الرد على عثمان خميس في قوله إن لله صورة ونسبة الجوارح لله ومعنى قول النّبيِّ: (إنّ الله خلق آدم على صُورته)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على النبي المختار أما بعد
فقد قال نبيُّنا ﷺ: (إِنّ الله خلق آدم على صُورتِهِ) وهذ الحديث رواه البخاري. وهذا الحديث لا يُفسرُ على ظاهرِ اللفظِ لإنه لا يصِحُّ عقلًا ولا شرعًا أن يتّصِف العبدُ أو أيُّ شىءٍ مِن الأشياءِ الحادِثةِ بِشىءٍ مِن صِفاتِ اللهِ تعالى لأنّهُ لا يجُوزُ أن يكُون بين الخالِقِ وشىءٍ مِن خلقِهِ أيُّ نوعٍ مِن أنواعِ المُشاركةِ. ومِن المعلوم أنّ الله تعالى لا يُوصف بالصُّورة لأنّها صفة المخلوقات لكن يجوزُ أن يكُون المعنى على صُورة آدم الأصليّةِ طولُه ستُّون ذراعًا وعرضُه سبعةُ أذرُع؛ فيكُون الضّميرُ في (صورته) عائدًا إلى آدم عليه السّلامُ، والقاعدة عند العُلماء أن يُعاد الضّمير إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هُو آدم عليه السّلام.
ويجوزُ أن يكون الضّميرُ في (صُورته) عائدًا إلى الله بمعنى أنّها مِن خلقِه وتكوينه لا على معنى أنّها صفة له ولكن أُضيفت إليه إضافة المِلك والتّشريف كما أنّنا نُضيف الكعبة إلى الله فنقول بيت الله أي بيت مُكرّم عند الله تعالى؛ كقول الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل: ﴿أن طهِّرا بيتي﴾ الآية.
وقد تجرأ المدعو عثمان خميس فقال إن الحديث يحمل على ظاهره وأن لله صورة وشكلا وكيفية وقال أن له وجهًا ويدًا وساقًا وأصابع حقيقية وقال هذا الراجح من معنى الحديث والذي عليه أغلب العلماء كما زعم وكلامه هذا زور وبهتان فإننا سنورد عددًا من أقوال العلماء التي يظهر فيها بطلان ما قاله وذهب إليه بل إن قوله هذا كفر وضلال لأنه تشبيه لله بخلقه.
ومن كلام العلماء في تفسير هذا الحديث كلام الإمام النووي فهو ينفي الصورة، ويقرر بأن اللفظ ليس على ظاهره، فقال في شرح صحيح مسلم: (“فإن الله خلق آدم على صورته” فهو من أحاديث الصفات وقد سبق في كتاب الإيمان بيان حكمها واضحا ومبسوطا وأن من العلماء من يمسك عن تأويلها ويقول نؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد ولها معنى يليق بها وهذا مذهب جمهور السلف وهو أحوط وأسلم والثاني أنها تتأول على حسب ما يليق بتنزيه الله تعالى وأنه ليس كمثله شيء) انتهى.
وقال الإمام النووي في شرح رواية مسلم من طريق محمد بن رافع: (“خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا … “: “هذه الرواية ظاهرة في أن الضمير في “صورته” عائد إلى آدم، وأن المراد أنه خلق في أول نشأته على صورته التي كان عليها في الأرض وتوفي عليها، وهي طوله ستون ذراعا، ولم يتنقل أطوارا كذريته، وكانت صورته في الجنة هي صورته في الأرض لم تتغير) انتهى.
وقال إمام الحرمين الجويني عن حديث “إن الله خلق آدم على صورته”: (ويمكن صرف الهاء إلى آدم نفسه، ومعنى الحديث على ذلك أن الله تعالى خلق آدم بشراً سوياً من غير والد ولا والدة) انتهى.
وقال الحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي في تاج العروس: (وقوله ﷺ : “إنّ الله خلق آدم على صُورتِه” أراد بها ما خصّ الإنسان به من الهيئةِ المُدركة بالبصرِ والبصيرةِ وبها فضّله على كثيِر من خلقِه وإضافتُه إلى اللهِ تعالى على سبيلِ المِلكِ لا على سبيل البعضِيّة والتّشبُّه تعالى اللهُ عن ذلك وذلك على سبيلِ التّشرِيفِ كما قيل: حُرمُ اللهِ وناقةُ اللهِ ونحو ذلك) انتهى.
