إنِّي اتَّهَمْتُ نَصيحَ الشَّـيْبِ فِي عَذَلٍ والشَّـيْبُ أبعَـدُ في نُصْحٍ عَنِ التُّهَمِ الفصلِ الثاني من فصولِ هذه البُردَةِ المباركة

علم الدين حياة الاسلام:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعدُ فقد ذكرْنا في الحلْقَةِ السابقة بعضَ أبياتِ البُوصيري رحمه الله في التغزّل وشكوى الحُبِّ مِمّا استَهَلَّ بهِ قصيدَتَه، والآنَ ننتَقِلُ إلى الفصلِ الثاني من فصولِ هذه البُردَةِ المباركة، وهوَ في التَّحذيرِ مِن اتّباعِ هوى النفسِ والإرشادِ إلى سَبِيلِ تَقْوِيمِها، فلنبدأ بِعَونِ الله: يقول رحمه الله:

(7).. إنِّي اتَّهَمْتُ نَصيحَ الشَّـيْبِ فِي عَذَلٍ
والشَّـيْبُ أبعَـدُ في نُصْحٍ عَنِ التُّهَمِ

المفردات: عَذَلَه عَذْلا وَتَعْذيلًا: لامَهُ، والاسم: العَذَل بفتحتين.

المعنى: لمّا غَلَبَ عَلَيّ الحُبُّ صِرْتُ أتَّهِمُ كلَّ ناصِحٍ ولا أقبَلُ مِنْهُ النَّصِيحَة، حَتّى اتَّهمتُ الشيبَ في نُصحِهِ لي، معَ أنَّ الشيبَ أبعَدُ مِنَ اللائم عن التُّهَمَة،

فالعاذِلُ قد يُتَّهَمُ بالغَيرةِ والحَسَدِ والطَّمع، والشيبُ لا يُتَصَوَّرُ فيهِ ذلِكَ، ومعَ ذلِكَ فإني أَكْبَبْتُ على الشهَواتِ ولم أرتَدِعْ بِظُهُورِ الشَّيبِ في جانِبَي رَأْسِي، فكانَ فِعْلي كَفِعلِ مَنْ لا يَرْضى بنصيحةِ الشيب ولا يتَّعِظُ بعلامَةِ دُنُوّ الأجل، وقد انتقَلَ الشاعر بهذه الطريقة الجميلة من الغَزَلِ وشكوى الغرامِ إلى التحذيرِ مِنْ هوى النفس.

(8).. فـإنَّ أمَّارَتِي بالسُّـوءِ مــا اتَّعَظَتْ
مِنْ جهلِـهَا بِنَذير الشَّـيْبِ وَالهَـرَمِ

المفردات: الأمّارة: كثيرةُ الأَمْر، السُّوء: اسمٌ جامِعٌ للقبائِح، أي كلُّ القبائِحِ تدخلُ تحتَ اسمِ السُّوء، وقوله أمَّارتي بالسوء كناية عن النفس، لأنها تأمرُ صاحبها بكل فعلٍ سىِّءٍ ومنكَر، اتعظت: مطاوِعُ وَعَظَ، يقالُ وَعَظْتُه فاتَّعظ، أي قَبِلَ مِنّي الوَعْظ وعَمِلَ بِه،

النَّذيرُ: المُبلّغُ، ولا يُستعمَلُ إلا في التَّخويفِ، فالنَّذيرُ هوَ المبلّغ بِخَبَرٍ يسوؤُكَ ويُخيفُكَ، ويقابِلُهُ البَشِير، وهوَ المُخبِرُ بِخَبَرٍ يَسُرُّكَ ويُعجِبُك، الهَرَمُ: كِبَرُ السِّنّ.

المعنى: يُبيّنُ الشاعرُ هنا سببَ اتّهامِه للشيبِ، وهوَ غلَبةُ نفْسهِ عليهِ وطاعَتُه لها، فيقول: لمْ أقبَلْ منَ الشيبِ نُصْحَه واتهمتُه، لأن نفسيَ الأمارةَ بالسوءِ لم تتعظْ لشدة ضلالِها وجهْلِها بأنَّ الشيبَ وكِبَرَ السِّنِّ جاءا إليها مُنذِرَينِ بِدُنُوِّ الأَجَلِ واقْترابِ المَنِيّة، وهُما بَعِيدانِ عَنِ التُّهَمَة، أي إنَّ نفسَهُ لما انْغمسَتْ في الشَّهواتِ غَفَلتْ عنِ اقترابِ موعِد الفراق، فَضَلّت في فِعلها وإقبالها على الدُّنيا الفانية، وإعراضِها عنِ الاستعداد للآخرةِ الآتية.

(9).. فـلا تَرُمْ بِالمعاصي كَسْـرَ شَـهوَتهَا
إنَّ الطَّعـامَ يُقوِّي شَهْوةَ النَّهِمِ

المفردات: تَرُم: مِنْ رامَ يرومُ أي قَصَدَ وطَلَبَ، كَسْرَ شهوَتها: صَرْفَ شهوَتِها وإبعادَها، النَّهِم: الحريصُ على الطعام والشراب، شديدُ الشَّهوةِ لَهُما.

