القَوَاعِدُ الفِقهِيَّةُ الخَمسُ (6)
شُرُوطٌ فِي النِّيَّة تَابِعَةٌ لِلقَاعِدَةِ الفِقهيَّةِ: “الأمُورُ بِمَقَاصِدِهَا”
هٰذِهِ النِّيَّةُ أحبَابَنا لَهَا أُمُورٌ تَنْدَرِجُ تَحْتَهَا. العُلَمَاءُ لَخَّصُوا هٰذِهِ الأُمُورَ بِبَيْتِ شِعْرٍ، يَقُولُونَ:
حَقِيقَةٌ حُكْمٌ مَحَلٌّ وَزَمَن
كَيْفِيَّةٌ شَرْطٌ وَمَقْصُودٌ حَسَن.
(١)- حَقِيقَةٌ: أَوَّلُ شَيْءٍ، حَقِيقَةُ النِّيَّةِ مَا هِيَ؟ قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ. حينَ تَتَوضَّأ، مَتَى تَنْوِي الوُضُوءَ؟ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِكَ، مُقْتَرِنًا بِأَوَّلِ فِعْلِ الوُضُوءِ، وَهُوَ غَسْلُ الوَجْهِ. حِينَ تُصَلِّي مَتَى تَنْوِي الصَّلَاةَ؟ عِندَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، لأَنَّ النِّيَّةَ هِيَ قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ. فَإِذَا تَرَاخَى القَصْدُ عَنِ الفِعْلِ، لا يُسَمَّى نِيَّةً، بَلْ يُسَمَّى عَزْمًا.
(٢)- حُكْمٌ: حُكْمُ النِّيَّةِ غَالِبًا أَنَّهَا فَرْضٌ. غَالِبًا حُكْمُ النِّيَّةِ أنَّها وَاجِبَةٌ، إِلَّا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ القَلِيلَةِ. ذَكَرْتُ لَكُمْ فِي الدَّرْسِ المَاضِي صُورَةً، مَثَلًا تَغْسِيلُ المَيِّتِ، هَلْ يَجِبُ عَلَى المُغَسِّلِ نِيَّةٌ؟ لا يَلْزَمُهُ نِيَّةٌ، مَعَ أَنَّهُ يُغَسِّلُ مَيِّتًا. تَغْسِيلُ المَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، مَعَ ذٰلِكَ الغَاسِلُ لا يُشْتَرَطُ في حَقِّهِ نِيَّةٌ، لذَلكَ يَقُولُونَ: حُكمُها الوُجوبُ غالِبًا. إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ، هَلْ تَحْتَاجُ إلى نِيَّةٍ؟ لا تَحْتَاجُ إلى نِيَّةٍ.
(٣)- مَحَلٌّ: مَحَلُّ النِّيَّةِ القَلْبُ، لا اللِّسَانُ. وَلٰكِنْ يُسْتَحَبُّ النُّطْقُ بِهَا فِي الوُضُوءِ، في الصَّلَاةِ، في الحَجِّ، لِيُسَاعِدَ اللِّسَانُ القَلْبَ.
(٤)- وَزَمَنٌ: زَمَنُهَا أَوَّلُ العِبَادَةِ.
(٥)- كَيْفِيَّةٌ: هٰذِهِ الكَيْفِيَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ العِبَادَةِ، مَثَلًا فِي الوُضُوءِ: تقول: نَوَيْتُ الوُضُوءَ، نَوَيْتُ رَفْعَ الحَدَثِ الأَصْغَرِ. أَمَّا فِي التَّيَمُّمِ: لا تَستَطيع أَنْ تَقُولَ فِي التَّيَمُمِ “نَوَيْتُ رَفْعَ الحَدَثِ”، لأَنَّ التَّيَمُّمَ لا يَرْفَعُ الحَدَثَ، إنَّما تَسْتَبيحُ الصَّلَاةَ بِتَيَمُمِكَ. فَتَقُولُ: نَوَيْتُ اسْتِبَاحَةَ فَرْضِ الصَّلَاةِ هذه نِيَّةٌ مُجزِئَةٌ. فهٰذِهِ الكَيْفِيَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ العِبَادَاتِ.
