- الإمام أَبُو سَعِيدٍ سُحْنُونُ بنُ سَعِيدِ بنِ حَبِيبٍ التَّنُوخِيُّ القيرواني المتوفى سنة 240 هجري هو شيخ المالكية وفقيه المغرب وإفريقيا. حكمه على أهل الأهواء
- النووي رحمه الله لما علم من مراد العز بن عبد السلام تركه تكفير من أطلق لفظ الجهة في حق الله
- كر بعض خيانات ابن تيميَّة وتلاميذه في نقل عقيدة قُدَماء الأشعريَّة
الإمام أَبُو سَعِيدٍ سُحْنُونُ بنُ سَعِيدِ بنِ حَبِيبٍ التَّنُوخِيُّ القيرواني المتوفى سنة 240 هجري هو شيخ المالكية وفقيه المغرب وإفريقيا. حكمه على أهل الأهواء
كان الإمام سحنون رحمه الله يميل إلى التفصيل في الحكم على أهل الأهواء بحسب مقالاتهم.
فكان رضي الله عنه يحكم بالكفر على من وصلت بهم مقالاتهم إلى حد الكفر كالمعتزلة الذين ينفون صفات الله و المجسمة الذين ينسبون الجسمية لله عز وجل.
قال القاضي عياض في كتابه الشفا ما نصه: “وابن حبيب وغيره من أصحابنا يرى تكفيرهم وتكفير أمثالهم من الخوارج والقدرية والمرجئة، وقد روى أيضا عن سحنون مثله فيمن قال ليس لله كلام أنه كافر”. انتهى
فالامام سحنون ما كان يتردد في اكفار القدرية و المعتزلة الذين ينفون صفات الله الواجبة له كالكلام و العلم و الحياة و القدرة و غيرها.
ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه القاضي عياض في ترتيب المدارك حيث قال: “لم يختلف أن سحنون توفي في رجب، سنة أربعين ومائتين. قال أبو علي:يوم الأحد قبيل نصف النهار، لثلاث خلون منه. وقال غيره: لسبع خلون منه، ودفن في يومه وصلى عليه الأمير محمد بن الأغلب، ووجه إليه بكفن وحنوط،فاحتال ابنه محمد حتى كُفّن في غيره. وتصدق بذلك، واستعفى رجال ابن الأغلب من الصلاة عليه. وقالوا: قد علمت ما بيننا وبينه، وأنه يكفرنا ونكفره، لأن أكثرهم كانوا معتزلة، وإنما خرجنا طاعة لك، فإن صلينا عليه رأى الناس أنا رضينا حاله، فأعفاهم”. انتهى
فهؤلاء المعتزلة خصوم الإمام سحنون و أعداؤه قد أقروا أنه كان يكفرهم و لم يكن يراهم مسلمين. فكيف يقول بعض أدعياء المشيخة أن الإمام سحنون لا يكفر المعتزلة مطلقا و العياذ بالله من الضلال؟
هذا وقد جاء في كتاب الصراع المذهبي بافريقية صحيفة 52 ما نصه: جاء في “المدارك” عن حمديس القطان أنه “كان لا يصلي خلف أهل البدع و من يخالفه. وفعل ذلك هو و ابن سحنون و يحيى بن عمر حين ولي الصلاة ابن أبي الحواجب، وفعل ذلك سحنون بغيره، وترك الصلاة خلف القاضي سليمان بن عمران في الجنازة”. وواضح أن هذا منهم تكفير لمثل هؤلاء. وهم لشدة تمسكهم بالدين يعتبرون المخالفين للسنة – أي عقيدة الرسول و شريعته- مخالفين للإسلام مرتدين عنه.” انتهـى
و قال القاضي عياض في موضع آخر من كتاب الشفا ما نصه: “فأما من نفى صفة من صفات الله تعالى الذاتية أو جحدها مستبصرا في ذلك كقوله: ليس بعالم ولا قادر ولا مريد ولا متكلم وشبه ذلك من صفات الكمال الواجبة له تعالى فقد نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها وأعراه عنها وعلى هذا حمل قول سحنون من قال ليس لله كلام فهو كافر وهو لا يكفر المتأولين كما قدمناه” انتهـى
قال الملا علي القاري في شرحه على الشفاء ممزوجا بالمتن: ( فقد نص أئمتنا) المالكية (على الإجماع على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها وأعراه عنها) أي أخلاه منها بلا وصفه بها و هذا قول الباقلاني و لا أعرف خلافا في ذلك. انتهى
وقال شهاب الدين الخفاجي في شرحه على الشفاء أيضا: ( وعلى هذا) القول المذكور (حُمل قول سحنون من قال ليس لله كلام فهو كافر) لانكاره صفة ثابتة بالنص. انتهى
وقد استشكل شهاب الدين الخفاجي قول عياض”وهو لا يُكفر المتأولين” فقال: فخالف كلامه -أي عياض- هنا قاعدته (كما قدمناه) في عدم تكفير لمن يأول. انتهى
وحل هذا الاشكال أن يقال أن الإمام سحنون رحمه الله ما كان يُكفر المتأولين الذين لم يخالفوا قطعيات الدين, أما الذين كانوا يجحدون ضروريات الدين و قطعياته فهؤلاء ما كان يتوقف في اكفارهم كالذين نفوا صفات الله الواجبة له و غير ذلك.
قال المُلا القاري في شرحه على الشفاء: (حُمل قول سحنون من قال ليس لله كلام ) أي نفسي ( فهو كافر) لأنه نسبه إلى وصم البكم.انتهى
والذي نقله القاضي عياض في الشفا هو عينه ما نقله البرزلي عن سحنون فقد قال في المجلد السادس من نوازله صحيفة 277-278 ما نصه: “فأما من نفى صفة من صفاته الذاتية جحدها مستبصرا في ذلك كقوله: ليس بعالم و لا قادر و لا مريد و لا متكلم و شبه ذلك من صفة الكمال لله تعالى الواجبة له. فقد نص أيمتنا على الاجماع على كفر من نفى عنه الوصف بها و أعراه عنها. و عليه حمل قول سحنون. من قال ليس لله كلام إنه كافر وهو لا يكفر المتأولين كما تقدم له. وأما من جهل صفة من هذه الصفات فعن أبي جعفر الطبري و غيره أنه كفر. انتهى
أما أهل البدع الذين لم تصل بهم بدعتهم إلى حد الكفر والمتأولين في غير القطعيات فكان الإمام سحنون يحكم باسلامهم وكان يرى أنه لا إعادة على من صلى خلفهم, بمعنى أنه كان يعتبر صلاتهم صحيحة.
قال القاضي عياض: “قال سحنون لا إعادة على من صلى خلفهم, قال وهو قول جميع أصحاب مالك المغيرة وابن كنانة وأشهب قال لأنه مسلم وذنبه لم يخرجه من الإسلام”. انتهى
وليس معنى قول القاضي عياض هنا أن الامام سحنون وغيره من أصحاب مالك كانوا لا يرون اكفارهم مطلقا بدليل قوله: “وقد روى أيضا عن سحنون مثله فيمن قال ليس لله كلام أنه كافر”.
وقال الإمام شهاب الدين القرافي المالكي في الذخيرة 2/240 طـ دار الغرب الإسلامي ما نصه: وتوقف في الكتاب في إعادة الصلاة خلف المبتدع ، قال ابن القاسم : وأراها في الوقت ، وقال سحنون : لا إعادة مطلقا. وهذا يقتضي عدم تكفيرهم عند الثلاثة. انتهى
وكلامه هنا صريح في الكلام عن أهل الأهواء أصحاب البدع الغير كفرية بدليل أنه قال بعد ذلك: “والخلاف – أي الخلاف المذكور في إعادة الصلاة خلفه هو – في البدع والأهواء المحتملة قوله الكفر أما الكفر الصريح فلا يصح الإختلاف في الإعادة”. انتهى
و(الكتاب) المقصود في كلام الإمام القرافي هو المدونة وهو من مصطلحات المذهب المالكي.
2- حكم الإمام سحنون على القدرية
قال الإمام مالك حين سُئل عن القدرية: ” لا يصلى على موتاهم ولا يعاد مرضاهم”. وقد ورد عن الإمام سحنون أنه فسر كلام الإمام مالك فقال :” أدباً لهم”.
وقد زعم بعض أدعياء العلم و المشيخة أن كلام سحنون فيه إشارة أنه لا يكفر القدرية. و هذه الشبهة يرد عليها من طريقين:
أ- الطريق الأول أن يقال:
لقد بين الإمام أبو بكر ابن العربي المالكي حكم القدرية فقال ما نصه: ” فأما القدرية فلا شك في كفرهم ، وأما من عداهم فنستقرىء فيهم الأدلة بما تقتضيه, وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول ، وفيه نظر طويل ، وإذا حكمنا بكفرهم فقد قال مالك : لا يصلى على موتاهم ولا يعاد مرضاهم. قال سحنون : أدباً لهم “. انتهى
ثم شرع رحمه الله في الرد على من أساء فهم كلام الإمام سحنون فقال: ” قال بعض الناس : وهذه إشارة من سحنون إلى أنه لا يكفرهم ، وليس كما زعم ، فإن الكافر من أهل الأهواء يجب قتله ، فإذا لم تستطع قتله وجب عليك هجرته ، فلا تسلم عليه ولا تعده في مرضه ، ولا تصل عليه إذا مات حتى تلجئه إلى اعتقاد الحق ، ويتأدب بذلك غيره من الخلق ، فكأن سحنون قال : إذا لم تقدر على قتله فأدبه ، وقد سئل مالك : هل تزوج القدرية ، فقال قد قال الله تعالى : ” وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ” .انتهى
ب- الطريق الثاني أن يقال:
الإمام سحنون رضي الله عنه كان يميل إلى الحكم على أهل الأهواء بحسب مقالاتهم فلم يكن يحكم بالكفر على بعض القدرية ممن لم تصل بهم بدعهم إلى حد الكفر. ومذهبه في ذلك هو بخلاف مذهب الإمام مالك رضي الله عنه فإنه كان يحكم بكفر كل من خالف معتقد أهل السنة و الجماعة بلا تفصيل كما نقل عنه ذلك القاضي عياض في ترتيب المدارك حيث قال ما نصه: “قال مالك: أهل الأهواء كلهم كفار وأسوأهم الروافض” انتهـى.
وقال أيضا في كتاب الشفا ما نصه: ورُوى عنه (أي الإمام مالك) أيضا أهل الأهواء كلهم كفار. انتهـى.
ونقل الحافظ المجتهد أبو بكر بن المنذر عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه قال: “أرى في أهل الأهواء أن يعرضوا على السيف فإن رجعوا وإلا ضربت أعناقهم”. انتهى
والقدرية و المجسمة من أهل الأهواء فهم كفار عند الإمام مالك. ويؤيد ذلك ما نقله الإمام الباجي في المنتقى حيث قال: “قال ابن القاسم عن مالك في الإباضية والحرورية وأهل الأهواء كلهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا إذا كان الإمام عدلا”. انتهى
وقال أيضا ما نصه: “وقد روى أبو مسهر قال: قلت لمالك بن أنس خطب إلي رجل من القدرية أفأزوجه فقال: لا, قال الله عز وجل : ولعبد مؤمن خير من مشرك, وقال إبراهيم بن المنذر عن محمد بن الضحاك قال: قال مالك لا أرى أن يصلى وراء القدري ومن صلى وراءه رأيت أن يعيد”. انتهى
وقال الإمام البرزلي في فتاويه جزء 1 صحيفة 335 حيث قال:” تقدم قول مالك: لا يناكحوا – أي أهل الأهواء- و لا يعطوا ولا يؤخذ منهم. أما الإعطاء فواضح. و أما الأخذ منهم فقد تقدم فتوى التونسي في الشيعة و أنه قسمهم. وهذا لأن فسقهم راجع إلى الاعتقاد فعلى القول بكفرهم فلا يتزوج منهم لأنهم إما مرتدون و إما مشركون. و الأول ظاهر المدونة لأنه قال ” ويستتاب أهل الأهواء”, وليسوا من أهل الكتاب إذ لم ينتسبوا إلى كتاب من كتب الله المنزلة إلا القرآن و ليسوا منه لقوله عليه الصلاة و السلام ” يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم”. انتهى
فهذا البرزلي ينقل أيضا أن ظاهر المدونة هو إكفار أهل الأهواء بلا تفصيل كالمجسمة و القدرية و غيرهم.
وجاء في كتاب أصول السنة لابن زمنين في الصحيفة 305 ما نصه: و حدثني إسحاق عن محمد بن عمرو بن لبابة عن العتبي عن سحنون عن ابن القاسم قال: قال مالك: ما آية في كتاب الله أشد على أهل الأهواء من هذه الآيات ” يوم تبيض وجوه و تسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. سورة آل عمران. انتهى.
قال الإمام ابن رشد الجد في البيان و التحصيل تحت مسألة التكذيب برسول الله مضاد للإيمان ما نصه:”تأويل مالك لهذه الآية (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) في أهل القبلة يدل على أنه رآهم كفارا بما يؤول إليه قولهم”. انتهى
فمذهب الإمام سحنون إذن هو التفصيل في أهل الأهواء بحسب مقالاتهم وقد خالف في ذلك مذهب الإمام مالك في اطلاق الكفر عليهم بلا تفصيل.
