الكواكب الدرّية في مدحِ خيرِ البرية للبُوصيري – النفحات الزكية في شرح البُردةِ النبوية (الحلقة السابعة)

> علم الدين حياة الاسلام:

الكواكب الدرّية في مدحِ خيرِ البرية للبُوصيري – النفحات الزكية في شرح البُردةِ النبوية (الحلقة السابعة)

باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فقد ذكرنا في الحلقة الماضية من برنامجنا “النفحاتِ الزَّكِيّة في شَرحِ البُردَةِ النَّبَوِيّة” بعض ما سردَ البوصيري رحمه الله من أبيات رائعةً في جَليلِ فضائِلِهِ، وجميلِ شمائِلِهِ، شرَع الآنَ في الحديثِ على الإِرهاصاتِ والبَشائِر، والعلاماتِ البواهِر، التي ظَهرَتْ إبَّان مولدِه العاطِر، وسطَع بها نورُه الباهِر، وتَغَنّى بِها الشّعراءُ والشّواعِرْ، فَلْنَبدَأْ على بَركة الله: 

(37) أبــانَ مولِدُهُ عن طِيــبِ عُنصُرِهِ
يا طِيبَ مُبتَـدَأٍ منه ومُختَتَـمِ

المفردات: أبانَ: أَظْهَرَ وكَشَف، مولِدُهُ: زَمانُ ولادتِهِ، العُنصُر: الأَصل.

المعنى: يَبدَأُ البوصيرِيّ هُنا بِسَرْدِ أَخبار ولادَتِهِ المُباركةِ وما ظَهَر فيها مِنْ بَشائِرَ وعجائِبَ، فيقولُ: قَدْ أظهَرَ مولِدُه الشّريفُ المبارَكُ علوَّ قَدْرِهِ وطهارَةِ أصْلِهِ ونَسَبِهِ، فما أكْرَمَ أَصْلَهُ في أَوّلِهِ وما أطْيَبَهُ في آخِرِهِ، وقَدْ قالَ عليهِ الصّلاة والسلام: «إنًّ اللهَ اصطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إسْماعِيلَ، واصطَفى قُريشًا مِنْ كِنانَةَ، واصْطفى مِنْ قُريشٍ بَنِي هاشِمٍ، واصطفاني مِنْ بَنِي هاشِم».

(38).. يَــومٌ تَفَرَّسَ فيــه الفُرسُ أنَّهُـمُ
قَــد أُنـذِرُوا بِحُلُولِ البُؤسِ والنِّقَمِ
المفردات: تَفَرَّسَ: تَوسَّمَ الأَمْرَ وتَعَرّفه بالظَّن، والفُرسُ هم أَهْلُ مَمْلَكَةِ فارسَ المعروفَةِ، أُنْذِر: أوعِدَ بالشّىءِ المَخوفِ، البؤس: الشِّدّةُ والمَشَقّةُ، النِّقَم: جمع نِقْمة وَهِيَ العُقوبةُ.

المعنى: في يومِ مولده الكريم حَدَثَتْ عجائِبُ من الأُمور في بلادِ الفُرس، بِسَبَبِها تَوَقّع الفُرسُ أنَّ الشِّدَّة والعُقوبَةَ آتيتان إليهم، وأَنَّ دولَةَ المَجوسِ قد دَنا زَوالُها.

(39) وبـاتَ إيوَانُ كِسـرَى وَهْوَ مُنْصَدِعٌ
كَشَـمْلِ أَصْحابِ كِسـرَى غيرَ مُلتَئِمِ

المفردات: الإيوان: بناءٌ ليسَ لِبعضِ جوانِبِهِ جِدار، كِسْرى: لَقَبٌ لِكُلِّ مَلِكٍ مِنْ مُلوكِ الفُرْسِ، مُنصَدِع: مُنشَقّ، شَمْلُ القوم: مَجْمَعُ عَدَدِهم، مُلتَئِم: مُجتَمِع.

