قالَ رسول الله ﷺ: «إنّ الله كتَب مقَاديرَ الخَلائق قبلَ خَلقِ السّماواتِ والأرض بخَمسِينَ ألفَ سنَةٍ» رواه مسلم.
وفي روايةٍ «قَدَّرَ» لكنَّ المرادَ بهذه الرّوايةِ (رِوايةُ كَتَبَ)، كَتَبَ في اللّوح لأنّ اللّوحَ حَادثٌ وكلُّ حَرف فيهِ حادِثٌ، أمّا تَقديرُ الله الأزليُّ الذي هو صِفةُ ذاتِه فهوَ أزليٌّ ليسَ حادثًا. وهذا الحديثُ معناه أنّ اللّوحَ المحفوظَ سُطِّرَ فيهِ كُلُّ مَا يَحدُث في هذه الدُّنيا إلى يوم القيامَة، هذا كُلّ ما كُتِب في اللوح المحفوظ، وقَد ورَد في وَصْف اللوح المحفوظِ أنّه «مِن دُرَّةٍ بَيضاءَ حَافَتَاهُ يَاقُوتَةٌ حمراءُ» رواه الطبراني، والخَلقُ يَأتي بمعنى التّقدير، كذلكَ افتراءُ الكَذب، يُقالُ خلَق فلانٌ هذا الخَبَر أي افتَراه هذا يصِحُّ إضافَتُه إلى العَبد.
مَسألةَ خَلقِ أفعالِ العبادِ مِن أهمِّ أصولِ العقيدة، فالغَلطُ فيها هلاكٌ وخُروجٌ مِنَ الإسلام، لأنَّ الناسَ فيها على ثلاثةِ أوجُه طَرفان ووَسَط.
أمّا الطَّرفَان فهُما مِنَ الضُّلَّالِ الهالكِين المارقِين مِنَ الدِّين وهُم لا يَشعُرون، هم يَظُنُّون أنهم صَفوةُ الإسلام وهم لَيسُوا مِنَ الإسلام في شَىءٍ.
فأَحَدُ هَذين الطّرفَين الهالِكَين همُ القائلونَ بأنَّ الإنسانَ يَخلُقُ أفعالَ نفسِه الاختياريَّةِ واللهُ تعالى ليسَ لهُ فيها تَصرُّف؛ أعطَى العَبدَ القُدرةَ علَيها ثم صارَ عَاجزًا مِن خَلقِها، هؤلاء يقالُ لهم القَدَريَّة ويقالُ لهم المعتزلة، هؤلاء لم يكن لهم ظهُورٌ في الصَّدْرِ الأوَّل وكانوا ممقُوتِينَ، إنما أوَّلُ وجُودِهم كانَ في الصَّدر الأوَّل أي في القَرْن الذي كانَ فيهِ الصّحابة، قبلَ أن يَنقَرِض الصّحابة، رأسُهُم يقالُ لهُ مَعبَدٌ الجُهَني، هذا أوَّلُ مَن قالَ بمذهَب الاعتزال.
وهؤلاءِ القَدَريَّة ويقالُ لهم المعتزلة همُ الذينَ قالَ فيهم سيِّدُنا الحُسَين بنُ عليِّ بنِ أبي طالب رضيَ الله عنهما: “واللهِ ما قالَت القَدريَّةُ بقَولِ اللهِ ولا بقَولِ الملائكةِ ولا بقَولِ النَّبيِّين ولا بقولِ أهلِ الجنَّةِ ولا بقَولِ أهلِ النارِ ولا بقَولِ صَاحبِهم إبليس”.