وهذا معنى ما قاله الإمام الباجي في المنتقى حيث قال: ” وكذلك قال سحنون في كتاب ابنه في جميع أهل الأهواء: لا يخرجون من الإيمان ببدعته” انتهى
فلا يريد بذلك صحة إيمان جميع أهل الأهواء بلا استثناء و إنما معنى قوله “جميع أهل الأهواء” أي الذين لم تصل منهم بدعتهم إلى حد الكفر بدليل قوله بعد ذلك: “وأما من قرن بذلك شيئا من الإلحاد فقد كفر. وقد روى أبو مسهر قال قلت لمالك بن أنس خطب إلي رجل من القدرية أفأزوجه فقال لا قال الله : عز وجل : ولعبد مؤمن خير من مشرك ” انتهى
قال الإمام ابن رشد الجد في كتابه البيان و التحصيل ما نصه: “وسئل سحنون عن قول مالك في أهل البدع الأباضية والقدرية وجميع أهل الأهواء إنه لا يصلى عليهم فقال : لا أرى ذلك ، وأرى ان يُصلى عليهم ولا يُتركوا بغير صلاة لذنب ارتكبوه ، ومن قال لا يُصلى عليهم فقد كفرهم ، وقد جاء الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تكفروهم بذنوبهم ) ، وإنما قال مالك ” لا يُصلى على موتاهم ” تأديبا لهم ، ونحن نقول ذلك على وجه التأديب لهم ، فأما إذا بقوا وليس يُوجد من يصلي عليهم فليس يتركون بغير صلاة وليُصلى عليهم .” انتهى
فقول الإمام سحنون ” لا أرى ذلك” معناه لا أميل لرأي الإمام مالك في إطلاق الكفر على جميع أهل الأهواء ، وقوله : “وأرى ان يُصلى عليهم ولا يُتركوا بغير صلاة لذنب ارتكبوه” معناه أن هؤلاء القدرية الذين لم تصل بهم بدعتهم إلى حد الكفر هم واقعون في ذنب كبير لم يخرجهم عن الإسلام.
قال ابن رشد في كتابه البيان و التحصيل بعد ذلك: ” قيل له – أي لسحنون- : فأهل البدع أيستتابون فإن تابوا وإلا قُتلوا كما قال مالك ؟ قال : أما من كان بين أظهرنا وفي جماعة أهل السنة فإنه لا يُقتل وإنما الشأن فيه أن يُضرب مرة بعد أخرى ويحبس وينهى الناس عنه أن يجالسوه وان يسلموا عليه تأديبا له ، ولا يُبلّغُ به القتل ، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب صبيغاً ؟ ضربه بجريد وحبسه حتى إذا كادت أن تبرأ الجراح ضربه وحبسه إذا كادت أن تبرأ ضربه وحبسه ، ثم قال له صبيغ : يا أمير المؤمنين إن كنت تريد دواءً فقد بلغت مني الدواء ، وإن كنت تريد قتلي فأجهز عليّ ، فخلى عمر عنه ، ونهى الناس أن يجالسوه ، فيُفعل فيمن كان بين أظهر الجماعة مثل ما فعل عمر بصبيغ ولا يقتل. انتهى
وصبيغ هو رجل كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.قال عنه يحيى بن معين :”كان يسأل عن متشابه القرآن فضربه عمر وأمر أن لا يجالس”. انتهى
أي أنه كان يسأل عن الآيات المتشابهة لهوى في نفسه و مع ذلك ما كان يعتقد ظواهر النصوص أو يشبه الله بخلقه, لذلك أمر عمر بضربه فقد لأن بدعته ما فارق بها دين الاسلام.
والذي نقله ابن رشد في هذه الفقرة معناه أن أصحاب الامام مالك رحمه الله مالوا أكثرهم إلى التفصيل في حكمهم على أهل الأهواء بحسب مقالاتهم كمحمد بن المواز وعبد الملك بن الماجشون و الإمام سحنون.
وهذا التفصيل الذي نص عليه ابن رشد في كتابه البيان و التحصيل هو عينه الذي ذكره القاضي عياض في كتابه الشفا حيث قال: ” فأكثر قول مالك وأصحابه ترك القول بتكفيرهم – أي أهل الأهواء الذين لم تصل بهم بدعتهم إلى حد الكفر وكانوا يعيشون بين أظهر المسلمين- وترك قتلهم والمبالغة في عقوبتهم وإطالة سجنهم حتى يظهر إقلاعهم وتستبين توبتهم, كما فعل عمر رضى الله عنه بصبيغ”. انتهى
و الصحيح أن الامام مالك رحمه الله كان يحكم بكفر جميع من خالف معتقد أهل السنة من أهل الأهواء من غير تفصيل لكن بعض علماء المالكية ممن مالوا إلى التفصيل في الحكم على أهل الأهواء فسروا أقوال مالك وتأولوها بما يوافق رأيهم ذلك, و استدلوا بترك مالك قتلهم و الاكتفاء بعقوبتهم وغير ذلك مما جاء في الموطإ و غيره.
ثم قال ابن رشد المالكي في كتابه البيان و التحصيل : فأما من كان من أهل البدع قد بان عن الجماعة وصاروا يدعون إلى ما هم عليه ومنعوا فريضة من الفرائض كان على الإمام أن يستتيبهم فإن تابوا وإلا قتلوا ، ألا ترى أن أبابكر الصديق رحمه الله تعالى استتابهم ، قال أبو بكر : لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه ، فجاهدهم أبو بكر رضي الله عنه وأمر بجهادهم وقتلوا على تلك البدعة ، فهذا يبين لك جميع ما سألت عنه من أمر أهل البدع، وقد مضت فيهم سنة عمر بن الخطاب فيمن كان بين أظهر الجماعة ، وعن أبي بكر الصديق فيمن كان بان عن الدار ومنع فريضة ودعا إلى ما هم عليه. انتهى
وليعلم أن هؤلاء الذين أنكروا وجوب الزكاة عليهم في عهد أبي بكر لا يكفرون، لأنهم كانوا متأولين باجتهادهم في فَهم الشرع. فإنه لا يكفر المتأول أي في غير القطعيات. هؤلاء أخطأوا في تفسير قوله تعالى: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلوتك سكن لهم” ـ سورة التوبة ـ فقالوا أن الزكاةَ وجبَت في عهدِ الرسول لأن صلاتَهُ كانت عليهم سَكَنًا لهم وطُهرَةً ـ أي رحمةً وطمأنينة ـ وأن ذلك انقطعَ بموته. هؤلاء فهموا أن المرادَ من قوله خذ أي يا محمدُ الزكاةَ لتكون إذا دفعوها إليكَ سَكَنًا لهم، وأن هذا لا يحصلُ بعد وفاتِهِ فلا يجبُ عليهم دفعُهَا لأنه قد ماتَ وهو المأمورُ بأخذها منهم، ولم يفهموا أن الحكمَ عامٌّ في حالِ حياتهِ وبعد موتهِ فلذلك الصحابة لم يُكفّروهم . وقتال أبي بكر لهم مع المرتدِّين الذينَ اتبعُوا مسيلمةَ الكذاب في دعواهُ النُّبوَّةَ ليس لأجل كفرهم بل لأنه ما كان يُمكنهُ أن يأخذَ منهُم قَهْرًا بدونِ قتالٍ لأنهم كانوا ذَوِي قوة فاضطرَّ إلى القتالِ.
