القَوَاعِدُ الفِقهيَّةُ الخَمسُ (9)
القَاعِدَةِ الثَّالثَةِ مِنَ القَوَاعِدِ الفِقهِيَّةِ: أمثِلَةٌ عَنِ القَاعِدَةِ الفِقهِيَّةِ “العَادَةُ مُحَكَّمَة”
أُرِيدُ أَنْ أَضْرِبَ لَكُمْ أَمْثِلَةً عَلَى هٰذِهِ الْقَاعِدَةِ، مَثَلًا: النِّسَاءُ تَحِيضُ وَتَطْهُرُ، وَرُبَّمَا تُسْتَحَاضُ الْمَرْأَةُ. مَا مَعْنَى «تُسْتَحَاضُ»؟ يَعْنِي يَسْتَمِرُّ دَمُهَا فَيَتَجَاوَزُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَتَكُونُ مُسْتَحَاضَةً. هٰذِهِ الْمَقَادِيرُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ مِنْ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَأَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَغَالِبَ الْحَيْضِ سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، كَيْفَ عَرَفَهُ الْفُقَهَاءُ كَالشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؟ نَظَرَ فِي الْقُرْآنِ فَلَمْ يَجِدْ مَا يَضْبِطُ أَقَلَّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرَهُ وَأَغْلَبَهُ، وَلَمْ يَجِدْ فِي الْحَدِيثِ ذٰلِكَ، لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ، وَلَا يُوجَدُ فِي اللُّغَةِ مَا يَضْبِطُ مِقْدَارَ أَقَلِّ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ وَغَالِبِهِ. لِذٰلِكَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مَاذَا فَعَلَ؟ انْتَقَلَ إِلَى الْعُرْفِ، حِينَ لَمْ يَجِدْ ضَابِطًا لِهٰذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فِي الشَّرْعِ، وَلَا فِي اللُّغَةِ، انْتَقَلَ إِلَى الْعُرْفِ. فَإِذَا سَأَلْتَ الإِمَامَ الشَّافِعِيَّ رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مَا دَلِيلُكَ أَيُّهَا الإِمَامُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَأَنَّ أَكْثَرَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَنَّ غَالِبَهُ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ؟ يَقُولُ: التَّتَبُّعُ لِعَادَاتِ النِّسَاءِ. يَعْنِي: رَجَعَ إِلَى عُرْفِ النِّسَاءِ وَعَادَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ هٰذِهِ العَادَاتِ لِلنِّسَاءِ بَعْدَ الاسْتِقْرَاءِ وَالتَّتَبُّعِ لِعَادَاتِ النِّسَاءِ، دَلِيلًا عَلَى هٰذِهِ الأَحْكَامِ. لِمَاذَا؟ لِأَنَّ “العَادَةَ مُحَكَّمَةٌ”. مَعْنَاهُ: نَجْعَلُ العَادَةَ حَكَمًا وَدَلِيلًا عَلَى مَسْأَلَةٍ لَمْ نَجِدْ لَهَا فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ مَا يَضْبِطُهَا. سَأَلَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ نِسَاءً كَثِيرَاتٍ مِنْ قَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ، لَمْ يَسْأَلْ فَقَطْ نِسَاءَ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ سَأَلَ نِسَاءً كَثِيرَاتٍ مِنْ قَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ: مَا هُوَ أَقَلُّ مُدَّةٍ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ؟ فَقَالُوا: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. يَعْنِي مِنَ النِّسَاءِ مَنْ كَانَتْ تَحِيضُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ يَنْقَطِعُ الدَّمُ. وَسَأَلَ عَنْ أَكْثَرِ الْحَيْضِ، فَقَالُوا: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَسَأَلَ عَنْ غَالِبِ الْحَيْضِ، سَأَلَ نِسَاءً كَثِيرَاتٍ مِنْ قَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَقَالُوا: غَالِبُ الْحَيْضِ سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ. فَرَجَعَ فِي بَيَانِ هٰذَا الضَّابِطِ إِلَى عُرْفِ النِّسَاءِ وَعَادَاتِهِنَّ، وَجَعَلَهَا حَكَمًا لِبَيَانِ هٰذَا الضَّابِطِ. هٰذَا دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ. كَذٰلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الاسْتِحَاضَةِ، الاسْتِحَاضَةُ دَلِيلُهَا أَيْضًا العَادَةُ وَالعُرْفُ. وَلِهٰذَا تَجِدُونَ أَنَّ الفُقَهَاءَ يَقُولُونَ: العَادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ، يَعْنِي إِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ حَيْضُهَا هَكَذَا، ثُمَّ فِي شَهْرٍ تَجَاوَزَ الدَّمُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَاسْتَمَرَّ، فَتَرْجِعُ إِلَى عَادَتِهَا الَّتِي هِيَ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ، تَجْعَلُهَا حَكَمًا عَلَى مُدَّةِ حَيْضِهَا، وَمَا زَادَ عَنْهَا تَعُدُّهُ اسْتِحَاضَةً، لِأَنَّ دَمَهَا تَجَاوَزَ الخَمْسَةَ عَشَرَ. فَالْعَادَةُ عِندَ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي بَابِ الاسْتِحَاضَةِ يَثْبُتُ بِمَرَّةٍ. وَهٰذَا لَيْسَ فِي كُلِّ أَبْوَابِ الفِقْهِ أَنَّ العَادَةَ تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ، فِي بَعْضِ المَسَائِلِ العَادَةُ تَحْتَاجُ إِلَى ثَلَاثِ مِرارٍ حَتَّى تَثْبُتَ وَيُعْمَلَ بِحُكْمِهَا. مِثْلُ مَسْأَلَةِ القَائِفِ،
أَوْ يُقَالُ لَهَا: القِيَافَةُ. مَا مَعْنَى القَائِفِ وَالقِيَافَةِ؟ رَجُلٌ يَسْتَطِيعُ إذا نَظَرَ إِلَى مِشْيَةِ فُلَانٍ وَإِلَى مِشْيَةِ فُلَانٍ، فَيَقُولُ: هٰذَا ابْنٌ لِهٰذَا، مِنَ المِشْيَةِ، مِنْ طَرِيقَةِ المَشْيِ، يَحْكُمُ أَنَّ هٰذَا ابْنٌ لِهٰذَا. يَنْظُرُ إِلَى أَصَابِعِ يَدَيْهِ، يَنْظُرُ إِلَى أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ، إِذَا وَجَدَ أَنَّ بَيْنَهُمَا شَبَهًا، يَعْرِفُونَهُ هَؤُلَاءِ، يَقُولُ: هٰذَا ابْنٌ لِهٰذَا. فَيَطْلُعُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَنَّهُ فِعْلًا هٰذَا ابْنٌ لِهٰذَا. ثُمَّ فِي حَالَةٍ ثَانِيَةٍ، يَحْكُمُ أَنَّ فُلَانًا ابْنٌ لِفُلَانٍ بِالنَّظَرِ إِلَى لَوْنِ عَيْنَيْهِ، إِلَى شَعْرِهِ، إِلَى طَرِيقَةِ مِشْيَتِهِ، إِلَى أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ، بِأَشْيَاءَ هُمْ يَعْرِفُونَهَا، أَهْلُ القِيافَةِ يَعْرِفُونَهَا، فَيُتَحَرَّى، فَنَعْرِفُ أَنَّهُ فِعْلًا فُلَانٌ ابْنٌ لِفُلَانٍ. مَا يُسَمَّى هٰذَا الشَّخْصُ؟ القَائِفُ. وَالفِعْلُ؟ قِيَافَةٌ. حُكْمُ القَائِفِ حَتَّى يَثْبُتَ عِندَ القَاضِي، لَا بُدَّ أَنْ يَتَحَقَّقَ أَمْرُ ثُبُوتِ كَلَامِهِ وَصِحَّةِ كَلَامِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى الأَقَلِّ، حَتَّى يُحْكَمَ لَهُ بِأَنَّهُ قَائِفٌ مُتْقِنٌ يُعْمَلُ بِحُكْمِهِ، لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ بِالفِعْلِ وَيُوَافِقَ الوَاقِعَ، كَمْ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى الأَقَلِّ. فَالْعَادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَائِفِ تَثْبُتُ بِمَاذَا؟ بِثَلَاثِ مَرَّاتٍ. أَمَّا العَادَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَحَاضَةِ فَتَثْبُتُ بِمَرَّةٍ. وَهُنَاكَ أَشْيَاءُ أُخْرَى، يَعْنِي حَتَّى تَثْبُتَ، تَحْتَاجُ إِلَى تَكَرُّر أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ
