‌إِنِّي ‌وَجَّهۡتُ ‌وَجۡهِيَ ‌لِلَّذِي ‌فَطَرَ ‌ٱلسَّمَٰوَٰتِ ‌وَٱلۡأَرۡضَ حَنِيفٗاۖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ

مِن جُملَةِ مَا وَرَدَ عَن سَيِّدِنَا إِبرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلَامُ مِنَ الدُّعَاءِ: ‌إِنِّي ‌وَجَّهۡتُ ‌وَجۡهِيَ ‌لِلَّذِي ‌فَطَرَ ‌ٱلسَّمَٰوَٰتِ ‌وَٱلۡأَرۡضَ حَنِيفٗاۖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ [سورة الأنعام/ الآية 79]،
وَكَانَ مِنهُ هَذَا الدُّعَاءُ بَعدَ أَن أَقَامَ الحُجَّةَ عَلَى قَومِهِ أَنَّهُ لَا مَعبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ الكَوَاكِبَ لَا تَستَحِقُّ العِبَادَةَ.
لَقَد كَانَ سَيِّدُنَا إِبرَاهِيمُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَغَيرِهِ مِنَ الأَنبِيَاءِ مُنذُ صِغَرِهِ وَنَشأَتِهِ مُسلِمًا مُؤمِنًا عَارِفًا بِرَبِّهِ مُعتَقِدًا عَقِيدَةَ التَّوحِيدِ مُنَزِّهًا للهِ عَن مُشَابَهَةِ المَخلُوقَاتِ، وَمُدرِكًا أَنَّ هَذِهِ الأَصنَامَ الَّتِي يَعبُدُهَا قَومُهُ لَا تُغنِي عَنهُم مِنَ اللهِ شَيئًا، وَأَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنفَعُ لِأَنَّ الضَّارَّ وَالنَّافِعَ عَلَى الحَقِيقَةِ هُوَ اللهُ تَعَالَى وَحدَهُ، قَالَ تَعَالَى: مَا ‌كَانَ ‌إِبۡرَٰهِيمُ ‌يَهُودِيّٗا ‌وَلَا ‌نَصۡرَانِيّٗا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ [سورة آل عمران/ الآية 67]

وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَٱذۡكُرۡ ‌فِي ‌ٱلۡكِتَٰبِ ‌إِبۡرَٰهِيمَۚ ‌إِنَّهُۥ ‌كَانَ ‌صِدِّيقٗا ‌نَّبِيًّا} [سورة مريم/ الآية 41]

وَقَالَ: وَلَقَدۡ ‌ءَاتَيۡنَآ ‌إِبۡرَٰهِيمَ ‌رُشۡدَهُۥ ‌مِن ‌قَبۡلُ ‌وَكُنَّا ‌بِهِۦ ‌عَٰلِمِينَ [سورة الأنبياء/ الآية 51]، فَقَولُ إِبرَاهِيمُ عَنِ الكَوكَبِ حِينَ رَءَاهُ: ‌هَٰذَا ‌رَبِّيۖ [سورة الأنعام/ الآية 76] هُوَ عَلَى تَقدِيرِ الِاستِفهَامِ الإِنكَارِيِّ كَأَنَّهُ قَالَ: “أَهَذَا رَبِّي كَمَا تَزعُمُونَ”، ثُمَّ لَمَّا غَابَ قالَ: ‌لَآ أُحِبُّ ٱلۡأٓفِلِينَ أَي لَا يَصلُحُ أَن يَكُونَ هَذَا رَبًّا فَكَيفَ تَعتَقِدُونَ ذَلِكَ؟ وَلَمَّا لَم يَفهَمُوا مَقصُودَهُ بَل بَقُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيهِ قَالَ حِينَمَا رَأَى القَمَرَ مِثلَ ذَلِكَ فَلَمَّا لَم يَجِد مِنهُم بُغيَتَهُ أَظهَرَ لَهُم أَنَّهُ بَرِيءٌ مِن عِبَادَةِ القَمَرِ وَأَنَّهُ لَا يَصلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ لَمَّا ظَهَرَتِ الشَّمسُ قَالَ مِثلَ ذَلِكَ فَلَم يَرَ مِنهُم بُغيَتَهُ فَأَيِسَ مِنهُم فَأَظهَرَ بَرَاءَتَهُ مِن ذَلِكَ، وَأَمَّا هُوَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ فَكَانَ يَعلَمُ قَبلَ ذَلِكَ أَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا للهِ بِدَلِيلِ قَولِهِ تَعَالَى: وَلَقَدۡ ‌ءَاتَيۡنَآ ‌إِبۡرَٰهِيمَ ‌رُشۡدَهُۥ ‌مِن ‌قَبۡلُ ‌وَكُنَّا ‌بِهِۦ ‌عَٰلِمِينَ [سورة الأنبياء/ الآية 51]