فكثير من أصحاب الامام مالك فسروا قوله في الموطأ عن القدرية “يُستتابون و إلا يقتلوا” بالذين لم تصل بهم بدعتهم إلى حد الكفر وقد تحيزوا فئة كبيرة. وأما غيرهم من المالكية فقد فسروا قول مالك بأنه رآهم كفرة لذلك حكم بقتلهم.
قال شهاب الدين الخفاجي المالكي في شرحه على الشفاء ممزوجا بالمتن: ( وإلا قتلوا) لكفرهم بما مر و هؤلاء طائفة قالوا بنفي القدر و أن الأمر أنف لم يسبق تقديره. انتهى
و قال ابن أبي زمنين في أصول السنة 231 :قَالَ اِبْنُ وَهْبٍ: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُهُ، وَسُئِلَ عَنْ خُصُومَةِ أَهْلِ اَلْقَدَرِ وَكَلَامِهِمْ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ مِنْهُمْ عَارِفًا بِمَا هُوَ عَلَيْهِ فَلَا يُوَاضَعُ اَلْقَوْلَ وَيُخْبَرُ بِخَلَاقِهِمْ، وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُمْ وَلَا أَرَى أَنْ يُنَاكَحُوا
فلو كانوا مسلمين لأمر بالصلاة خلفهم و لم يمنع مناكحتهم.
قال القاضي الإمام ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 بعد الهجرة رحمه الله ما نصه: “فالصريح من أقوال مالك تكفير من أنكر القدر حيث سئل عن نكاحهم فذكر الآية: “ولعبد مؤمن خير من مشرك” ومن حكى في ذلك غير ما أوردناه فذلك لضعف معرفته بالأصول ، فلا يناكحوا ولا يُصلى عليهم، وإن خيف عليهم الضيعة دفنوا كما يدفن الكلبُ فلا يؤذى بجوارهم مسلم ، وإن قدر عليهم الإمام استتابهم فإن تابوا وإلا قتلهم كفراً”. انتهى
فيتلخص من كل ما مضى أن كثيرا من أصحاب مالك كالإمام سحنون و غيره حكمهم على أهل الأهواء كالآتي:
1- ترك اكفار أهل الأهواء المنفردين ممن لم تصل بهم بدعتهم إلى حد الكفر وترك قتلهم والمبالغة في عقوبتهم وإطالة سجنهم. وهو قول الكثير من أصحاب مالك.
2- ترك اكفار أهل الأهواء المتحييزين في مجموعة ممن لم تصل بهم بدعتهم إلى حد الكفر لكن يقاتلون حتى لا ينشروا بدعتهم بين الناس.
3- اكفار أهل الأهواء الذين وصلت بهم بدعتهم إلى حد الكفر سواء كانوا منفردين أو متحيزين و اقامة حد الردة عليهم.
3- كلام الإمام سحنون في ميراث أهل الأهواء
جاء في كتاب المنتقى للإمام الباجي مانصه: “وقال مالك رحمه الله في أهل القدر : من قُتل منهم فميراثه لورثته أسر ذلك أو أعلنه ، ولا يصلى على القدرية ولا الإباضية فإن قتلوا بذلك أحرى.قال سحنون : يعني أدبا لهم ، فإن ضاعوا فليصل عليهم . وفي العتبية قال ابن داود : عن ابن كنانة قال : أهل الأهواء أهل بدع وضلالة ، وليس ذلك بالذي يخرجهم عندنا من الإسلام. وتأويل سحنون صحيح ؛ لأنهم إن لم يكونوا عند مالك مؤمنين لم يرثهم ورثتهم”. انتهى
فبيانه كالآتي:
أهل الأهواء كلهم كفار عند الإمام مالك. ثم هؤلاء أقسام:
– منهم من يقرون ببدعتهم عند الإستتابة
-وبعضهم ينكرها و يتبرأ منها
-ومنهم من يتوب منها و يرجع إلى معتقد أهل السنة.
ولهذا أفتى الإمام مالك رضي الله عنه مرة بأن ميراث الزنديق إذا مات يرثه ورثته المسلمين و أفتى مرة أخرى بأن ميراثه لجماعة المسلمين.
وتفصيل ذلك أن المبتدع إن أنكر بدعته وأظهر الإسلام أو أقر بها ثم تاب منها فإنه يُقتل و يكون ميراثه لورثته من المسلمين. فإن ثبت على بدعته فإنه يقتل ويكون ماله فيء لجماعة المسلمين. و لا يصلى عليه في جميع الأحوال لأن أهل الأهواء كفار عند الإمام مالك رضي الله عنه.
و لقد اختلف المالكية في ميراث أهل الأهواء واختلافهم هذا راجع بالنظر إلى هذه الأقسام :
1- فإذا أقر المبتدع ببدعته و لم يظهر التوبة : فإنه يقتل كفرا عند الإمام مالك و ميراثه فيء لجماعة المسلمين لأن ماله تبع لدمه. وهو مذهب أشهب، والمغيرة، وعبد الملك و ابن نافع وابن عبد الحكم و الإمام سحنون. جاء في الجزء الثاني من المدونة الكبرى صحيفة 596 ما نصه: قال مالك: “وإن مات على ارتداده كان ذلك لجميع المسلمين ولا يكون لورثته”. انتهى
2- أما إذا لم يقر المبتدع ببدعته وأنكرها بعد أن قامت عليه البينة أو أظهر التوبة فإنه يقتل ويكون ميراثه لورثته المسلمين لأنه منافق مظهر للاسلام بإنكاره أو توبته. وهو مذهب ابن القاسم وأصبغ، ومحمد بن مسلمة، وغيرهم.
ورُوي أيضا عن ابن قاسم في العتبية أن المنافق إن اعترف بما شهد عليه به وتاب فقتل فلا يُورث.
جاء في البيان و التحصيل لابن رشد الجد ما نصه: “وأما الزنديق ومن أسر الكفر فظهر عليه ، فإنه يقتل ولا يستتاب ولا يقبل منه توبته، وإن تاب؛ إذ لا يصدق فيها ويكون ميراثه لورثته من المسلمين على مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، خلاف قول مالك في رواية ابن نافع عنه، واختيار ابن عبد الحكم”. انتهى
معناه أن الزنديق الذي لم تصل به بدعته إلى حد الكفر و من أسر الكفر فظهر عليه لكن تاب منه فإنه يقتل و لا تُقبل منه توبته ويكون ميراثه لورثته من المسلمين لأنه مسلم ليس بكافر.