(٦)- شَرْطٌ: شَرطُ النِّيَّةِ جُملةُ أمُورٍ مِنها: إِسْلَامُ النَّاوِي – النَّاوِي لِلعِبَادَةِ لَا بُدَّ أنْ يَكُونَ مُسلِمًا لأَنَّ النِّيَّةَ عِبَادَةٌ والعِبَادَةُ لا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ المُسْلِمِ. والعِلْمُ بِالمَنْوِيِّ هَذَا شَرطٌ – أي أَنْ تَعْلَمَ الوُضوُءَ ليَصِحَّ مِنكَ الوُضُوء، أَنْ تَعْلَمَ الصَّلاةَ ليَصِحَّ لكَ نِيَّةُ الصَّلَاة. ولا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النَّاوِي عَاقِلًا – فَلَا تَصِحُّ النِّيَّةُ مِنْ مَجْنُونٍ، وَلَا تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ المُـمَيِّزِ (الذي هو دُونَ سَبْعِ سِنِينَ ولا يَفهَمُ الخِطَابَ ولا يُحسِنُ ردَّ الجَوَاب).
أَمَّا المُـمَيِّزُ فَتَصِحُّ مِنْهُ نِيَّةُ الوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ. فإِذَا أَرَادَ الأَبُ أَنْ يَحُجَّ بِابْنِهِ غَيْرِ المُـمَيِّزِ، أبُوهُ يَنْوِي عَنْهُ، يَقُولُ: نَوَيْتُ جَعْلَ ابْنِي هٰذَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ مثلًا. وهُنَاكَ أشيَاءٌ تُعَدُّ مُفْسِدَاتٍ للنِّيَّةِ مِنهَا قَطعُ النِّيَّةِ، ومِنهَا تَعلِيقُ قَطعِهَا على حُصُولِ شَىْءٍ، ومِنهَا التَّرَدُدُ فِي قَطعِهَا، قَطعُ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ تَقطَعُهَا، إِذَا نَوَى قَطعَ الصَّلَاةِ وَهُو فِيهَا، نِيَّةُ قَطعِهَا يُبطِلُهَا.
أمَا فِي الحَجِّ بَعدَ أنْ دَخَلَ فِيهِ إذَا نَوَى قَطعَ الحَجِّ لَا يَنْقَطِعُ، لأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِإِتْمَامِهِ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ}. أمَّا الصِّيَامُ إذَا بَاشَرتَ الصِّيَامَ وأنتَ صَائِمٌ فِي نَهَارِ رَمضَانَ مَثَلًا وَنَويتَ قَطعَ الصِّيامِ هَل يَنقَطِعُ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَينَ العُلمَاءِ، وَالمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لا يَنْقَطِعُ صَوْمُكَ.
فالأمرُ يَختَلِفُ بِاختِلافِ العِبَادَاتِ وهَذَا يُظْهَرُ في مَحَلِهِ. وتَعْلِيقُ قَطْعِها عَلَى شَيْءٍ، مِثَالٌ: “إِذَا رَنَّ التِّلْفُونُ سَأَقْطَعُ الصَّلَاةَ”، فَتَنْقَطِعُ. “إِذَا دَقَّ البَابُ سَأَقْطَعُ الصَّلَاةَ”، فَتَنْقَطِعُ سَوَاءٌ إنْ دَقَّ البَابُ أو لَا، إذَا عَلَّقَ قَطعَهَا على حُصُولِ شَىْءٍ انقَطَعَت، أو التَّرَدُّدُ فِي قَطعِهَا، “أَقْطَعُهَا؟ أو لَا أَقْطَعُهَا؟”، وأنتَ فِي الصَّلَاةِ هٰذَا التَّرَدُّدُ يُبطِلُها.
فَإذًا: حَقِيقَةٌ حُكْمٌ مَحَلٌّ وَزَمَن
كَيْفِيَّةٌ شَرْطٌ وَمَقْصُودٌ حَسَن.
(٧)- وَمَقْصُودٌ حَسَنٌ: أَنْ يَكُونَ لَكَ فِي أَعْمَالِكَ وَلَوْ كَانَتْ عَادَاتٍ، قَصْدًا حَسَنًا، لتُحَوِّلَ النِّيَّةُ الحَسَنَةُ هذهِ العَادَةَ إِلَى عِبَادَةٍ، كَمَا ذَكَرْتُ لكم مَثَلًا: الأكلُ للتَّقَوِّي، والنَّوْم لتَكْسِبَ قُوةً في بَدَنِكَ حَتَى تَقومَ بِهَذهِ المُهِمَّات.
