الكواكب الدرّية في مدحِ خيرِ البرية للبُوصيري – النفحات الزكية في شرح البُردةِ النبوية (الحلقة الأولى)

> علم الدين حياة الاسلام:

الكواكب الدرّية في مدحِ خيرِ البرية للبُوصيري – النفحات الزكية في شرح البُردةِ النبوية (الحلقة الأولى)

بِسمِ الله والحمدُ لله والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وبعدُ،

فإنَّ الشُّعراءَ قديمًا وحديثًا مَدَحوا وتَغنَّوا بممدوحِيهم وترنّموا، غيرَ أنَّ الشِّعرَ لَمْ يَعرِفْ أَحدًا مُدِح قبلَ ولادته وفي حياتِه وقُرونًا مستمرّة مُتتابِعةً بعدَ وفاتِه إلّا واحدًا، ألا إنَّه سَيِّدُ الورى، وخيرُ مَن وطئَ الثَّرى، رسولُ اللهِ محمدٌ ﷺ، ونحنُ الآنَ أمامَ رائعةٍ مِنْ روائِعِ المديحِ النَّبويّ، لا يزالُ طِيْبُ نسيمِها على مَرّ الأزمانِ يفوحُ بأريجِهِ الزَّكِيّ، إنها قَصيدَةُ الكَواكِبِ الدُّرِّيّة في مَدْحِ خيرِ البَرِيّة، المَعروفَةِ بالبُرْدَةِ،

وسُمِّيَتْ بِذلِكَ لِأَنَّ ناظِمَها الشَّيخَ الأَدِيبِ محمدِ بنِ سَعِيدٍ البوصيري رَحِمَهُ اللهُ أَصابَهُ فالِجٌ، فأرادَ أَنْ يَرجُوَ مِنْ رَبِّهِ الشِّفاءَ بِبَرَكَةِ مَدْحِهِ لِرَسُولِهِ ﷺ، فَنَظَمَ قَصِيدَةً مُطَوّلَةً في مَدْحه عليه الصلاة والسلام، فرآه في المَنام ﷺ وقد كَساه بُردتَه بِحُسْنِ مَقْصِدِه،

والبُردةُ شىء يُلبَسُ كالرِّداءِ، فانْتَبَهَ مِنْ نَومِهِ وَقَدْ زالَ عنهُ البَأسُ بِبَرَكَتِها، وهذه القَصيدةُ وإن وَقَعَ فيها ما يُنتقد، فهو قَلِيلٌ بِجَانِبِ ما يُروي مَنْ وَرَد ،

فما أَكْثَرَ مَنْ نَظَمَ على مِنوالِها، وَمَن استَقى العَذبَ مِن سَلسالِها، فَهِيَ تَبَوّأَتْ فِي الأَدبِ منزِلًا عَلِيّا، وبانَ بهاءُ مبانِيها ومعانيها جَلِيّا، فاهزُزْ بِجِذْعِها تُساقِطْ عليكَ رُطَبًا جَنِيّا.

وَقَدْ قَسمَها النَّاظِمُ رَحِمَهُ الله فُصولًا بدأَها ببراعَةِ اسْتِهلال، وانتقل فيما بينها بحُسْنِ انْتِقال، وختمَها بالصلاةِ على سيّد الرِّجال.
ودعونا الآن نبدأ على بركة الله في الفصل الأول وهو في التغزل وشكوى الغرام:

(1).. أمِنْ تَــذَكُّرِ جيرانٍ بــذي سَــلَمِ
مَزَجْتَ دَمْعا جرى مِن مُقلَةٍ بِدَمِ

(2).. أَم هَبَّتِ الرّيحُ مِن تِلقاءِ كــاظِمَةٍ
وأومَضَ البرقُ في الظَّلمـاءِ مِن إضَمِ

المفردات: ذو سَلَمِ: موضعٌ بينَ مكةَ والمدينة، مَزَجْتَ: خَلَطْتَ، المُقلة: شَحمةُ العَينِ التي هِي سَوادُها وبياضُها، مِن تِلقاء: من جانِب وناحية،

كاظمة: اسمُ طريقٍ إلى مكةَ المكرمة، أومض: لَمعَ، إضم: وادٍ قريبٌ منَ المدينةِ المنورة، وفي استهلاله بذِكْرِ هذه المواضعِ التي تشيرُ إلى أنَّ محبوبَه قريبٌ منها حُسن ابتداء، لأنه لم يذكرْ أمرًا بعيدًا عن مضمونِ القصيدة.

المعنى: يفتتح البوصيري رحمه الله رائعتَه بتساؤل، فهو يجدُ نفسَه منكِرًا للحُبِّ لا يعترِفُ بهِ ومعَ ذلِكَ يجدُ أنَّ دمعَهُ يَهْمِي سائِلًا مِن مُقلَتيهِ مَمْزوجًا بالدَّم لفَرْطِ حزنه وشدةِ ألمه، فالحُبُّ تبدو علاماتُه عليهِ وإن أنكره، فيسأل نفسه: ما سببُ ذلك؟ أهو تذكُّرُ الأحبةِ الغائبين، أم هبوبُ الريحِ الطَّيبة من حيِّهم، ولمعانُ البرقِ في الليلةِ الظَّلماءِ من ناحيتهم؟

(3).. فـما لِعَينـيك إن قُلتَ اكْفُفَـا هَمَـتَا
وما لقلبِكَ إن قُلْتَ اسْـتَفِقْ يَهِــمِ

المفردات: اكففا: احبِسا دمعَكُما، هَمتا: من الهَميِ وهو الانْحدارُ والسَّيلان، القلب: المراد به هنا الذهن والعقل، استفق: مرادِف أفق،

يَهِم: مضارع هام على وجهه إذا ذهبَ عقلُه حتى لا يدرِيَ أينَ هو، أي أن الحُبّ غلبَ على فؤادِهِ حتى زال عقلُه.