وهذا التفصيل أشار إليه الإمام المقريزي في كتاب “إمتاع الأسماع” جزء 14 حيث قال ما نصه: “وتفصيل أبي الحسن في باقي جوابه حسن بين، وهو على رأى أصبغ، وخلاف قول سحنون، واختلافهما على قولي مالك في ميراث الزنديق، فمرة ورثه ورثته من المسلمين قامت عليه بذلك بينة فأنكرها، أو اعترف بذلك وأظهر التوبة، وقاله أصبغ، ومحمد بن مسلمة، وغير واحد من أصحابه لأنه مظهر للاسلام بإنكاره أو توبته، وحكمه حكم المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن نافع عنه في (العتبية) وكتاب محمد أن ميراثه لجماعة المسلمين لأن ماله تبع دمه، وقال به أيضا جماعة من أصحابه. وقاله أشهب، والمغيرة، وعبد الملك، محمد، وسحنون، وذهب ابن قاسم في (العتبية) إلى أنه إن اعترف بما شهد عليه به وتاب فقتل فلا يورث، وإن لم يقر حتى مات أو قتل ورث”. انتهى
وقدحمل الإمام سحنون رحمه الله قول الإمام مالك: ” من قُتل منهم فميراثه لورثته” و قوله ” فإن قتلوا بذلك أحرى” على أهل الأهواء الذين أنكروا بدعتهم عند الاستتابة أو الذين أظهروا التوبة. لذلك قال الإمام الباجي في المنتقى: “قال سحنون : يعني أدبا لهم” ثم عقب عليه بقوله: “وتأويل سحنون صحيح ؛ لأنهم إن لم يكونوا عند مالك مؤمنين لم يرثهم ورثتهم”. انتهى وذهب ابن عربي المالكي إلى أن مراد سحنون بذلك أنه إذا لم يُقدر على قتله فإنه يُأدب.
*********
النووي رحمه الله لما علم من مراد العز بن عبد السلام تركه تكفير من أطلق لفظ الجهة في حق الله
النووي رحمه الله لما علم من مراد العز بن عبد السلام تركه تكفير من أطلق لفظ الجهة في حق الله وهو غير فاهم لمعناها قيد كلامه بكونه من العامة. و يؤكد ذلك ما قاله العز في قواعد الأحكام (2/102): “فصل فيمن نطق لفظا لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه: فإذا نطق الأعجمي بكلمة كفر أو أيمان أو طلاق أو إعتاق أو بيع أو شراء أو صلح أو إبراء لم يؤاخذ بشئ من ذلك, لأنه لم يلتزم مقتضاه و لم يقصد إليه, وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه المعاني بلفظ أعجمي لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ بشئ من ذلك لأنه لم يرده. انتهى
فعند الإمام النووي: غير العامي ممن له إحاطة بمعاني الألفاظ إذا أطلق كلمة الجهة الحسية في حق الله يكفر لأن الجهة تفيد المكان و الحيز.
أما ابن أبي جمرة فقد جعل مراد العز بن عبد السلام متعلقا ببعض العبارات الموهمة للجهة كقول العامي “الله فوق العرش” أو “على العرش” أو “ربي فوق” وقصده بذلك فوقية قهر و استعلاء. فالعامي يعسر عليه نفي معاني هذه الألفاظ عن الله وان كان ظاهرها يوهم الجهة لأنه جازم بأن ما قاله موافق لظواهر النصوص وأن ما يعتقده هو نفي التشبيه و التحيز عن الله, لذلك عبر الإمام ابن أبي جمرة عن هذا القيد بقوله ” بعسر فهمهم نفيها”. وإلا فلا معنى لقول اللقاني: “قيده”.
والشيخ ابن أبي جمرة الأندلسي كان من كبار المالكية توفي سنة 599هـجري، كان فقيهاً حافظاَ من العارفين بأحكام المذهب المالكي، وقد قال في كتابه بهجة النفوس وتحليها بمعرفة مالها وما عليها – شرح مختصر البخاري- في شرح الحديث الثالث صفحة 35 من الجزء الاول بعد ذكره للمبتدعة وذكر القدرية والجبرية، ما نصه: “ومنهم المجسمة لأنهم يقولون بالجسم والحلول ومعتقد هذا لايصح منه الايمان بعموم اللفظ المذكور في الحديث لانه لا يصح الايمان بمقتضى لفظ الحديث حتى يصح الايمان به عز وجل بمقتضى ما اخبر به عن نفسه حيث يقول {ليس كمثله شئ} وشئ يطلق على القليل والكثير وعلى كل الاشياء فمن خصص هذا العموم وهو قوله {ليس كمثله شئ} لم يصح منه الايمان بعموم لفظ الحديث وان ادعاه لان من لا يعرف معبوده كيف يصح له الايمان به وذلك محال”. انتهى
وبهذه القيود الدقيقة ينبغي أيضا فهم ما قاله الشيخ ابراهيم اللقاني المتوفى سنة 1041 هجري في تقريب البعيد، في معرض كلامه عن التقليد الرديء، و نص عبارته: “والتقليد الرديء منه ما هو مختلف في كفر صاحبه، كتقليد عامة المعتزلة والمرجئة والمجسمة لقدمائهم فيما أتوا به من آراء عقدية منافية لحقائق الأمور، والأرجح عدم كفرهم لمخالفتهم في أمور نظرية ليست معلومة من الدين بالضرورة، تحتاج إلى أنظار دقيقة في بعض الأحيان، وإن بدت إلى البعض أنها من حكم الضروري، ولقد أحسن العز بن عبد السلام حين أفتى بعدم تكفير ملتزم الجهة على الله تعالى”. انتهى
فكلام الشيخ ابراهيم اللقاني هنا يتعلق ببعض عوام الناس المنتسبين للفرق الضالة كالمعتزلة والمجسمة، لا اطلاق الحكم على الدعاة منهم لبدعهم.
وهؤلاء الصنف من العوام هم الذين اختلف علماء أهل السنة في كفرهم، وقد رجح الشيخ اللقاني عدم كفرهم تبعا للعز بن عبد السلام، لعدم فهمهم معاني ما يطلقونه من ألفاظ يلزم منها نسبة الجهة في حق الله، كقول بعضهم مثلا: ” الله في السماء”، فاذا تمت مراجعتهم في مقالاتهم، أنكروا نسبة التحيز في حق الله، وأنكروا ان يكون محصورا أو محمولا، وهذه من المسائل التي تحتاج إلى أنظار دقيقة.
وهذا هو اللُبس الذي وقع فيه بعض الناس فتاهوا في هذه المسألة فلم يعرفوا الفارق بين من ينطق بلفظ “الجسم” أو “جهة فوق” وهو فاهم لمعناها و بين من ينطق بها وهو لا يفهم المعنى أو يظن أن هذين اللفظين تردان في لسان العرب بمعنيين, أحدهما المعنى الكفري الفاسد و الآخر المعنى الذي يوافق العقيدة السليمة. فصاروا يطلقون القول بإيمان كل من نسب الجهة الحسية لله .
