> علم الدين حياة الاسلام:
الكواكب الدرّية في مدحِ خيرِ البرية للبُوصيري – النفحات الزكية في شرح البُردةِ النبوية (الحلقة السادسة)
باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،
وأما بعد، فقد سردنا في الحلقة الماضية بعض الأبيات في بيان ارتقائه ﷺ عُليا المراتب، وأن فضله لا يحصيه من الخلق كاتب، ونكمل هنا في ذلك..
(30) وكيفَ يُــدرِكُ في الدُّنيا حقيقَتَهُ
قَوْمٌ نِيَامٌ تَسَلَّوا عنه بِالحُلُمِ
المفردات: كيف: استفهامٌ معناه الإنكار، يُدرِك: يَتَصَوّر ويعرِف، تَسَلّوا عنه: أي قَنَعوا وتَشاغَلوا عَنْ إدراكِ حَقِيقتهِ ولطائِفِ معانيهِ، الحُلُم: هو ما يراهُ النائِمُ في نَومِه.
المعنى: كيف يدرِكُ المقصّرون حقيقتَه عليهِ الصلاةُ والسلام وَهُمْ في الدُّنيا كأنَّهم نِيامٌ وإذا ماتوا انْتَبهوا، فَفِي الآخِرة يَظهَرُ لِلخلائِقِ مِنْ كَمالِ معانيهِ وعُلُوّ مَنزِلتِه ما يَغبِطُهُ لِأَجْلِهِ الأوّلون والآخرون.
(31) فمَبْلَغُ العِلمِ فِيه أَنَّه بَشَرٌ
وأَنَّهُ خَيرُ خلْقِ الله كُلِّهِمِ
هذا البيت من أحسن أبيات القصيدة وأمدحها، المفردات: مبلَغُ العِلم: غايَتُه.
المعنى: غايَةُ ما يَبْلُغُهُ البَشَرُ مِنَ العِلْم بهِ ﷺ هُوَ أَنَّهُ إنسانٌ مِنَ البَشَرِ، وأنَّهُ خيرُ خَلْقِ اللهِ مِنْ إنسٍ وجِنٍّ وملائكة، مُفَضَّلٌ عَلَيهِمْ في أَوصافِهِ وفي مَنزِلَتِهِ وفي مَقامِهِ المحمودِ في الآخِرةِ،
والدّلائل على أفضليَّتِهِ كثيرَةٌ شَهِيرة، مِنها قَولُهُ تَعالى: {وما أَرسَلْناكَ إلّا رَحمَةً للعالَمِين}، ومنها قوله ﷺ: «أنا سيِّد وَلدِ آدَمَ ولا فَخْر».
(32) أكــرِمْ بخَلْـقِ نبيٍّ زانَــهُ خُلُـقٌ
بِالحُسـنِ مشـتَمِلٍ بالبِشْـرِ مُتَّسِـمِ
المفردات: أكرم: فعلٌ دالٌّ على التَّعجب، زانه: زادَهُ حُسْنًا، المشتمل: هو المرتدي، البِشْر: طَلاقة الوجه، مُتَّسِم: مُتَّصِف.
المعنى: ما أكرمَ وأَحْلى طَلْعَةَ نبيٍّ كريمٍ مَزِينٍ بِمحاسِنِ الأَخلاقِ، يُحِيط البهاءُ والحُسن بِكُلِّ أوصافه، وهو مُتَّصِفٌ بِبَشاشَةِ الوجهِ وطَلاقَتِه.
وإنَّ نبيَّنا عليه الصَّلاةُ والسَّلام أجمَلُ مخلوقٍ خلقَهُ اللهُ، فكيفَما دُرنا في أَوصافِهِ الخَلْقيّة أو الخُلُقيَّة وجدْنا كمالَ الحُسْنِ ومُنتَهَى البَهاء.
(33) كالزَّهرِ في تَرَفٍ والبَـْدرِ في شَـرَفٍ
والبحرِ في كَــرَمٍ والـدهرِ في هِمَمِ
المفردات: التَّرف: اللينُ والنُّعومَةُ واللَّطافَةُ والنَّضَارة، البَدْر: القَمَرُ عِندَ تَمامِه، الشَّرَف: الرِّفْعةُ وعُلُوُّ المَنزِلَةِ، الدَّهْر: الزَّمان، الهِمَم: جَمْعُ هِمَّةٍ وَهِيَ العَزِيمَةُ، وقد شبَّهه ﷺ بالدَّهر، لأن الدَّهْر تَقَعُ فيهِ الحوادِثُ العظيمةُ والأمورُ الجَلِيلة، وهوَ ماضٍ لا يَتَوَقَّفُ على حَدَثٍ أو نائِبةٍ، فَتُنسَبُ الهِمَّةُ إلى الدَّهْرِ مَجازًا، وذلِكَ مِنْ بابِ نِسْبَةِ الفِعْلِ إلى زَمانِه، كما تَقُول «العابِدُ ليلُه قائِم ونهارُه صائِم»، فلذلِك يُضرَبُ المَثَلُ بالدَّهْرِ في الهِمَّةِ والعَزِيمَةِ.