معناهُ إبليسُ طلَع في هذه المسألةِ أفهَم منهُم، أفقَه منهم، ليسَ معنى ذلك أنَّ إبليسَ لا يَرضى بما قالت بهِ المعتزلةُ بل هو يَرضى لكنَّه حين قالَ: “ربِّ بما أغوَيتَني لأقعُدَنَّ لهم صِراطَك المستقيم” هوَ فَهِمَ أنَّ اللهَ تعالى هوَ الذي يخلُقُ الغَوايَةَ والضَّلالةَ والكُفرَ في الكافِر وهُم جَهِلُوا ذلكَ فقَالوا بخلافِ قَولِ صاحبِهم إبليس وهُم أحبابُه، هو يُحبُّهُم لأنهم كفَروا وإنْ كانَ مِن حيثُ الفَهمِ والاعتقادِ على خِلافِ قولِ إبليسَ الذي قالَهُ في بَدْءِ الأمر، قبلَ أن تُخلَق المعتزلةُ قال هذا القول “فبما أغوَيتَني لأقعُدَنَّ لهم صِراطَك المستقيم”، معناهُ حيثُ إنَّكَ أَغويتَني أي جعَلتَني ضَالًا غَاويًا لأضِلَّنَّ البشر، ذُرية آدم، قال “أغوَيتَني” أي خلَقتَ فيَّ الغَوايةَ والضَّلالة.
المعتزلةُ يقولونُ: “اللهَ تعالى لا يخلُقُ في أحدٍ الغَوايةَ والهُدَى، الهُدَى فِعلُ العَبد، العَبدُ يخلُقُه، والكفرُ والمعاصي العَبدُ يَخلقُها ليسَ اللهُ يخلقُها في العَبد”، خالَفُوا إبليسَ، إبليسُ نسَبَ إلى اللهِ تعالى خَلقَ الغَوايةِ وقَد أصابَ في ذلكَ ووافَقَ العقيدةَ الصّحيحةَ،
أمّا المعتزلةُ فقَد جَهِلُوا هذا قالوا نحنُ نخلُق فمَن آمَن وعمِلَ الصّالحات فهو خَلَق هذا فيَكونُ لهُ فَرضٌ على اللهِ أن يُدخِلَهم الجنة، يقولونَ مُلزَمٌ ليسَ فَضلًا مِنه، لو لم يُدخِلهُم لكانَ ظَالما،
أمَّا نحنُ أهل الحقِّ نقولُ اللهُ تعالى خَالقُ كلِّ شىء مِن أعمالِ العبادِ، إيمانهم وطَاعاتِهم ليسُوا هم خَالقِي ذلكَ وهو متَكرِّمٌ علَيهم متفَضِّلٌ علَيهِم بأن يُدخِلَهُم الجنَّة ليسَ هو مُلزَمًا بأن يعطِيَهُم الثَّواب على إيمانهِم وحَسَناتهِم.
والطّرفُ الثاني مِنَ الضُّلَّالِ الهالكِين المارقِين همُ الجَبريةُ القائلونَ بأنَّ الإنسانَ لا فِعلَ له، الجَبريةُ نفَوا عن الإنسانِ أن يكونَ لهُ فِعلٌ على وَجهِ الخَلقِ للفِعل وعلى الوَجه الآخَر وهو إثباتُ الفِعل على وَجْه الاكتِساب، فالجبريةُ ضَالُّون كما أنَّ المعتزلةَ ضَالُّون، هذان الطَّرفان اللَّذان هما على طَرفي نقِيض،
وأمَّا الوسَط فهم أهلُ السُّنَّة أهلُ الحقِّ حيث قالوا قَولًا يخالِفُ قولَ هؤلاءِ وهؤلاءِ وهو أنَّ العبدَ لا يخلُقُ شَيئًا مِن أعمالِه الاختياريَّة فضلًا عن الاضطِراريَّة لكن لهُ فِعلٌ يكتَسِبُه اكتِسابًا، هذا وإنْ كانَ فيهِ غمُوضٌ فهو القَولُ الحقُّ، فمَن لم يرضَ بهِ ومَالَ إلى أحَدِ الطَّرفَين المذكُورَينِ فقد هَلَكَ وكفَرَ وهو لا يَدري.
المعتزلةُ يُسَمُّونَ أَنفُسَهُم أهلَ العَدلِ، على زَعمِهم نفَوا الجَورَ والظُّلمَ عن اللِه وهُم أهلُ الظُّلمِ لأنهم أشركُوا باللهِ لما أثبَتُوا للعبدِ خَلقَ شَىءٍ مِنَ الحَركات والسَّكَنات والنَّوايا، اللهُ تعالى نفَى خَلقَ شىءٍ عن كلِّ ما سِواه فقال تعالى: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. فالمعتَزلةُ جعَلُوا ما انفَردَ اللهُ به وهو الخَلْق بمعنى الإحداثِ مِنَ العَدَمِ إلى الوجودِ للعَبد وتَركوا للهِ تعالى خَلقَ الأجسام وتَركوا لهُ أفعال العبدِ الاضطراريَّة.
