قَالَ الْإِمَامُ المُحَدِّثُ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ الهَرَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ الإِمامُ البَغْدَادِيُّ (الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الأسفراييني، تُوفِّيَ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِئَةٍ)
في كِتَابِهِ “تَفْسِيرُ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَات” : أَصْحَابُنَا أَجْمَعُوا على تَكْفِيرِ المُعْتزلَةِ أَيِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: “العَبدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الاخْتِيَارِيَّة” وَكَذَلِكَ الذِينَ يَقُولُونَ: “فَرْضٌ على اللهِ أَن يَفْعَلَ ما هو الأَصْلَحُ لِلْعِبَادِ”. اهـ.
وقولُهُ أَصْحَابُنَا يعني به الأَشعريَّةَ والشَّافعيَّةَ لأَنَّه أَشْعريٌّ شَافِعِيٌّ، بَلْ هو رَأْسٌ كبيرٌ في الشافعيةِ كما قال ابْنُ حَجَرٍ، وهو إِمَامٌ مَقَدَّمٌ في النَّقْلِ مَعْروفٌ بذلك بين الفُقَهاءِ وَالأُصُولِيِّينَ وَالمؤَرِّخِينَ الذين أَلَّفُوا في الفِرَقِ.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَكَانَ حَقًا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [سورة الروم] أَيْ أَنَّنا نَتَفَضَّلُ وَنَتَكَرَّمُ عليهِم، وليس المعنى أَنَّهُ فَرضٌ على اللهِ لأَنَّهُ لا يَجبُ شَىءٌ على اللهِ؛ فَاللهُ تعالى ليس لإِحَدٍ حَقٌ لازِمٌ عليه، أَيْ أَمْرٌ يَلْزَمُهُ وهو مَجْبُورٌ عليه وَإِنْ تَرَكَهُ يَكُونُ ظَالِمًا، اللهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذلكَ، إِنَّما اللهُ تعالى مُتَفَضِّلٌ على عِبَادِهِ المؤْمِنِينَ بأَن يُكْرِمَهُمْ إِنْ هُمْ أَدَّوا مَا عليهم.
اللهُ لا يجبُ عليه شَىءٌ، لأَنَّ العبادَ وَإِنْ أَطَاعوهُ فلا يجبُ لهمْ على اللهِ شَىءٌ. الثَّوابُ الذي يُعْطِيهِمْ على الحسَنَاتِ فَضْلٌ منه ليس هو مُلْزَمًا أَن يُثِيْبَهُمْ لأَنَّ العِبَادَ خَلْقُهُ هو أَوْجَدَهُمْ مِنَ العَدَمِ إِلى الوجُودِ، ثُمَّ أَعْمَالُهُمْ الحسَنَةُ فَهِيَ بِإِقْدَارِ اللهِ لَهُمْ، اللهُ قَدَّرَهُمْ أَن يَعْمَلُواْ هَذِهِ الحسَنات، فَهِيَ أَيْ هذه الحسَنَاتُ فَضْلٌ منه عَلَيْهِم؛ فَلَولا أَنَّ اللهَ أَلْهَمَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهَا وَقَدَّرَهُمْ على فِعْلِهَا ما حَصَلَتْ مِنْهُمْ، فَإِذًا الثَّوَابُ الذِي يُعْطِيْهِمْ فَضْلٌ مِنْهُ.
وفي هذا المعنى حَدِيْثُ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: “إِنَّ اللهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ”.
الأَنْبِيَاءُ وَالْملائِكَةُ مَنْ خَلَقَهُمْ وَمَنْ مَكَّنَهُمْ مِنْ هذه الطَّاعَاتِ؟ اللهُ تعالى هو خَلَقَهُمْ وَمَكَّنَهُمْ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ التي نَالُواْ بِهَا الدَّرَجاتِ العَالِيَةَ؛ فَإِذًا ليس لَهُمْ مِنَّةٌ على اللهِ بَلِ الْمِنَّةُ للهِ عَلَيْهِمْ، هَذا مَذْهَبُ أَهْلِ الحقِ، اللهُ تعالى لا يَجِبُ عَلَيهِ شىءٌ، إِنْ أَدْخَلَ المؤْمِنِيْنَ المحسِنِيْنَ الأَتْقِيَاءَ الجنَّةَ وَأَحَلَّهُمْ في المنَازِلِ العَالِيَةِ فَبِفَضْلِهِ تعالى، وَلَوْ لَمْ يُعْطِهِمْ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا؛ فَمَنْ قال خِلافَ هذا وَقَالَ فَرْضٌ على اللهِ إِثَابَةُ الطَّائِعِينَ فَلَوْ لَمْ يُعْطِهِمُ الثَّوُابَ لَكَانَ ظالِمًا فهو كَافِرٌ. انتهى كلام الشيخ عبد الله رحمه الله.
وقد حذَّر علماء أهل السُّنة من ضلالات المعتزلة القدرية وبيَّنوا للناس كذب ما افتروه، فأقاموا عليهم الحجج وكسروهم وتعقبوا مقالاتهم وفنَّدوا سقطاتهم.
قال الإمامُ السُّكونِيُّ في كتابه “التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزال في تفسير الكتاب العزيز” قَوْلُهُ تعالى: {وَكَانَ حَقًا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)}.
قال الزمخشريُّ في كشَّافه ما نصَّه: “يعني حقَّ ذلك علينا حقًّا”. (يعني بذلك أن الله سبحانه وتعالى يجب عليه فعل الأصلح للعبد وأنه كان حقًّا عليه يلزمه نصر المؤمنين).
قال السُّكونِيُّ: ولم يتأوَّل (الزمخشريُّ المعتزليُّ) هذا شىء بل حقَّقه، وهو اعتزال، ولا بُدَّ من تأويل هذه الآية لما عُرف من البراهين القطعية من أنه لا واجب على الله سبحانه وتعالى، ومعنى ذلك أنه (سبحانه وتعالى) أظهر فضله على خَلقه نعمةً عليهم حتى في الإخبار عن فضله أن أورده لهم على سبيل التأكيد في الوقوع حتى أنزله منزلة الوجوب. اهـ.
وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
لا فلاح الا بتعلم أمور الدين
قناةُ عِلْمُ الدِّيِن حَيَاةُ الإِسْلام دُرُوس مُحَررَة