قَالَ الفَخرُ الرَّازِيُّ: “وَالوَجهُ الثَّانِي فِي التَّأوِيلِ: أَن نَقُولَ قَولُهُ: ((هَذَا رَبِّي)) مَعنَاهُ هَذَا رَبِّي فِي زَعمِكُم وَاعتِقَادِكُم؟”.اهـ
ثُمَّ قَالَ: “المُرَادُ مِنهُ الِاستِفهَامُ عَلَى سَبِيلِ الإِنكَارِ إِلَّا أَنَّهُ أَسقَطَ حَرفَ الِاستِفهَامِ استِغنَاءً عَنهُ لِدِلَالَةِ الكَلَامِ عَلَيهِ”.اهـ
وَيَكفِي فِي بَرَاءَةِ إِبرَاهِيمَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الكُفرِ وَالشِّركِ مَا قَالَهُ اللهُ تَعَالَى عَنهُ: ‌مَا ‌كَانَ ‌إِبۡرَٰهِيمُ ‌يَهُودِيّٗا ‌وَلَا ‌نَصۡرَانِيّٗا ‌وَلَٰكِن ‌كَانَ ‌حَنِيفٗا ‌مُّسۡلِمٗا ‌وَمَا ‌كَانَ ‌مِنَ ‌ٱلۡمُشۡرِكِينَ [سورة آل عمران/ الآية 67]

وَمَعنَى ((حَنِيفًا)) أَي مَائِلًا عَنِ البَاطِلِ وَعَن كُلِّ الأَديَانِ إِلَى دِينِ الحَقِّ الإِسلَامِ

وَمَعنَى ((مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) أَي أَنَّهُ كَانَ مِن طُفُولَتِهِ إِلَى المَمَاتِ عَلَى دِينِ الإِسلَامِ، لَم يَعبُد شَمسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا نَجمًا وَلَا حَجَرًا وَلَا نَارًا وَلَا وَثَنًا وَلَا شَكَّ فِي قُدرَةِ اللهِ كَمَا يَفتَرِي عَلَيهِ الكُفَّارُ بِذَلِكَ، وَإِلَّا لَم يَقُلِ اللهُ عَنِ الخَلِيلِ إِبرَاهِيمَ عَلَيِهِ السَّلَامُ: ((مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) فَقَد ظَهَرَ الحَقُّ وَاتَّضَحَ وَبَانَت بَرَاءَةُ إِبرَاهِيمَ وَكُلِّ الأَنبِيَاءِ مِنَ الشِّركِ وَالكُفرِ وَاتِّبَاعِ غَيرِ الإِسلَامِ، قَبلَ النُّبُوَّةِ وَبَعدَهَا حَنِيفًا أي مائلا عن الكفر والضلال إلى الحق وهو الإسلام وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ليس على طريقة اليهود ولا النصارى، فإنهم عبدوا غير الله، وهذا يبين أن دين الأنبياء كلهم هو الإسلام

بصوت فضيلة الشيخ الدكتور وليد السمامع حفظه الله تعالى