وإنما سُمِّيَ مَذهَبُ أهلِ الحقِّ الوسَط لأنَّهُ يخالِفُ كِلَا القَولَين، قولَ المعتزلة وقولَ الجَبرية، ولا يجوزُ أن يُغتَرَّ ويُلتَفَتَ إلى كلام مَن زَاغ عن هذا إلى أحَدِ الطَّرفَينِ، طَرفِ الجَبريَّةِ وطَرفِ القدريَّة.
ثم إن مَعْرِفَةَ اللهِ لا تُطْلَبُ بِالتَّصَوُّرِ وَلا بِالتَّوَهُّمِ لأَنَّ حُكْمَ الْوَهْمِ يُؤَدِّي إِلى الْغَلَطِ. وأما الكفّارِ المُشَبِهَة المُجَسِمةَ الذينَ حَمَلُوا أسماءً مُختَلِفةً عبر العصور مُصيبَتُهُم أَنَّهُمْ لا يَقْبَلونَ أَنْ يَعْتَقِدُوا بِوجُودِ اللهِ تعالى دُونَ أَنْ يَتَصَوَّرُوهُ، يَقُولُونَ كَيْفَ نَعتَقِدُ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ دُونَ أَنْ نَتَصَوَّرَهُ؟ هَؤُلاءِ يُقالُ لَهُمْ اللهُ تباركَ وتعالى لا يَجُوزُ أَنْ تُطْلَبَ مَعْرِفَتُهُ بِالتَّصوُّرِ، لأَنَّ اللهَ لَيْسَ شَيئًا يُتَصَوَّرُ، ولأَنَّ الْمُتَصَوَّرَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُصَوِّرٍ صَوَّرَهُ عَلَى شَكْلٍ دُونَ غَيْرِهِ. هُوَ اللهُ تعالى الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَلا خَالِقَ وَلا مُصَوِّرَ لَهُ،
▪فَالْمُتَصَوَّرُ مَخْلُوقٌ،
▪وَالْخَاطِرُ مَخْلُوقٌ،
▪وَالتَّفَكُّرُ مَخْلُوقٌ،
وَكُلُّ مَا يَتَصَوَّرُهُ الإنْسَانُ بِقَلْبِهِ مِنْ صُوَرٍ وَأَشْكَالٍ لأَشْيَاءَ رَآهَا أَوْ لَمْ يَرَهَا فَكُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ. مثلًا، الْقَمَرُ رَأيْتَهُ فَإِنْ تَصَوَّرْتَهُ فَتَصَوُّرُكَ مَخْلُوقٌ لأَنَّ الْمُتَصَوَّرَ وَهُوَ الْقَمَرُ مَخْلُوقٌ، وَالْعَرْشُ لَمْ تَرَهُ فَإِنْ تَصَوَّرْتَهُ فَتَصَوُّرُكَ مَخْلُوقٌ لأَنَّ الْمُتَصَوَّرَ وَهُوَ الْعَرْشُ مَخْلُوقٌ.
أَمَّا اللهُ تعالى فَلَيْسَ مَخْلُوقًا، لِذَلِكَ مَهْمَا أَتْعَبَ الإنْسَانُ فِكْرَهُ لِيتَصَوَّرَ اللهَ بِزَعْمِهِ فَلَنْ يَصِلَ إِلى نَتِيجَةٍ صَحِيحَةٍ، لأَنَّهُ لا صُورَةَ لَهُ فَكَيْفَ يتَصَوَّرُ مَا لَيْسَ لَهُ صُورَةٌ، وَلأَنَّهُ لا كَيْفَ لَهُ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مَا لا تُحْيطُ بِهِ الأَوْهَامُ،
لِذَلِكَ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: “إِنَّ الَّذِي كَيَّفَ الْكَيْفَ لا كَيْفَ لَهُ “. والكَيفُ هُوَ كلّ ما كانَ من صفاتِ المَخلوقات كالحركةِ والسّكون والقيامِ والجلوسِ والوجود في مَكَان.
