رَدُّ شُبْهَةِ المُشَبِّهَةِ المُجَسِّمَةِ فِي تَفْسِيرِهِمْ “المَقَامَ المَحْمُودَ”
قال تعالى ﴿وَمِنَ ٱلَّیۡلِ فَتَهَجَّدۡ بِهِۦ نَافِلَةࣰ لَّكَ عَسَىٰۤ أَن یَبۡعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامࣰا مَّحۡمُودࣰا﴾ [الإسراء ٧٩]
هٰذِهِ الآيَةُ يَتَمَسَّكُ المُشَبِّهَةُ المُجَسِّمَةُ فِي زَمَانِنَا بِرِوَايَةٍ جَاءَتْ عَن مُجَاهِد، وَهٰذَا مُجَاهِدٌ لَا هُوَ صَحَابِيٌّ، وَلَا يُعْتَمَدُ حَدِيثُهُ هٰذَا لِإِثْبَاتِ صِفَةٍ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فَتَجِدُ المُشَبِّهَةَ المُجَسِّمَةَ يَتَمَسَّكُونَ بِمَا رُوِيَ عَن مُجَاهِدٍ هذا، فيَقُولُونَ: إِنَّ مُجَاهِدًا قَالَ: المَقَامُ المَحْمُودُ – بِزَعْمِهِمْ – هُوَ إِجْلَاسُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا مَعَهُ عَلَى العَرْشِ.
أوَّلًا أَحبَابَنا: رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ القُعُودِ، وَمُنَزَّهٌ عَنِ الجُلُوسِ، فَاسْتِوَاؤُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ جُلُوسًا، لَيْسَ اتِّصَالًا بِالعَرْشِ، وَلَا مُمَاسَّةً لَهُ، وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَرْشِ مَسَافَة. الِاسْتِوَاءُ المُضَافُ إِلَى اللهِ يُقَالُ فِيهِ قَهْرُهُ لِلْعَرْشِ، أَوِ اسْتِيلَاؤُهُ للعَرْشِ، وَهٰذَا هُوَ المَنْقُولُ عَنْ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ العَقِيدَةِ كَالبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ.
إِذًا، تَجِدُهُم يَتَمَسَّكُونَ بِهذهِ الرِوَايَةِ الضَعِيفَةِ المَنْقُولَةِ عَنْ تَابِعِيٍّ لا عَنْ صَحَابِيًّ بِحَيثُ تَثْبُتُ، ولا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، يَزعُمُونَ فيها أنَّ المَقامَ المَحمُود هو إجلاسُ اللهِ عزَّ وجَلَّ نَبيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ مَعَهُ على العَرشِ، وسَنُبيِّنُ فسَادَ هذا التَّمَسُّكِ الذي تَمَسَّكوا بهِ.
أوَّلًا: النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي فَسَّرَ المَقَامَ المَحْمُودَ بِـالشَّفَاعَةِ، كَمَا رَوَيْتُ لَكُم حَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ قَضِيَّةُ أُخرى مُهِمٌّ أنْ نَفهَمَها، مُجَاهِدٌ رُوِيَ عَنْهُ فِي هٰذَا قَوْلَانِ، رِوايَتانِ: رِوَايَةٌ وَافَقَ فِيهَا الجَمَاعَةَ مِنَ العُلَمَاءِ المُسلمين، وَهِيَ أَنَّ المَقْصُودَ بِالمَقَامِ المَحْمُودِ الشَّفَاعَةُ.
وهذهِ الرِّوَايَةُ الَّتي تَمَسَّكَت بِهَا المُشَبِّهَةُ المُجَسِّمَةُ الَّتي فِيهَا نِسْبَةُ إِجْلَاسِ النَّبِيِّ مَعَ اللهِ على العَرْشِ. هَذِهِ الرِوَايَةُ الثانِيَةُ الَّتي فيها ما يَستَحيلُ في حَقِّ اللهِ هيَ مِنْ رِوايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْم.
وأَمَّا رِوَايَتُهُ الَّتي فيها تَفسيرُ المَقَامِ المَحْمُودِ بِالشَّفَاعَةِ وهيَ المُوافِقَةُ لِمَا عَلَيْهِ عُلَماءُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ فَقَدْ رَوَاهَا عَنْهُ ابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ. لِماذا ذَكرتُ اسمَ هذينِ الرَّاويين؟
لتَتَنَبَّهُوا إلى ما قالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتابِهِ “فَتْحِ البَارِي شَرْحِ صَحِيحِ البُخَارِيّ” يَقولُ عِنْدَ ذِكْرِهِ لِهاتين الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُجَاهِدٍ: الرِّوَايَةُ الأُولى الَّتِي هِيَ مِن طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ (وفِيهَا تَفسيرُ المَقامِ المَحمودِ بالشَّفَاعَةُ) أَضْبَطُ مِنْ رِوايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْم الَّتي فيها نِسبَةُ الإجْلاس.
ثُمَّ يَقولُ: لأنَّ رِوايَةَ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْم ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ حِفْظَهُ نَاقِصٌ. وهذا فيهِ طَعنٌ في رِوايَتِهِ، وفيهِ جَرحٌ لهُ لسُوءِ الحِفِظِ وضَعفِهِ، فَإِذَا كَانَتِ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا رَاوٍ مُتَكَلَّمٌ فيهِ أو مَطعُونٌ فيهِ وهيَ مَرْفُوعَةٌ إِلَى رسولِ اللهِ ﷺ، لَا يُحْتَجُّ بِهَا فِي العَقَائِدِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ رِوايَةٌ عَنْ تَابِعِيٍّ لَمْ يَرْفَعْهَا إلى رَسولِ اللهِ ﷺ وَفِيهَا رَاوٍ ضَعيفٌ سَيِّئُ الحِفْظِ، أو في حِفظِهِ نَقصٌ، (مِنْ بابِ أولى أنَّهُ لا يُحتَجُّ بها).
فلِهذا اعْتِمَادًا عَلَى تَضْعِيفِ هذا السَّنَدِ الَّذِي فِيهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ لَمْ يَنْظُرْ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ إِلَى خِلَافِ مُجَاهِدٍ فِي هٰذِهِ القَضِيَّةِ، بَلْ نَقَلُوا الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ المَقْصُودَ بِـ “المَقَامِ المَحْمُودِ” فِي الآيَةِ الكَرِيمَةِ هِيَ “الشَّفَاعَةُ في يَومِ القِيامَةِ”. نَقَلُوا الإجماعَ على ذلك، وَمِمَّنْ نَقَلَ الإِجْمَاعَ على ذلك: الوَاحِدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. ونَقَلَ الإِجْمَاعَ على ذلكَ أيضًا وَلمْ يَلتَفِت إلى رِوايَةِ مُجاهدٍ الَّتي فيها “الإجلاس” ابْنُ عَبْدِ البَرِّ فِي كِتَابِهِ التَّمْهِيد.