المعنى: يعلّمنا الشاعرُ هنا ويَدلنا على سبيل تقويم حالِ النفس وتحسين مسلَكِها، فيقول: يا سامعي، أبعِدْ نفسَك ما استطعتَ عن الشهَوات، وَانْأَ بها عنِ الملذات، وإياك وأنْ تطلُب كَسْرَ شهوتِها بشىءٍ من المعاصي، لا تَقُلْ سأفعَلُ شيئًا من المعاصي لتخِفَّ شهوَتي فلا أقعَ في مَعاصٍ أعظمَ، فإن النَّهِمَ الذي لا تمتلئُ عينُه مِن أكلٍ ولا شُرْبٍ إذا أذقْتَهُ لذيذَ المآكلِ قويَتْ شهوته على الطعام، وزادَتْ همّتُهُ لِطلبِهِ وصَعُبَ زجْرُه عنْ ذلك، أمّا إذا منعتَهُ في بادئِ الأمرِ من ذلِك سَهُلَ عليكَ تعويدُهُ الزُّهْدَ والتَّقَلّل.

(10) والنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهمِلْهُ شَبَّ عَلى
حُبِّ الرَّضَاع وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنفَطِمِ

المفردات: أهمَلَهُ إهمالًا: تَرَكَهُ، وخلّى بينَهُ وبينَ نَفْسِهِ بِغَيرِ رعايَةٍ، شَبّ الطفلُ: كَبِر، الرَّضاع: شُربُ اللَّبَنِ قبلَ حولَينِ، فَطَمَتِ المرأَةُ وَلَدَها: فَصَلَتْهُ عَنْها أي منعَتْه منَ الرضاعةِ، وانفطمَ: انفَصَلَ عَنْها وامتَنَعَ بِنَفْسِهِ عنِ الرَّضاع.

المعنى: في البيت السابقِ صَوَّرَ البوصيريُّ النفسَ بصورِة النَّهِم الذي لا يزيدُه الطعامُ إلا شهوةً للطعام، وهنا يصوّر النفسَ بصورةٍ أخرى فيقول: النفسُ تُشبِهُ الطفلَ الرّضيعَ في أنه إن تُرك على الرضاع بلغَ حدَّ الشباب وهو مستمرٌّ على الرَّضاع، وإن فُطم امتنعَ من ذلك من غير أن يَضرَّه، لكنه يجد لذلك شدةً ثم يَعتاد وتزول الشدة، فكذلك النفسُ ينبغي ترويضُها وتدريبُها على تَجنُّبِ المعاصي حتى تعتادَ ذلِك وتستقيمَ على سويِّ الطريق.

(11) وخالِفِ النَّفْسَ والشَّيطانَ واعصِهِـمَا

علم الدين حياة الاسلام:
وإنْ همـا مَحَضَـاكَ النُّصحَ فاتَّهِـمِ

المفردات: مَحَضاك النصح: أخلصاهُ لك كما مرَّ في شرحِ قوله “محَضتني النُّصحَ لكنْ لستُ أسمَعُهُ”.

المعنى: إن النفسَ والشيطانَ عدوّانِ لك فخالِفْهُما فيما يأمرانِك بهِ وينهيانِكَ عنه، واعصِهما في ذلك، وإن أظهرا لكَ أنَّهما أخلَصا لك نُصحَهما فاتَّهمْهُما ولا تظنَّنَّ أنهما يريدانِ لك خيرا، ليس حالُهما كحالِ الشَّيبِ الذي هوَ بعيدٌ عنِ التُّهَمة، أما الهوى والشيطانُ فمن تَبِعَهما هَلَك،

فعلى الإنسان أن يتقيَ شرَّ نفسِه وشرَّ شيطانِه، لأنهما يوقعانه في المَهالِك من حيثُ يُصوِّرانِ له أنْ لا حَرَجَ في فِعْلِ كذا وكذا من المآثم، ويُزيِّنانِ لهُ فِعلَها، ففي اتباعهما الردى، وفي عِصيانِهما الرشادُ والهدى.

وهنا نصيحة لي ولكم: من سبقَ له أن أسرفَ على نفسه وأطاعَ هواه، وأغضبَ ربه وعصاه، فليرجِع إليهِ وليطلُبِ العفوَ والغُفران، فقد جاء في الحديث: «كل بني آدم خطّاء، وخيرُ الخطائينَ التوابونَ»، فواظِبْ أخيْ على الصلاةِ التي تَمْحو الخطايا، وادفَعْ بالصدَقَةِ عنكَ البلايا،

وابكِ على ما فاتَ من إِسرافِك وتقصيرِك حُزنًا ونَدَما، واعزِمْ على عَدَمِ الرُّجوعِ إلى ما فعلت، فذلك يغسِل دَنَسَ الآثام، ويعينُك في البُعْدِ عن الحَرام.

ونصل هنا إلى الختام، فارتقبوا منا في الحلقة المقبلة عَذْبَ الكلام، فسوف نبدأ بأبيات المديح لسيد الأنام، شفيع الخلق يوم الزحام، والسلام عليكم.