المعنى: مِن تِلْكَ العجائِبِ التي أُنذِرَ بِها الفُرسُ بِدُنُوّ نِهايَتِهم وقُرْبِ زوالِهمُ ارتجاجُ إيوانِ كسرى وانشقاقُهُ وظهورُ صَدْعٍ كَبيرٍ فيهِ بعدَ اضطِرابِهِ بِحَرَكةٍ شديدةٍ سُمِعَ صوتُها، حتى وَقَعَ منهُ أربَعَ عَشْرَةَ شُرفةً، فصارَ الإيوانُ في حالِ الانْشِقاقِ كَحَالِ أصحابِ المَلِكِ كِسْرى، فَقَدْ تَفَرَّقَ شَملُهم وتضعضعتْ قُواهم.

(40) والنّارُ خـامِدَةُ الأنفـاسِ مِن أَسَـفٍ
عليه والنَّهرُ سـاهي العَيْنِ مِن سَـدَمِ

المفردات: خامِدة: ساكنٌ لَهَبُها، الأَسَف: شِدَّةُ الحُزن، النَّهر: هو الفُرات، ساهي العين: ساكِنٌ عَنِ الجَرَيانِ، السَّدَم: الحُزنُ.

المعنى: وَقَدْ خَمَدَتْ نارُ الفُرس التي كانتِ الفرس تَعْبُدها من دونِ الله، وكانَتْ مُشتَعِلَةً لا تنطفئ طَوالَ ألفِ عامٍ، وكانَ انخِمادُها حُزْنا على الإيوانِ الذي كانَ يَظُنُّ مَنْ بَناهُ أنه يَعسُرُ انْصِداعُهُ ولا تُؤثِّرُ فيهِ الاضْطِراباتُ، وتوقَّفَ نَهْرُهُم عن الجَرَيانِ حُزْنًا على ما أصابهم.

وفي هذا البيتِ وما بَعدَهُ نوعٌ مِنْ عِلْمِ البَديعِ يُقالُ لَهُ حُسْنُ التَّعليلِ، وَهُوَ أن يَدَّعِيَ الشَّاعِرُ عِلَّةً غَيْرَ العِلَّةِ الأَصْلِيَّةِ لِتَزيينِ المَعْنى، وذلِكَ أنَّه جَعَلَ خُمودَ النارِ وسكونَ النَّهَرِ بسبب الحزنِ على تصدعِ إيوان كسرى، والحقُّ أن كل ذلكَ حَصَلَ إظهارًا لِعَظَمَةِ المولودِ الكَرِيم، وَلَكِنْ لِأَجْلِ ما بَيْنَهَا مِنْ مُناسَبَةٍ جَعَلَ بَعْضَها يَحْزَنُ على بَعْضٍ.

(41) وسـاءَ سـاوَةَ أنْ غاضَتْ بُحَيرَتُهَـا
وَرُدَّ وارِدُهَا بالغَيْظِ حينَ ظَمِي

المفردات: ساوةُ: مَدينَةٌ في بِلادِ الفُرسِ كانَ فيها بُحيرةٌ عَظِيمَةٌ، غاضَتْ: ذَهَبَ ماؤها وغارَ في الأَرْض، وارِدُها: قاصِدُها للاسْتِقاء، أي مَنْ أتاها لِأَجْلِ شُرْبِ الماءِ، ظَمِي: أصلُه ظَمِئَ بالهَمْزِ، وسُهِّلَتْ فصارَتْ ياءً للضَّرورة، ومعناها عَطِش.

المعنى: وقد أغضبَ مدينَةَ ساوَةَ أنَّ بُحيرَتَها غاضَ ماؤها ونَضَب بعدَما كانَتْ تَجري فيها السُّفُن لِعِظَمِها، وبعدَما كانَ يأتيها الواحِدُ منهم عطشانَ ظمآن ويرجعُ منها وقد ارتوى بِالماءِ، صارَ يَرِدُها الآنَ ظمآن ويرجِعُ وَقَدْ مُلِئَ غَيْظًا فوقَ عَطَشِهِ لأنّه لم يَجِدْ ماءً يُطفِئ به نارَ العَطَش.