فهؤلاء الذين تلقفوا كلام العز بن عبد السلام و جردوه من قيوده ضلوا وأضلوا غيرهم و حكموا باسلام من نسب الجهة الحسية لله ولم يفرقوا بين العامي الذي لا يفهم ما يتلفظ به و بين رؤوس المجسمة الذين ينسبون عن اختيار الجهة لله.
*********
كر بعض خيانات ابن تيميَّة وتلاميذه في نقل عقيدة قُدَماء الأشعريَّة
(أَبو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ- كمثال- )
اعتمد ابنُ تيميَّة، نُصرةً لمذهبه الفاسد في اثبات الاستواء بمعنى الجهة والعلو الحسي، على نصوص تنسب لبعض الأئمة وادَّعى أنَّهم قائلون أيضا بعقيدة الجِهةِ في حقِّه تعالى. من ذلك ما نقله عن أَبي الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ المتوفى سنة 380 هـجري بطريقته المعهودة في التَّلبيس و بتر الكلام من سياقه، في حين ان الرَّجل كان مصرحا بنفي البينونة الحِسِّيَّة في حقِّه عز وجلَّ.
وهذا الصَّنيع مِن ابن تيميَّة يعدُّ من الخيانة العلميَّة الَّتي لا يغسلها ماء البحر.
فقد قال ابنُ تيميَّة في دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ” “انَّ الْعِرَاقِيِّينَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مَنْ أَتْبَاعِ ابْنِ كُلَّابٍ كَأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَمْثَالِهِمْ، أَقْرُبُ إِلَى السُّنَّةِ وَأَتْبَعُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ؛ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ الْمَائِلِينَ إِلَى طَرِيقَةِ ابْنِ كُلَّابِ”.انتهى
وعليه، فقد كان الإمامُ أبو الحسنِ بنُ مهديٍّ الطَّبريُّ على عقيدة كُلَّابيَّة أهل العراق، وهؤلاء أقرب – بحسب زعم هذا الحراني- إلى السُّنَّة مِن كُلَّابيَّة وأشاعرة أهل خُراسان، وإنَّما قال “أقرب إلى السُّنَّة” لأنَّه لا يعتبرهم مِن خُلَّص أهلِ السُّنَّة.
وقال ابنُ تيميَّة أيضاً في “بَيَان تَلبِيسِ الجَهْمِيَّةِ” مُعبِّراً عن رأيه في كتاب “تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَالْمُشْكِلَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ” للإمام ابنِ مهديٍّ الطَّبَريِّ: “وَأَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ جَمَعَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَأْوِيلَاتِ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ مَا يُنَاسِبُ كِتَابَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ الْمُمَاثِلِينَ لِبِشْرٍ، بَلْ هُوَ يُثْبِتُ مِنَ الصِّفَاتِ مَا لَا يُثْبِتُهُ بِشْرٌ، وَكَانَ قَدْ سَبَقَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ إِلَى كِتَابٍ لَطِيفٍ فِي التَّأْوِيلِ، وَطَرِيقَتُهُ أَجْوَدُ مِنْ طَرِيقَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكَ ” .انتهى
ويُستفاد مما تقدم أنَّ ابن تيمية كان على إلمام تام بمادة هذه الكتب، وإلَّا لما تجرَّأ للمقارنة بينها.
أما تلميذُه ابنُ القيِّم فقد قال في الصَّواعقُ المُرسلة: “وأمَّا المُعْتَزِلَةُ والجَهْمِيَّةُ وَغَيرُهُم مِن فِرَقِ المُتَكَلِّمينَ فَمُرَادُهُم بالتَّأْويلِ: صَرْفُ اللَّفْظِ عَن ظاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ وَمَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ…وهذَا التَّأْوِيلُ هُو الَّذِي صُنِّفَ فِي تَسْويغِهِ وَإبْطَالِهِ مِنَ الجَانِبَيْنِ، فصَنَّفَ جَمَاعَةٌ فِي تَأْوِيلِ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَخْبَارِهَا، كأَبِي بَكْرٍ بْنِ فُورَكَ وابْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَعَارَضَهُم آخَرُونَ فَصَنَّفُوا فِي إِبْطَالِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ، كَالقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَالشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ ابْنِ قُدَامَةَ. وَهُو الَّذِي حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى عَدَمِ القَوْلِ بِهِ”. انتهى
إذن، وبحسب كلام ابن الزفيل الزرعي، فالإمامُ أبُو الحسنِ بن مَهديٍّ الطَّبريُّ قد خالف إجماع السَّلف بتصنيفه كتاب “تَأْوِيل الْأَحَادِيثِ وَالْمُشْكِلَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ”.
و كلام ابنِ تيميَّةَ في كتبه صريح ان الإمامَ ابنَ مَهديٍّ الطَّبَرِيَّ، كان على عقيدةِ الجِهَوِيَّة:
فقد قال ابنُ تيميَّة في دَرْءُ تَعارُض العَقلِ والنَّقلِ: “فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ، وَالْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيُّ، وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَهْدِيِّ الطَّبَرِيُّ، وَعَامَّةُ قُدَمَاءِ الْأَشْعَرِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَيَرُدُّونَ عَلَى النُّفَاةِ غَايَةَ الرَّدِّ، وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ”. انتهى
وقال ابنُ تيميَّةَ في بيانُ تلبيسه رادًّا على الإمام الفخر الرَّازي في تنزيه الله عنِ الجِهةِ والمكان وغيرها مِن معاني الجِسميَّة، ما نصُّه: “فَلَا رَيْبَ أَنَّ الكُتُبَ المَوجُودَةَ بِأَيْدِي النَّاسِ، تَشْهَد بِأنَّ جَميعَ السَّلَفِ مِنَ القُرُونِ الثَّلَاثَةِ كانُوا عَلَى خِلَافِ مَا ذَكرَهُ – اي الرَّازيُّ- ، وأَنَّ الأَئِمَّةَ المَتْبُوعِينَ عِندَ النَّاسِ والمَشَايِخَ المُقتَدَى بِهِم، كَانُوا عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ، وَهَذِهِ أَئِمَّةُ المَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، والحَنَفِيَّةِ، وأَهْلِ الحَدِيثِ، وَالصُّوفِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، بَل أَئِمَّةُ الصِّفَاتِيَّةِ مِنَ الكُلَّابِيَّةِ وَالكَرَّامِيَّةِ وَالأَشْعَرِيَّةِ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ، فَهَذِهِ كُتُبُ ابْنِ كُلَّابٍ إِمَامِ طَائِفَتِهِ، ثُمَّ الحَارِثِ المُحَاسِبِيِّ ونَحْوِهِ، ثُمَّ أَبِي الحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ، وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ مِثْل أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ وأَبِي الحَسَنِ الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ الْقَلَانِسِيِّ، وَغَيْرِهِ…وَالقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بْنِ البَاقِلَّانِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ وَغَيْرِهِم، كُلُّهُم يَقُولُونَ: بِإِثْبَاتِ العُلُوِّ للهِ عَلَى العَرْشِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَيُضَلِّلُونَ مَنْ يُفَسِّرُ ذَلِكَ بِالاسْتِيلَاءِ وَالقَهْرِ وَنَحْوِهِ…فَكَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّ خُصُومَهُ إِنَّمَا هُمُ الْكَرَّامِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ! بَلْ لَمْ يُوَافِقْهُ إِلَّا فَرِيقٌ قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. حَتَّى حُذَّاقُ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّهُمْ مِنْ خُصُومِهِ فِي هَذَا الْبَابِ”. انتهى