وقال العلامة بدر الدين العيني في شرح رواية البخاري: (“قوله على صورته”. أي على صورة آدم لأنه أقرب. أي خلقه في أول الأمر بشرا سويا، كامل الخلقة، طويلا: ستين ذراعا، بخلاف غيره فإنه يكون أولا نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم جنينا، ثم طفلا، ثم رجلا؛ حتى يتمّ طوله، فله أطوار) انتهى.
وقال ابن بطال: (أفاد ﷺ بذلك إبطال قول الدُّهرِيّة: إنه لم يكن قط إنسان إلا من نطفة، ولا نطفة إلا من إنسان) انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح رواية البخاري من طريق عبد الله بن محمد: (وهذه الرواية تؤيد قول من قال: إن الضمير لآدم. والمعنى أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها، لم ينتقل في النشأة أحوالا، ولا تردد في الأرحام أطوارًا كذريته؛ بل خلقه الله رجلا كاملا سويا من أول ما نفخ فيه الروح. ثم عقب ذلك بقوله: “وطوله ستون ذراعا”. فعاد الضمير أيضا على آدم) انتهى.
وأما رواية “على صورة الرحمن” فأكثر أهل الحديث على إنكار ذلك وعلى أنه غلط، وإن ثبت فهو إضافة تشريف كما هُو المعنى في قولِهِ تعالى في حقِّ عِيسى: ﴿فنفخنا فِيهِ مِن رُوحِنا﴾ أي أمرنا الملك جِبرِيل أن ينفُخ في مريم رُوح عِيسى الّذِي هُو رُوحٌ مُشرّفٌ عِندنا فهذِهِ الإضافةُ إِضافةُ المِلكِ والتّشرِيفِ وليست إِضافة الجُزئِيّةِ.
فقد قال القرطبي: (أعاد بعضهم الضمير على الله متمسكا بما ورد في بعض طرقه: “إن الله خلق آدم على صورة الرحمن”. قال: وكأنّ من رواه أورده بالمعنى متمسكا بما توهّمه؛ فغلط في ذلك).
وقد أنكر المازرِيُّ ومن تبعه صحة هذه الزيادة، ثم قال: (وعلى تقدير صحتها فيحمل على ما يليق بالباري سبحانه وتعالى).
وقال أبو الليث السمرقندي (ت ٣٧٣هـ): (من قال: إن لله تعالى صورة كصورة آدم فهو كافر، ولكن المعنى في الخبر).
وأما الرواية في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: “إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله تعالى خلق ءادم على صورته”. فأهل الحديث أولوه فقالوا: معنى الحديث: إذا ضرب أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته”: أي إن الله خلق المضروب على صورة آدم.
فقد قال العلامة ابن الحاج نقلا عن القاضي ابن رشد الجد المالكي: (أمّا قولُهُ: “إنّ اللّه خلق آدم على صُورتِهِ” فإِنّهُ حدِيثٌ يُروى على وجهينِ: أحدُهُما: أنّ اللّه خلق آدم على صُورتِهِ. والثّانِي: أنّ اللّه خلق آدم على صُورةِ الرّحمنِ، فأمّا رِوايةُ أنّ اللّه “خلق آدم على صُورتِهِ” فلا خِلاف بين أهلِ النّقلِ فِي صِحّتِها لِاشتِهارِ نقلِها مِن غيرِ مُنكِرٍ لها، ولا طاعِنٍ فِيها، وأمّا الرِّوايةُ الأُخرى أنّ اللّه “خلق آدم على صُورةِ الرّحمنِ” فمِن مُصحِّحٍ لها، ومِن طاعِنٍ فِيها، وأكثرُ أهلِ النّقلِ على إنكارِ ذلِك، وعلى أنّهُ غلطٌ، وقع مِن طرِيقِ التّأوِيلِ لِبعضِ النّقلةِ توهُّمُ أنّ الهاء ترجِعُ إلى اللّهِ تعالى فنقل الحدِيث بِمعناهُ. فأمّا الرِّوايةُ المحفُوظةُ فهِي أنّ “اللّه خلق آدم على صُورتِهِ”، والهاءُ عائِدةٌ على رجُلٍ مرّ النّبِيُّ ﷺ، وأبُوهُ أو مولاهُ يضرِبُ وجههُ لطمًا، ويقُولُ: “قبّح اللّهُ وجهك. فقال ﷺ: “إذا ضرب أحدُكُم عبدهُ فليتّقِ الوجه، فإِنّ اللّه خلق آدم على صُورتِهِ”.
وقد رُوِي أنّهُ سمِعهُ يقُولُ: “قبّح اللّهُ وجهك، ووجه من أشبه وجهك” فزجرهُ النّبِيُّ ﷺ عن ذلِك بِقولِهِ ذلِك، وأعلمهُ أنّهُ قد سبّ آدم؛ لِأنّهُ مخلُوقٌ على صِفتِهِ، ومن دُونهُ مِن الأنبِياءِ أيضًا، ومِنها أنّ الكِناية فِي قولِهِ: “على صُورتِهِ” ترجِعُ إلى آدم عليهِ السّلامُ، ولِذلِك ثلاثةُ أوجُهٍ:
أحدُها: أن يكُون معنى الحدِيثِ وفائِدتُهُ الإِعلام بِأنّ اللّه لم يُشوِّه خلقهُ حِين أُهبِط إلى الأرضِ.
والثّانِي: أن يكُون معناهُ وفائِدتُهُ إبطال قولِ أهلِ الزّيغِ الّذِين يقُولُون: إنّهُ لا إنسان إلّا مِن نُطفةٍ، ولا نُطفة إلّا مِن إنسانٍ، ولا دجاجة إلّا مِن بيضةٍ، ولا بيضة إلّا مِن دجاجةٍ لا إلى أوّلٍ.
الثّالِثُ: معناهُ وفائِدتُهُ إبطالُ قولِ أهلِ الزّيغِ، والمُنجِّمِين الّذِين يزعُمُون أنّ الأشياء بِتأثِيرِ العُنصُرِ، والفلكِ، واللّيلِ، والنّهارِ، فأعلم النّبِيُّ ﷺ بِهذا الحدِيثِ أنّ اللّه تعالى هُو المُنفرِدُ بِخلقِ آدم على ما كان عليهِ مِن الصُّورةِ، والتّركِيبِ، والهيئةِ لم يُشارِكهُ فِي شيءٍ مِن ذلِك فِعلُ طبعٍ، ولا تأثِيرُ فلكٍ، وخصّ آدم بِالذِّكرِ مِن سائِرِ المخلُوقاتِ؛ لِأنّهُ أشرفُها، فإِذا كان اللّهُ هُو المُنفرِدُ بِخلقِهِ دُون مُشاركةِ فِعلِ طبعٍ، أو تأثِيرِ فلكٍ فولدُهُ، ومن سِواهُم على حُكمِهِ كذلِك.
قِيل فِي ذلِك وجهٌ رابِعٌ وهُو: أنّ فائِدة الحدِيثِ تكذِيبُ القدرِيّةِ فِيما زعمت مِن أنّ صِفاتِ آدم مِنها ما خلقها اللّهُ تعالى، ومِنها ما خلقها آدم عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ لِنفسِهِ فأخبر النّبِيُّ ﷺ بِتكذِيبِهِم، وأنّ اللّه خلق آدم على جمِيعِ صُورتِهِ، وصِفتِهِ، ومعانِيهِ، وأعراضِهِ، وهذا كما تقُولُ: “عرِّفنِي هذا الأمر على صُورتِهِ” إذا أردت أن تعرِفهُ على الِاستِيفاءِ، والِاستِقصاءِ دُون الِاستِثناءِ.
