الكواكب الدرّية في مدحِ خيرِ البرية للبُوصيري – النفحات الزكية في شرح البُردةِ النبوية (الحلقة الرابعة)

> علم الدين حياة الاسلام:

الكواكب الدرّية في مدحِ خيرِ البرية للبُوصيري – النفحات الزكية في شرح البُردةِ النبوية (الحلقة الرابعة)

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد،

فقد ذكرَ البوصيريُّ في الأبياتِ السابقة أنه لما أَمَرَ بالخَيْرِ ولمْ يأتَمِرْ به، لم يكن كاملَ الاتباعِ لسنّة نبيٍّ أمَرَنا بالخير وسبقَنا إليه، فجُعِلَتْ قُرّةُ عينِه في الصلاة، وزَهِد فيما في الدنيا الفانيةِ من الجاه، وإن كان الحالُ قد بلغَ بهِ حاجَةً وشِدّة، فَلَنْ يدعُوَهُ ذلكَ إلى تَرْكِ التَّعبُّد، ونَبْذِ التَّزَهُّد، فقالَ:

(19).. وَكَيْفَ تَدْعو إِلى الدُّنيا ضَرُورَةُ مَن
لَولاهُ لَمْ تُخْرَجِ الدُّنْيا مِنَ العَدَمِ

المعنى: كيف تدعو إلى الدُّنيا الفانِيةِ ضرورَةٌ أصابته وهو الذي ما أُخرِجَتِ الدُّنْيا من العَدَمِ إلى الوُجودِ إلّا لِأجْلِه؟ أي إذا كانَتِ الدُّنيا خُلِقَتْ لِإِظْهارِ شَرَفِه، ولولاهُ لم تُوجَد، فكيفَ ينجَرِفُ إلى متاعِ الدُّنيا وإن أَلَمَّتْ بهِ حاجَةٌ ضروريّةٌ؟ بالتأكيدِ لا يدعوهُ ذلك للرَّغبةِ في نعيمِ الدُّنيا وزَخارِفِها الزَّائلةِ ومَلذاتها الرّاحِلةِ، فلذلِك جمَّلَهُ الزُّهْدُ وزانَه، وما عابَهُ الجُوعُ ولا شانَه.

وقد رَكِبَ عليهِ الصلاةُ والسّلامُ مَطيَّةَ الصبرِ على البلايا في حياتِه، وما نَزَل عَنْها حتى ودَّع رَكْبَه، ولَقِيَ ربَّه، فَلِذَا تَبَوَّأَ بَيْنَ أولي العَزْمِ مكانًا عَلِيّا، وبانَ فضلُه على الخلائِق جَلِيّا.

(20).. محمدٌّ سـَيدُ الكونينِ والثّقَلَـيْنِ
والفريقـَين مِن عُـربٍ ومِن عَجَـمِ

المفردات: السيدُ: الجليلُ العظيم، الكونانِ: الدُّنيا والآخِرةِ، الثَّقلانِ: الإنْسُ والجِنّ، والثَّقَلُ في الأَصْلِ هو النَّفيسُ مِنَ الشىء، وسُمِّيَ الإنسُ والجنُّ ثَقَلَيْنِ لِمَزِيَّةِ جِنْسِهِما على سائِرِ الأَجْناسِ في الأرض، الفريقان: المرادُ بهما هنا العَرَبُ والعَجَم، والفَريقُ هو الجماعة الكثيرة.

المعنى: هو نبيُّنا وسيِّدُنا رسولُ الله محمدٌ ﷺ، سيِّدُ أهلِ الدُّنيا وأهلِ الآخرة، وسيِّدُ الإنسِ والجِنّ، وسيدُ العَرَبِ والعَجَمِ، بل هو سيِّدُ العالمينَ أجمعين. لا أحدَ مِن الخلقِ يُباريه، ولا يَطمَحُ فاضِلٌ إلى علوِّ مراقيه، فليَسعَدْ من نالَ شَرَفَ الصُّحْبة، وليهنَأْ من له إليه نِسبة، وكيف لا، فما حَوَتِ الدُّنيا من عالي النِّسَب لا يَرقى لانْتِماءِ أمَّتِنا لِخَيْرِ العَجَم والعَرَب، ﷺ.

(21).. نَبِيُّنَا الآمِرُ النَّاهِي فلا أَحَدٌ
أبَرَّ في قَولِ «لا» مِنْهُ ولا «نَعَمِ»

المفردات: أبرّ: أَصْدَق.