(42) كــأَنَّ بالنـارِ ما بالمـاءِ مِن بَلَـلٍ
حُزْنًا وبـالماءِ ما بـالنار مِن ضَـرَمِ

المفردات: الضَّرَم: هو الالتهاب. > علم الدين حياة الاسلام: المعنى: كأنَّ نارَ الفُرسِ بَكَتْ حُزْنًا على ما أصابَ الفُرس فأصابَها مِنَ البَلَلِ ما أطفأها، وكأنَّ ماءَ النَّهر والبحيرَةِ اشتعلَ مِنَ الغَيظِ حتَّى جَفَّ، فكأنَّ النَّارَ أَخَذَتْ صِفَةَ الماءِ التي هي البَلَلُ، والماءُ أخذَ صِفَةَ النَّارِ التي هِيَ الاضْطِرامُ. وهذا نوعٌ مِنَ البديعِ اسمه العَكْس، وهو أن يُذكَرَ كَلَامٌ ثُمَّ يَعْكِسَ، فَيُقدَّمُ ما كانَ مُؤخَّرا ويُؤخَّر ما كانَ مقدَّما، وهنا قالَ أوَّلًا «بالنارِ ما بالماءِ» ثم قال «بالماءِ ما بِالنَّار».

(43) والجِنُّ تَهتِفُ والأنــوارُ ســاطِعَةٌ
والحـقُّ يظهَـرُ مِن معنىً ومِن كَـلِمِ

المفردات: الجن: خِلافُ الإِنس، سُمُّوا جِنًّا لاجْتِنانِهِمْ -أي اسْتِتارِهِمْ – عَنِ العُيونِ، تهتِفُ: تَصِيح، الأنْوارُ: جَمعُ نُورٍ والمُرادُ الأَنوارُ التي ظهرتْ يومَ وِلادَتِهِ ﷺ حتى أضاءَتْ لها قُصورُ الشَّامِ، ساطِعَةٌ: مُرتَفِعَةٌ، الحَقّ: أي صِدْقُ النّبوّة، الكَلِم: الكَلامُ أي الألفاظُ المخصوصة.

المعنى: صارَتِ الجِنُّ تَرْجُفُ وتَصِيحُ رُعْبًا وفَزَعًا وتُخبِرُ عَنْ ذلِكَ، وكانَ الحَقُّ الذي أخبَرَتْ عَنْهُ الأنبياءُ وهوَ ظهورُ نبيِّ آخرِ الزمانِ يظهَرُ مِنَ المَعاني التي أَتَتْ بِهِ الكُتُبُ المُنزَلةُ وَمِنْ كلامِ الأَحْبارِ والرُّهبانِ الذينَ سَمِعوا أخبارَ نَبِيِّ آخِرِ الزَّمانِ وأخبَروا بِها.

(44) حتّى غَدا عن طريقِ الوَحيِ مُنهزِمٌ
مِن الشياطينِ يَقْفُو إثْرَ مُنهَـزِمِ

المفردات: طَريق الوَحْي: أبوابُ السَّماءِ، المُنهَزِم: الهارِب، الشَّياطينُ: جَمْعُ شيطانٍ بِمَعْنى المُبعَدِ مِنَ الخَيْرِ والرَّحْمَةِ، يقفو: يَتْبَعُ. 

المعنى: لَمَّا ظهرَ الحقُّ وهوَ ولادَتُهُ ﷺ وبَعْثَتُهُ، وصارَتِ الشُّهُبُ يُرجَمُ بِهَا كُلُّ شَيطانٍ يستَرِقُ السَّمْعَ، فَرَّ الشَّياطِينُ مُتتابِعِينَ هارِبينَ عَنْ أبوابِ السَّماءِ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا في الهَرَب.

ونصل هنا إلى نهاية حلقتنا من برنامج “النفحات الزكية في شرح البردة النبوية”، وتأتي في الحلقةِ المقبِلَةِ أبيات، هي كالكواكِبِ النَّيِّرات، في ذِكْر شىءٍ ممَّا أكرم الله نبيَّه به من معجزاتٍ باهِرات، فارتقبونا، والسلام عليكم.