وأمّا الرِّوايةُ الثّانِيةُ الّتِي جاءت، وهِي: أنّ اللّه “خلق آدم على صُورةِ الرّحمنِ” فقد ذكرنا أنّ أكثر أهلِ النّقلِ لا يُصحِّحُ الرِّواية بِذلِك، وأنّ الرّاوِي ساق الحدِيث على ما ظنّهُ مِن معناهُ، وعلى تقدِيرِ الصِّحّةِ فتكُونُ الإِضافةُ إضافة تشرِيفٍ على طرِيقِ التّنوِيهِ بِذِكرِ المُضافِ، وذلِك نحو قوله تعالى: {ناقة اللّهِ وسُقياها}[الشمس:13] فإِنّها إضافةُ تخصِيصٍ وتشرِيفٍ تُفِيدُ التّحذِير، والرّدع مِن التّعرُّضِ لها، ومِن ذلِك قولُهُ عزّ وجلّ: {ونفختُ فِيهِ مِن رُوحِي}[الحجر:29]، وقوله تعالى {وعِبادُ الرّحمنِ الّذِين يمشُون على الأرضِ هونًا}[الفرقان: 63]، وقولُ النّاسِ: “الكعبةُ بيتُ اللّهِ”، و”المساجِدُ بُيُوتُ اللّهِ”. فشرُفت صُورةُ آدم مِن أجلِ أنّ اللّه اخترعها، وخلقها على غيرِ مِثالٍ سبق). انتهى.
ومن أقوى ما قيل في ذلك ما قاله الفخر الرازي رحمه الله في أساس التقديس ونصه: (من قال للإنسان: قبّح وجهك ووجه من أشبه وجهك فهذا يكون شتماً لآدم عليه السلام، فإنه لما كان صورة هذا الإنسان مشابهة لصورة آدم كان قوله: قبّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك شتمًا لآدم عليه السلام ولجميع الأنبياء عليهم السلام، وذلك غير جائز، فلا جرم نهى النبي ﷺ عن ذلك، وإنما خصّ آدم بالذكر، لأنه عليه السلام هو الذي ابتدأت خلقة وجهه على هذه الصورة) …. إلى أن قال: (أن يكون الضمير عائداً إلى آدم عليه السلام وهذا أولى الوجوه الثلاثة، لأن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب، وفي هذا الحديث أقرب الأشياء المذكورة هو آدم عليه السلام، فكان عود الضمير إليه أولى) … ثم قال (ما رواه ابن خزيمة في كتابه الذي سمّاه بالتوحيد بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال:” لا تقبّحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن، واعلم أن ابن خزيمة ضعّف هذه الرواية ويقول: إن صحّت هذه الرواية يكون المراد من هذه الإضافة بيان شرف هذه الصورة كما في قوله: بيت الله، وناقة الله ) انتهى.
وإذا اعتمدنا رواية الإمام مسلم على أنها الأضبط والأصح، وأنها الأتم والمفسرة لما عداها من الروايات الأخرى؛ فظاهر هذه الرواية كما صرح النووي في شرحها أن الضمير في قوله ﷺ: “على صورته”. يعود إلى الأخ المضروب. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني عندما ذكرها في شرحه لحديث البخاري في كتاب العتق ــ باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه: (فالأكثر على أنه يعود على المضروب لما تقدم من الأمر بإكرام وجهه، ولولا أن المراد التعليل بذلك لم يكن لهذه الجملة ارتباطها بما قبلها) انتهى. فكلّ من الإمام النووي وابن حجر العسقلاني لم يذكرا هذا الحديث في باب الصفات بل ذكراه في باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه وهذا الأمر من أوضحها دلالة على أن الضمير لا يعود على لفظ الجلالة كما ذكرنا.
فاللهُ سُبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ولا يُوصفُ بالجُزئيّة فليس هُو أصلًا لشيء ولا فرعًا عن شيء، ولا يُوصفُ اللهُ تعالى بالصُّورة لأنّ الصُّورة تقتضي الكيفيّة والكيفية عن اللهِ وعن صفاته منفيّة كما قال أبُو سُليمان الخطّابيُّ فيما رواه عنه الإمام البيهقيُّ في الأسماءِ والصِّفاتِ: (إنّ الذي يجبُ علينا وعلى كلِّ مسلمٍ أن يعلمه أنّ ربّنا ليس بذِي صورةٍ ولا هيئة فإنّ الصورة تقتضي الكيفية وهي عن الله وعن صفاتِه منفِيّة).
يعني الله لا يقال له صورة كما تقول المجسّمة المشبِّهة؛ اللهُ سبحانه وتعالى مِن أسمائِه المُصوِّر كما جاء في القرآنِ والحديث؛ والمُصوِّرُ معناه خالقُ الصُّور فلا يقال عن الله له صورة.
والله تعالى أعلم وأحكم