المعنى أن رسول الله ﷺ مثلُ الزَّهرِ في النُّعومةِ واللّين، وَقَدْ كانَتْ كَفُّهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ ألينَ مِنَ الحَرِير، وهوَ كالبَدْرِ في الشَّرَفِ وعُلُوِّ المَنزِلَة، وكَيْفَ لا وَهُو أَشْرَفُ الأوَّلِين والآخِرِين، وكالبحرِ في كَرمِهِ وسَعَةِ عطائِهِ وجَزيلِ نَوالِهِ، وهو كالدَّهر في هِمَّته وعزيمته، أي يمضي في الأمور بعزيمةٍ لا تَلِين وهمَّةٍ لا تنثَنِي ﷺ.
(34) كــأنَّهُ وهْـوَ فَرْدٌ مِن جلالَتِــهِ
في عَسْـكَرٍ حينَ تلقاهُ وفي حَشَــمِ
المفردات: فَرْد: وَحِيد، العَسكَر: الجَيش العَظِيم، الحَشَم: الخَدَم.
المعنى: هنا يَصِفُ البوصيريُّ رَحِمَهُ اللهُ هَيبةَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَيَقولُ: إنَّ النَّبِيَّ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ تعلوهُ الهَيبَةُ والجَلال، كأنَّه مُحاطٌ بِجيشٍ وحَشَمٍ وَإِنْ كانَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ مَنْ يَلقاهُ لا يَشعُرُ مِن هَيبَتِهِ أنَّه لَقِي رَجُلًا وَحِيدا، وذلِكَ أنَّ الله تعالى أكرمَهُ بِأَنْ جَعَلَ لَهُ مَهابةً فوقَ هيبةِ المُلوكِ والسلاطين.
(35) كـــأنَّمَا اللُّؤلُؤُ المـَكنُونُ في صَدَفٍ
مِن مَعْــدِنَيْ مَنْطِـقٍ مِنْهُ ومُبتَسَـمِ
المفردات: اللؤلؤ: واحِدُهُ لؤلؤةٌ وَهِيَ الدُّرّة، المكنون: المَحفوظُ المَصُون، مَعْدِن الشىء: مَكانُهُ وموضِعُ وجودِه المَنطِق: الكَلام، المُبتَسَمُ: مَوضِعُ الابتِسامِ وَهُو الثَّغْرُ، والابتسامُ أَوَّلُ الضَّحِك، فالمراد بالمُبتَسَم ما يَظهر من الأسنانِ عندَ الابْتسام.
المعنى: هنا يتكلَّم البوصيري رحمه الله عن عُلو كلام رسول الله ﷺ شَأْنا وفَصاحة، وعن لَمَعان أَسنانِهِ الشريفةِ وشِدَّة بياضها، فشَبَّه اللؤلؤ المكنونَ بهما معًا، بَل وجعلَهُما موضِعينِ يُستَخْرَج مِنهُما اللؤلؤ، فقال، كأن اللؤلؤَ المكنونَ في صَدفه وهوَ في نهاية اللمعانِ والصَّفاء مأخوذٌ من كلامِ النبي > علم الدين حياة الاسلام: ﷺ لنفاسَةِ هذا الكلامِ وعلوّ قدره، وَمِنْ ثَغرِه الشّريف الوَضّاء.
وقد قالَ: “المكنون في صدف” لأن اللؤلؤ حين يستخرَج مِن صَدَفِه يَذهَب منهُ بعضُ لمعانِه ويفقِد بعضَ قيمته، وحين يكونُ مكنونًا مَصُونًا في الصَّدَفِ يكونُ في غاية البهاءِ واللمعانِ نفيسا غالِيَ القِيمَةِ.
(36) لا طيبَ يَعــدِلُ تُرْبَـا ضَمَّ أعظُمَهُ
طوبى لمـُنتَشِـقٍ منـه ومـلتَثِـمِ
المفردات: التُّربُ: التُّراب، الأَعْظُم: بضم الظاء جمعٌ عَظْم، طوبى: بُشرى، ويقال طوبى لفلانٍ أي نالَ خيرًا كثيرًا، منتشق: من الانتشاقِ وهو الشَّم، مُلْتَثِم: من الالتثام وهو التقبيل.
المعنى: صدر هذا البيت يذكرنا بقول السيدة فاطمة رضي الله عنها:
ماذا على من شمَّ تُربَةَ أَحْمَدٍ
أَلّا يَشَمّ مَدى الزّمانِ غَوالِيا
ومعنى البَيتِ أنَّهُ لا شىءَ من أنواعِ الطّيب يماثِل طيبَ التّرابِ الذي ضَمّ جسده الشريفَ، فقد ثَبتَ في الحديثِ أنَّ رسولَ الله ﷺ كانَ إذا مرّ في طريقٍ بالمدينَةِ عُرِف أنَّه مَرَّ بها مِن طيبِ الرائِحة،
فهنيئًا لِمن حَظِي بأنْ شَمَّ التُّرابَ الشريف، ولِمَنْ قَبّلَ هذا التُّرابَ وَمَرَّغَ بِهِ وَجهَهُ، فذاك الترابُ مبارَك ببركةِ رسولِ الله ﷺ.
وهنا نصل لختامِ هذِهِ الحَلْقة، على أملِ اللقاء في الحلقَة القادمة لنُشنِّفَ أسماعَنا بأبياتٍ عَذْبةِ المورِد، تتسلسل مُخبِرَةً عن بَركاتِ المولِد، فارتقبونا، والسلام عليكم.
