةٍ، أَو صِفَةِ قَبِيلَةٍ. فيُقالُ مَثَلًا: عُرفُ القَبِيلَةِ الفُلانِيَّةِ “الجُودُ”، عُرفُ القَبِيلَةِ الفُلانِيَّةِ “الشَّجَاعَةُ”.
ولا يُقالُ عَادَةً عُرْفُ زَيد “الشَّجَاعَة”، كَلِمَةُ العُرْفِ تُستَعمَلُ لشَىْءٍ واسِعٍ عَامٍ، ولا يُقالُ في الخَاصِّ عُرْفُ زيْدٍ كذا، هَذا لا يُستَعمَلُ عادَةً. فَإِذًا كَلِمَةُ العَادَةِ عَامَّةٌ، وكَلِمَةُ العُرفِ خَاصَّةٌ. عَرَفنَا مَعْنَى العَادَةِ، ما مَعْنَى قَولِهِم: “العَادَةُ مُحَكَّمَةٌ”؟
مَعناهُ: يُرجَعُ إِلَى العَادَاتِ، وتُجعَلُ دَلِيلًا عَلى حُكمٍ مَا، إِذَا لَم يَكُن هُناكَ في الشَّرعِ ما يَضبِطُهَا، وإِذَا لَم يَكُن في اللُّغَةِ ما يَضبِطُهَا. ما مَعْنَى هَذَا الكَلامِ؟ شَيءٌ جَاءَ بِهِ شَرعُ اللهِ، لكِنَّ الشَّرعَ أَطلقَهُ ولَم يَضبِطْهُ بِضَوَابِطَ، أَطلَقَ الأَمرَ بِهِ، ولَكِنْ لا يُوجَدُ في الشَّرعِ ما يَضبِطُ هَذَا الأَمرَ. ونَظَرْنَا في اللُّغَةِ، فَلَم نَجِد أَيضًا ما يَضبِطُهُ، لا يُوجَدُ في الشَّرعِ ما يَضبِطُ هَذَا الأَمرَ المَأمُورَ بهِ في الشَّرعِ، وَلَمْ نَجِدْ فِي اللُّغَةِ مَا يَضْبِطُ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ، لِأَنَّ الشَّرْعَ أَطْلَقَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ ضَوَابِطَهُ، وَلَمْ نَجِدْ فِي اللُّغَةِ مَا يَضْبِطُهُ. عِنْدَئِذٍ، مَاذَا يَفْعَلُ الْعُلَمَاءُ الْمُوَفَّقُونَ الْمُجْتَهِدُونَ؟ يَرْجِعُونَ إِلَى الْعُرْفِ، يَحْتَكِمُونَ إِلَى الْعُرْفِ، فَيَجْعَلُونَ الْعُرْفَ دَلِيلًا لِضَابِطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي أَطْلَقَهَا الشَّرْعُ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا وَلَمْ يُبَيِّنْ تَفَاصِيلَهَا. هَذَا مَعْنَى: “الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ”.
إِذًا، يُرْجَعُ إِلَى الْعَادَةِ أَوْ إِلَى الْعُرْفِ حِينَ لَا يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ مَا يَضْبِطُ هَذَا الْأَمْرَ لِكَوْنِ هَذَا الْأَمْرَ مُطْلَقٌ، وَحِينَ لَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ مَا يَضْبِطُ هَذَا الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ، فَنَحْتَكِمُ عِنْدَئِذٍ إِلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ، نَنْظُرُ فِي عَادَاتِ النَّاسِ وَفِي أَعْرَافِ النَّاسِ، فَتَكُونَ الضَّابِطَ لِهَذَا الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُطْلَقِ. هَذَا الْكَلَامُ سَيَتَضِحُ لَكُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ شَيْئًا فَشَيْئًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْأَمْثِلَةِ.
