الكواكب الدرّية في مدحِ خيرِ البرية للبُوصيري – النفحات الزكية في شرح البُردةِ النبوية (الحلقة الخامسة)

> علم الدين حياة الاسلام:

الكواكب الدرّية في مدحِ خيرِ البرية للبُوصيري – النفحات الزكية في شرح البُردةِ النبوية (الحلقة الخامسة)

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد،

شرعْنا في الحَلْقة الماضِية بأبياتِ المديحِ النبوي، التي فيها وصْفُ البوصيريِّ نبيَّنا بأنه سيدُ الخلق، المعروف بالبِر وطيبِّ الأخْلاق، الذي تُرتَجى منهُ الشفاعَةُ يومَ التلاق، فالمتمسِّكُ بهِ متمسِّكٌ بحبْلٍ مَتينِ الوَثاق؛ والآن الكلامُ على تفوقِه ﷺ على كافَّة الأنبياء، وبلوغِه مُنتَهى السّناء والبهاء.

(24) فاقَ النَّبيينَ في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ
ولم يُدَانُوهُ في عِلمٍ ولا كَرَمِ

المفردات: فاق: أي علا وارتفعَ في مَنزِلَتِه، الخَلق: الخِلقة، أي الأوصافُ الظّاهِريّة، الخُلُق: السَّجِيَّةُ والطَّبيعة، أي الأوصافُ الخُلُقِيّةُ الباطنيّة، لم يدانوه: لم يقارِبوه.

المعنى: إن رسول الله ﷺ فاقَ الأنبياءَ كافَّة وعلاهُم في بَهِيِّ الصِّفاتِ وجَميلِ الأَوصاف، فَهُو ﷺ أَحسَنُهم خَلقا وأكملُهم في الأخْلاق، كما أنهم لم يقارِبوه في العِلْم فهو أعلَمُ الأنبياءِ بالدّين، ولا في كَرَمِهِ فهو ﷺ أوسعهم كفًّا وأكمَلُهم جودًا،

فالأنبياءُ الكِرام نجومٌ لامِعة ورسولنا ﷺ فيهمُ الشَّمسُ الساطعة. وقد خُصَّ الأنبياءُ بالذِّكْرِ لأنَّهُم أكمَلُ الخَلقِ جَمالا وأَخلاقا، وإذا كانَ نَبِيُّنا محمد ﷺ فاقَهُم في ذلكَ كانَ له في خَلْقِ اللهِ تمامَ البهاءِ، وفي محاسِنِ الشِّيَم المرتبة العلياء،

وفوق ذلك كان عليهِ الصلاةُ والسلام في العلم يَمًّا لا تُكدره الدِّلاء، وفي الكرم بَحْرا لا تَبلغ الفُلْكُ مَداه، ولا تَسكُب السَّحائِبُ مِعشارَ ما تُعطي يداه.

وقد قال جبريلُ عليه السلام للبراقِ بعدَ أن رَكِبَهُ النبي ﷺ: «ما ركِبَك أحدٌ أكرمُ على الله منه»، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «سيدُ الأنبياءِ خمسة، ومحمد ﷺ سيد الخمسة».

(25) وكُلُّهُمْ مِنْ رسولِ اللهِ مُلتَمِـسٌ
غَرْفَا مِنَ البَحْرِ أو رَشفًا مِنَ الدِّيَمِ

المفردات: ملتمس: طالب، غرفا: مصدر غَرَفْت بِيَدِي من البحرِ أي أخذتُ بيدي منه، الرَّشْف: المَصّ، الدِّيَم: جمعُ دِيمةٍ، وهي المَطَر المستمرُّ الذي ليسَ فيه رَعْدٌ ولا برق.

المعنى: وكل الأنبياء طالبون منه عليه الصلاة والسلام غَرْفًا مِنْ بَحْرِ عِلْمِه أو ارتشافًا من غزير مَطَرِ حِلْمِهِ وجوده، أي لَمَّا عَلَاهم ﷺ في مراتِب العِلم ومَناقِب الكَرم، كانَ الأنبياءُ عليهم السلام من نبيِّنا ﷺ بمنزلةِ الطالِبين مِنَ البَحْرِ العَظِيم غَرفة، ومِنَ الدِّيمَةِ السَّكوبِ رَشْفة.

فالأُمَمُ متزاحمونَ على موارِدِ بَحْرِهِ الزَّاخِر، ومَنَاهِلِ غَيثِهِ الهامر، فَأَوصافُ الأَنْبياء وَإِنْ كانَتْ عَظِيمَةً في نفسها فكمالاتُ سيِّدِنا ونبينا محمدٍ ﷺ أعظمُ مِنها، فهو فيهِمُ السيدُ الأعظم، والمعطاءُ الأَكرَم، لا تدانِي عطايا الخَلق عَطيّةً مِن يديه، ولا يُلجأ في الشفاعةِ العُظمى إلا إليه.

(26) فَهْوَ الذي تَمَّ معناهُ وصورَتُهُ
ثمّ اصطفاهُ حبيبًا بارِئُ النَّسَمِ

المفردات: تمَّ معناه وصورته: كَمَل باطنه وظاهره، والمراد هو الخَلق والخُلُق، اصطفاه: اختاره، البارئ: الخالق، النَّسَم: جمع نَسَمة وهي الإنسان، وبارئ النسم: هو خَالِق الخَلق سبحانه وتعالى.