وَذكر ابنُ تيميَّة كلام الإمام عليِّ بنِ مهديٍّ الطَّبري في مسألة “الاستواء” والعُلُوِّ الحِسِّي بزعمه، فقال في بَيَانُ تَلبِيسِه: “وَلِشُهْرَةِ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ – الْمُتَكَلِّمُ صَاحِبُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ – فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَلَّفَهُ فِي “مُشْكِلِ الْآيَاتِ” فِي بَابِ قَوْلِهِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]: “اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ – سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى – فِي السَّمَاءِ، فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، عَلَى عَرْشِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاعْتِلَاءُ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: اسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى السَّطْحِ. بِمَعْنَى: عَلَوْتُهُ. وَاسْتَوَى الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِي، وَاسْتَوَى الطَّيْرُ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِي. بِمَعْنَى: عَلَا فِي الْجَوِّ فَوُجِدَ فَوْقَ رَأْسِي. فَالْقَدِيمُ جَلَّ جَلَالُهُ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ، قَوْلُهُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الْمُلْكِ: 16] وَقَوْلُهُ: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 55] وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فَاطِرٍ: 10] وَقَوْلُهُ: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السَّجْدَةِ: 5]”. انتهى
بهذه الطَّريقة نقل ابن تيميَّة كلام الإمام علي بنِ مهديٍّ الطَّبريِّ في “الاستواء”، بحيثُ يُخيَّل للقارئ أنَّ الإمامَ جارٍ على عقيدة الجِهة الَّتي يُنافح عنها هذا الحرَّاني هو وأسلافه المجسِّمة.
وبتتبع كلام الإمام أبي الحسن علي بن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ ، كما جاء في كتابه الَّذي اقتطع منه ابن تيميَّة نقولاته السَّابق، والذي طُبِع بعنوان “تأويلُ الآياتِ المشكَّلةِ الموَضَّحةِ وبيانُها بالحُججِ والبُرهان”، نجد ما يلي:
قالَ الإمامُ أَبُو الحَسَنِ عَلِيٌّ بنُ مهدِيٍّ الطَّبَرِيُّ: “اعْلَمْ – عَصَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الزَّيْغِ بِرَحْمَتِهِ – أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي السَّمَاءِ، فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاعْتِلَاءُ، كَمَا [تَقُولُ] الْعَرَبُ: اسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى السَّطْحِ، يَعْنِي: عَلَوْتُهُ. وَاسْتَوَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِي، وَاسْتَوَى الطَّيْرُ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِي. بِمَعْنَى: عَلَا فِي الْجَوِّ، فَوُجِدَ فَوْقَ رَأْسِي.
فَالْقَدِيمُ – جَلَّ جَلَالُهُ – عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ، لَا قَاعِدٌ وَلَا قَائِمٌ، وَلَا مُمَاسٌّ لَهُ وَلَا مُبَايَنٌ، وَالعَرْشُ: مَا تَعْقِلُهُ الْعَرَبُ، وَهُوَ السَّرِيرُ.
وَيَدُّلُّكَ عَلَى أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الْمُلْكِ: 16]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 55]. وَقَوْلُهُ: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النَّحل: 50]. وَقَوْلُهُ: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فَاطِرٍ: 10]. وَقَوْلُهُ: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ [السَّجْدَةِ: 5]”. هذا نصُّه بحروفهِ.
وتأمَّل يا عبد الله التَّنزيه الصَّريح الَّذي حذفه ابن تيميَّة من سياق كلام الإمام، حتَّى يظهره على نقيض مُراده؛ وهو قوله: ” لَا قَاعِدٌ وَلَا قَائِمٌ، وَلَا مُمَاسٌّ لَهُ وَلَا مُبَايَنٌ” ، وهو كما ترى نصٌّ لا يقبل التَّأويل، صريحٌ في نفي المُماسَّة عنه تعالى بمعنى الاتِّصال بالعالَمِ، وصريحٌ أيضاً في نفي المباينة عنه تعالى بمعنى الانفصال عن الخلق بالمسافة، أي: نفي الدُّخول والخروج عنه جلَّ وعلا، وهو ما يكذِّب دعوى ابنِ تيميَّة الَّتي أطلقها في حقِّ الرَّجل، ويُثبت بمكان نوع الخيانة العلميَّة الَّتي تلبَّس بها هذا الحرَّاني.
وفي ما يلي بعض نصوص ابنِ تيميَّة الَّتي تبيِّن سَبب ركوبه هذا المنحى الخطير:
قال ابنُ تيميَّة في بيان تلبيسه : ” وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ – الأشاعرة-: الْمَوْجُودُ الْمُبَايِنُ لِلْعَالَمِ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ، أَوْ قَوْلُهُمُ: الْمَوْجُودُ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ؛ مِثْلَ قَوْلِ إِخْوَانِهِمْ – الحُلُوليَّة-: أَنَّهُ فِي الْعَالَمِ لَيْسَ بِمُبَايِنٍ لِلْعَالَمِ وَلَا مُمَاسٍّ لَهُ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ؛ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ؟ بَلْ قَوْلُهُمْ أَظْهَرُ فَسَادًا”. انتهى
إذن: عقيدة السَّادة الأشاعرة في أنَّه تعالى لا مُباينٌ للعالَم ولا مُماسٌّ له؛ أظهر فساداً في نظر ابن تيميَّة من عقيدة الحلوليَّة الكُفريَّة القائمة على أنَّه تعالى بذاته في العالَم بلا مُباينة للعالَم ولا مُماسَّة له.
وعلى هذا؛ فقول الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ السَّابق – والذي حذفه ابن تيميَّة – وهو قوله: “أنُّه تعالى لَا مُمَاسٌّ للعرشِ وَلَا مُبَايَنٌ لهُ” يكون أظهر فساداً – في نظر ابن تيميَّة – مِن قول هؤلاء الحلوليَّة الكفرة.
