الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، له النِّعمةُ وله الفضلُ وله الثَّناءُ الحسنُ، صلواتُ اللهِ البَرِّ الرَّحيمِ والملائكةِ المقرَّبينَ على سيِّدِنا محمَّدٍ أشرفِ المرسَلينَ وحبيبِ ربِّ العالمين، وعلى جميعِ إخوانِهِ منَ النَّبيِّينَ والمُرسَلينَ وآلِ كلٍّ والصَّالحين، وسلامُ اللهِ عليهم أجمعين.
أمَّا بعدُ: فإنَّ بعضَ الجُهَّالِ يعتَرضُونَ على قولِ عامَّةِ النَّاسِ: اللَّهُمَّ إنَّا لا نسألُكَ ردَّ القضاءِ ولكن نسألُكَ اللُّطفَ فيه، يقولون: هذا مُعارِضٌ للحديثِ الحَسَنِ الذي رواهُ التِّرمذيُّ في سُنَنِهِ: “لا يَرُدُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ”. اهـ يقولون: كيف لا ندعو اللهَ برَدِّ القضاءِ، والرَّسولُ ﷺ أخبر بأنَّه يُرَدُّ؟
الجوابُ أن يُقالَ لهم: يوجدُ قضاءانِ: قضاءٌ مُبرَمٌ، وقضاءٌ مُعلَّقٌ. فالقضاءُ المُبرَمُ لا يَرُدُّهُ شيءٌ، لا دَعوَةُ دَاعٍ ولا صَدَقةُ مُتصَدِّقٍ ولا صِلَةُ رَحِمٍ. والقضاءُ المُعلَّقُ معناه أنَّه مُعلَّقٌ في صُحُفِ الملائكةِ التي نَقَلوها منَ اللوحِ المحفوظ، فيكونُ مكتوبًا عندهم مثلًا: فلانٌ إنْ دعا بكذا يُعطَى كذا، وإنْ لم يفعل لا يُعطَى، وهم لا يَعلَمون ماذا سيكونُ منه، فإن دعا حصَل ذلك، ويكونُ دعاؤُه ردَّ القضاءِ الثَّاني المُعلَّقَ. هذا معنى القضاءِ المُعلَّقِ أو القَدَرِ المُعلَّقِ، وليس معناه أنَّ تقديرَ اللهِ الأزليَّ، الذي هو صفتُهُ، مُعلَّقٌ على فِعلِ هذا الشَّخصِ أو دُعائِه،
فاللهُ يَعلَمُ كلَّ شيءٍ بعِلمِهِ الأزليِّ، يَعلَمُ أيَّ الأمرَين سيختارُ هذا الشَّخصُ وما الذي سيُصيبُه، وكَتَبَ ذلك في اللوحِ المحفوظِ أيضًا.
وعلى مِثلِ هذا يُحمَلُ الحديثُ الذي رواهُ البيهقيُّ في كتابِ القضاءِ والقدرِ عنِ ابنِ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهُما أنَّه قال: “لا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِن قَدَرٍ ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَمحُو بالدُّعاءِ ما شاءَ مِنَ القَدَر”. اهـ
فقولُه: لا يَنفَعُ حَذَرٌ مِن قَدَر، معناهُ فيما كُتِبَ منَ القضاءِ المحْتومِ، وقولُه: ولكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَمحُو بالدُّعاءِ ما شاءَ مِنَ القَدَر، معناهُ المَقدُورُ المُعلَّقُ.
ويدلُّ على ذلك ما وردَ في حديثِ مسلمٍ أنَّ الرَّسولَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: “سألتُ ربِّي لأمَّتي ثلاثًا فأعطاني ثِنتَينِ ومَنَعَني واحدةً: سألتُهُ ألَّا يُهلِكَ أمَّتي بالسَّنَةِ ـ أي بالمجاعةِ العامَّةِ ـ فأعطانيها، وسألتُهُ ألَّا يُسلِّطَ عليهم عدوًّا من غيرِهِم فيَستأصِلَهم فأعطانيها، وسألتُهُ ألَّا يجعلَ بأسَهُم بينَهُم فمَنَعَنيها، وقال: يا محمَّدُ إنِّي إذَا قَضَيتُ قضاءً فإنَّه لا يُرَدُّ”. اهـ
والكلامُ في هذا الحديثِ على القضاءِ المُبرَمِ، وعلى كلِّ حالٍ مشيئةُ اللهِ وتقديرُهُ وعِلمُهُ لا يتغيَّر. قال الغزاليُّ في الإحياء: “فإن قُلتَ فما فائدةُ الدُّعاءِ والقضاءُ لا يُرَدُّ؟
فالجوابُ: أنَّ مِنَ القضاءِ ردَّ البلاءِ بالدُّعاءِ، فالدُّعاءُ سببٌ لردِّ البلاءِ واستِجلابِ الرَّحمةِ، كما أنَّ التُّرسَ سببٌ لردِّ السَّهمِ، والماءُ سببٌ لخروجِ النَّباتِ”. اهـ