المعنى: هو الذي كَمَلَتْ صِفاته خَلقًا وخُلقًا، ثم اختاره الله تعالى خالِق البَشَرِ نَبِيًّا رسولا، حَبِيبًا كامِلَ الأوصاف، مربوعًا ليس بالطويلِ البائن، ولا القصيرِ المتردِّد، ظاهرَ الوَضاءة، أبلجَ الوجه، أبيضَ مُشرَبًا بالحُمرة، أسودَ العينين واسِعَهُما، طويلَ الأشفارِ هِلالِيَّ الحواجِب، كوكَبِيّ الجَبِين، دُرِّيَّ الأسنان، كَثَّ اللحية، أجملَ الناس وأبهاهم مِن بعيد، وأحسنَهم من قَرِيب، حلوَ المنطق، متواضعًا معَ كلِّ الناس، دائمَ البِشر، بادئًا من لَقِيَهُ بالسَّلام، ما خلقَ اللهُ قبلَهُ ولا بعدَهُ مِثلَهُ في النَّسم ﷺ.

(27) مُنَـزَّهٌ عـن شـريكٍ في مَحاسِــنِهِ
فجَـوهَرُ الحُسـنِ فيه غيرُ منقَسِـمِ

المفردات: منزّه: من التنزيه وهو الإبعاد، محاسنه: أوصاف حسنه وبهائه، جوهر الشىء: أصله، منقسم: مفترق.

المعنى: ليس لنبينا ﷺ شريك في محاسنه، فلا يقاسِمه فيها أحد، أي لا يَبلُغ في المحاسِن مبلغَه أحد، كما أن الجوهَر الفَردَ الذي تتركب منه الأجسامُ في اصطلاح علماءِ الكلام لا يقبَلُ الانقسام، فجوهَر حسنه ﷺ غيرُ منقَسِم.

(28) وانسُبْ إلى ذاتِهِ ما شـئتَ مِن شرَفٍ
وانسُب إلى قَدْرِهِ ما شئتَ مِن عِظَـمِ

المفردات: الشرف: رفعة المنزلة.

المعنى: امدَحْ رسولَ الله ﷺ كما أُمِرْتَ بلا غُلُوٍّ ولا تفريط، فلا تَدَّعِ لهُ وَصْفًا هو خاصّ بالله تعالى، ولا تُخرِجْهُ عن كونِهِ مِنَ البَشر، فلا تَقُل إنه ولدُ الله، أو له عِلْم الله، أو أنَّه خُلِقَ مِنْ نُور، وكذلك لا تقلل من منزلته، فلا تَنْفِ عنه بركاتِه في حياته وبعد مماته، وإذا تجنَّبْتَ ذلكَ فانسُبْ ما > علم الدين حياة الاسلام: شِئْتَ مِنَ الشَّرَف إلى ذاتِهِ الكريمة، كأن تقولَ: هو صلى الله عليه وآله وسلم موصوفٌ بِغايَةِ العِلْم، ونهايةِ الحِلْم، وكمالِ الشجاعة، وتمامِ البلاغة، وهو أكمَلُ الخَلْقِ على الإطلاق، وأجملُهُم وأفضلُهُم وأكرَمُهُم على المَلِكِ الخَلّاق، وغيرِ ذلكَ مِمّا لَمْ يبلُغهُ نَبِيّ مُرسَل، ولا مَلَكٌ مُقَرَّب،

وَصِفْ قدره العاليَ بما أردتَ مِنَ العَظَمَةِ والجلال، كأن تقول: إن فضله ﷺ في العالمين فوقَ كُلِّ فَضْلٍ، وشرفَه فيهم أعلى من كل شَرَف، فَقَدْ وجدتَ مجالَ القول في مدحه الشريف رحيبًا وبابَه واسعًا.

(29) فَــإنَّ فَضلَ رســولِ اللهِ ليـس لَهُ
حَـدٌّ فَيُعـرِبَ عنـهُ نــاطِقٌ بِفَمِ

المفردات: الحد: الغاية، يعرب: يُظهِر ويُبِين، وقد قال «فإن فضل رسول الله» ولم يقل فإن فضله مَعَ أنَّه ذَكَرَهُ مِن قَبْلُ تلذُّذا بِلَفْظِ «رسول الله».

المعنى: فإنَّ فَضْلَ رسولِ اللهِ ﷺ ليسَ لهُ غايَةٌ نعلَمُها لِنَتَوقَّفَ عندها وليجمعَها ويُبينَها ناطِقٌ بِلِسانه، فأوصافُه لا نُحصيها، وفضائله لا نَستَقْصيها، ولا يَعلَمُ مِقدار عُلاه، إلا من كوَّنه وسوَّاه، ولله درُّ القائل:

مدَحَتْك آياتُ الكتاب فما عسى
يُثنِي على عَلياك نَظْمُ مديحي

وإذا كتابُ الله أثنى مُفصِحا
كان القُصورُ قُصارَ كلِّ مديح

وهنا نصل لختام هذه الحلقة، على أمل اللقاء في الحلقة القادمة لنشنف أسماعنا بأبيات كالدر تتلألأ، وتبهر القلوب والعيون جمالا، فارتقبونا، والسلام عليكم.