وإذا كانت الحلوليَّة كفَّارٌ كما هو معلوم؛ فما هو حُكم مَن يعتقد عقيدةً تكون أظهر فساداً من عقيدة هؤلاء الكفرة؟ أوليس في هذا تكفير مِن ابن تيميَّة لأهل السُّنَّة الأشاعرة باستعمال طَريق الأَوْلى؟! ماذا يُطلق على صنيع ابن تيميَّة هنا؟! وما عسى أن يُقال في أسلوبه الماكر هذا؟ نسأل السلامة من خبثه ومكره وجنايته على الدين.
فكلُّ هذه النُّصوص وغيرها؛ تُثبت نوع الخيانة العِلميَّة الخطيرة الَّتي استباحها ابن تيميَّة لنفسه، وهي تؤكِّد بمكان أنَّ عقيدة الإمامِ ابنِ مهديٍّ الطَّبريِّ في نفي المباينة والمُماسَّة عنه تعالى؛ ما هي في نظر ابن تيميَّة عندَ التَّحقيق: إلَّا عقيدة نفاةِ الرَّبِّ، لأجل هذا حذف هذا التَّنزيه مِن سياق كلام الرَّجل.
والعجيب اننا نجد الحافظُ الذَّهبيُّ قد مارس نفس التَّزوير الَّذي مارسه شيخه الحرَّاني، بل وبحذافيره، كما في كتابه العرش، وكذلك في كتابه الآخر العُلُوُّ للعليِّ الغفَّار.
وكذلك الحافظ ابنُ عبد الهادي المتعصِّب لشيخه ابن تيميَّة، فقد وقع هو الآخر في نفس الخيانة العلميَّة الَّتي مارسها شيخه في النَّقل هنا، كما نجد ذلك في رسالته “الكلام على مسألةِ الاستواء على العرشِ”.
هذا؛ وقد نقل ابنُ القيِّم في كتابه “تَهذيب سننِ أبي داود” عن الحافظ البيهقيِّ كلامَ الإمام عَلِيِّ بنِ مهدِيٍّ الطَّبَرِيِّ السَّابق في “الاستواء”، مُحتجًّا به في إثبات العُلُوِّ الحِسِّي، وهو في الحقيقة مُناقض لمذهبه ومذهب شيخه الحرَّاني بمائة وثمانين درجة، وبالتَّالي فهو عليه لا له.
ولكنَّ ابن القيِّم لَم ينقل شرح الحافظ البيهقي على كلام الإمام ابن مهديٍّ الطَّبريِّ، ونص كلام الحافظُ البيهقيُّ ي الأسماء والصفات: ” وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ: إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ؛ بِمَعْنَى: أَنَّهُ عَالٍ عَلَيْهِ؛ وَمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاعْتِلَاءُ؛ كَمَا تَقُولُ: اسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَاسْتَوَيْتُ عَلَى السَّطْحِ؛ بِمَعْنَى عَلَوْتُهُ، وَاسْتَوَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِي، وَاسْتَوَى الطَّيْرُ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِي؛ بِمَعْنَى عَلَا فِي الْجَوِّ فَوُجِدَ فَوْقَ رَأَسِي. فَالْقَدِيمُ سُبْحَانَهُ عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ، لَا قَاعِدٌ وَلَا قَائِمٌ وَلَا مُمَاسٌّ وَلَا مُبَايَنٌ عَنِ الْعَرْشِ”. انتهى
ثمَّ شرحَ الحافظُ البيهقِيُّ كلامَ الإمام، فقال: “يُرِيدُ بِهِ: مُبَايَنَةَ الذَّاتِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الِاعْتِزَالِ أَوِ التَّبَاعُدِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاسَّةَ وَالْمُبَايَنَةَ الَّتِي هِيَ ضِدُّهَا وَالْقِيَامَ وَالْقُعُودَ مِنْ أَوْصَافِ الْأَجْسَامِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْأَجْسَامِ.
وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ رَحِمَهُ اللهُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: “اسْتَوَى بِمَعْنَى: عَلَا”، ثُمَّ قَالَ: “وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ عُلُوًّا بِالْمَسَافَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْكَوْنِ فِي مَكَانٍ مُتَمَكِّنًا فِيهِ، وَلَكِنْ يُرِيدُ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك: 16] أَيْ: مَنْ فَوْقَهَا، عَلَى مَعْنَى نَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَحْوِيهِ طَبَقٌ، أَوْ يُحِيطُ بِهِ قُطْرٌ، وَوَصْفُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذَلِكَ بِطَرِيقَةِ الْخَبَرِ، فَلَا نَتَعَدَّى مَا وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ”. قُلْتُ: وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَكَلِمَةُ “ثُمَّ” تَعَلَّقَتْ بِالْمُسْتَوى عَلَيْهِ، لَا بِالِاسْتِوَاءِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: 46] يَعْنِي: ثُمَّ يَكُونُ عَمَلُكُمْ فَيَشْهَدُهُ.
وَقَدْ أَشَارَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ حِكَايَةً، فَقَالَ: “وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ، وَلَا يُقَالُ: لَمْ يَزَلْ مُسْتَوِيًا عَلَى عَرْشِهِ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ قَدْ حَدَثَتْ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَلَا يُقَالُ: لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِأَنْ قَدْ حَدَثَتْ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدُ”.
قَالَ: “وَجَوَابِي هُوَ الْأَوَّلُ؛ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ الْأَشْيَاءَ بَائِنٌ مِنْهَا؛ بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَحُلُّهُ وَلَا يَحُلُّهَا، وَلَا يَمَسُّهَا وَلَا يُشْبِهُهَا، وَلَيْسَتِ الْبَيْنُونَةُ بِالْعُزْلَةِ، تَعَالَى اللَّهُ رَبُّنَا عَنِ الْحُلُولِ وَالْمُمَاسَّةِ عُلُوًّا كَبِيرًا”. انتهى
إذن: فمذهب الإمامِ أبي الحسنِ عليٍّ بن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ كما شرحه الحافظُ البيهقيُّ، هو أنَّه يُثبت الاستواء صفة ذات – لا فِعلٍ – على أحد القَولين عند السَّادة الأشاعرة، مع نفيه بينونة المسافة والعُزلَةِ والتَّباعد الحِسِّي، وبالتَّالي نفي عُلُوِّ المكان والتَّمكُّن في جِهةٍ، وغيره من لوازم الجِسميَّة.
لأجل هذا لم ينقل ابن القيِّم تعليق الحافظ البيهقي الَّذي يبيِّن معنى كلام الإمامِ ابن مهديٍّ الطَّبَرِيِّ في الاستواء، وكم له من مثل هذه الخرجات.
#منقول عن الباحث ياسين بن ربيع
رابط ذو علاقة:
شيخ الأشعرية أَبو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ
https://www.facebook.com/share/rgWxTYMpVHhrayWw/
رابط تجميع البحوث عن ابن تيمية:

فكرة واحدة على ”4 المعتزلة بين الكفر و الابتداع“
التعليقات مغلقة.