المعنى: نَبِيُّنا الآمِرُ بالمعروفِ الناهي عن المُنكَر، الذي لم يَرَ مُنكَرًا وسَكَتَ عَنْهُ، وعَلَّمَنا الجُرأة في قَولِ الحَقِّ ولو تَحْتَ السُّيوفِ والرِّماح، هو الذي لم يُسكِتْهُ يومًا افتراءُ المُشرِكِين، ولا هَزَّهُ يومًا ظُلمُ الظالمين، هوَ مَثَلُنا الأَعلى في القيادة، وقُدوتنا العُظمى في السِّيادة، فلمّا اقتدَتْ بهِ الأُمّة كانَتْ خيرَ الأُمَم، ولا عَجَب، فَقُدوَتُها خيرُ مَن يَمْشِي على قَدم.

ولمّا كانَ الأمرُ بِالمَعْروفِ والنَّهْيِ عن المُنكَرِ شأنَهُ عُرِف بالصِّدقِ والبِرّ، فلا أَحَدَ أصدقُ مِنْهُ في قولِ لا عندَ المَنْعِ ونَعَم عندَ الإذنِ أو الإعطاء، ومَعَ شِدَّتِهِ في قولِ الحقِّ كانَ أَلْطَفَ الناسِ وأليَنَهُم عِشْرة، فَلَمْ يَكُن غَلِيظًا بلْ كان مكتسيًا بثوبِ بِرٍّ ورَحْمَةٍ وشَفَقَةٍ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وهو الذي نزل في شأن خُلُقِهِ قرآن يتلى فقال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}.

(22).. هُوَ الحَبيبُ الذي تُرجَى شفاعَتُهُ
لكُلِّ هَوْلٍ مِن الأَهْوالِ مُقتَحَمِ

المفردات: تُرجى: تُؤَمَّلُ، والرَّجاءُ هو الأَمَلُ، الهَول: المَخافة، الاقتحام: الوقوعُ بَغْتًة في الشِّدَّةِ.

المعنى: إن نبيّنا محمَّدًا ﷺ حَبيب، ولكنَّهُ ليسَ أيَّ حبيب، إنَّه حبيبُ أجيالٍ تتوالى على مَرِّ القُرونِ وتَتابُعِ العُصور، هو أفضَلُ الأحبّة، وهو الحبيبُ الذي يأمُلُ الناسُ منهُ الشفاعةَ يومَ القيامَةِ للخَلاصِ من كُلِّ هَولٍ وخَوفٍ وفَزَعٍ يوقِع الناسَ بشدَّة الدَّهشةِ عند رؤيته، فهو المُنقِذ والمخلّص عليه الصلاة والسلام، فأيُّ الأحبَّةِ مثلُه بأبي هو وأمي؟

هذا وإنَّ حبَّه عليه الصلاة والسلام من طُرقِ السّعادة والنَّجاة، وقد كانَ بعضُ الصحابَةِ لا يذكرون النبي عليهِ الصلاةُ والسلام إلا ويقولونَ «بأبي هو وأمّي» أي أفديهِ بِأبي وأمي، وقد أُسِر خبيبُ بنُ عَدِيّ رضي الله عنه وقُدّم ليقتل ويصلَب، فسأله قاتِلوه من كفّار مكة: «أَيَسُرُّكَ أنك في بيتِك معافًى وأنّ محمّدًا مكانَك؟» فأفصحَ بما يحمله صدرُه من عظيم الحب ومكنونِ المشاعر حتى تفاجأوا من هذا الردِّ القاصِم، قال: «والله ما أُحبُّ أني في أهلي وولدي، مَعِي عافيةُ الدُّنيا ونعيمُها، ويصابَ رسولُ اللهِ بشوكة»، > علم الدين حياة الاسلام: وبمثل ذلك قال زيدُ بن الدَّثِنة رضي الله عنه وهم يَهُمّونَ بقتلِه، حتى قالَ أبو سفيان «والله ما رأيتُ أحدًا يحب أحدًا كما يحب أصحابُ محمد محمدًا». 

(23).. دَعَـا إلى اللهِ فالمـُسـتَمسِـكُون بِـهِ
مُستَمسِكُونَ بِحبلٍ غيرِ مُنفَصمِ

المفردات: دعا إلى الله: أي دعا العالمين إلى دين الله، المستمسكون به: المعتصمون به، منفصم: منقطع.

المعنى: دعا ﷺ الإنسَ والجنَّ إلى دين الإسلام، الدينِ الصحيح القويم الذي أمر الله به، وهو سبيلُ الرَّشادِ الذي من حادَ عنه وقَع في لُجَجِ الهلاك، ومن اعتَصَمَ به عليهِ الصلاةُ والسلام فهو متمسِّكٌ بحبلِ فوزٍ ونجاةٍ غيرِ مُنقَطِع.

وهنا نصل لختام هذه الحلقة، على أمل اللقاء في الحلقة القادمة لنشنف أسماعنا بأبيات كالأزهار، تفوح منها روائع الأعطار، فارتقبونا، والسلام عليكم.