المعنى: يستفهمِ متعجبًا قائلًا: فيا منكِرَ الحُبِّ ما بالُ بكاءِ عينيكَ حتّى إنَّكَ إنْ طلبتَ منهُما حبسَ الدُّموعِ فاضَتا بالدَّمْعِ؟ وما بالُ قلبِكَ وماذا حلَّ به حتى إنك إن أمرته بأن يصحُوَ من عظيمِ عِشقِه عادَ إلى هُيامِه؟ أليسَ كلٌّ مِنْ سَيَلانِ الدَّمْعِ وهُيامِ القَلْبِ من آثارِ الحُبّ؟

(4).. نَعَمْ سَرى طَيْفُ مَن أهـوى فـأَرَّقَنِي
والحُبُّ يَعْتَـرِضُ اللَّذّاتِ بِالأَلَـمِ

المفردات: سرى: سارَ ليلًا، الطيفُ: الخيالُ في النَّوم، أرَّقَني: أَسْهَرَني ومنعَ عنيَ النوم، يعترضُ: يَحُولُ بينَهُ وبينَ مُرادِهِ، اللذَّات: جمعُ لَذّةٍ وَهِيَ ما يُتَنَعَّمُ بِه.

المعنى: لمّا وَجَدَ أنّ دلائِلَ الحُبِّ وعلاماتِهِ بادِيَةً عليهِ حتى افتُضِحَ أمرُه لم يَجِدْ بُدًّا مِنَ الاعترافِ به، فقالَ مُقِرًّا: نعم أَنا مُحِبّ، لَقد زارني ليلًا خيالٌ مِنْ محبوبي، فانْتَبَهْتُ مِنْ شِدّةِ كَلَفِي فَزِعًا حَتّى أصابَنِي الأَرَق، وهذا شأنُ الحُبّ يمنَعُ المُحِبّ مِنْ بلوغِ لَذّاتِهِ لأنّه يصيبُهُ بآلامٍ دائِمَةٍ.

(5).. يا لائِمي في الهوى العُذْرِيِّ مَعْذرَةً
مِنِّي إليكَ ولَو أنْصَفْتَ لَمْ تَلُمِ > علم الدين حياة الاسلام: المفردات: لائمي في الهوى: أي من يلومُني بسببِ الهوى، العذريّ: نسبة لِبَني عُذرةَ، عُرِفُوا بالعِشقِ الشَّديد مَعَ العَفافِ، فلذلِكَ صارَ الحُبُّ العفيفُ ينسَبُ إليهِم، معذرة: مصدرُ عَذَرْتُهُ إذا صَفَحْتَ عنهُ ومحوتَ إساءَتَهُ، أنصفْتَ: أي عدلْتَ.

المعنى: يا من يلومني بسببِ حُبّي العُذري، اعذُرني وانظُر في حالِي نَظَرَ مُنصِفٍ، فإنكَ بعدَ ذلِكَ لا تَلُومُني، لأنَّ مَن أحبَّهُ حقيقٌ بهذِه المحبةِ جَديرٌ بِها، ولو سَمِعْت أوصافَهُ لَغَرِقْتَ في غَرامِ مَن أُوتِيَ دونَ الخَلْقِ كلَّ الحُسنِ والبَها، فعذابي بسببِ الحُب لا يتوقَّفُ ولا يمنَعُهُ لومُ اللائمين.

(6).. مَحَضْتَنِي النُّصْحَ لكِنْ لَســتُ أسمَعُهُ
إنَّ المُحِبَّ عَنِ العُذَّالِ في صَمَمِ

المفردات: محَضْتَني النُّصْح: أي نَصَحْتَني نُصْحًا مَحْضًا خالِصًا، أي ليسَ فيهِ سوءُ نِيّةٍ، العُذّال: جمعُ عاذلٍ وهو اللائمُ، الصَّمَم: عَدم السمع.

المعنى: قد نصحتَني نصيحةً خالصةً بغيرِ خُبْثِ نية، وفسادِ طويّة، لكني مِن عُظم محبّتي لستُ أسمعُ الناصِحين، فالعِشقُ يجعَلُ المُحِبّ كالأَصمّ لا يسمَع قولَ العُذّال، فشدّة الحُبّ تُعمي وتُصِمّ، فكلما عذلْتَ المُحب زدتَه بمحبوبه شَغَفا، وكلما لُمتَهُ زادَ عِشْقًا وكَلَفا، ولو كنتَ في لومِك ناصِحًا أَمِينا، فسوف يراكَ المُحِبّ لغلَبةِ الحُبّ حاسِدًا خَؤونا.

وهنا تنتهي حلقَتُنا فارتقِبونا في الحلقة المقبلة مع أبياتٍ جديدةٍ منْ نفائس هذه القصيدة.

الشيخ عبد الحليم عبد الجليل حفظه الله تعالى وغفر الله له وللمؤمنين والمؤمنات.